الصفحة 329
شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين، فدل إخراجه من السكينة على خروجه من الإيمان، فلم يحر جوابا وتفرق الناس واستيقظت من نومي.

احتجاج السيد الأجل علم الهدى المرتضى أبي القاسم علي رضي الله عنه وأرضاه على أبي العلاء المعري الدهري في جواب ما سأل عنه مرموزا (1 و 2)

دخل أبو العلاء المعري على السيد المرتضى قدس الله روحه فقال: أيها السيد ما قولك في الكل؟

قال السيد: ما قولك في الجزء؟

فقال: ما قولك في الشعرى؟

فقال: ما قولك في التدوير؟

____________

(1) قال الشيخ الطوسي - رحمه الله - في رجاله ص 484: (علي بن الحسين الموسوي يكنى: أبا القاسم، الملقب بالمرتضى ذو المجدين علم الهدى أدام الله تعالى أيامه أكثر أهل زمانه أدبا وفضلا متكلم فقيه جامع للعلوم كلها مد الله في عمره، يروي عن التلعكبري والحسين بن علي بن بابويه وغيرهم من شيوخنا، له تصانيف كثيرة ذكرنا بعضها في الفهرست، وسمعنا منه أكثر كتبه وقرأناها عليه).

وقال في الفهرست ص 125: (علي بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام كنيته:

(أبو القاسم) لقبه (علم الهدى) الأجل المرتضى رضي الله عنه، متوحد في علوم كثيرة مجمع على فضله، مقدم في العلوم، مثل علم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب والنحو والشعر ومعاني الشعر واللغة وغير ذلك، له ديوان شعر يزيد على عشر بن ألف بيت وله من التصانيف ومسائل البلدان شئ كثير، مشتمل على ذلك فهرسته المعروف، غير أني أذكر أعيان كتبه وكبارها، - ثم عدد قسما من مؤلفاته ثم قال: توفي في شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان مولده في رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وسنة يومئذ ثمانون سنة وثمانية أشهر وأيام - نضر الله وجهه - قرأت هذه الكتب أكثرها عليه وسمعت سائرها يقرأ عليه دفعات كثيرة).

وقال النجاشي ص 206: (علي بن الحسين بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن

=>


الصفحة 330

____________

<=

موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

أبو القاسم المرتضى، حاز من العلوم ما لم يدانيه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلما شاعرا، أديبا عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا، صنف كتبا - ثم عدد قسما من مؤلفاته ثم قال -: مات رضى الله عنه لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وأربعمائة وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها، وتوليت غسله ومعي الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن الجعفري وسلار بن عبد العزيز).

وقال العلامة الحلي - رحمه الله - في القسم الأول من الخلاصة ص 94: (علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أبو القاسم المرتضى ذو المجدين علم الهدى - رضي الله عنه - متوحد في علوم كثيرة، مجمع على فضله مقدم في علوم مثل: علم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب من النحو والشعر واللغة وغير ذلك، وله ديوان شعر يزيد على عشرين ألف بيت، وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وأربعمائة وكان مولده سنة خمس وخمسين وثلاثمائة في رجب، ويوم توفي كان عمره ثمانين سنة وثمانية أشهر وأيام، نضر الله وجهه، وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها وتولى غسله أبو أحمد الحسين بن العباس النجاشي ومعه الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن الجعفري، وسلار بن عبد العزيز الديلمي، وله مصنفات كثيرة ذكرناها في كتابنا الكبير، وبكتبه استفادت الإمامية منذ زمنه - رحمه الله - إلى زماننا هذا وهو سنة ثلاث وتسعين وستمائة وهو ركنهم ومعلمهم قدس الله روحه وجزاه عن أجداده خيرا).

وقال الشيخ عباس القمي في ج 2 من الكنى والألقاب ص 439:

(هو سيد علماء الأمة، ومحيي آثار الأئمة، ذو المجدين أبو القاسم علي بن الحسين ابن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليهم السلام، المشهور بالسيد المرتضى الملقب من جده المرتضى عليه السلام في الرؤية الصادقة السيماء ب (علم الهدى).

