الصفحة 403

فقال معاوية: أجل إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني ليقروك: أن عثمان قتل مظلوما، وأن أباك قتله، فاسمع منهم، ثم أجبهم بمثل ما يكلمونك، فلا يمنعك مكاني من جوابهم.

فقال الحسن: فسبحان الله البيت بيتك والإذن فيه إليك! والله لئن أجبتهم إلى ما أرادوا إني لأستحيي لك من الفحش، وإن كانوا غلبوك على ما تريد، إني لأستحيي لك من الضعف، فبأيهما تقر، ومن أيهما تعتذر، وأما إني لو علمت بمكانهم واجتماعهم، لجئت بعدتهم من بني هاشم مع أني مع وحدتي هم أوحش مني من جمعهم، فإن الله عز وجل لوليي اليوم وفيما بعد اليوم، فمرهم فليقولوا فأسمع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فتكلم عمرو بن عثمان بن عفان فقال: ما سمعت كاليوم أن بقي من بني عبد المطلب على وجه الأرض من أحد بعد قتل الخليفة عثمان بن عفان، وكان ابن أختهم، والفاضل في الإسلام منزلة، والخاص برسول الله إثرة، فبئس كرامة الله حتى سفكوا دمه اعتداء، وطلبا للفتنة، وحسدا، ونفاسة، وطلب ما ليسوا بأهلين لذلك، مع سوابقه ومنزلته من الله، ومن رسوله، ومن الإسلام، فيا ذلاه أن يكون حسن وساير بني عبد المطلب قتلة عثمان، أحياء يمشون على مناكب الأرض وعثمان بدمه مضرج، مع أن لنا فيكم تسعة عشر دما بقتلي بني أمية ببدر ثم تكلم عمرو بن العاص: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أي ابن أبي تراب بعثنا إليك لنقررك أن أباك سم أبا بكر الصديق، واشترك في قتل عمر الفاروق وقتل عثمان ذي النورين مظلوما، وادعى ما ليس له حق، ووقع فيه، وذكر الفتنة، وعيره بشأنها؟

ثم قال: أنكم يا بني عبد المطلب لم يكن الله ليطيعكم الملك فتركبون فيه ما لا يحل لكم، ثم أنت يا حسن تحدث نفسك بأنك كائن أمير المؤمنين وليس عندك عقل ذلك، ولا رأيه، وكيف وقد سلبته، وتركت أحمق في قريش، وذلك لسوء عمل أبيك، وإنما دعوناك لنسبك وأباك.


الصفحة 404
ثم إنك لا تستطيع أن تعيب علينا، ولا أن تكذبنا به، فإن كنت تري أنا كذبناك في شئ، وتقولنا عليك بالباطل، وادعينا عليك خلاف الحق فتكلم، وإلا فاعلم أنك وأباك من شر خلق الله، فأما أبوك فقد كفانا الله قتله وتفرد به، وأما أنت فإنك في أيدينا نتخير فيك، والله أن لو قتلناك ما كان في قتلك إثم عند الله، ولا عيب عند الناس ثم تكلم عتبة بن أبي سفيان، فكان أول ما ابتدأ به أن قال:

يا حسن إن أباك كان شر قريش لقريش، أقطعه لأرحامها، وأسفكه لدمائها وإنك لمن قتلة عثمان، وإن في ألحق أن نقتلك به، وإن عليك القود في كتاب الله عز وجل، وإنا قاتلوك به، وأما أبوك فقد تفرد الله بقتله فكفانا أمره، وأما رجاؤك الخلافة فلست فيها، لا في قدحة زندك، ولا في رجحة ميزانك.

ثم تكلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط بنحو من كلام أصحابه فقال:

يا معشر بني هاشم كنتم أول من دب بعيب عثمان وجمع الناس عليه، حتى قتلتموه حرصا على الملك، وقطيعة للرحم، واستهلاك الأمة، وسفك دمائها، حرصا على الملك، وطلبا للدنيا الخبيثة، وحبا لها، وكان عثمان خالكم، فنعم الخال كان لكم، وكان صهركم، فكان نعم الصهر لكم، قد كنتم أول من حسده وطعن عليه، ثم وليتم قتله، فكيف رأيتم صنع الله بكم.

ثم تكلم المغيرة بن شعبة: فكان كلامه وقوله كله وقوعا في علي عليه السلام ثم قال:

يا حسن إن عثمان قتل مظلوما فلن لم يكن لأبيك في دلك عذر برئ، ولا اعتذر مذنب، غير أنا يا حسن قد ظننا لأبيك في ضمه قتلة عثمان، وإيوائه لهم، وذبه عنهم، أنه بقتله راض، وكان والله طويل السيف واللسان، يقتل الحي ويعيب الميت، وبنو أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية، ومعاوية خير لك يا حسن منك لمعاوية، وقد كان أبوك ناصب رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته وأجلب عليه قبل موته، وأراد؟؟ قتله، فعلم ذلك من أمره رسول الله صلى الله عليه وآله ثم كره أن يبايع أبا بكر

الصفحة 405
حتى أتي به قودا، ثم دس عليه فسقاه سما فقتله، ثم نازع عمر حتى هم أن يضرب رقبته، فعمد في قتله، ثم طعن على عثمان حتى قتله، كل هؤلاء قد شرك في دمهم فأي منزلة له من الله يا حسن: وقد جعل الله السلطان لولي المقتول في كتابه المنزل فمعاوية ولي المقتول بغير حق، فكان من الحق لو قتلناك وأخاك، والله ما دم علي بأخطر من دم عثمان، وما كان الله ليجمع فيكم فيكم يا بني عبد المطلب الملك والنبوة.

