فقلت: أمّا حديث الارث والعوالي وفدك، فقد رواه منكم الواقدي، وموفّق بن أحمد المكّي.

وأمّا حديث المتعة ومنع عمر لها فمشهور عندكم، وأمّا حديث الاحراق وإجهاض الجنين فبعضه مرويّ عنكم وهو العزم على الاحراق، رواه الطبري والواقدي.

ثمّ عدت فقلت: وأمّا الخليفة الثالث فما كان عليه من المنكرات وعمل المقبحات فمشهور، لا يحتاج إلى بيان، فإنّه ضرب ابن مسعود، وأحرق مصحفه(48) ، ونفى أبا ذرّ إلى الرّبذة(49) ، وردّ الحكم بن العاص بعد نفي النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ(50) وقوله ـ صلّى الله عليه وآله ـ: لا يجاورني حيّا ولا ميتا، فمن خالف فعليه لعنة الله، ثمّ آواه وقرّبه وأدناه، ولم يكفه ذلك حتى طعن على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في نفيه الحكم، فقال عند وصوله المدينة: ما نفيت إلاّ بغيا وعدوانا، واستعمل في ولايته أقرباءه بني أُميّة الفسقة المتظاهرين بالفسق وشرب الخمور، ويكفيك في ذلك أنّ المسلمين أجمعوا على قتله لما أبدع في الدّين وخالف ما عليه الخلفاء المتقدّمين، فقتلوه في بيته بين أهله ولم ينكر عليهم ذلك أحد من الصحابة وكان علي ـ عليه السلام ـ حاضرا في المدينة يشهد الواقعة ولو كان قتله غير جائز لوجب على علي ـ عليه السلام ـ الدفع عنه ومن حيث جاز قتله لم يصحّ الدفاع عنه فهو غير... فاختر أيّها شئت، إما أن يكون علي ـ عليه السلام ـ ترك الدفع عنه مع وجوبه أو تركه لعدم جوازه.

فقال: يمكن أن يكون ترك الدفع تقيّة.

فقلت: هذا الكلام غير مسموع، أمّا أوّلاً فلانّه ـ عليه السلام ـ في تلك الحالة كثير الاتباع، قليل الاعداء، وجميع المسلمين يستطلعون رأيه، ولم يكن هناك أحد ممّن يعدلونه به وكان قوله مسموعا عندهم.

وأمّا ثانيا: فلانّه ترك بعد قتله ثلاثة أيّام لم يدفن فهلاّ كان أمر بدفنه في تلك المدّة، وما ذاك إلاّ أنّه غير مستحقّ للدفن.

وأمّا ثالثا: فلانّه كان الخليفة بعد قتله، فلِم لا أقاد قاتليه لوارثه، وقتلهم به مع تمكّنه من ذلك.

فقال: إنّي أُحبُّ أن تترك البحث في هؤلاء الثلاثة إلى غيرهم من بقيّة الخلفاء.

فقلت له: إنّهم الاساس، فلا يصحّ العدول عنهم حتى يتحقّق عندك ما كانوا عليه وقد أوضحتُ لك طريقتهم، ثمّ إنّي أُسهّل عليك الطريق، ألم تعتقد أنّ عليّا ـ عليه السلام ـ في غاية ما يكون من الصّفات المحمودة، والعدالة المطلقة، وأنّه ليس لطاعن عليه سبيل.

فقال: بلى أعتقد ذلك وأُدين الله به.

فقلت: ما تقول في شكايته منهم وتظلّمه ونسبتهم إلى غصب حقّه(51) ، والتغلّب عليه، أليس يكون قادحا لعدالتهم، ومبطلاً لخلافتهم إذ لا يصحّ التظلّم والشكاية ممّن لم يُفعَل معه ما يوجب ذلك.

فقال: بلى إن ثبت ذلك.

فقلت: قد نقل ذلك عن علي ـ عليه السلام ـ نقلاً متواترا لا يختلف فيه يكفيك فيه الوقوف على كتاب نهج البلاغة الذي شاع ذكره عند جميع العلماء والمدرّسين في الخطبة الموسومة الشقشقية(52) برواية ابن عبّاس وغيره.

فقال: إنّي لم أسمعها !!

فقلت: أتحِبّ أن أُسمعها لك ؟

فقال: نعم.

فقلت: ذكر السيّد الرضي ـ رحمه الله ـ في نهج البلاغة مرفوعا إلى ابن عبّاس أنّه قال: كنت مع علي ـ عليه السلام ـ برحبة الجامع في الكوفة، فتذاكرنا الخلافة وتقدّم من تقدّم عليه فيها، فتنفّس الصعداء.

فقال: أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليّ الطير، فسدلت دونها ثوبا، وَطَوَيتُ عنها كشحا، وطفِقتُ أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طُخيةٍ عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب منها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فعلمت أنّ الصبر على هاتي أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا، وحكيتها له إلى آخرها.