جمع من العلوم ما لم يجمعه أحد، وحاز من الفضائل ما تفرد به وتوحد، وأجمع على فضله المخالف والمؤالف، كيف لا وقد أخذ من المجد طرفيه، واكتسى بثوبيه وتردى ببرديه، متوحد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدم في العلوم مثل: علم

=>


الصفحة 331

____________

<=

الكلام، والفقه، وأصول الفقه، والأدب، والنحو والشعر، واللغة وغير ذلك.

له تصانيف مشهورة منها: (الشافي) في الإمامة لم يصنف مثله في الإمامة و (الذخيرة) و (جمل العلم والعمل) و (الذريعة) و (شرح القصيدة البديعة) وكتاب (الطيف والخيال) وكتاب (الشيب والشباب) وكتاب (الغرر والدرر) والمسائل الكثيرة، وله ديوان شعر يزيد على عشرين ألف بيت إلى غير ذلك.

قال آية الله العلامة: (وبكتبه استفادت الإمامية منذ زمنه رحمه الله إلى زماننا هذا وهو سنة 693 وهو ركنهم ومعلمهم قدس الله روحه وجزاه عن أجداده خيرا).

وذكره الخطيب في تاريخ بغداد وأثنى عليه وقال: (كتبت عنه وعن جامع الأصول أنه عده ابن الأثير من مجددي مذهب الإمامية في رأس المائة الرابعة.

(هنا) فوائد (الأول): قال ابن خلكان - في وصف علم الهدى -: كان نقيب الطالبيين وكان إماما في علم الكلام والأدب والشعر، وهو أخو الشريف الرضي، وله تصانيف على مذهب الشيعة، ومكالمة في أصول الدين، وله الكتاب الذي سماه (الغرر والدرر) وهي مجالس أملاها تشتمل على فنون من معاني الأدب تكلم فيها على النحو واللغة وغير ذلك وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير وتوسع في الاطلاع على العلوم.

وذكره ابن بسام في أواخر كتاب الذخيرة فقال: كان هذا الشريف إمام أئمة العراق إليه فزع علماؤها، ومنه أخذ عظمائها: صاحب مدارسها، وجماع شاردها وآنسها، ممن سارت أخباره، وعرفت به أشعاره وتصانيفه في أحكام المسلمين، مما يشهد أنه فرع تلك الأصول، ومن ذلك البيت الجليل، وأورد له عدة مقاطع. وحكى الخطيب التبريزي:

أن أبا الحسن علي بن أحمد الفالي الأديب كانت له كتاب نسخة الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة فدعته الحاجة إلى بيعها فاشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم المذكور بستين دينارا وتصفحها فوجد بها أبياتا بخط بايعها أبي الحسن الفالي المذكور وهي:

أنست بها عشرين حولا وبعتها * لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها * ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية * صغار عليهم تستهل شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرة * مقالة مكوي الفؤاد حزين

=>


الصفحة 332

____________

<=

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك * كرائم من رب بهن ضنين

فأرجع النسخة إليه وترك الدنانير رحمه الله تعالى) (انتهى ملخصا).

(الثاني) قال الشهيد - رحمه الله في محكي أربعينه -: نقلت من خط السيد العالم صفي الدين محمد بن معد الموسوي بالمشهد المقدس الكاظمي في سبب تسمية السيد المرتضى بعلم الهدى: أنه مرض الوزير أبو سعيد محمد بن الحسين بن عبد الصمد في سنة عشرين وأربعمائة فرأى في منامه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: قل لعلم الهدى: يقرأ عليك حتى تبرأ. فقال: يا أمير المؤمنين ومن علم الهدى؟ قال عليه السلام:

علي بن الحسين الموسوي فكتب الوزير إليه بذلك. فقال المرتضى رضي الله عنه:

الله الله في أمري فإن قبولي لهذا اللقب شناعة علي. فقال الوزير: ما كتبت إليك إلا بما لقبك به جدك أمير المؤمنين عليه السلام، فعلم القادر الخليفة بذلك فكتب إلى المرتضى (تقبل يا علي بن الحسين ما لقبك به جدك) فقبل وأسمع الناس (الثالث) قال صاحب رياض العلماء: ونقل عن خط الشهيد الثاني - رحمه الله - على ظهر كتاب الخلاصة: أنه كان السيد المرتضى معظما عند العام والخاص. ونقل عن الشيخ عز الدين أحمد بن مقبل يقول: لو حلف إنسان أن السيد المرتضى كان أعلم بالعربية من العرب لم يكن عندي آثما. وقد بلغني عن شيخ من شيوخ الأدب بمصر:

أنه قال: والله أني استفدت من كتاب الغرر مسائل لم أجدها في كتاب سيبويه ولا غيره من كتب النحو وكان نصير الدين الطوسي - رحمه الله - إذا جرى ذكره في درسه يقول:

(صلوات الله عليه) ويلتفت إلى القضاة والمدرسين الحاضرين درسه ويقول: (كيف لا يصلى على المرتضى).

وقد ذكر المعري اسم المرتضى والرضي ومدحهما في طي مرثيته لوالدهما في ديوان السقط ومن أبيات تلك المرثية:

أبقيت فينا كوكبين سناهما في * الصبح والظلماء ليس بخاف

وقال أيضا:

سأرى الرضى والمرتضى وتقاسما خطط العلى بتناصف ونصاف (الرابع): قال شيخنا البهائي في كشكوله: كان للشيخ أبي جعفر الطوسي

=>


الصفحة 333

____________

<=

أيام قراءته على السيد المرتضى (ره) كل شهر اثنا عشر دينارا ولابن البراج كل شهر ثمانية دنانير وكان السيد المرتضى يجري على تلامذته... وكان السيد رحمه الله نحيف الجسم وكان يقرأ مع أخيه الرضي على ابن نباتة صاحب الخطب وهما طفلان وحضر المفيد مجلس السيد يوما فقام من موضعه وأجلسه فيه وجلس بين يديه، فأشار المفيد بأن يدرس في حضوره وكان يعجبه كلامه إذا تكلم، وكان السيد قد وقف قرية على كافة الفقهاء، وحكاية رؤية المفيد في المنام فاطمة الزهراء عليها السلام وأنها أتت بالحسن والحسين ومجئ فاطمة بنت الناصر بولديها الرضي والمرتضى في صبيحة ليلة المنام وقولها له: علم ولدي هذين مشهورة.

(الخامس) توفي السيد المرتضى - رضى الله عنه - لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة 436، وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها ثم نقل إلى جوار جده أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

(السادسة): حكي عن القاضي التنوخي صاحب السيد المرتضى أنه قال: ولد السيد سنة 355 وخلف بعد وفاته ثلاثين ألف مجلد من مقروءاته ومصنفاته ومحفوظاته، ومن الأموال والأملاك ما يتجاوز عن الوصف وصنف كتابا يقال له: الثمانين وخلف من كل شئ ثمانين، وعمر إحدى وثمانين سنة، من أجل ذلك سمي الثمانيني، وبلغ في العلم وغيره مرتبة عظيمة قلد نقابة الشرفاء شرقا وغربا وإمارة الحاج والحرمين، والنظر في المظالم وقضاء القضاة، وبلغ على ذلك ثلاثين سنة).

(2) اختلف في عقيدة أبي العلاء المعري فقيل: أنه كان ملحدا ومات كذلك.

وقيل: أنه كان مسلما موحدا. وقيل: أنه كان ملحدا ثم أسلم.

وهذا القول الأخير يعززه ما قرأته في ديوان عبد المحسن الصوري - رحمه الله - المتوفى سنة 419. (المخطوط في مكتبة الأديب الفاضل الشيخ محمد هادي الأميني - حفظه الله -) من قوله:

نجى المعري من العار * ومن شناعات وأخبار
وافقني أمس على أنه * يقول بالجنة والنار
وأنه لا عاد من بعدها * يصبو إلى مذهب بكار

=>


الصفحة 334
قال: ما قولك في عدم الانتهاء؟

قال: ما قولك في التحيز والناعورة

فقال: ما قولك في السبع؟

فقال: ما قولك في الزايد البري من السبع؟

فقال: ما قولك في الأربع؟

فقال: ما قولك في الواحد والاثنين؟

فقال: ما قولك في المؤثر؟

فقال: ما قولك في المؤثرات؟

فقال: ما قولك في النحسين؟

فقال: ما قولك في السعدين؟ فبهت أبو العلاء.

