الصفحة 57

فقال: إن الروح متحرك كالريح، إنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح وإنما أخرجه عن لفظة الريح لأن الروح متجانس للريح، وإنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على ساير الأرواح، كما اصطفى بيتا من البيوت. وقال: (بيتي) وقال - لرسول من الرسل -: (خليلي) وأشباه ذلك مخلوق مصنوع مربوب مدبر.

وعن محمد بن مسلم أيضا قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عما روي: (أن الله خلق الله آدم على صورته)؟

فقال: هي صورة محدثة مخلوقة، اصطفاها الله واختارها، على أساس الصور المختلفة، فأضافها إلى نفسه، كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح، فقال (بيتي) وقال: (ونفخت فيه من روحي).

وعن عبد الرحمن بن عبد الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك، فدخل المسجد الحرام متكيا على يد سالم مولاه، ومحمد بن علي بن الحسين جالس فقال له سالم:

يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي بن الحسين عليه السلام.

فقال له هشام: المفتون به أهل العراق؟

قال: نعم.

قال: اذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟

فقال أبو جعفر عليه السلام: يحشر الناس على مثل قرصة البر النقي فيها أنهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب.

قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به. فقال: الله أكبر إذهب إليه فقل له:

ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ!

فقال له أبو جعفر: هم في النار أشغل، ولم يشغلوا عن أن قالوا: أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. فسكت هشام لا يرجع كلاما.

وروي أن نافع بن الأزرق جاء إلى محمد بن علي بن الحسين، فجلس بين

الصفحة 58
يديه يسأله عن مسائل في الحلال والحرام. فقال له أبو جعفر - في عرض كلامه - قل لهذه المارقة، بما استحللتم فراق أمير المؤمنين عليه السلام، وقد سفكتم دمائكم بين يديه، وفي طاعته، والقربة إلى الله تعالى بنصرته؟ فسيقولون لك أنه حكم في دين الله، فقل لهم: قد حكم الله تعالى في شريعة نبيه رجلين من خلقه، قال جل اسمه: (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله سعد بن معاذ في بني قريضة، فحكم فيهم بما أمضاه الله، أو ما علمتم أن أمير المؤمنين إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدياه واشترط رد ما خالف القرآن من أحكام الرجال؟ وقال حين قالوا له: حكمت على نفسك من حكم عليك. فقال: ما حكمت مخلوقا فإنما حكمت كتاب الله، فأين تجد المارقة تضليل من أمر الحكم بالقرآن، واشترط رد ما خالفه، ولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان.

فقال نافع بن الأزرق: هذا والله ما طرق بسمعي قط، ولا خطر مني ببال هو الحق إن شاء الله تعالى.

وعن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا أبا الجارود ما يقولون في الحسن والحسين عليهما السلام، قلت: ينكرون عليهما أنهما ابنا رسول الله.

قال: فبأي شئ احتججتم عليهم؟

قال: قلت بقول الله في عيسى: (ومن ذريته داود إلى قوله - وكل من الصالحين) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم، واحتججنا عليهم بقوله تعالى: (قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم).

ثم قال: فأي شئ قالوا:

قال: قلت: قالوا: قد يكون ولد البنت من الولد ولا يكون من الصلب.

قال: فقال أبو جعفر: والله يا أبا الجارود لأعطينكم من كتاب الله آية تسميها أنها لصلب رسول الله صلى الله عليه وآله لا يردها إلا كافر.

قال: قلت: جعلت فداك وأين؟


الصفحة 59
قال: قال: حيث قال: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم - إلى قوله - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) فسلهم يا أبا الجارود وهل يحل لرسول الله نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا: نعم. فكذبوا والله، وإن قالوا: لا.

فهما والله ابنا رسول الله لصلبه، وما حرمن عليه إلا للصلب.

وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي الربيع قال: حججت مع أبي جعفر عليه السلام في السنة التي حج فيها هشام بن عبد الملك، وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الخلق فقال:

يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تكافأ عليه الناس؟

فقال: هذا محمد بن علي بن الحسين عليه السلام.

قال: لآتينه ولأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي نبي.

قال: فاذهب إليه لعلك تخجله، فجاء نافع حتى اتكأ علي الناس وأشرف على أبي جعفر فقال:

يا محمد بن علي أني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي، فرفع أبو جعفر عليه السلام رأسه فقال:

سل عما بدا لك!