ثم سكت فتكلم أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام فقال:

الحمد لله الذي هدى أولكم بأولنا، وآخركم بآخرنا، وصلى الله على جدي محمد النبي وآله وسلم.

اسمعوا مني مقالتي وأعيروني فهمكم وبك أبدء يا معاوية: إنه لعمر الله يا أزرق ما شتمني غيرك وما هؤلاء شتموني، ولا سبني غيرك وما هؤلاء سبوني ولكن شتمتني، وسببتني، فحشا منك، وسوء رأي، وبغيا، وعدوانا، وحسدا علينا، وعداوة لمحمد صلى الله عليه وآله، قديما وحديثا، وأنه والله لو كنت أنا وهؤلاء يا أزرق مشاورين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وحولنا المهاجرون والأنصار ما قدروا أن يتكلموا به، ولا استقبلوني بما استقبلوني به.

فاسمعوا مني أيها الملأ المجتمعون المتعاونون علي، ولا تكتموا حقا علمتوه، ولا تصدقوا بباطل إن نطقت به، وسأبدأ بك يا معاوية ولا أقول فيك إلا دون ما فيك.

أنشدكم بالله هل تعلمون أن الرجل الذي شتمتموه صلى القبلتين كلتيهما وأنت تراهما جميعا وأنت في ضلالة تعبد اللات والعزى، وبايع البيعتين كلتيهما بيعة الرضوان وبيعة الفتح، وأنت يا معاوية بالأولى كافر، وبالأخرى ناكث.

ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أن ما أقول حقا، أنه لقيكم مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ومعه راية النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين، ومعك يا معاوية راية المشركين وأنت تعبد اللات والعزى، وترى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله فرضا واجبا، ولقيكم يوم أحد ومعه راية النبي، ومعك يا معاوية راية المشركين، ولقيكم يوم الأحزاب

الصفحة 406
ومعه راية رسول الله صلى الله عليه وآله، ومعك يا معاوية راية المشركين، كل ذلك يفلج الله حجته، ويحق دعوته، ويصدق أحدوثته، وينصر رايته، وكل ذلك رسول الله يرى عنه راضيا في المواطن كلها ساخطا عليك.

ثم أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله حاصر بني قريضة وبني النظير، ثم بعث عمر بن الخطاب ومعه راية المهاجرين، وسعد بن معاذ ومعه راية الأنصار فأما سعد بن معاذ فجرح وحمل جريحا، وأما عمر فرجع هاربا وهو يجبن ويجبن أصحابه ويجبنه أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، ثم لا يرجع حتى يفتح الله عليه يديه " فتعرض لها أبو بكر وعمر، وغيرهما من المهاجرين والأنصار وعلي يومئذ أرمد شديد الرمد، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله فتفل في عينيه فبرأ من رمده، وأعطاه الراية فمضى ولم يثن حتى فتح الله عليه بمنه وطوله، وأنت يومئذ بمكة عدو لله ولرسوله. فهل يستوي بين رجل نصح لله ولرسوله، ورجل عادى الله ورسوله ثم أقسم بالله ما أسلم قلبك بعد، ولكن اللسان خائف فهو يتكلم بما ليس في القلب.

أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلفه على المدينة في غزاة تبوك ولا سخط ذلك ولا كراهة، وتكلم فيه المنافقون فقال: لا تخلفني يا رسول الله فإني لم أتخلف عنك في غزوة قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنت وصيي وخليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال: أيها الناس من تولاني فقد تولى الله، ومن تولى عليا فقد تولاني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع عليا فقد أطاعني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أحب عليا فقد أحبني.

ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في حجة الوداع: أيها الناس إني قد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده: كتاب الله وعترتي أهل بيتي فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا

الصفحة 407
بما أنزل الله من الكتاب، وأحبوا أهل بيتي وعترتي، ووالوا من والاهم، وانصروهم على من عاداهم، وأنهما لن يزالا فيكم حتى يردا علي الحوض يوم القيامة.

ثم دعا وهو على المنبر عليا فاجتذبه بيده فقال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، اللهم من عادى عليا فلا تجعل له في الأرض مقعدا، ولا في السماء مصعدا، واجعله في أسفل درك من النار؟

وأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له: أنت الذائد عن حوضي يوم القيامة تذود عنه كما يذود أحدكم الغريبة من وسط إبله؟

أنشدكم بالله أتعلمون أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي توفي فيه فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال علي:

ما يبكيك يا رسول الله؟

فقال: يبكيني أني أعلم: أن لك في قلوب رجال من أمتي ضغائن، لا يبدونها لك حتى أتولى عنك؟

أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله حين حضرته الوفاة واجتمع عليه أهل بيته قال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي، اللهم وال من ولاهم وعاد من عاداهم " وقال: " إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من دخل فيها نجى، ومن تخلف عنها غرق؟

وأنشدكم بالله أتعلمون: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قد سلموا عليه بالولاية في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وحياته؟