(قال): فقال السيد المرتضى قدس الله روحه - عند ذلك - ألا كل ملحد ملهد!

فقال أبو العلاء: من أين أخذته؟

قال: من كتاب الله (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) (1).

وقام وخرج فقال السيد رضي الله عنه: قد غاب عنا الرجل وبعد هذا لا يرانا.

____________

<=

واسم أبي العلاء المعري (أحمد) بن عبد الله بن سليمان.

قال الشيخ عباس القمي في ترجمته ج 3 من الكنى والألقاب ص 61: (. الشاعر الأديب الشهير، كان نسيج وحده بالعربية ضربت آباط الإبل إليه، وله كتب كثيرة وكان أعمى ذا فطانة، وله حكايات من ذكاته وفطانته. حكي أنه لما سمع فضائل الشريف السيد المرتضى اشتاق إلى زيارته. فحضر مجلس السيد وكان سيد المجالس فجعل يخطو ويدنو إلى السيد فعثر على رجل فقال الرجل: من هذا الكلب؟ فقال المعري الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما. فلما سمع الشريف ذلك منه قربه وأدناه فامتحنه فوجده وحيد عصره وأعجوبة دهره. فكان أبو العلاء يحضر مجلس السيد وعد من شعراء مجلسه..).

(1) لقمان - 13.

الصفحة 335
فسئل السيد (ره) عن كشف هذه الرموز والإشارات فقال:

سألني عن الكل، وعنده الكل قديم، ويشير بذلك إلى عالم سماه (العالم الكبير) فقال: ما قولك فيه؟ أراد أنه قديم.

فأجبته عن ذلك وقلت له: ما قولك في الجزء؟ لأن عندهم الجزء (محدث) وهو متولد عن (العالم الكبير) وهذا الجزء عندهم هو (العالم الصغير) وكان مرادي بذلك: أنه إذا صح أن هذا العالم محدث، فذلك الذي أشار إليه إن صح فهو محدث أيضا، لأن هذا من جنسه على زعمه، والشي الواحد لا يكون بعضه قديما وبعضه محدثا، فسكت لما سمع ما قلته.

وأما الشعرى: أراد أنها ليست من الكواكب السيارة.

فقلت له: ما قولك في التدويرات؟ أردت (الفلك) في التدويرات والدوران والشعرى لا يقدح في ذلك.

وأما عدم الانتهاء، أراد بذلك أن العالم لا ينتهي لأنه قديم.

فقلت له: قد صح عندي (التحيز والتدوير) وكلاهما يدلان على الانتهاء.

وأما السبع: أراد بذلك (النجوم السيارة) التي هي عندهم ذوات الأحكام.

فقلت له: هذا باطل بالزايد البري الذي يحكم فيه بحكم لا يكون ذلك الحكم منوطا بهذه الكواكب السيارة، التي هي: (الزهرة، والمشتري، والمريخ وعطارد، والشمس، والقمر، وزحل).

وأما الأربع أراد بها (الطبايع) (2).

فقلت له: في الطبيعة الواحدة النارية يتولد منها دابة بجلدها تمس الأيدي ثم يطرح ذلك الجلد على النار فتحرق الزهومات، فيبقى الجلد صحيحا، لأن الدابة خلقها الله على طبيعة النار والنار لا تحرق النار، والثلج أيضا تتولد فيه الديدان وهو على طبيعة واحدة، والماء في البحر على طبيعتين يتولد منه السموك

____________

(1) أي: العناصر الأربعة على رأي الفلسفة القديمة وهي: (التراب، والنار والماء، والهواء).


الصفحة 336
والضفادع، والحيات، والسلاحف، وغيرها. وعنده لا يحصل الحيوان إلا بالأربع فهذا مناقض بهذا.

وأما المؤثر، أراد به: (الزحل).

فقلت له: ما قولك في المؤثرات؟ أردت بذلك: أن المؤثرات كلهن عنده مؤثرات، فالمؤثر القديم كيف يكون مؤثرا؟!

وأما النحسين، أراد بهما: أنهما من النجوم السيارة، إذا اجتمعا يخرج من بينهما سعد.