قال: اخبرني كم بين عيسى ومحمد من سنة؟

قال: أجيبك بقولك أم بقولي؟

قال: أجبني بالقولين!

قال: أما بقولي فخمسمائة سنة، وأما بقولك فستمائة سنة.

قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟ قال: فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) كان

الصفحة 60
من الآيات التي أراها محمدا حيث أسرى به إلى بيت المقدس، أنه حشر الله الأولين والآخرين، من النبيين والمرسلين، ثم أمر جبرئيل عليه السلام فأذن شفعا وأقام شفعا وقال في أذانه: (حي على خير العمل) ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله فصلى بالقوم، فلما انصرف قال الله عز وجل: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون).

فقال رسول الله: على ما تشهدون؟ وما كنتم تعبدون؟

قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله، أخذت على ذلك عهودنا ومواثيقنا.

فقال: صدقت يا أبا جعفر!

قال: فاخبرني عن قول الله عز وجل: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) أي أرض تبدل؟

فقال أبو جعفر عليه السلام: خبزة بيضاء يأكلونها حتى يفرغ الله من حساب الخلايق فقال: إنهم عن الأكل لمشغولون.

فقال أبو جعفر عليه السلام: أهم حينئذ أشغل أم هم في النار؟

قال نافع. بل هم في النار.

قال: فقد قال الله عز وجل: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) ما أشغلهم إذا دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم، ودعوا بالشراب فسقوا من الجحيم.

فقال: صدقت يا بن رسول الله! وبقيت مسألة واحدة.

قال: وما هي؟

قال: فأخبرني متى كان الله؟ قال: ويلك أخبرني متى لم يكن حتى أخبرك متى كان؟! سبحان من لم يزل ولا يزال، فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ثم أتى هشام بن عبد الملك فقال: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك والله هو أعلم الناس حقا وهو ابن رسول الله حقا.


الصفحة 61
وعن أبان بن تغلب (1) قال: دخل طاوس اليماني إلى الطواف ومعه صاحب له، فإذا هو بأبي جعفر يطوف أمامه وهو شاب حدث، فقال طاوس لصاحبه:

(إن هذا الفتى لعالم) فلما فرغ من طوافه صلى ركعتين، ثم جلس وأتاه الناس فقال طاوس لصاحبه: نذهب إلى أبي جعفر عليه السلام ونسأله عن مسألة لا أدري عنده فيها شئ أم لا، فأتياه فسلما عليه ثم قال له طاوس:

يا أبا جعفر هل تدري أي يوم مات ثلث الناس؟

فقال: يا أبا عبد الرحمن لم يمت ثلث الناس قط، إنما أردت ربع الناس.

قال: وكيف ذلك؟

قال: كان آدم وحواء، وقابيل وهابيل، فقتل قابيل هابيل، فذلك ربع الناس.

قال: صدقت:

قال أبو جعفر عليه السلام: هل تدري ما صنع بقابيل؟

قال: لا.

قال: علق بالشمس ينضح بالماء الحار إلى أن تقوم الساعة.

وروي أن عمرو بن عبيد، وفد على محمد بن علي الباقر عليه السلام لامتحانه بالسؤال عنه فقال له:

جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات

____________

(1) في رجال النجاشي ص 7: (أبان بن تغلب بن رياح أبو سعيد البكري الجريري مولى بني جرير بن عبادة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، عظيم المنزلة في أصحابنا، لقى علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله عليهم السلام روى عنهم، وكانت له عندهم منزلة وقدم، وذكره البلاذري قال: روى أبان عن عطية العوفي قال له أبو جعفر: إجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك وقال أبو عبد الله عليه السلام لما أتاه نعيه: (أم والله لقد أوجع قلبي موت أبان) وكان قاريا من وجوه القراء، فقيها لغوبا، سمع من العرب وحكى عنهم.

الصفحة 62
والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) ما هذا الرتق والفتق؟

فقال أبو جعفر عليه السلام: كانت السماء رتقا لا تنزل القطر، وكانت الأرض رتقا لا تخرج النبات، ففتق الله السماء بالقطر، وفتق الأرض بالنبات، فانقطع عمرو ولم يجد اعتراضا، ومضى وعاد إليه فقال:

خبرني جعلت فداك عن قوله تعالى: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما غضب الله؟

فقال له أبو جعفر عليه السلام: غضب الله تعالى عقابه يا عمرو، ومن ظن أن الله يغره شئ فقد هلك.