أنشدكم بالله أتعلمون أن عليا أول من حرم الشهوات كلها على نفسه من أصحاب رسول الله، فأنزل الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " (1) وكان عندهم علم المنايا، وعلم القضايا، وفصل الكتاب، ورسوخ العلم، ومنزل القرآن، وكان رهط لا نعلمهم يتممون عشرة،

____________

(1) 87 - 88 - المائدة

الصفحة 408
نبأهم الله أنهم مؤمنون، وأنتم في رهط قريب من عدة أولئك لعنوا على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله، فأشهد لكم وأشهد عليكم: أنكم لعناء الله على لسان نبيه كلكم وأنشدكم بالله هل تعلمون: أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث إليك لتكتب له لبني خزيمة حين أصابهم خالد بن الوليد فانصرف إليه الرسول فقال: " هو يأكل " فأعاد الرسول إليك ثلاث مرات كل ذلك ينصرف الرسول إليه ويقول " هو يأكل " فقال رسول الله " اللهم لا تشبع بطنه " فهي والله في نهمتك، وأكلك إلى يوم القيامة ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أن ما أقول حقا إنك يا معاوية كنت تسوق بأبيك على جمل أحمر يقوده أخوك هذا القاعد، وهذا: يوم الأحزاب، فلعن رسول الله القائد والراكب والسائق، فكان: أبوك الراكب، وأنت يا أزرق السائق، وأخوك هذا القاعد القائد؟

أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن أولهن: حين خرج من مكة إلى المدينة وأبو سفيان جاء من الشام، فوقع فيه أبو سفيان فسبه، وأوعده، وهم أن يبطش به، ثم صرفه الله عز وجل عنه.

والثانية: يوم العير حيث طردها أبو سفيان ليحرزها من رسول الله.

والثالثة: يوم أحد قال رسول الله: الله مولانا ولا مولى لكم، وقال أبو سفيان لنا العزى ولا عزى لكم، فلعنه الله، وملائكته، ورسله، والمؤمنون أجمعون.

والرابعة يوم حنين: يوم جاء أبو سفيان يجمع قريش وهوازن، وجاء عينية بغطفان واليهود، فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، هذا: قول الله عز وجل أنزل في سورتين في كلتيهما يسمي أبا سفيان وأصحابه كفارا، وأنت يا معاوية يومئذ مشرك على رأي أبيك بمكة، وعلي يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى رأيه ودينه.

والخامسة: قول الله عز وجل: " والهدي معكوفا أن يبلغ محله " (1) وصددت أنت وأبوك ومشركو قريش رسول الله، فلعنه الله لعنة شملته وذريته إلى يوم القيامة.

____________

(1) الفتح - 25

الصفحة 409
والسادسة: يوم الأحزاب يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش، وجاء عينية بن حصين بن بدر بغطفان، فلعن رسول الله القادة والأتباع، والساقة إلى يوم القيامة.

فقيل: يا رسول الله أما في الأتباع مؤمن؟

قال: لا تعيب اللعنة مؤمنا من الأتباع، أما القادة فليس فيهم مؤمن، ولا مجيب، ولا ناج.

والسابعة: يوم الثنية، يوم شد على رسول الله صلى الله عليه وآله اثنا عشر رجلا، سبعة منهم من بني أمية، وخمسة من سائر قريش، فلعن الله تبارك وتعالى ورسول الله من حل الثنية غير النبي صلى الله عليه وآله وسائقه وقائده.

ثم أنشدكم بالله هل تعلمون أن أبا سفيان دخل على عثمان حين بويع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:

يا بن أخي هل علينا من عين؟

فقال: لا.

فقال أبو سفيان: تداولوا الخلافة يا فتيان بني أمية فوالذي نفس أبي سفيان بيده، ما من جنة ولا نار.

وأنشدكم بالله أتعلمون أن أبا سفيان أخذ بيد الحسين حين بويع عثمان وقال: يا بن أخي أخرج معي إلى بقيع الغرقد، فخرج حتى إذا توسط القبور اجتره فصاح بأعلى صوته:

يا أهل القبور! الذي كنتم تقاتلونا عليه صار بأيدينا وأنتم رميم.

فقال الحسين بن علي عليه السلام: قبح الله شيبتك، وقبح وجهك، ثم نتر يده وتركة، فلو لا النعمان بن بشير أخذ بيده ورده إلى المدينة لهلك.

فهذا لك يا معاوية فهل تستطيع أن ترد علينا شيئا.

ومن لعنتك يا معاوية إن أباك أبا سفيان كان يهم أن يسلم، فبعثت إليه بشعر معروف مروي في قريش وغيرهم، تنهاه عن الإسلام وتصده.

ومنها أن عمر بن الخطاب ولاك الشام فخنت به، وولاك عثمان فتربصت به

الصفحة 410
ريب المنون، ثم أعظم من ذلك جرأتك على الله ورسوله: أنك قاتلت عليا عليه السلام وقد عرفته وعرفت سوابقه، وفضله وعلمه على أمر هو أولى به منك، ومن غيرك عند الله وعند الناس، ولأذيته بل أوطأت الناس عشوة، وأرقت دماء خلق من خلق الله بخدعك وكيدك وتمويهك، فعل من لا يؤمن بالمعاد، ولا يخشى العقاب، فلما بلغ الكتاب أجله صرت إلى شر مثوى، وعلي إلى خير منقلب، والله لك بالمرصاد.

