فقال: ما تقول في ولد الزنا هل تنسبه الى أبيه وأُمّه أم لا ؟

فقلت: الذي عليه علماء أهل البيت ـ عليهم السّلام ـ أنه لا يصحّ نسبته إلى أبيه ولا إلى أُمّه لانّه عندهم أنّه ليس ولداً شرعياً والنسب عندهم إنّما يثبت بالنكاح الصحيح، والشبهة دون الزنا.

فقال: فيلزمكم عند انتفاء النسبة الشرعية أن لا يكون محرّما فيحلّ له وطئ أمّه وأخواته ويحلّ للاب وطئ ابنته وهذا لا يقول به أحدٌ من أهل الاسلام.

فقلت: إنّه ولدٌ لغةً لا شرعا، ونحن نقول: بالتحريم المذكور من حيث اللغة، فالتحريم عندنا يتبع اللغة وغيره من الاحكام يتبع الشرع.

فقال: هذا خَبطٌ في البحث لانّكم مرَّةً تقولون: إنّه ولد وتحكمون له بأحكام الاولاد، ومرّة تقولون: إنّه غير ولد وتحكُمون له بأحكام الاجانب، وهذه مناقضة وخبط في الفتوى.

فقلت: ليس ذلك مناقضة بل أثبتُ له أحكام الاولاد من حيثية، والاجانب من حيثية، ولا استحالة في اختلاف الاحكام باختلاف الحيثيّات.

فقال: وأيّ حاجةٍ لكم إلى هذه التمحُلات ولم تتبعوا اللغةً دائما لانّه عند أهل اللغة ولد حقيقة وإنّما جاء الشرع تابعا للّغة.

قلت: ليس الشرع تابعا للغة دائما لانّه عند أهل اللغة ولد حقيقة كما ذكرت، والشرع إنّما جاء تابعا للغة دائما فإنّ الالفاظ اللغوية وإن كانت على لفظها في الاصطلاح الشرعي إلاّ أنّها في المعاني مغايرة لها فإنّ الصلاة لُغةً الدعاء، والزكاة لغة النمو، وفي الشرع وإن كانت تسميتها كذلك إلاّ أنّ المعني منها غير المعنى اللغوي، فإنّ الصلاة والزكاة شرعا غير الدعاء والنمو ومع ذلك فإنّ مذهبنا مبنيّ على الاحتياط فإنّ التحريم في الوطئ والنظر وما يتبع النسب من الاحكام نظراً إلى اللغة أخذا بالاحوط وموضع الوفاق وهي في النسب تتبع الشرع لانّه عين الموافق لمراد الشارع، فلو جعلناه منتفيا في كلّ الاحكام لاحتُمَل أن يكون غير مراد الشارع فيحصل حينئذٍ العقاب أيضا باعتبار التولّد اللغوي، فالاحتياط التامّ مذهبنا والشارع قد نفاه في قوله ـ عليه السلام ـ: الولد للفراش، وللعاهر الحجر(23) ، فلولا إسقاط حكم الزنا في ذلك لم يصحّ نفيه لاحتمال حصوله من الزنا دون الفراش، فأعرض عن المجادلة في هذه المسألة، ثمّ أقبل ينظر إلى كتاب كان معي، وقال: ما هذا الكتاب الذي معك.

فقلت: هذا مصنّف للشيخ جمال الدين الحسن بن المطهر الحلّي من مشائخ الاماميّة وعلمائهم، يسمّى بكتاب نهج الحقّ وكشف الصدق(24) ، يبحث فيه عن أحوال الخلاف بين الاماميّة وأهل السنّة، وقد ذكر فيه حديثا ينقله عن صحيح مسلم أتحبّ أن أحكيه لك.

فقال: وما هذا الحديث ؟

فقلت: ما تقول فيما اشتمل عليه صحيح مسلم أتنكره ؟

فقال: لا بل جميع ما اشتمل عليه صحيح مسلم من الاحاديث فإنّي معترف بصحّته.

فقلت: روى مسلم في صحيحه، والحميدي في الجمع بين الصحيحين في مُسند عبدالله بن العبّاس، قال: لما احتضر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان في بيته رجال، منهم: عمر بن الخطّاب، فقال النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ: هلمّوا أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا.