وعن أبي حمزة الثمالي قال: أتى الحسن البصري أبا جعفر عليه السلام فقال:

جئتك لا سألك عن أشياء من كتاب الله.

فقال أبو جعفر: ألست فقيه أهل البصرة؟

قال: قد يقال ذلك.

فقال له أبو جعفر عليه السلام: هل بالبصرة أحد تأخذ عنه؟

قال: لا.

قال: فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟

قال: نعم.

فقال أبو جعفر: سبحان الله لقد تقلد عظيما من الأمر، بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت، أم يكذب عليك؟

قال: ما هو؟

قال: زعموا أنك تقول: أن الله خلق العباد ففوض إليهم أمورهم.

قال: فسكت الحسن.

فقال: رأيت من قال الله له في كتابه: أنك آمن، هل عليه خوف بعد هذا القول منه.

فقال الحسن: لا.


الصفحة 63
فقال أبو جعفر عليه السلام: إني أعرض عليك آية وأنهي إليك خطابا، ولا أحسبك إلا وقد فسرته على غير وجهه، فإن كنت فعلت ذلك فقد هلكت وأهلكت.

فقال له: ما هو؟

قال: أرأيت حيث يقول: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) يا حسن بلغني أنك أفتيت الناس فقلت: هي مكة. فقال أبو جعفر عليه السلام: فهل يقطع على من حج مكة، وهل يخاف أهل مكة، وهل تذهب أموالهم؟

قال: بلى قال: فمتى يكونون آمنين؟ بل فينا ضرب الله الأمثال في القرآن، فنحن القرى التي بارك الله فيها، وذلك قول الله عز وجل، فمن أقر بفضلنا حيث أمرهم بأن يأتونا فقال: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) أي جعلنا بينهم وبين شيعتهم القرى التي باركنا فيها، قرى ظاهرة، والقرى الظاهرة الرسل، والنقلة عنا إلى شيعتنا، وفقهاء شيعتنا، إلى شيعتنا، وقوله تعالى: (وقدرنا فيها السير) فالسير مثل للعلم، سير به ليالي وأياما، مثل لما يسير من العلم في الليالي والأيام عنا إليهم، في الحلال والحرام، والفرائض والأحكام، آمنين فيها إذا أخذوا منه، آمنين من الشك والضلال، والنقلة من الحرام إلى الحلال، لأنهم أخذوا العلم ممن وجب لهم أخذهم إياه عنهم، بالمعرفة، لأنهم أهل ميراث العلم من آدم إلى حيث انتهوا، ذرية مصطفاة بعضها من بعض، فلم ينته الاصطفاء إليكم، بل إلينا انتهى، ونحن تلك الذرية المصطفاة لا أنت ولا أشباهك يا حسن، فلو قلت لك حين دعيت ما ليس لك، وليس إليك يا جاهل أهل البصرة! لم أقل فيك إلا ما علمته منك، وظهر لي عنك، وإياك أن تقول بالتفويض، فإن الله عز وجل لم يفوض الأمر إلى خلفه، وهنا منه وضعفا، ولا أجبرهم على معاصيه ظلما.

والخبر طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

وروي أن سالما دخل على أبي جعفر عليه السلام فقال:


الصفحة 64
جئت أكلمك في أمر هذا الرجل.

قال: أيما رجل؟

قال: علي بن أبي طالب عليه السلام.

قال: في أي أموره؟

قال: في إحداثه.

قال أبو جعفر: أنظر ما استقر عندك مما جاءت به الرواة عن آبائهم.

قال: ثم نسبهم، ثم قال: يا سالم أبلغك أن رسول الله بعث سعد بن عبادة براية الأنصار إلى خيبر، فرجع منهزما، ثم بعث عمر بن الخطاب براية المهاجرين والأنصار، فأتى سعد جريحا وجاء عمر يجبن أصحابه ويجبنونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (هكذا يفعل المهاجرون والأنصار) حتى قالها ثلاثا. ثم قال: (لأعطين الراية غدا رجلا كرار ليس بفرار، يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله).

قال: نعم. وقال القوم جميعا أيضا.

فقال أبو جعفر: يا سالم إن قلت إن الله عز وجل أحبه وهو لا يعلم ما هو صانع فقد كفرت، وإن قلت إن الله عز وجل أحبه وهو يعلم ما هو صانع، فأي حدث ترى له.