فهذا لك يا معاوية خاصة، وما أمسكت عنه من مساويك وعيوبك فقد كرهت به التطويل.

وأما أنت يا عمرو بن عثمان فلم تكن للجواب حقيقا بحمقك، أن تتبع هذه الأمور فإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي فإني أريد أن أنزل عنك، فقالت لها النخلة: ما شعرت بوقوعك، فكيف يشق علي نزولك. وإني والله ما شعرت أنك تجسر أن تعادي لي فيشق علي ذلك، وإني لمجيبك في الذي قلت: إن سبك عليا عليه السلام أينقص في حسبه، أو يباعده من رسول الله، أو بسوء بلائه في الإسلام، أو بجور في حكم أو رغبة في الدنيا؟ فإن قلت واحدة منها فقد كذبت.

وأما قولك: إن لكم فينا تسعة عشر دما بقتلى مشركي بني أمية ببدر، فإن الله ورسوله قتلهم، ولعمري لتقتلن من بني هاشم تسعة عشر وثلاثة بعد تسعة عشر ثم يقتل من نبي أمية تسعة عشر وتسعة عشر في موطن واحد سوى ما قتل من بني أمية لا يحصي عددهم إلا الله، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إذا بلغ ولد الوزغ ثلاثين رجلا: أخذوا مال الله بينهم دولا، وعباده خولا، وكتابه دغلا، فإذا بلغوا ثلثمائة وعشر حقت اللعنة عليهم ولهم، فإذا بلغوا أربعمائة وخمسة وسبعين كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة، فأقبل الحكم بن أبي العاص وهم في ذلك الذكر والكلام فقال رسول الله: أخفضوا أصواتكم فإن الوزغ يسمع، وذلك حين رآهم رسول الله صلى الله عليه وآله ومن يملك بعده منهم أمر هذه الأمة - يعني في المنام - فساءه ذلك وشق عليه، فأنزل الله عز وجل في كتابه، " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة

الصفحة 411
للناس والشجرة الملعونة في القرآن " (1) يعني: بني أمية، وأنزل أيضا " ليلة القدر خير من ألف شهر " فأشهد لكم، وأشهد عليكم، ما سلطانكم بعد قتل علي إلا ألف شهر التي أجلها الله عز وجل في كتابه.

وأما أنت يا عمرو بن العاص الشاني اللعين الأبتر، فإنما أنت كلب أول أمرك، أن أمك بغية، وأنك ولدت على فراش مشترك، فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبو سفيان بن الحرب، والوليد بن المغيرة، وعثمان بن الحرث، والنضر بن الحرث بن كلدة، والعاص بن وايل، كلهم يزعم أنك ابنه، فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسبا، وأخبثهم منصبا، وأعظمهم بغية، ثم قمت خطيبا وقلت: أنا شاني محمد، وقال العاص بن وايل: إن محمدا رجل أبتر لا ولد له، فلو قد مات انقطع ذكره، فأنزل الله تبارك وتعالى: " إن شانئك هو الأبتر " وكانت أمك تمشي إلى عبد قيس تطلب البغية، تأتيهم في دورهم ورجالهم وبطون أوديتهم ثم كنت في كل مشهد يشهده رسول الله من عدوه أشدهم له عداوة، وأشدهم له تكذيبا ثم كنت في أصحاب السفينة: الذين أتوا النجاشي والمهجر الخارج إلى الحبشة في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وساير المهاجرين إلى النجاشي، فحاق المكر السئ بك، وجعل جدك الأسفل، وأبطل أمنيتك، وخيب سعيك، وأكذب أحدوثتك، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.

وأما قولك في عثمان، فأنت يا قليل الحياء والدين الهبت عليه نارا، ثم هربت إلى فلسطين تتربص به الدوائر، فلما أتاك خبر قتله حبست نفسك على معاوية، فبعته دينك يا خبيث بدنيا غيرك، ولسنا نلومك على بغضنا، ولم نعاتبك على حبنا، وأنت عدو لبني هاشم في الجاهلية والإسلام، وقد هجوت رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين بيتا من شعر، فقال رسول الله: " اللهم إني لا أحسن الشعر، ولا ينبغي لي أن أقوله فالعن عمرو بن العاص بكل بيت ألف لعنة " ثم أنت يا عمرو المؤثر دنياك على دينك أهديت إلى النجاشي الهدايا، ورحلت إليه رحلتك الثانية، ولم تنهك الأولى عن

____________

(1) يراجع المرشد

الصفحة 412
الثانية، كل ذلك ترجع مغلوبا، حسيرا، تريد بذلك هذاك جعفر وأصحابه، فلما أخطأك ما رجوت وأملت أحلت على صاحبك عمارة بن الوليد.