فقال: فمن يعرف من أصحابنا أنّ هذه الخطبة من لفظ علي ـ عليه السلام ـ ؟

فقلت: هذا عبد الحميد بن أبي الحديد قد شرح نهج البلاغة وصحّح هذه الخطبة وروى أنّها من كلام علي ـ عليه السلام ـ وشرحها،(53) وتكلّم على من أنكر أنّها من كلام غير علي ـ عليه السلام ـ، أو قال: إنّها من لفظ السيّد الرضي بكلام يعلم منه أنّه من كلام علي ـ عليه السلام ـ، وقال: إنّ كلام الرضي لا يقع هذا الموقع، ولا يبلغ هذا الحدّ.

وقال: إنّ مشايخنا من المعتزلة وغيرهم قد رووا هذه الخطبة عن علي ـ عليه السلام ـ وأثبتوها في مصنّفاتهم قبل أن يكون الرضي موجودا بمدّة(54) ، ثمّ إنّه لم يسعه إنكارها واعترف بصحّتها، وأنه من كلام علي ـ عليه السلام ـ، وحمل الشكايات الواردة فيها منه ـ عليه السلام ـ من الصحابة على انّه إنّما شكا على ترك الاولى لانه كان ـ عليه السلام ـ الاولى والاحقّ بالخلافة منهم لفضله عليهم، فلمّا عدلوا عن الافضل الاحقّ إلى من لا يساويه في فضل، ولا يوازنه في شرف، ولا يقاربه في سؤدد وعلم، صحّ له أن يبثّ بالشكوى والتظلّم على هذا الوجه لا أنّه على وجه الغصب والجور.

واعترضت عليه بأنّ ذلك غير مسموع لانّه نسبهم إلى أخذ حقّه، وسمّى فعلهم نهبا، قال: أرى تراثي نهبا، وعنى بتراثه الخلافة لانّها إرثه من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، وهكذا شرح ابن أبي الحديد هذا اللفظ، فقال: وعنى بالارث هنا الخلافة لانّها إرث من النّبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، ثمّ إن كان العدول عن الاولى لمصلحة لم يصحّ من علي ـ عليه السلام ـ الشكاية منهم فيما عملوه مصلحة للمسلمين، وإن كان لا لمصلحة كان عدولاً عن الاولى لمجرّد التشهّي فيكون مردودا، هذا مع أنّ العذر إنّما يتصوّر على رأي من يقول بتفضيل علي ـ عليه السلام ـ على الخلفأ الثلاثة وهم الاقلّ، وأمّا المشايخ القائلون بتفضيل الثلاثة فما عذرهم مع أنّهم الاكثر، والسواد الاعظم فأحد الامرين لازم، إمّا الطعن على علي ـ عليه السلام ـ بتظلّمه ممّن ليس ظالما له، وإمّا الطعن عليهم بأنّهم أخذوا حقه ظلما.

فقال: ابن أبي الحديد ليس منا بل من الشيعة !!

فقلت له: هذا يدلّ على عدم اطّلاعك بأحوال الرجال، فإنّ ابن أبي الحديد مشهور بالاعتزال، وهو من مشايخ المعتزلة ومشاهيرهم وله مصنّفاتٌ حكى فيها مذهبه وأشعار(55) وكذلك، فاعترف بذلك أنّه معتزلي.

ثمّ قال: دعني حتى أتروّى في هذه الخطبة، فأخذت له نهج البلاغة وأخرجت له الخطبة منه، فأخذ نهج البلاغة منّي فطالع فيها ساعة، ثمّ قال: إنّي لا أترك مذهبي واعتقادي في هؤلاء الثلاثة بمجرّد هذه الخطبة.

فقلت: إذن أنت مكابر الحقّ !!

ثمّ إنّه قال: فما ظنّك في مثل الشيخ فخر الدين الرازي، وأثير الدين الابهري، وجار الله العلاّمة الزمخشري، وسعد الدين التفتازاني، والسمرقندي، والاصفهاني، وغيرهم من العلماء المدرّسين ملأت مصنّفاتهم الافاق، وشاع ذكرهم في جميع الامصار كلّهم على ضلال، لو لا أنّ لهم على ما ذهبوا إليه دلائل ثابتة، وبراهين واضحة لما ثبتوا على هذا المذهب، ولا اعتقدوا خلافة هؤلاء الثلاثة ولكن لمّا ثبت عندهم بالادلّة القاطعة، والبراهين السّاطعة اعتقدوا ذلك وأثبتوه في مصنّفاتهم وقرّروه لاتّباعهم وتلاميذهم، وإنّما أخذت العلم عن مصنّفاتهم فأنا لا أترك طريقهم مع اعتقادي صدقهم وعدالتهم، واستفادتي من علومهم، وأسلك طريق من لا أعرف صحّة قوله، ولا أعتقد عدالته، ولا ثبت عندي علمه.