فقال عمر بن الخطّاب: إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد غلب عليه الوجع، وإنّ الرجل ليهجر، فاختلف الحاضرون عند النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ، فبعضهم يقول: القول ما قاله النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ، وبعضهم يقول: القول ما قاله عمر، فلمّا كثر اللّغَطُ والاختلاف قال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع(25) .

فقال: هذا حديث صحيح، ولكن أيّ طعن على عمر فيه ؟

فقلت: الطعن من وجهين:

الاوّل: أنّه سوء أدب منه ومن الجماعة في حقّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ في ردّهم عليه مراده، وعدم قبولهم أوامره، ورفع أصواتهم فوق صوت النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ حتى تأذى بذلك وقال لهم: قوموا عنّي تبرئا منهم، وقد قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(26) وقال تعالى: (لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله)(27) ، وقال تعالى: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبىّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أَعمالكم وأَنتُم لا تشعُرُون)(28) ، ومع ذلك لم يقتصر عمر على هذه الوجوه بل قابله بالشتم في وجهه وقال: بأنّ نبيّكم ليهجر، أي يهذي وقال تعالى: (وما ينطقُ عن الهوى، إن هو إلاّ وحىٌ يوحى)(29) .

الثاني: إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لمّا أراد إرشادهم وحصول الالُفَ بينهم وعدم وقوع الاختلاف والعداوة والبغضاء بكتب الكتاب الذي يكون نافيا لضلالهم أبدا بنصّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ‍ منعه عمر وحال بينه وبين مراده وهو مأمور بتوقيره، واتّباع أوامره، وقد قال الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللهُ ورسولهُ أمرا أن يكونَ لهُمُ الخيرة)(30) ، فكيف ساغ لعُمر أن يختار منع النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ عن مراده مقابلاً له في وجهه بحضرة أصحابه ولهذا كان عبدالله ابن عبّاس إذا ذكر هذا الحديث يبكي حتى تبل دموعه الحصى ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس(31) ، وكان يقول دائما: الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وبين كتابه(32) .

فقال: أما قولكم إنّ قوله: إن نبيّكم ليهجر شتم، فغير مُسلّم، أمّا الاوّل فلانّه لم يقصد بهذه اللفظة ظاهرها فإن في جلالة عمر، وعظم شأنه ما يمنعه من ذلك ولكن إنّما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته، وكان موصوفا بالخشانة وإباءة الطبع.

وأمّا ثانيا: فلانّ قوله: إن نبيّكم ليهجر، مشتقّ من هجر مهاجرة، فتكون معناه انَّ نبيّكم ليهاجر، وأمّا قولكم إنّه منع النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ عن كتابه، وتقدّم بين يديه، ورّده عن مراده، فإنّه اجتهاد رأيه فسوّغ لمثله العمل باجتهاده فإنّه لمّا رأى في اجتهاده أن ترك هذا الكتاب أصلح، ساغ له المنع منه على مقتضى اجتهاده وإن كان مخطئاً في ذلك الاجتهاد فَإنَّ الخَطَأ في ذلك غير معاقب عليه، ولا يصحّ ذمُ فاعله لانّه أقصى تكليفه.

فقلت: هذا الجواب غير مسموع.

أمّا الاوّل: فإنّ قولك: إنّه غير شتم، دليل على قلّة معرفتك بلغة العرب، وعدم علمك باصطلاحاتهم في المخاطبات فإن ما هو دون هذه اللفظة عندهم شتم يقاتلون عليه ويتخاصمون، فكيف بهذه اللفظة، ولا ألومك على قلّة معرفتك بذلك لانّك لست بعربيّ.

وأمّا قولك: فإنّه لم يقصد بها ظاهرها إلى آخر الكلام، فهو اعتراف منك بأنّ ظاهرها منكر وزور ونزّهتَه عن ذلك فمن أين عرفت عدم قصده مع أنّه تلفّظ بها متعمّدا واللفظ إذا وقع عن عمد وإرادةٍ دلّ بظاهره على أنّه مراد المتكلّم وظاهر الكلام دلّ على أنّه مُنكر فادّعاؤك عدم قصدهِ يحتاج إلى دليل.