وأما أنت يا وليد بن عقبة فوالله ما ألومك أن تبغض عليا وقد جلدك في الخمر ثمانين جلدة، وقتل أباك صبرا بيده يوم بدر، أم كيف تسبه وقد سماه الله مؤمنا في عشرة آيات من القرآن، وسماك فاسقا، وهو قول الله عز وجل: " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون " (1) وقوله: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (2) وما أنت وذكر قريش وإنما أنت ابن علج من أهل صفورية اسمه: " ذكوان " وأما زعمك أنا قتلنا عثمان فوالله ما استطاع طلحة، والزبير، وعائشة، أن يقولوا ذلك لعلي بن أبي طالب فكيف تقوله أنت، ولو سألت أمك من أبوك إذ تركت ذكوان فألصقتك بعقبة بن أبي معيط، اكتسبت بذلك عند نفسها سناء ورفعة، مع ما أعد الله لك ولأبيك ولأمك من العار والخزي في الدنيا والآخرة، وما الله بظلام للعبيد.

ثم أنت يا وليد والله أكبر في الميلاد ممن تدعى له، فكيف تسب عليا ولو اشتغلت بنفسك لتثبت نسبك إلى أبيك لا إلى من تدعى له، ولقد قالت لذلك أمك " يا بني أبوك والله ألأم وأخبث من عقبة ".

وأما أنت يا عتبة بن أبي سفيان: فوالله ما أنت بحصيف فأجاوبك، ولا عاقل فأعاقبك، وما عندك خير يرجى، وما كنت ولو سببت عليا لأعير به عليك، لأنك عندي لست بكفو لعبد علي بن أبي طالب فأرد عليك، وأعاتبك، ولكن الله عز وجل لك ولأبيك وأمك وأخيك لبالمرصاد، فأنت ذرية آبائك الذين ذكرهم الله في القرآن فقال: " عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية * تسقى من عين آنية * - إلى قوله - من جوع " (3).

وأما وعيدك إياي أن تقتلني، فهلا قتلت الذي وجدته على فراشك مع

____________

(1) السجدة - 18

(2) الحجرات - 6

(3) الغاشية - 3 - 6

الصفحة 413
حليلتك، وقد غلبك على فرجها وشركك في ولدها حتى الصق بك ولدا ليس لك ويلا لك لو شغلت نفسك بطلب ثارك منه كنت جديرا، ولذلك حريا، إذ تسومني القتل وتوعدني به، ولا ألومك أن تسب عليا وقد قتل أخاك مبارزة، واشترك هو وحمزة بن عبد المطلب في قتل جدك حتى أصلاهما الله على أيديهما نار جهنم وأذاقهما العذاب الأليم، ونفى عمك بأمر رسول الله.

وأما رجائي الخلافة، فلعمر الله إن رجوتها فإن لي فيها لملتمسا، وما أنت بنظير أخيك، ولا بخليفة أبيك، لأن أخاك أكثر تمردا على الله، وأشد طلبا لإهراقه دماء المسلمين، وطلب ما ليس له بأهل، يخادع الناس ويمكرهم، ويمكر الله والله خير الماكرين.

وأما قولك: " إن عليا كان شر قريش لقريش " فوالله ما حقر مرحوما ولا قتل مظلوما.

وأما أنت يا مغيرة بن شعبة! فإنك لله عدو، ولكتابه نابذ، ولنبيه مكذب وأنت الزاني وقد وجب عليك الرجم، وشهد عليك العدول البررة الأتقياء، فأخر رجمك، ودفع الحق بالأباطيل، والصدق بالأغاليط (1) وذلك لما أعد الله لك

____________

(1) أشار الإمام عليه السلام في كلامه هذا إلى ما اشتهر وفاضت به السير والتواريخ صراحة أو تلميحا، من أن المغيرة بن شعبة زنا بأم جميل حين كان واليا على البصرة من قبل عمر بن الخطاب، وكتبوا بذلك إلى الخليفة، فكتب إليه وإلى الشهود جميعا أن يحضروا عنده، فلما قدموا صفهم، ودعا أبا بكرة، فأثبت الشهادة وقال:

إنه رآه يدخل كما يدخل الميل في المكحلة و (قال): لكأني أنظر إلى أثر الجدري بفخذ المرأة، ثم دعا نافعا وشبل بن معبد فشهدا بمثل ما شهد به أبو بكرة ثم دعا زيادا وهو الشاهد الرابع وقال له: " إني لأرى وجه رجل ما كان الله يخزي رجلا من المهاجرين بشهادته، أو قال: " أما أني أرى رجلا أرجو أن لا يرجم رجل من أصحاب رسول الله على يده ولا يخزى بشهادته " يوحي بذلك إلى زياد بالعدول عن الشهادة ليدرأ الحد عن المغيرة، فقال شبل بن معبد ثالث الشهود: أفتجلد شهود الحق، وتبطل الحد أحب إليك يا عمر؟! فقال عمر - لزياد -: ما تقول؟ فقال: قد رأيت منظرا قبيحا، ونفسا

=>


الصفحة 414
من العذاب الأليم، والخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنت الذي ضربت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أدميتها وألقت ما في بطنها، استدلالا منك لرسول الله صلى الله عليه وآله ومخالفة منك لأمره، وانتهاكا لحرمته وقد قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: " يا فاطمة أنت سيدة نساء أهل الجنة " والله مصيرك إلى النار، وجاعل وبال ما نطقت به عليك، فبأي الثلاثة سببت عليا، أنقصا في نسبه، أم بعدا من رسول الله، أم سوء بلاء في الإسلام، أم جورا في حكم، أم رغبة في الدنيا؟! إن قلت بها فقد كذبت وكذبك الناس، أتزعم أن عليا عليه السلام قتل عثمان مظلوما؟!