فقال أعد علي:

فأعاد عليه السلام عليه فقال سالم: عبدت الله على ضلالة سبعين سنة.

وعن أبي بصير قال: كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام جالسا في الحرم وحوله عصابة من أوليائه، إذ أقبل طاوس اليماني في جماعة من أصحابه ثم قال لأبي جعفر عليه السلام:

أتأذن لي في السؤال؟

فقال: أذنا لك فسل!

قال: اخبرني متى هلك ثلث الناس؟

قال: وهمت يا شيخ! أردت أن تقول: (متى هلك ربع الناس)؟ وذلك

الصفحة 65
يوم قتل قابيل هابيل، كانوا أربعة: آدم، وحواء، وقابيل وهابيل. فهلك ربعهم فقال: أصبت ووهمت أنا فأيهما كان أبا للناس القاتل أو المقتول؟

قال: لا واحد منهما بل أبوهم شيث بن آدم.

قال: فلم سمي آدم آدم؟

قال: لأنه رفعت طينته من أديم الأرض السفلى.

قال: ولم سميت حواء حواء؟

قال: لأنها خلقت من ضلع حي، يعني ضلع آدم.

قال: فلم سمي إبليس إبليس؟

قال: لأنه أبلس من رحمة الله عز وجل فلا يرجوها.

قال: فلم سمي الجن جنا؟

قال: لأنهم استجنوا فلم يروا.

قال: فأخبرني عن كذبة كذبت، من صاحبها؟

قال: إبليس حين قال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).

قال: فأخبرني عن قوم شهدوا شهادة الحق وكانوا كاذبين؟

قال: المنافقون حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: (نشهد أنك لرسول الله) فأنزل الله عز وجل: (إذا جائك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهدان المنافقين لكاذبون).

قال: فأخبرني عن طائر طار مرة ولم يطر قبلها ولا بعدها، ذكره الله عز وجل في القرآن ما هو؟

فقال: طور سيناء أطاره الله عز وجل على بني إسرائيل حين أظلهم بجناح منه، فيه ألوان العذاب، حتى قبلوا التوراة، وذلك قوله عز وجل: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم) الآية.

قال: فأخبرني عن رسول بعثه الله تعالى ليس من الجن، ولا من الإنس، ولا من الملائكة، ذكره الله تعالى في كتابه؟


الصفحة 66
قال: الغراب، حين بعثه الله عز وجل ليري قابيل كيف يواري سوأة أخيه هابيل حين قتله قال الله عز وجل: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه).

قال: فأخبرني عمن أنذر قومه ليس من الجن، ولا من الإنس، ولا من الملائكة، ذكره الله عز وجل في كتابه؟

قال: النملة حين قالت: (يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون).

قال: فأخبرني عمن كذب عليه، ليس من الجن، ولا من الإنس، ولا من الملائكة، ذكره الله عز وجل في كتابه؟

قال: الذئب الذي كذب عليه أخوة يوسف.

قال: فأخبرني عن شئ قليله حلال وكثيره حرام، ذكره الله عز وجل في كتابه؟

قال: نهر طالوت. قال الله عز وجل: (إلا من اغترف غرفة بيده).

قال: فأخبرني عن صلاة فريضة تصلى بغير وضوء، وعن صوم لا يحجز عن أكل ولا شرب، قال: أما الصلاة بغير وضوء فالصلاة على النبي وآله عليه وعليهم السلام، وأما الصوم فقول الله عز وجل: (أني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا).

قال: فأخبرني عن شئ يزيد وينقص، وعن شئ يزيد ولا ينقص، وعن شئ ينقص ولا يزيد؟

فقال: الباقر عليه السلام: أما الشئ الذي يزيد وينقص فهو: القمر، والشئ الذي هو يزيد ولا ينقص فهو: البحر، والشئ الذي ينقص ولا يزيد هو: العمر.

وقد تكرر إيراد أول هذا الخبر لما في آخره من الفوائد.

وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: كان علي بن الحسين زين العابدين جالسا في مجلسه فقال يوما في مجلسه أن رسول الله صلى الله عليه وآله

الصفحة 67
لما أمر بالمسير إلى تبوك، أمر بأن يخلف عليا بالمدينة. فقال علي عليه السلام: يا رسول الله ما كنت أحب أن أتخلف عنك في شئ من أمورك، وأن أغيب عن مشاهدتك والنظر إلى هديك، وسمتك، فقال رسول الله: يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، تقيم يا علي وأن لك في مقامك من الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول الله، ولك أجور كل من خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله موقنا طائعا، وأن لك على الله يا علي لمحبتك أن تشاهد من محمد سمته في ساير أحواله، بأن يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع الأرض التي يسير عليها، والأرض التي تكون أنت عليها، ويقوي بصرك حتى تشاهد محمدا وأصحابه في ساير أحوالك وأحوالهم، فلا يفوتك الأنس من رؤيته ورؤية أصحابه ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة.

