(مناظرة رجل مع أبي الهذيل العلاّف(1) )
حُكي عن أبي الهذيل العلاّف، قال: دخلت الرقة فذُكر لي أن بدير زكن رجلاً مجنوناً حسن الكلام، فأتيته فإذا أنا بشيخ حسن الهيئة جالس على وسادة يسرّح رأسه ولحيته، فسلّمت عليه، فرد السلام وقال: ممن يكون الرجل ؟
قال: قلت: من أهل العراق.
قال: نعم، أهل الظرف والادب.
قال: من أيها أنت ؟
قلت: من أهل البصرة.
قال: أهل التجارب والعلم.
قال: فمن أيهم أنت ؟
قلت: أبو الهذيل العلاف.
قال: المتكلم ؟
قلت: بلى.
فوثب عن وسادته وأجلسني عليها، ثم قال ـ بعد كلام جرى بيننا ـ: ما تقولون في الامامة ؟
قلت: أي الامامة تريد ؟
قال: مَن تقدمون بعد النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ؟
قلت: مَن قدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ.
قال: ومَن هو ؟
قلت: أبا بكر.
قال لي: يا أبا الهذيل ولم قد متم أبابكر ؟
قال: قلت: لان النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال: «قدّموا خيركم وولوا أفضلكم» وتراضى الناس به جميعا(2) .
قال: يا أبا الهذيل، هاهنا وقعت.
أمّا قولك: إن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال: «قدّموا خيركم وولّوا أفضلكم»، فإني أوجدك أن أبابكر صعد المنبر وقال: «وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم»(3) فإن كانوا كذّبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ، وإن كان هو الكاذب على نفسه فمنبر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لا يصعده الكاذبون.
وأمّا قولك: أن الناس تراضوا به، فإن أكثر الانصار قالوا منا أمير ومنكم أمير، وأمّا المهاجرون فإن الزبير بن العوام قال: لا أبايع إلاّ عليا، فأمر به فكسر سيفه، وجاء أبو سفيان بن حرب وقال: يا أبا الحسن، لو شئت لأملأنَّها خيلاً ورجالاً(4) يعني «المدينة»، وخرج سلمان فقال بالفارسي: «كرديد ونكرديد، وندانيد كه چه كرديد»(5) ، والمقداد وأبوذر، فهؤلاء المهاجرون والانصار.
أخبرني يا أبا الهذيل عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله:
إن لي شيطانا يعتريني(6) ، فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني، لا أقع في أشعاركم وأبشاركم، فهو يخبركم على المنبر إني مجنون، وكيف يحلّ لكم أن تولّوا مجنونا ؟!
وأخبرني يا أبا الهذيل، عن قيام عمر وقوله: وددت أني شعرة في صدر أبي بكر، ثم قام بعدها بجمعة فقال: «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة(7) وقى الله شرها، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه»(8) فبينما هو يود أن يكون شعرة في صدره، وبينما هو يأمر بقتل من بايع مثله.
فأخبرني يا أبا الهذيل عن الذي زعم أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لم يستخلف(9) ، وأن أبابكر استخلف عمر، وأن عمر لم يستخلف، فأرى أمركم بينكم متناقضا.
وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر حين صيّرها شورى بين ستة، وزعم أنهم من أهل الجنة فقال: «إن خالف اثنان لاربعة فاقتلوا الاثنين، وإن خالف ثلاثة لثلاثة، فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن عوف»(10) .
فهذه ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنه(11) ؟!!!
وأخبرني يا أبا الهذيل، عن عمر لما طُعِن، دخل عليه عبد الله بن عباس، قال: فرأيته جزعاً.
فقلت: يا أمير، ما هذا الجزع ؟
قال: يا بن عباس، ما جزعي لاجلي ولكن جزعي لهذا الامر من يليه بعدي.
قال: قلت: ولّها طلحة بن عبيد الله.
قال: رجل له حدّة، كان النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ يعرفه فلا أولّي أمر المسلمين حديداً.
قال: قلت: ولّها زبير بن العوام.
قال: رجل بخيل، رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل، فلا أولّي أمور المسلمين بخيلاً.
قال: قلت: ولّها سعد بن أبي وقاص.
قال: رجل صاحب فرس وقوس، وليس من أحلاس الخلافة.
قال: قلت: ولّها عبد الرحمن بن عوف.
قال: رجل ليس يحسن ان يكفي عياله.
قال: قلت: ولّها عبد الله بن عمر.
فاستوى جالسا، ثم قال: يا بن عباس ! ما الله أردت بهذا أولّي رجلا لم يحسن أن يطلّق امرأته ؟!
قال، قلت: ولّها عثمان بن عفان.
قال: والله لئن وليته ليحملن بني أبي معيط على رقاب المسلمين(12) ، ويوشك أن يقتلوه(13) . قالها ثلاثا.
قال: ثم سكتُّ لما أعرف من مغائرته لامير المؤمنين علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ.
فقال: يا بن عباس اذكر صاحبك.
قال: قلت: فوّلها عليا.