وأمّا قولك: إنّما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته، فإنّ ذلك ليس بعذر يسقط التكليف، لانّ كلّ مكلّف فطبعه يقتضي الميل إلى الشهوة والنفور عن الحَسنْ مع أنّه مكلّف بكسر الشهوة فالواجب عليه حينئذٍ كسر هذه الغريزية وقطع هذه العادة والاصغاء والاستماع إلى قول النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ والاتّباع له في جميع الاحوال لانّه مكلّف بذلك، فبأيّ دليل ساغ له تَركُ ما كُلّف به والتنازع والردّ على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ والتهجّم عليه بالكلام المنكر على مقتضى طبعـه، إن ذلك لم يقع منه إلاّ لعدم علمه بالتكاليف، وشدّة سرعة نكرها.

وأمّا قولك: إنّ قوله إن نبيّكم ليهجر مشتقّ من هجر مهاجرة معناه أنّ نبيّكم يهاجر، فقول مردود من جهة اللفظ والمعنى، أمّا من جهة اللفظ فإنّ الاشتقاق الذي ذكرته لم يقل به أحد، ولمَّا وصلتُ في اعتراضي عليه إلى هذا الموضع أنكر عليه ذلك المُلاّ المدرّس ؟

وقال: هذه اللفظة ليست من هذا الاشتقاق بل هو من هجر يهجر هجرا لا مهاجرة فإنّ ذلك على غير القياس، وإذا كان معناها ذلك ما احتملت إلاّ الهجر الذي هو الهذيان ويرد عليك ما قاله الشيخ.

فاعترف بالخطأ في ذلك، ثمّ عدتُ فقلت: وأمّا غلطك من جهة المعنى، فإنّ قولك إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ليهاجر كلام لا فائدة له لانّ المهاجرة من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في تلك الحالة غير مُتصوّرة لانّه في حالة الاحتضار ولانّ الهجرة قد انقطعت ومع ذلك فهو غير مطابق لمقتضى الحال.

____________

(23) صحيح البخاري ج5 ص192، سنن أبي داود ج2 ص282 ح2273، مسند أحمد ج1 ص59 و65، الموطأ ج2 ص739 ح20، السنن الكبرى للبيهقي ج6 ص86.

(24) هو أحد مؤلّفات العلاّمة الحلّي ـ رحمه الله ـ في علم الكلام، كتبه إجابةً لطلب السلطان محمد خدابنده ـ عبدالله ـ الملك المغولي المتُشيّع.

(25) حديث مشهور روي بألفاظ متقاربة انظر: صحيح مسلم: ج3 ص1259 ح22، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص55 وج6 ص51، الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص29، المسند للحميدي ج1 ص241 ح526، طبقات ابن سعد ج2 ص36 و37، مسند أحمد بن حنبل ص293 و355، صحيح البخاري ج1 ص39 وج4 ص85 و121، المعجم الكبير للطبراني ج11 ص445 ح12261، شرح السنّة للبغوي ج11 ص180 ح2755، تاريخ ابن الاثير ج2 ص320.

وأخرجه في البحار ج22 ص468، عن إعلام الورى ص141، إرشاد المفيد ص89، وفي ص472 ح21، عن مناقب ابن شهرآشوب ج1 ص235، وفي ص474 ح22 عن أمالي المفيد ص36 ح3، وفي ص498 ح44 عن كتاب سليم بن قيس ص210.

(26) سورة الحشر: الاية 7.

(27) سورة الحجرات: الاية 1.

(28) سورة الحجرات: الاية 2.

(29) سورة النجم: الاية 3 و 4.

(30) سورة الاحزاب: الاية 36.

(31) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2 ص54، صحيح مسلم ج3 ص1257 ـ 1258 ح20 ـ (1637).

(32) راجع: صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج2 ص1259 ح 22، مسند أحمد ج1 ص222، صحيح البخاري ك المرض ب قول المريض قوموا عني ج7 ص153 ـ 154، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج2 ص55 وج6 ص51.