فعلي والله أتقى وأنقى من لائمه في ذلك، ولعمري لئن كان علي قتل عثمان مظلوما فوالله ما أنت من ذلك في شئ، فما نصرته حيا ولا تعصبت له ميتا، وما زالت الطائف دارك تتبع البغايا، وتحيي أمر الجاهلية، وتميت الإسلام، حتى كان ما كان في أمس.

وأما اعتراضك في بني هاشم وبني أمية فهو ادعاءك إلى معاوية.

وأما قولك في شأن الإمارة وقول أصحابك في الملك الذي ملكتموه، فقد ملك فرعون مصر أربعمائة سنة، وموسى وهارون نبيان مرسلان عليهما السلام يلقيان ما يلقيان من الأذى، وهو ملك الله يعطيه البر والفاجر، وقال الله: " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " وقال: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ".

____________

<=

عاليا ولقد رأيته بين فخذي المرأة ولا أدري هل كان خالطها أم لا؟ فقال عمر: الله أكبر فقال: المغيرة: الله أكبر، الحمد لرب الفلق، والله لقد كنت علمت أني سأخرج عنها سالما. فقال له عمر: اسكت فوالله لقد رأوك بمكان سوء، فقبح الله مكانا رأوك فيه، وأمر بجلد الشهود الثلاثة. فقال نافع: أنت والله يا عمر جلدتنا ظلما، أنت رددت صاحبنا أن يشهد بمثل شهادتنا، أعلمته هواك فاتبعه، ولو كان تقيا لكان رضى الله والحق عنده آثر من رضاك فلما جلد أبا بكرة قام وقال: أشهد لقد زنى المغيرة، فأراد عمر أن يجلده ثانيا فقال: أمير المؤمنين علي عليه السلام: إن جلدته رجمت صاحبك.

الصفحة 415
ثم قام الحسن فنفض ثيابه وهو يقول: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات " هم والله يا معاوية: أنت وأصحابك هؤلاء وشيعتك، " والطيبون للطيبات - أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم " ثم: علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه وشيعته.

ثم خرج وهو يقول لمعاوية: ذق وبال ما كسبت يداك وما جنت، ما قد أعد الله لك ولهم من الخزي في الحياة الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.

فقال معاوية لأصحابه: وأنتم فذوقوا وبال ما جنيتم.

فقال الوليد بن عقبة: والله ما ذقنا إلا كما ذقت، ولا اجترأ إلا عليك.

فقال معاوية: ألم أقل لكم إنكم لن تنتقصوا من الرجل فهلا أطعتموني أول مرة فانتصرتم من الرجل إذ فضحكم، فوالله ما قام حتى أظلم علي البيت، وهممت أن أسطو به فليس فيكم خير اليوم ولا بعد اليوم.

قال: وسمع مروان بن الحكم بما لقي معاوية وأصحابه المذكورون من الحسن بن علي عليهما السلام، فأتاهم فوجدهم عند معاوية في البيت فسألهم:

ما الذي بلغني عن الحسن وزعله؟

قالوا: قد كان كذلك.

فقال لهم مروان: أفلا أحضرتموني ذلك. فوالله لأسبنه ولأسبن أباه وأهل البيت سبا تتغنى به الإماء والعبيد.

فقال معاوية والقوم: لم يفتك شئ وهم يعلمون من مروان بذو لسان وفحش فقال مروان: فأرسل إليه يا معاوية فأرسل معاوية إلى الحسن بن علي.

فلما جاء الرسول قال له الحسن عليه السلام ما يريد هذا الطاغية مني؟ والله إن أعاد الكلام لأوقرن مسامعه ما يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة، فأقبل الحسن فلما جائهم وجدهم بالمجلس على حالتهم التي تركهم فيها، غير أن مروان قد حضر معهم في هذا الوقت، فمشى الحسن عليه السلام حتى جلس على السرير مع معاوية وعمرو بن العاص.


الصفحة 416
ثم قال الحسن لمعاوية: لم أرسلت إلي؟

قال: لست أنا أرسلت إليك ولكن مروان الذي أرسل إليك.

فقال مروان: أنت يا حسن السباب لرجال قريش؟

فقال له الحسن: وما الذي أردت؟

فقال مروان: والله لأسبنك وأباك وأهل بيتك سبا تتغنى به الإماء والعبيد.

فقال الحسن عليه السلام: أما أنت يا مروان فلست أنا سببتك ولا سببت أباك، ولكن الله عز وجل لعنك ولعن أباك، وأهل بيتك، وذريتك، وما خرج من صلب أبيك إلى يوم القيامة، على لسان نبيه محمد والله يا مروان ما تنكر أنت ولا أحد ممن حضر هذه اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وآله لك ولأبيك من قبلك، وما زادك الله يا مروان بما خوفك إلا طغيانا كبيرا، وصدق الله وصدق رسوله يقول الله تبارك وتعالى:

" والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " وأنت يا مروان وذريتك الشجرة الملعونة في القرآن، وذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن جبرئيل عن الله عز وجل.