فقلت له: ما قولك في السعدين؟ إذا اجتمعا خرج من بينهما نحس، هذا حكم أبطله الله تعالى، ليعلم الناظر أن الأحكام لا يتعلق بالمسخرات، لأن الشاهد يشهد أن (العسل والسكر) إذا اجتمعا لا يحصل منهما (الحنظل). (والعلقم والحنظل) إذا اجتمعا لا يحصل منهما (الدبس والسكر) هذا دليل على بطلان قولهم.

وأما قولي ألا كل ملحد ملهد، أردت: أن كل مشرك ظالم، لأن في اللغة:

ألحد الرجل إذ عدل من الدين، وألهد إذا ظلم، فعلم أبو العلاء ذلك وأخبرني عن علمه بذلك، فقرأت: (يا بني لا تشرك بالله الآية).

وقيل: أن المعري لما خرج عن العراق سئل عن السيد المرتضى (ره) فقال:

يا سائلي عنه لما جئت أسأله * ألا هو الرجل العاري من العار
لو جئته لرأيت الناس في رجل * والدهر في ساعة والأرض في دار

إحتجاجه قدس الله روحه في التعظيم والتقديم لأئمتنا عليهم السلام على سائر الورى ما عدا نبينا عليه السلام بطريقة لم يسبقه إليها أحد ذكرها في رسالة الموسومة بالرسالة الباهرة في فضل العترة الطاهرة.

قال: ومما يدل أيضا على تقديمهم وتعظيمهم على البشر: أن الله تعالى دلنا على أن المعرفة بهم كالمعرفة به تعالى، في أنها: (إيمان وإسلام) وأن الجهل بهم والشك فيهم كالجهل به والشك فيه، في أنه (كفر وخروج من الإيمان)

الصفحة 337
وهذه منزلة ليس لأحد من البشر إلا لنبينا صلى الله عليه وآله، وبعده لأمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام، لأن المعرفة بنبوة الأنبياء المتقدمين من آدم إلى عيسى عليهم السلام غير واجبة علينا، ولا تعلق لها بشئ من تكاليفنا، ولو لا أن القرآن ورد بنبوة من سمي فيه من الأنبياء المتقدمين فعرفناهم تصديقا للقرآن، وإلا فلا وجه لوجوب معرفتهم علينا، ولا تعلق لها بشئ من أحوال تكاليفنا.

وبقي علينا أن ندل على أن الأمر على ما ادعيناه.

والذي يدل على أن المعرفة بإمامة من ذكرناه عليهم السلام من جملة الإيمان، وأن الاخلال بها كفر ورجوع عن الإيمان: (إجماع) الشيعة الإمامية على ذلك فإنهم لا يختلفون فيه، وإجماعهم حجة، بدلالة أن قول الحجة المعصوم الذي قد دلت العقول على وجوده في كل زمان في جملتهم وفي زمرتهم، وقد دللنا على هذه الطريقة في مواضع كثيرة من كتبنا، واستوفينا ذلك في جواب المسائل التبانيات خاصة، وفي كتاب نصرة ما انفردت به الشيعة الإمامية من المسائل الفقهية، فإن هذا الكتاب مبني على صحة هذا الأصل.

ويمكن أن يستدل على وجوب المعرفة بهم عليهم السلام: (بإجماع الأمة) مضافا إلى ما بيناه من إجماع الإمامية.

وذلك: أن جميع أصحاب الشافعي يذهبون إلى أن الصلاة على نبينا في التشهد الأخير فرض واجب، وركن من أركان الصلاة، متى أخل بها الإنسان فلا صلاة له، وأكثرهم يقول: أن الصلاة في هذا التشهد على آل النبي عليهم الصلاة والسلام في الوجوب واللزوم ووقوف أجزاء الصلاة عليهم كالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله، والباقون منهم يذهبون: إلى أن الصلاة على الآل مستحبة وليست بواجبة، فعلى القول الأول لا بد لكل من وجبت عليه الصلاة من معرفتهم من حيث كان واجبا عليه الصلاة عليهم، فإن الصلاة عليهم فرع على المعرفة بهم، ومن ذهب إلى أن ذلك مستحب فهو من جملة العبادة، وإن كان مسنونا مستحبا، والتعبدية يقتضي التعبد بما لا يتم إلا به من المعرفة.


