ومنها: ما رواه أهل الحديث، ورواه عدّة من أصحابنا ممّن يوثق بنقلهم، وتعرف عدالتهم أنّ أبا بكر لمّا صعد المنبر أوّل يوم جمعة قام إليه اثنا عشر رجلاً؛ ستّة من المهاجرين، وستّة من الانصار، فأنكروا عليه قيامه ذلك المقام حتى أفحموه على المنبر ولم يردّ جوابا، فقام عمر، وقال: يا...، إن كنت لا تقوم بحجّة فلم أقمت نفسك هذا المقام، وأخذ بيده وأنزله عن المنبر(16) .

ولمّا كان الاسبوع الثاني جاءوا في جمع وجاء خالد بن الوليد معهم في مائة رجل وجاء معاذ بن جبل في مائة رجل شاهرين سيوفهم حتى دخلوا المسجد وكان علي ـ عليه السلام ـ فيه وجماعة من أصحابه معه ومعهم سلمان.

فقال عمر: والله يا أصحاب علي، لئن ذهب رجل منكم يتكلّم بالّذي تكلّم بالامس لاخذنّ الّذي فيه عيناه، فقام سلمان الفارسي، فقال: صدق رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إنّه قال: بينما أخي وابن عمّي جالس في مسجدي إذ وثب عليه طائفة من كلاب أهل النار يريدون قتله ولا شكّ أنتم هم، فأهوى إليه عمر بالسيف ليضربه، فأخذ علي ـ عليه السلام ـ‍ بمجامع ثوبه وجذبه إلى الارض، وقال: يابن صِهاك الحبشيّة أبأسْيافِكُمْ تُهدّدونا، وبأجمُعِكم تكاثرونا ؟ ! والله لولا كتاب من الله سبق، وعهدُ من رسول الله تقدّم لاريتكم أيّنا أقلّ عددا وأضعف ناصرا، ثمّ قال لاصحابه: تفرّقوا(17) .

وإذا كانت الاحوال الجارية بينهم على مثل هذه الروايات دلّت على وقوع الكراهة وعدم تمكّن هؤلاء المتخلّفين عن السقيفة من ترك المبايعة ، فلا تكون بالموافقة الحاصلة منهم وإنّما هي بالكراهة، فلا تكون حجّة بالاجماع.

فقال: هذه الروايات من طرقكم، فلا تكون حجّة علينا.

فقلت: سلّمنا، ولكن منها ما يكون من طرقكم كرواية ابن أبي الحديد مع أنّ احتمال الاكراه غير مندفع بحجّة من عندكم، والدليل قاطعٌ فيبقى احتمال الكراهة بحاله فحينئذٍ لا يحصل الاجماع المدّعى حصوله فلا تقوم لك الدلالة على الواسطة فأت بغيرها إن كان لك حجّة قاطعة على مدّعاك وإلاّ فاعترف ببطلانها.

فقال: هاهنا حجّة.

فقلت: وما هي ؟

فقال: أمرُ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بالصّلاة خلف أبي بكر في مرض موته(18) وذلك دليلٌ على تقديمه له على سائر أصحابه لانّ المُقدّم في الصلاة يُقدّم في غيرها إذ لا قائل بالفرق.

فقلت: هذه حجّة ضعيفة جدّا.

أمّا أوّلاً: فلانّه لو كان التقديم صحيحا كما زعمت وكان مع صحته دالاً على إمامته لكان ذلك نصا من النبي صلّى الله عليه وآله بالامامة، ومتى حصل النَّصّ لا يحتاج معه إلى غيره فكيف وأبو بكر وأصحاب السقيفة لم يجعلوا ذلك دليلاً على إمامته، وكيف أبو بكر وعمر لم يحتجّوا به على الانصار وكيف توقّفت الخلافة على المبايعة الّتي حصل عليهم فيها الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف مع أنّ هذه الواقعة كانت أثبت دليلاً، وأقوى حجّة لانّها نصّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ، فكيف عدلوا إلى الاضعف الذي هو أحد الامرين الاعسر، والعاقل لا يختار الاصعب مع إنجاح الاسهل إلاّ لعجزه عنه.