قال: فو الله ما جزعي إلاّ لمّا أخذنا الحق من أربابه، والله لئن وليته ليحملنّهم على المحجة العظمى(14) ، وإن يطيعوه يدخلهم الجنة(15) ، فهو يقول هذا ثم صيّرها شورى بين ستة فويل له من ربه !!!
قال أبو الهذيل: فو الله بينما هو يكلمني إذ اختلط، وذهب عقله. فأخبرت المأمون بقصته، وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا، فبعث إليه المأمون، فجاء به وعالجه وكان قد ذهب عقله بما صُنع به، فرد عليه ماله وضياعه وصيّره نديما، فكان المأمون يتشيع لذلك، والحمد للّه على كل حال(16) .
____________
(1) أبو الهذيل العلاّف: محمد بن الهذيل بن عبيد الله العبدي البصري العلاّف، رأس المعتزلة، لقّب بالعلاّف لانّ داره بالبصرة كانت في العلاّفين، شيخ البصريين في الاعتزال ومن اكبر علمائهم، وصاحب المقالات في مذهبهم، ولد في سنة إحدى أو أربع وثلاثين ومائة وتوفي في أوّل أيّام المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين بسر من رأى وسنُّه مائة سنة.
راجع: أمالي المرتضى ج1 ص178، سير أعلام النبلاء ج10 ص542 رقم: 173، طبقات المعتزلة ص 44.
(2) لم يحصل تراضٍ او اجماع على بيعة ابي بكر، فهناك الكثير ممن تخلّف من الصحابة عن بيعته وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ.
وممن ذكر ذلك: صحيح مسلم ج5 ص152 ط محمد علي صبيح وج2، ص81، ط عيسى الحلبي وج5، ص153، ط المكتبة التجارية، صحيح البخاري ج5 ص82 ط دارالفكر وج3 ص 55 ط دار احياء الكتب، الامامة والسياسة ج1 ص13، مروج الذهب ج2 ص307، تاريخ الطبري ج3، ص208، العقد الفريد ج5 ص13.
وممن تخلف من الصحابة عن بيعة ابي بكر:
1 ـ العباس بن عبد المطلب. 2 ـ عتبة بن ابي لهب. 3 ـ سلمان الفارسي. 4 ـ ابوذر الغفاري. 5 ـ عمار بن ياسر. 6 ـ المقداد. 7 ـ البراء بن عازب. 8 ـ أبي بن كعب. 9 ـ سعد ابن أبي وقاص. 10 ـ طلحة بن عبيد الله. 11 ـ الزبير بن العوام. 12 ـ خزيمة بن ثابت. 13 ـ فروة بن عمر الانصاري. 14 ـ خالد بن سعيد بن العاص. 15 ـ سعد بن عبادة الانصاري، لم يبايع حتى توفي بالشام في خلافة عمر. 16 ـ الفضل بن العباس. وفي مقدمة هؤلاء امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وبنو هاشم.
راجع في ذلك: العقد الفريد ج5 ص13، شرح النهج لابن أبي الحديد ج1 ص131، مروج الذهب للمسعودي ج2 ص1 ـ 3، أسد الغابة لابن الاثير ج3 ص222، تاريخ الطبري ج3، ص208، السيرة الحلبية ج3 ص356، تاريخ اليعقوبي ج2، ص123.
(3) الامامة والسياسة لابن قتيبة ص22، العقد الفريد ج5 ص13.
(4) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج1 ص222.
(5) يعني فعلتم وما فعلتم ولا تعلمون ما الذي فعلتم.
(6) كنز العمال ج5 ص589 ح14050، مجمع الزوائد ج5 ص183، الطبري في تاريخه ج3 ص244، ابن كثير في البداية والنهاية ج6 ص303، ابن ابي الحديد في شرح النهج ج6 ص20، السيوطي في تاريخ الخلفاء ص71، ابن قتيبة في الامامة والسياسة ص22.
(7) جاء في المنجد ص592: الفَلْتَة جمع فلتات: الامر يقع من غير إحكام، يقال: خرج الرجلُ فلتةً، أي بغتة، وحدث الامر فلتةً أي فجأَةً من غير تدبُّر. وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج2 ص37: وذكر صاحب الصحاح أن الفلتةَ: الامر الذي يُعمل فجأة من غير تردد ولا تدبّر. وهكذا كانت بيعة أبي بكر، لان الامر فيها لم يكن شورى بين المسلمين، وإنما وقعت بغتةً لم تُمحَّصْ فيها الاراء، ولم يتناظر فيها الرجال، وكانت كالشيء المُستلَب المُنْتهَب، وكان عمر يخاف أن يموت (أبو بكر) عن غير وصيّة، أو يُقتل قتلاً فيبايَع أحدٌ من المسلمين بغتةً كبيعة أبي بكر، فخطب بما خطب له، وقال معتذراً: ألا إنه ليس فيكم مَنْ تُقطع إليه الاعناق كأبي بكر !