فقام رجل من مجلس زين العابدين لما ذكر هذا وقال له: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله كيف يكون، وهذا للأنبياء لا لغيرهم؟

فقال زين العابدين عليه السلام: هذا هو معجزة لمحمد رسول الله لا لغيره، لأن الله إنما رفعه بدعاء محمد، وزاد في نور بصره أيضا بدعاء محمد، حتى شاهد ما شاهد وأدرك ما أدرك، ثم قال له الباقر عليه السلام: يا عبد الله ما أكثر ظلم كثير من هذه الأمة لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وأقل أنصارهم، أم يمنعون عليا ما يعطونه ساير الصحابة، وعلي أفضلهم، فكيف يمنع منزلة يعطونها غيره، قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟

قال: لأنكم تتولون محبي أبي بكر ابن أبي قحافة، وتتبرؤون من أعدائه كائنا من كان، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب، وتتبرؤون من أعدائه كائنا من كان، وتتولون عثمان بن عفان وتتبرؤون من أعدائه كائنا من كان، حتى إذا صار إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، قالوا: نتولى محبيه، ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم، فكيف يجوز هذا لهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول في علي: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) أفترونه لا

الصفحة 68
يعادي من عاداه؟! ولا يخذل من خذله؟! ليس هذا بإنصاف. ثم أخرى: أنهم إذا ذكر لهم ما أخص الله به عليا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله، وكرامته على ربه تعالى، جحدوه، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة، فما الذي منع عليا ما جعله لسائر أصحاب رسول الله؟ هذا عمر بن الخطاب إذا قيل لهم: أنه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته: يا سارية الجبل وعجب القوم وقالوا ما هذا من الكلام الذي في هذه الخطبة، فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا:

ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل؟

فقال: اعلموا أني وأنا أخطب إذ رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها إخوانكم إلى غزوة الكافرين بنهاوند، وعليهم سعد بن أبي وقاص، ففتح الله لي الأستار والحجب، وقوى بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك، وقد جاء بعض الكفار ليدور خلف سارية، وساير من معه من المسلمين، فيحيطوا بهم فيقتلوهم، فقلت يا سارية الجبل، ليلتجئ إليه، فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا به، ثم يقاتلوا، ومنح الله إخوانكم المؤمنين أكتاف الكافرين، وفتح الله عليهم بلادهم، فاحفظوا هذا الوقت، فسيرد عليكم الخبر بذلك، وكان بين المدينة ونهاوند مسيرة أكثر من خمسين يوما.

قال الباقر عليه السلام: فإذا كان مثل هذا لعمر، فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب عليه السلام؟! ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون.

وعن عبد الله بن سليمان (1) قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فقال له رجل من أهل البصرة: يقال له: (عثمان الأعمى).

أن الحسن البصري يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم من يدخل النار.

فقال أبو جعفر عليه السلام: فهلك إذا مؤمن آل فرعون، والله مدحه بذلك،

____________

(1) عبد الله بن سليمان النخعي كوفي عده الشيخ في رجاله ص 165 من أصحاب الصادق عليه السلام.

الصفحة 69
وما زال العلم مكتوما منذ بعث الله عز وجل رسوله نوحا، فليذهب الحسن يمينا وشمالا، فوالله ما يوجد العلم إلا هيهنا، وكان عليه السلام يقول: محنة الناس علينا عظيمة، إن دعوناهم يجيبونا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا.

احتجاج أبي عبد الله الصادق (ع) في أنواع شتى من العلوم الدينية على أصناف كثيرة من أهل الملل والديانات.

روي عن هشام بن الحكم (1) أنه قال: من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد الله عليه السلام أن قال:

ما الدليل على صانع العالم؟

فقال: أبو عبد الله عليه السلام وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعها صنعها إلا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر

____________

(1) هشام بن الحكم الكندي مولاهم البغدادي، وكان ينزل ببني شيبان بالكوفة وكان مولده بالكوفة، ومنشؤه واسط، وتجارته ببغداد ثم انتقل إليها في آخر عمره سنة تسع وتسعين وماءة. وقيل هذه السنة هي سنة وفاته.