فعُلمَ أنّ ذلك ليس فيه حجّة أصلاً، فكيف ما لا يكون حجّة عندهم ولا عند أحد من الصَّحابة تجعله أنت حجّةً، ومن ذلك يُعلَم أنّ قصدك المغالطة.

وأمّا ثانيا: فلانّ التقديم في الصلاة لا يَدلّ على الامامة العامّة لانّ الخاص لا يدل على العامّ خصوصا على مذهبكم من جواز إمامة الفاسق في الصّلاة، وعدم اشتراط العدالة في التقديم بها، والامامة العامّة يشترط‍ فيها العدالة بالاجماع وأنّ الامام لو فسق عندكم وجب على الاُمّة عزله، فكيف تجعلون ما لا يحتاج إلى العدالة حُجّةً فيما يحتاج إليها إنّ هذا الاحتجاج واهي الدليل غير مسموع ولا مقبول عند العقلاء ومن له أدنى رويَّة.

وأمّا ثالثا: إنّ هذا التقديم غير صحيح عند الكلّ أمَّا عندنا فلانّ المنقول أنّ بلالاً لمّا جاء يعلم بوقت الصلاة كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ‍ مغمورا بالمرض، وكان عليّ ـ عليه السلام ـ مشتغلاً بالرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ، فقال بعضهم: علي يصلّي بالناس فقالت عائشة(19) : مروا أبا بكر يصلّي بالنّاس فظنّ بلال أنّ ذلك من أمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ‍ فجاء وأعلم أبا بكر بذلك فتقدّم، فلمّا كبَّر أفاق النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ‍ فسمع التكبير، فقال: من يصلّي بالناس ؟

فقيل له: أبو بكر.

فقال: أخرجوني إلى المسجد، فقد حدثت في الاسلام فتنة ليست بهيّنة، فخرج ـ صلّى الله عليه وآله ـ يتهادى بين علي والفضل بن العبّاس حتى وصل إلى المحراب، ونحّى أبا بكر، وصلّى بالناس، وأمّا عندكم فتدّعُون أنّ ذلك كان بأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وهي دعوى باطلة من وجوه.

الاوّل: أنّ الاتّفاق واقع على أنّ الامر الذي خرج إلى بلال لم يكن مشافهة من النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقيل له: يا بلال، قل لابي بكر يصلّي بالناس، أو قل للناس يصلّون خلف أبي بكر، بل كان بواسطة بينهما لانّ بلالاً لم يحصل له الاذن في تلك الحالة بالدخول على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لاشتغال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بالمرض وإذا كان بواسطة احتُمِل كذبُ الواسطة لانّه غير معصوم، وإذا احتُمِل كَذِبُه لم يبق في هذا الوجه حُجّة لاحتمال أن يكون بغير أمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ولا علمه، ويدلّ على ذلك خروجه عليهم في الحال لما علم وعَزل أبي بكر وتوليته الصلاة بنفسه.

الثاني: أنه لو كان ذلك بأمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ كما زعمتم لكان خروجه في الحال مع ضعفه بالمرض وتنحيته أبا بكر عن المحراب وتولّيه الصلاة بنفسه مع صدور الامر منه أوّلاً مناقضةً صريحةً لا تليق بمن لا ينطق عن الهوى لانّ الاتّفاق واقع على أنّ أبا بكر لم يتمّ الصلاة بالنّاس بل خرج النّبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ونحى أبا بكر عنها وأتمّ الصلاة بالناس رواه أهل السنّة في جملة مصنّفاتهم.

الثالث: لو سلّمنا جميع ذلك لكان خروج النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعزله له مبطلاً لهذه الامارة لانّه ـ عليه السلام ـ نسخها بعزله عنها فكيف يكون ما نسخه النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بنفسه حجة على ثبوته إن هذا لعَجب بل أقول: إن عزل النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ له بعد تقديمه كما زعمتم إنّما كان لاظهار نقصه عند الاُمّة وعدم صلاحيته في التقدم في شيء فإنّ من لا يصلح أن يكون إماما في الصلاة مع أنّها أقل المراتب عندكم لصحّة تقديم الفاسق فيها كيف يصحّ أن يكون إماما عامّا، ورئيسا مُطاعا لجميع الخلق، وإنّما كان قصده ـ صلّى الله عليه وآله ـ إن كان هذا الامر وقع منه ـ إظهار نقصه وعدم صلاحيته للتقديم على النّاس ليكون حجّة عليهم.