الصفحة 338
ومن عدى أصحاب الشافعي لا ينكرون أن الصلاة على النبي وآله عليهم السلام في التشهد مستحبة، وأي شبهة تبقى مع هذا في أنهم عليهم السلام أفضل الناس وأجلهم، وذكرهم واجب في الصلاة، وعند أكثر الأمة من الشيعة الإمامية، وجمهور أصحاب الشافعي: أن الصلاة تبطل بتركه، وهل مثل هذه الفضيلة لمخلوق سواهم أو يتعداهم.

ومما يمكن الاستدلال به على ذلك: أن الله تعالى قد ألهم جميع القلوب وغرس في كل النفوس تعظيم شأنهم، وإجلال قدرهم، على تباين مذاهبهم، واختلاف ديانتهم ونحلهم، وما أجمع هؤلاء المختلفون والمتباينون مع تشتت الأهواء وتشعب الآراء على شئ كإجماعهم على تعظيم من ذكرنا وإكباره، فإنهم يزورون قبورهم ويقصدون من شاحط البلاد وشاطها مشاهدهم، ومدافنهم، والمواضع التي رسمت بصلاتهم فيها، وحلولهم بها، وينفقون في ذلك الأموال، ويستنفدون الأحوال.

فقد أخبرني من لا أحصيه كثرة: أن أهل نيشابور ومن والاها من تلك البلدان يخرجون في كل سنة إلى طوس لزيارة الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا صلوات الله عليهما بالجمال الكثيرة، والإهب التي لا يوجد مثلها إلا للحج إلى بيت الله الحرام، هذا مع أن المعروف من انحراف أهل خراسان عن هذه الجهة، وازورارهم عن هذا الشعب، وما تسخير هذه القلوب القاسية، وعطف هذه الأمم النائية، إلا كالخارقات للعادات، والخارج عن الأمور المألوفات، وإلا فما الحامل للمخالفين لهذه النحلة، المنحازين عن هذه الجملة، على أن يراوحوا هذه المشاهد ويغادوها، ويستنزلوا عندها من الله تعالى الأرزاق، ويستفتحوا بها الاغلاق، ويطلبوا ببركتها الحاجات، ويستدفعوا البليات، والأحوال الظاهرة كلها لا توجب ذلك، ولا تقتضيه ولا تستدعيه، وإلا فعلوا ذلك فيمن يعتقدونهم أو أكثرهم إمامته وفرض طاعته، وأنه في الديانة موافق لهم غير مخالف، ومساعد غير معاند، ومن المحال أن يكونوا فعلوا ذلك لداع من دواعي الدنيا، فإن الدنيا عند غير هذه الطائفة موجودة، وعندها هي مفقودة، ولا لتقية واستصلاح، فإن التقية هي فيهم لا منهم، ولا خوف من جهتهم، ولا سلطان لهم، وكل خوف إنما

الصفحة 339
هو عليهم، فلم يبق إلا داعي الدين، وذلك هو الأمر الغريب العجيب الذي لا تنفذ في مثله إلا مشية الله، وقدرة القهار التي تذلل الصعاب، وتقود بأزمتها الرقاب.

وليس لمن جهل هذه المزية أو تجاهلها أو تعامى عنها وهو يبصرها، أن يقول: إن العلة في تعظيم غير فرق الشيعة لهؤلاء القوم ليست ما عظمتموه وفخمتموه وادعيتم خرقه للعادة وخروجه عن الطبيعة، بل هي لأن هؤلاء القوم من عترة النبي صلى الله عليه وآله، وكل من عظم النبي صلى الله عليه وآله فلا بد أن يكون لعترته وأهل بيته معظما ومكرما، وإذا انضاف إلى القرابة الزهد، وهجر الدنيا، والعفة، والعلم، زاد الاجلال والإكرام لزيادة أسبابها.