عين الطائفة ووجهها ومتكلمها وناصرها من أرباب الأصول وله نوادر حكايات ولطائف مناظرات ممن اتفق علمائنا على وثاقته، ورفعة شأنه ومنزلته عند أئمتنا المعصومين عليهم السلام.

وكان ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذب المذهب بالنظر، وكان حاذقا بصناعة الكلام، حاضر الجواب، وكان ثقة بالروايات حسن التحقيق بهذا الأمر.

روى عن أبي عبد الله وعن أبي الحسن عليهما السلام وعاش بعد أبي الحسن ولما توفي ترحم عليه الرضا عليه السلام روى عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الثاني عليه السلام ما تقول جعلت فداك في هشام بن الحكم؟ فقال عليه السلام (رحمه الله ما كان أذبه عن هذه الناحية).

راجع سفينة البحار ج 2 ص 719 رجال الشيخ ص 729 رجال العلامة ص 178

الصفحة 70
الباني، ولم تشاهده.

قال: فما هو؟

قال: هو شئ بخلاف الأشياء، ارجع بقولي شئ إلى إثباته، وأنه شئ بحقيقته الشيئية، غير أنه لا جسم، ولا صورة، ولا يحس، ولا يجس، ولا يدرك بالحواس الخمس، لا تدركه الأوهام، ولا تنقصه الدهور، ولا يغيره الزمان.

قال السائل: فإنا لم نجد موهوما إلا مخلوقا.

قال أبو عبد الله عليه السلام: لو كان ذلك كما تقول، لكان التوحيد منا مرتفعا لأنا لم نكلف أن نعتقد غير موهوم، لكنا نقول: كل موهوم بالحواس مدرك بها، تحده الحواس ممثلا، فهو مخلوق، ولا بد من إثبات كون صانع الأشياء خارجا من الجهتين المذمومتين: إحداهما النفي إذا كان النفي هو الإبطال والعدم، والجهة الثانية التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف، فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين، والاضطرار منهم إليه، أنهم مصنوعون، وأن صانعهم غيرهم، وليس مثلهم، إن كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا، وتنقلهم من صغر إلى كبر، وسواد إلى بياض، وقوة إلى ضعف، وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها.

قال السائل: فأنت قد حددته إذا ثبت وجوده!

قال أبو عبد الله عليه السلام: لم أحدده، ولكني أثبته، إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة.

قال السائل: فقوله: (الرحمن على العرش استوى)؟

قال أبو عبد الله عليه السلام: بذلك وصف نفسه، وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه، من غير أن يكون العرش محلا له، لكنا نقول: هو حامل، وممسك للعرش، ونقول في ذلك ما قال: (وسع كرسيه السماوات والأرض) فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته، ونفينا أن يكون العرش والكرسي حاويا له، وأن يكون عز وجل محتاجا إلى مكان، أو إلى شئ مما خلق، بل خلقه محتاجون إليه.


الصفحة 71
قال السائل: فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء، وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟

قال أبو عبد الله: في علمه وإحاطته وقدرته سواء، ولكنه عز وجل أمر أوليائه وعباده برفع أيديهم إلى السماء، نحو العرش، لأنه جعله معدن الرزق، فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول، حين قال: (ارفعوا أيديكم إلى الله عز وجل) وهذا تجمع عليه فرق الأمة كلها، ومن سؤاله أن قال: ألا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد؟

قال أبو عبد الله: لا يخلو قولك أنهما اثنان من أن يكونا: قديمين قويين أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويا، والآخر ضعيفا، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه، وينفرد بالربوبية، وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف، ثبت أنه واحد كما نقول، للعجز الظاهر في الثاني، وإن قلت أنهما اثنان، لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة، أو مفترقين من كل جهة، فلما رأينا الخلق منتظما، والفلك جاريا، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر، دل ذلك على صحة الأمر والتدبير، وايتلاف الأمر، وأن المدبر واحد.

وعن هشام بن الحكم قال: دخل ابن أبي العوجاء على الصادق عليه السلام فقال له الصادق عليه السلام:

يا بن أبي العوجاء! أنت مصنوع أم غير مصنوع؟

قال: لست بمصنوع.