وما أشبه هذه القصّة بقصّة براءة(20) وعزله عنها، وإنفاذه بالرّاية يوم خيبر(21) فإنّ ذلك كلّه بيان لاظهار نقصه وعدم صلاحيته لشيء من الامور البيّنة وإظهار ذلك للناس يَعرفُ ذلك من له أدنى رويّة، والعجب منكم كيف تستدلّون بالامر بالصلاة التي عُزِل عنها ولم يتمّها بالاجماع على إمامته ؟ وكيف لا تستدلّون على إمامة علي ـ عليه السلام ـ باستخلافه النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ على المدينة في غزوة تبوك المُتّفق على نقلها وحصوله منه ـ صلّى الله عليه وآله ـ لعلي ـ عليه السلام ـ وعدم عزله عنها بالاتّفاق ؟ ! فإنّ الاستخلاف على المدينة التي هي دار الهجرة، وعدم الوثوق عليها لاحد إلاّ علي ـ عليه السلام ـ دليل على أنّه القائم بالامر بعده في جميع غيباته ومُهمّاته وإذا ثبت استخلافه على المدينة وعدم عزله عنها ثبت استخلافه على غيرها إذ لا قائل بالفرق.

ولمّا وصلنا في المجادلة في ذلك المجلس إلى هذا الحدّ حضرت مائدة السيّد فانقطعت بحضورها المجادلة واشتغل جميع الحاضرين بالاكل والمُلاّ أيضا معهم واشتغلت به في جملتهم، وعرضت لي فكرةٌ حال الاكل في الحديث المرويّ عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وهو قوله ـ‍ عليه السلام ـ: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليةً(22) .

فقلت: يا مُلاّ إجازةً.

قال: نعم.

قلتُ: ما تقول في هذا الحديث المروي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أهو حديث صحيح أم لا ؟ وأوردت الحديث.

فقال: بل حديث صحيح متّفق على صحّته.

فقلت: مَنْ إمامك ؟

فقال: ليس الحديث على ظاهره، بل المراد بالامام في الحديث القرآن، وتقديره من مات ولم يعرف إمام زمانه الذي هو القرآن مات ميتةً جاهليةً.

فقلتُ: إذن يلزم أن يكون العلم بالقرآن واجبا عينا على كلّ مكلّف مع أنّ ذلك لم يقل به أحد من العلماء.

فقال: ليس المراد القرآن كلّه، بل المراد الفاتحة والسورة لانّهما شرطان في صحّة الصلاة، فإنّهما واجبان عينا بالاجماع فمن جهلهما يكون جاهليا.

فقلت: إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أضاف الامام إلى الزمان في الحديث وهو دليل على اختصاص أهل كلّ زمان بإمام يجب عليهم معرفته، ومع القول بالفاتحة والسورة لا فائدة في هذا التخصيص حينئذٍ فلا يكون هذا تأويلاً مطابقاً لمقتضى الحديث.

فقال الاشراف والحاضرون من الطلبة: صدق الشيخ، إنّ هذه الاضافة في الحديث تقتضي تخصيص أهل كلّ زمان بإمام يجب عليهم معرفته، وأنّ من مات قبل معرفته مات جاهليّا، والتأويل بالفاتحة ينافي ذلك، لوجوب الفاتحة على أهل كلّ زمان، فانقطع ورجع.

فقال: إذن أنا وأنت سواء في ذلك في هذا الزمان.

فقلت: حاش لله، ليس الامر كما زعمت، بل أنا لي إمام في زماني هذا أعتقد إمامته، وأعرفه حقّ معرفته، قامت لي الدلائل على ذلك ولست أنت كذلك فما أنا وأنت سواء.

فقال: إن إمامك الذي تعتقده أنت ونحن لانشاهده ولا نعرف مكانه، ولا تنتفع به في دينك، ولا تأخذ عنه فتاويك فكان الامر فيّ وفيك سواء.