فوثب معاوية فوضع يده على فم الحسن وقال: يا أبا محمد ما كنت فحاشا ولا طياشا، فنفض الحسن عليه السلام ثوبه، وقام فخرج، فتفرق القوم عن المجلس بغيظ، وحزن، وسواد الوجوه في الدنيا والآخرة.

* * *

مفاخرة الحسن بن علي صلوات الله عليهما على معاوية ومروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وعتبة بن أبي سفيان.

قيل: وفد الحسن بن علي عليهما السلام على معاوية فحضر مجلسه، وإذا عنده هؤلاء القوم، ففخر كل رجل منهم على بني هاشم، ووضعوا منهم، وذكروا أشياء ساءت الحسن بن علي وبلغت منه.

فقال الحسن بن علي عليه السلام: أنا شعبة من خير الشعب، وآبائي أكرم العرب، لنا الفخر والنسب، والسماحة عند الحسب ونحن من خير شجرة، انبتت

الصفحة 417
فروعا نامية، وأثمارا زاكية، وأبدانا قائمة، فيها أصل الإسلام، وعلم النبوة، فعلونا حين شمخ بنا الفخر، واستطلنا حين امتنع بنا العز، ونحن بحور زاخرة لا تنزف، وجبال شامخة لا تقهر.

فقال مروان بن الحكم: مدحت نفسك، وشمخت بأنفك، هيهات هيهات يا حسن، نحن والله الملوك السادة، والأعزة القادة، لا تبجحن فليس لك عز مثل عزنا، ولا فخر كفخرنا، ثم أنشأ يقول:

شفينا أنفسا طابت وقورا * فنالت عزها فيمن يلينا
فابنا بالغنيمة حيث ابنا * وابنا بالملوك مقرنينا

ثم تكلم مغيرة بن شعبة فقال: نصحت لأبيك فلم يقبل النصح، ولولا كراهية قطع القرابة لكنت في جملة أهل الشام، فكان يعلم أبوك أني أصدر الوارد عن مناهلها، بزعارة قيس، وحلم ثقيف، وتجاربها للأمور على القبائل.

فتكلم الحسن عليه السلام فقال: يا مروان أجبنا، وخورا، وضعفا، وعجزا، زعم أني مدحت نفسي، وأنا ابن رسول الله، وشمخت بأنفي وأنا سيد شباب أهل الجنة وإنما يبذخ ويتكبر ويلك من يريد رفع نفسه، ويتبجح من يريد الاستطالة، فأما نحن فأهل بيت الرحمة، ومعدن الكرامة، وموضع الخيرة، وكنز الإيمان، ورمح الإسلام، وسيف الدين، ألا تصمت ثكلتك أمك قبل أن أرميك بالهوائل، وأسمك بميسم تستغني به عن اسمك، فأما إيابك بالنهاب والملوك أفي اليوم الذي وليت فيه مهزوما، وانخجرت مذعورا، فكانت غنيمتك هزيمتك، وغدرك بطلحة حين غدرت به فقتلته، قبحا لك ما أغلظ جلدة وجهك.

فنكس مروان رأسه، وبقي مغيرة مبهوتا، فالتفت إليه الحسن عليه السلام فقال:

أعور ثقيف ما أنت من قريش فأفاخرك، أجهلتني يا ويحك؟! أنا ابن خيرة الإماء، وسيدة النساء، غذانا رسول الله صلى الله عليه وآله بعلم الله تبارك وتعالى، فعلمنا تأويل القرآن، ومشكلات الأحكام، لنا العزة العليا، والفخر والسناء، وأنت من قوم لم يثبت هم في الجاهلية نسب، ولا لهم في الإسلام نصيب، عبد آبق، ما له

الصفحة 418
والافتخار عند مصادمة الليوث، ومجاحشة الأقران، نحن السادة، ونحن المذاويد القادة، نحمي الذمار، وننفي عن ساحتنا العار، وأنا ابن نجيبات الأبكار، ثم أشرت زعمت إلى خير وصي خير الأنبياء، وكان هو بعجزك أبصر، وبجورك أعلم وكنت للرد عليك منه أهلا لو عزك في صدرك، وبدو الغدر في عينك، هيهات لم يكن ليتخذ المضلين عضدا، وزعمك أنك لو كنت بصفين بزعارة قيس، وحلم ثقيف، فبماذا ثكلتك أمك؟ أبعجزك عند المقامات، وفرارك عند المجاحشات؟

أما والله لو التفت عليك من أمير المؤمنين الأجاشع، لعلمت أنه لا يمنعه منك الموانع، ولقامت عليك المرنات الهوالع.

وأما زعارة قيس: فما أنت وقيسا؟ إنما أنت عبد آبق فثقف فسمي ثقيفا، فاحتل لنفسك من غيرها، فلست من رجالها، أنت بمعالجة الشرك وموالج الزرائب أعرف منك بالحروب.

فأما الحلم فأي الحلم عند العبيد القيون؟ ثم تمنيت لقاء أمير المؤمنين عليه السلام فذاك من قد عرفت: أسد باسل، وسم قاتل، لا تقاومه الأبالسة، عند الطعن والمخالسة فكيف ترومه الضبعان، وتناله الجعلان، بمشيتها القهقري.

وأما وصلتك: فمنكورة، وقربتك فمجهولة، وما رحمك منه إلا كبنات الماء من خشفان الظباء، بل أنت أبعد منه نسبا.