وفي هذا المعنى يقول محمد بن هانئ المغربي ـ كما في شرح النهج أيضاً ج2 ص37:
ولكنّ أمراً كان أُبرم بينهمْ | وإن قال قومٌ فلتةً غيرُ مُبْرَمِ |
زعموها فَلْتـَةً فــاجئــةً | لا وَرَبِّ البيت والرُّكْن المشيدِ |
إنّما كانتْ أموراً نُسِجــَتْ | بينهم أسبابُها نسْجَ الْبُــرود |
أنبيٌ بــلا وصيٍ تعـــالى | الله عمـا يقولــه سفهـاهــا |
زعموا أن هذه الارض مرعى | تُرِكَ الناس فيه ترك سداهـــا |
كيف تخلو من حجة وإلى مـن | ترجع الناس في اختلاف نهاهـا |
وأرى السؤ للمقاديـر ينمــى | فإذاً لا فســاد إلا قضاهـــا |
قـد علمتـم أن النبي حكيــم | لم يدع من أمـوره أولاهـــا |
أم جهلتم طـرق الصواب من | الدين ففاتت أمثالكــم مثلاهـا |
هل ترى الاوصياء يا سعد إلا | أقرب العالمين مـن أنبياهــا |
أو تـرى الانبياء قد تخــذوا | المشرك دهراً بالله من أوصياها |
أم نبي الهدى رأى الرسل ضلَّت | قبله فاقتفى خلاف اقتفاهـــا |
الكامل لابن الاثير (في حوادث سنة 23) ج3 ص66، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (في شرح الخطبة الشقشقية) ج1 ص185 ـ 194، تاريخ الطبري ج4 ص228، وقريب منه في الطبقات لابن سعد ج3 ص338.
(11) اضف الى ذلك شهادة عمر، بأن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ مات راضيا عنهم، وهو قوله: ان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ مات وهو راض عن هذه الستة من قريش: علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف ؟ ! !
راجع: شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج1 ص185 (في قصة الشورى)، تاريخ الطبري ج4 ص227، الكامل في التاريخ ج3 ص65.
(12) قال ابن ابي الحديد المعتزلي في شرح النهج ج1 ص198: وصحت فيه فراسة عمر، إذ قد أوطأ بني أمية رقاب الناس، وأولاهم الولايات، واقطعهم القطائع، واُفتتحت أرمينيا في أيامه، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان فقال عبد الرحمن بن الحنبل الجمحي:
أحلف بالله رب الانــــام | ما ترك الله شيئا سُـــدى |
ولكــن خُلقت لنـا فتنــة | لكي نبتلي بـك او تُبتلــى |
فإنّ الامينيــن قد بيّنـــا | منار الطريـق عليه الهـدى |
فما أخــذا درهما غيلــة | ولا جعلا درهمـا في هوى |
وأعطيت مروان خُمس البلاد | فهيهات سعيـك ممَّنْ سعـى |
دعوت اللّعين فأدنيته | خلافا لسّنة من قد مضى |
(14) روى ابن عبد البرفي الاستيعاب ان عمر قال في عليٍّ ـ عليه السلام ـ: إن ولّوها الاجلح سلك بهم الطريق المستقيم، فقال له ابن عمر: ما يمنعك أن تقدّم عليا ؟ قال: اكره أن أتحملها حيا وميتا (عن هامش الايضاح ص128)، وايضا نصّ على هذا المعنى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ كما اخرجه احمد في مسنده ج1 ص109 عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في حديث: وان تؤمروا عليا ـ عليه السلام ـ ولا اراكم فاعلين، تجدوه هادياً مهديّا يأخذ بكم الطريق المستقيم، وفي الفرائد ج1 ص266 ح207، في حديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم: وإن تستخلفوا علياً ـ ولا آراكم فاعلين ـ تجدوه هادياً مهدياً يحملكم على المحجّة البيضاء.
(15) وقد نصّ على ذلك النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ: ان استخلفوا عليا ـ عليه السلام ـ أدخلهم الجنة، فقد روى الخطيب الخوارزمي في المناقب ص68، مسندا عن عبد الله عن مسعود قال: كنت مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وقد أصحر فتنفس الصعداء، فقلت: يا رسول الله مالك تتنفس ؟ قال: يا بن مسعود نعيت اليّ نفسي، فقلت: يا رسول الله استخلف، قال: من ؟ قلت: ابابكر، فسكت، ثم تنفس، فقلت: مالي اراك تتنفس ؟ قال: نعيت الـيّ نفسي. فقلت: استخلف يا رسول الله، قال: من ؟ قلت: عمر بن الخطاب، فسكت، ثم تنفس قال: فقلت: ما شأنك يا رسول الله ؟ قال نعيت اليّ نفسي، فقلت: استخلف قال: من ؟ قلت: علي بن ابي طالب، قال: اوه ولن تفعلوا اذا ابدا، والله لئن فعلتموه ليدخلنكم الجنة، ورواه ابن كثير في البداية والنهاية ج7 ص360، وكذلك فرائد السمطين ج1 ص273 ـ 274 ح212، وفيه: أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلنّ الجنّة أجمعين أكتعين.
(16) الاحتجاج: ج2 ص382 ـ 385.