فقال له الصادق: فلو كنت مصنوعا كيف كنت؟

فلم يحر ابن أبي العوجاء جوابا، وقام وخرج.

قال: دخل أبو شاكر الديصاني - وهو زنديق - على أبي عبد الله وقال:

يا جعفر بن محمد دلني على معبودي!

فقال أبو عبد الله عليه السلام: إجلس! فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال أبو عبد الله: ناولني يا غلام البيضة! فناوله إياها، فقال أبو عبد الله: يا ديصاني

الصفحة 72
هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مايعة، وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المايعة، فهي على حالها، لا يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى له مدبرا؟

قال: فأطرق مليا ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه، وأنا تائب مما كنت فيه.

وعن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أسماء الله عز ذكره واشتقاقها، فقلت:

الله مما هو مشتق؟

قال: يا هشام الله مشتق من إله، وإله يقتضي مألوها، والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد، أفهمت يا هشام؟

قال: فقلت زدني!

فقال: إن لله تسعة وتسعين اسما، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها آلها، ولكن الله معنى يدل عليه، فهذه الأسماء كلها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحروق، أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به أعدائنا، والمتخذين مع الله غيره؟

قلت: نعم.

قال: فقال: نفعك الله به، وثبتك!

قال هشام: فوالله ما قهرني أحد في علم التوحيد حتى قمت مقامي هذا.

وعن هشام بن الحكم قال: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد الله عليه السلام

الصفحة 73
علم، فخرج إلى المدينة ليناظره، فلم يصادفه بها، وقيل: هو بمكة، فخرج إلى مكة ونحن مع أبي عبد الله عليه السلام، فانتهى إليه - وهو في الطواف - فدنا منه وسلم.

فقال له أبو عبد الله: ما اسمك؟

قال: عبد الملك.

قال: فما كنيتك؟

قال: أبو عبد الله.

قال أبو عبد الله عليه السلام: فمن ذا الملك الذي أنت عبده، أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء، أم عبد إله الأرض؟

فسكت. فقال أبو عبد الله: قل! فسكت.

فقال: إذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ أبو عبد الله عليه السلام من الطواف أتاه الزنديق، فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده. فقال أبو عبد الله عليه السلام:

أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟

فقال: نعم.

قال: فدخلت تحتها؟

قال: لا.

قال: فهل تدري ما تحتها؟

قال: لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شئ.

فقال أبو عبد الله: فالظن عجز ما لم تستيقن. ثم قال له: صعدت إلى السماء؟

قال: لا.

قال: أفتدري ما فيها؟

قال: لا.

قال: فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟

قال: لا.

قال: فالعجب لك، لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل تحت

الصفحة 74
الأرض، ولم تصعد إلى السماء، ولم تخبر ما هناك فتعرف ما خلفهن، وأنت جاحد بما فيهن، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟!

فقال الزنديق: ما كلمني بهذا غيرك.

قال أبو عبد الله عليه السلام: فأنت من ذلك في شك، فلعل هو ولعل ليس هو.

قال: ولعل ذلك.

فقال أبو عبد الله عليه السلام: أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، ولا حجة للجاهل على العالم، يا أخا أهل مصر، تفهم عني، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان، يذهبان ويرجعان، قد اضطرا ليس لهما مكان إلا مكانهما، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان، وإن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرا والله يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر، فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم؟ وإن كان يردهم فلم يذهب بهم؟ أما ترى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، لا تسقط السماء على الأرض، ولا تنحدر الأرض فوق ما تحتها، أمسكها والله خالقها ومدبرها. قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله، فقال: هشام خذه إليك وعلمه.

وعن عيسى بن يونس (1) قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟

قال: إن صاحبي كان مخلطا، يقول طورا بالقدر، وطورا بالجبر، فما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه، فقدم مكة متمردا، وإنكارا على من يحجه، وكان تكره العلماء مجالسته لخبث لسانه، وفساد ضميره، فأتى أبا عبد الله عليه السلام فجلس إليه في جماعة من نظرائه، فقال:

يا أبا عبد الله! إن المجالس بالأمانات، ولا بد لكل من به سعال أن يسعل

____________

(1) عيسى بن يونس ذكره الشيخ في رجاله ص 258 في أصحاب الصادق (ع) وفي أصحاب الكاظم عليه السلام ص 355 فقال عيسى بن يونس بزرج له كتاب.