فوثب المغيرة والحسن يقول لمعاوية: اعذرنا من بني أمية إن تجاوزنا بعد مناطقة القيون، ومفاخرة العبيد.

فقال معاوية: ارجع يا مغيرة، هؤلاء بنو عبد مناف، لا تقاومهم الصناديد، ولا تفاخرهم المذاويد.

ثم أقسم على الحسن عليه السلام بالسكوت فسكت.

وروي أن عمرو بن العاص قال لمعاوية: ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يصعد المنبر ويخطب الناس، فلعله أن يحصر فيكون ذلك مما نعيره به في كل محفل، فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر، وقد جمع له الناس، ورؤساء أهل الشام

الصفحة 419
فحمد الله الحسن صلوات الله عليه وأثنى عليه، ثم قال:

أيها الناس من عرفني فأنا الذي يعرف، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، ابن عم نبي الله، أول المسلمين إسلاما، وأمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وجدي محمد بن عبد الله نبي الرحمة، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين، أنا ابن من بعث إلى الجن والإنس أجمعين، فقطع عليه معاوية فقال، يا أبا محمد خلنا من هذا وحدثنا في نعت الرطب أراد بذلك تخجيله.

فقال الحسن عليه السلام: نعم التمر الريح تنفخه، والحر ينضجه، والليل يبرده ويطيبه.

ثم أقبل الحسن عليه السلام: فرجع في كلامه الأول فقال: أنا ابن مستجاب الدعوة أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض عن رأسه التراب، أنا ابن من يقرع باب الجنة فيفتح له فيدخلها، أنا ابن من قاتل معه الملائكة، وأحل له المغنم ونصر بالرعب من مسيرة شهر فأكثر، في هذا النوع من الكلام، ولم يزل به حتى اظلمت الدنيا على معاوية، وعرف الحسن من لم يكن عرفه من أهل الشام وغيرهم ثم نزل فقال له معاوية: أما إنك يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة، ولست هناك، فقال الحسن عليه السلام: أما الخليفة فمن سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله، وعمل بطاعة الله عز وجل، وليس الخليفة من سار بالجور، وعطل السنن، واتخذ الدنيا أما وأبا، وعباد الله خولا، وماله دولا، ولكن ذلك أمر ملك أصاب ملكا فتمتع منه قليلا، وكان قد انقطع عنه، فأتخم لذته وبقيت عليه تبعته، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " " متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون " " وما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " وأومى بيده إلى معاوية، ثم قام فانصرف. فقال معاوية لعمرو: والله ما أردت إلا شيني حين أمرتني بما أمرتني، والله ما كان يرى أهل الشام أن أحدا مثلي في حسب ولا غيره، حتى قال الحسن عليه السلام ما قال، قال عمرو: وهذا شئ لا يستطاع دفنه، ولا تغييره،

الصفحة 420
لشهرته في الناس، واتضاحه، فسكت معاوية وروى الشعبي أن معاوية قدم المدينة فقام خطيبا فقال: أين علي بن أبي طالب؟

فقام الحسن بن علي فخطب وحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

إنه لم يبعث نبي إلا جعل له وصي من أهل بيته، ولم يكن نبي إلا وله عدو من المجرمين، وإن عليا عليه السلام كان وصي رسول الله من بعده، وأنا ابن علي، وأنت ابن صخر، وجدك حرب، وجدي رسول الله، وأمك هند وأمي فاطمة، وجدتي خديجة وجدتك نثيله، فلعن الله ألأمنا حسبا، وأقدمنا كفرا، وأخملنا ذكرا، وأشدنا نفاقا، فقال عامة أهل المجلس: آمين. فنزل معاوية فقطع خطبته وروي أنه لما قدم معاوية الكوفة قيل له: إن الحسن بن علي مرتفع في أنفس الناس فلو أمرته أن يقوم دون مقامك على المنبر فتدركه الحداثة والعي فيسقط من أنفس الناس وأعينهم، فأبى عليهم وأبو عليه إلا أن يأمره بذلك فأمره، فقام دون مقامه في المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

أما بعد أيها الناس فإنكم لو طلبتم ما بين كذا وكذا لتجدوا رجلا جده نبي لم تجدوا غيري وغير أخي، وإنا أعطينا صفقتنا هذا الطاغية - وأشار بيده إلى أعلى المنبر إلى معاوية - وهو في مقام رسول الله صلى الله عليه وآله من المنبر ورأينا حقن دماء المسلمين أفضل من إهراقها، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار بيده إلى معاوية.

فقال له معاوية: ما أردت بقولك هذا؟

فقال: ما أردت به إلا ما أراد الله عز وجل، فقام معاوية فخطب خطبة عيية فاحشة، فسب فيها أمير المؤمنين عليه الصلاة السلام، فقام إليه الحسن بن علي عليهما السلام فقال له - وهو على المنبر -: ويلك يا بن آكلة الأكباد أو أنت تسب أمير المؤمنين عليه السلام وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله أدخله الله نار جهنم خالدا فيها مخلدا وله عذاب مقيم "؟

ثم انحدر الحسن عليه السلام عن المنبر ودخل داره، ولم يصل هناك بعد ذلك أبدا.

تم الجزء الأول من كتاب الاحتجاج بحمد الله ومنه ويتلوه بمن الله وعونه الجزء الثاني.