قلت: كلاّ إنّ الحديث لم يتضمّن وجوب معرفة مكان الامام ووجوب أخذ الفتاوى عنه، وإنّما تضمّن وجوب معرفته وأنا الحمد لله قد عرفته وقامت لي الدلائل القاطعة على وجوده ووجوب إمامته واتّباعه، وأرجو في كلّ وقت ظهوره وملاقاته لي ولسائر الاُمّة وهذا هو الذي وجب علي بمقتضى الحديث لانّه لم يقل: من لم يأخذ عن إمام زمانه الفتاوى ولا قال: من لا يعرف مكان إمامه بل قال: مَنْ لا يعرف إمامه، وأنا بحمد الله قد عرفته، وأنت تعتقد أنّ الامام لك وأنّ الزمان الذي أنت فيه خال من الامام فلست أنا وأنت سواء والحمد لله.

فقال: أنا في طلبه وتحصيل معرفته، وقد ذكر لي أن باليمن رجلاً يدّعي الامامة وأنا أُريد الوصول إليه لاعرف صحّة إمامته ودعواه فأتّبعه.

فقلت له: إذن أنت في هذا الوقت لا إمام لك فأنت في هذا الوقت جاهل، ثمّ قلت: ولا يصحّ لك ذلك إلاّ أن تترك مذهبك وترجع إلى غيره لانّ هذا المدّعي ليس من أهل السنّة بل هو من الزيدية فإن كنت منهم صحّ لك ذلك وإن كنت من السنّة فالسُنّة لا يعتقدون ذلك لانّهم لا يعتقدون وجود الامام في كلّ وقت، ولا يرجون وجوده على كلّ حال، فسكت ولم يرد جوابا، وفرغ الحاضرون من الاكل ورُفِعت المائدة وودّعَنَا الحاضرون وخرجوا وتفرّق أهل المجلس، وخرج المُلاّ في جملتهم.

المجلس الثاني:

كان يوم العيد العاشر من ذي الحجّة اتّفق أن السيّد محسن بن محمد خرج من المنزل وكنت معه فقصدنا زيارة الامام الرضا ـ عليه السلام ـ‍ والاخوان في ذلك اليوم الشريف فجئنا وزرنا الامام ـ عليه السلام ـ، وبعد الفراغ دخلنا مدرسة السلطان شاهرخ التي هي بجنب حضرة الامام ـ عليه السلام ـ وكان فيها جماعة من الطلبة ساكنين، فقصدناهم فيها للسلام عليهم وزيارتهم وكان فيها رجل مدرّس اسمه مُلاّ غانم فوجدناه جالسا في المدرسة ومعه جماعةٌ من أهل العلم والعوامّ من أهل المشهد وغيرهم ووجدنا المُلاّ الهروي معهم فسلّمنا على الحاضرين وجلسنا معهم فتخاوضوا في الاحاديث والحكايات والمذاكرة في العلم، فجرى بينهم أشياء كثيرة ثمّ إنّ الملاّ الهروي أشار إلىّ بمسألة.

____________

(16) الاحتجاج للطبرسي: ج1 ص75 ـ 79.

(17) الاحتجاج للطبرسي: ج1 ص79 ـ 80 بتفاوت.

(18) انظر: فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل: ج1 ص106 ح78.

(19) انظر: تاريخ الطبري: ج3 ص197، فضائل الصحابة لاحمد ج1 ص109 ح80 وص118 ح88، الكامل في التاريخ ج2 ص322، طبقات ابن سعد ج3 ص178 ـ 181.

(20) تقدمت تخريجاته.

(21) تقدمت تخريجاته.

(22) انظر: مسند أحمد ج4 ص96، المعجم الكبير ج19 ص388 ح910، كنز العمال ج1 ص103 ح464، وج6 ص65 ح14863، مجمع الزوائد لابي بكر الهيثمي ج5 ص218، سلسلة الاحاديث الضعيفة للالباني ص354 ح350، الاصول من الكافي ج1 ص377 ح3، رسائل الشيخ المفيد: ص384، الغيبة للنعماني ص129 ح6، حلية الاولياء ج3 ص224، بحار الانوار ج23 ص78 ح9.