والجواب عن هذه الشبهة الضعيفة: أن قد شارك أئمتنا عليهم السلام والصلاة في نسبهم وحسبهم وقرابتهم من النبي صلى الله عليه وآله غيرهم، وكانت لكثير منهم عبادات ظاهرة وزهادة في الدنيا بادية، وسمات جميلة، وصفات حسنة، من ولد أبيهم عليه وآله السلام ومن ولد عمهم العباس رضوان الله عليهم، فما رأينا من الاجماع على تعظيمهم، وزيارة مدافنهم، والاستشفاع بهم في الأغراض والاستدفاع بمكانهم للأعراض والأمراض، ما وجدنا مشاهدا معاينا في هذا الاشتراك، وإلا فمن الذي أجمع على فرط إعظامه وإجلاله من ساير صنوف العترة، يجري في هذا الحال مجرى الباقر والصادق والكاظم والرضا صلوات الله عليهم أجمعين، لأن من عدا من ذكرناه من صلحاء العترة وزهادها ممن يعظمه فريق من الأمة ويعرض عنه فريق، ومن عظم منهم وقدمه لا ينتهي في الاجلال والإعظام إلى الغاية التي ينتهي إليها فيمن ذكرناه ولو لا أن تفصيل هذه الجملة ملحوظ معلوم لفصلناها على طول ذلك، ولسمينا من كنينا عنه، ونظرنا بين كل معظم مقدم من العترة، ليعلم أن الذي ذكرناه هو الحق الواضح وما عداه هو الباطل الماضح (1).

وبعد: فمعلوم ضرورة أن الباقر والصادق ومن وليهما من أئمة أبنائهما عليهما السلام كانوا في الديانة والاعتقاد وما يفتون به من حلال وحرام على خلاف ما يذهب إليه

____________

(1) الماضح: المشين المعيب.

الصفحة 340
مخالفوا الإمامية، وإن ظهر شك في ذلك كله فلا شك ولا شبهة على منصف في أنهم لم يكونوا على مذاهب الفرق المختلفة المجمعة على تعظيمهم والتقرب إلى الله تعالى بهم، وكيف يعترض ريب فيما ذكرناه؟! ومعلوم ضرورة أن شيوخ الإمامية وسلفهم في ذلك الأزمان كانوا بطانة للباقر وللصادق صلوات الله عليهما ومن وليهما أجمعين السلام، وملازمين لهم متمسكين بهم، ومظهرين أن كل شئ يعتقدونه وينتحلونه ويصححونه أو يبطلونه فعنهم تلقوه ومنهم أخذوه، فلو لم يكونوا عليهم السلام بذلك راضين وعليه مقرين لأبوا عليهم نسبة تلك المذاهب إليهم، وهم منها بريئون خليون، ولنفوا ما بينهم من مواصلة ومجالسة، وملازمة وموالاة، ومصافاة، ومدح وإطراء وثناء، ولأبدلوه، باللوم والذم، والبراءة والعداوة، فلو لم يكن أنهم عليهم السلام لهذه المذاهب معتقدون وبها راضون، لبان لنا واتضح، ولو لم يكن إلا هذه الدلالة لكفت وأغنت، وكيف يطيب قلب عاقل، أو يسوغ في الدين لأحد:

أن يعظم في الدين من هو على خلاف ما يعتقد أنه الحق وما سواه باطل، ثم ينتهي في التعظيمات والكرامات إلى أبعد الغايات وأقصى النهايات، وهل جرت بمثل ذلك عادة؟ أو مضت عليه سنة؟ أو لا يرون أن الإمامية لا تلتفت إلى من خالقها من العترة، وحاد عن جادتها في الديانة، ومحجتها في الولاية، ولا تسمح له بشئ من المدح والتعظيم، فضلا عن غايته وأقصى نهايته، بل تبرأ منه وتعاديه، وتجريه في جميع الأحكام مجرى من لا نسب له ولا حسب، ولا قرابة ولا علقة، وهذا يوقظ على أن الله تعالى خرق في هذه العصابة العادات، وقلب الجبلات، ليبين من عظيم منزلتهم، وشريف مرتبتهم، وهذه فضيلة تزيد على الفضائل، وتوفي على جميع الخصائص والمناقب، وكفى به برهانا لائحا، وحجابا راجحا. قطعنا هذا الكتاب على كلام السيد علم الهدى قدس الله روحه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.