فقلت: إذن أنت مقلّد لهم، فقد خرجت عن حَيّز الاستدلال الذي حثّ الله عليه بقوله تعالى: (ائتوني بكتبٍ من قبل هذا أوأثرةٍ من علم إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(56) ، وقال تعالى: (انظروا ماذا في‌السموات والارض)(57) إلى حيز التقليد الذي ذمّ الله فاعله ووبخه بقوله: (إنا وجدنا أبَأَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنّا عَلَى آثارِهِم مُقْتَدُونَ)(58) ، وقال تعالى: (إِذ تَبَرَّأَ الَّذينَ اتُّبعُوا مِنَ الَّذِينَ اتبعُوا ورأوا العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسْبَابُ)(59) فكيف تترك الاستدلال المأمور به وترجع إلى التقليد المنهي عنه المذموم فاعله بنصّ الكتاب أم كيف يسوغ لك التقليد في مثل ما نحن فيه ؟ !

فقال: نعم، التّقليد في مثل هذه المسألة جائز لانّ مسألة الامامة ليست من أُصول الدين، بل هي عندنا من الفروع، والفروع يصحّ التقليد فيها، وأنا أُقلّد فيها وأترك الاستدلال.

فقلت: لا يصحّ ذلك، أمّا أوّلاً فلانّ مسألة الامامة ليست من الفروع، بل هي من أعظم أُصول الدين، وأحد أركان الايمان، لانّها قائمة مَقَامَ النّبوّة في حفظ الشريعة، وانتظام أُمور العالم، وبقاء نوع الانسان في معاشه ومعاده، والنّبوّة من الاُصول اتفاقا، فكذا القائم مقامَهُ من غير فرق.

وَأمَّا ثانيا: فلانّا لو سلّمنا أنّها من الفروع لم يصحّ لك التقليد أيضا، لانّ التّقليد في الفروع إنّما يسوغ لمن لم يقدر على الاجتهاد، ولا يتمكّن من إقامة الدليل فيسوغ له التقليد حينئذٍ لعجزه عن الاستدلال لانّ التكليف بغير المقدور قبيحٌ، وأمّا مع قدرة المكلّف على الاستدلال وتمكّنه منه لا يسوغ له التقليد لا في الاُصول ولا في الفروع، بل يجب عليه النظر والاستدلال بالبراهين والامارات وأنت قادر على الاجتهاد، متمكّن من إقامة الدليل، فلا يسوغ لك التقليد بل يجب عليك الاجتهاد والنظر في الادلّة والامارات، ومع ذلك فقد قام لك الدليل على بطلان خلافة هؤلاء الثلاثة فيجب عليك المصير إليه لانّه لم يعرض لك ما ينقضه أو يعارضه فكيف يسوغ لك التقليد بعد قيام الدليل ومعرفتك به وعدم حصول ما ينقضه أو يعارضه فكيف تتركه وترجع إلى التقليد.

وهذا شيء لم يقله أحد، ولم يسوّغه عالم مع أنّي أقول: إن كنت من المقلّدين فلم رجّحت تقليد هؤلاء المشائخ دون غيرهم من أمثالهم، فإنّ في مذهبنا من العلماء والمصنّفين والمدرّسين مثل ما ذكرت وأزيَد، كالامام المحقّق نصير الدين الطوسي الذي سمي في المعقول المحقّق، وسمي فخر الدين بالمشكك، وكذلك السيد مرتضى الموسوي الذي أفحم كلّ من ناظره وألزمه في جميع العلوم، والشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي الذي سُمّي به لكثرة استفادة الخلق من علومه، والشيخ أبو الفضائل الطبرسي الذي أحيا علوم القرآن في جميع البلدان، والشيخ أبو جعفر الطوسي الذي اشتهر عند العامّة والخاصّة، والشيخ جمال الدين الحلّي الذي سارت مصنّفاته في جميع الامصار، والسيّد شريف الحسني الذي درَّس في جميع بلاد العجم، وركن الدين الجرجاني، ونصير الدين القاشي، وغيرهم من علماء العرب والعجم فإنّ مصنّفاتهم قد ملأت البلدان، وذكرهم قد شاع في جميع الامصار، وقد أبطلوا في مصنّفاتهم جميع الادلّة التي ذكرها علماؤكم وقابلوها بالاجوبة المسكتة، وصنّفوا في الامامة كُتُبا ومصنّفات ضخمة وذكروا فيها أدلّة كثيرة على صحّة إمامة علي عليه السلام بعد النّبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بلا فصل، وأبطلوا إمامة غيره، حتى أنّ الشيخ جمال الدين بن المطهّر ـ قدّس الله روحه ـ وضع كتابا سمّاه بكتاب الالفين(60) ذكر فيه ألف دليل على إمامة علي ـ عليه السلام ـ وألف دليل على إبطال إمامة غيره، فما وجه الترجيح في تقليدك أُولئك دون هؤلاء ؟ فسكت ولم يجبني بشيء.

ثمّ قال: ابحث لي عن سيرة باقي الخلفاء من بعد علي، واترك البحث عن المتقدّمين.

فقلت: أوّل ما أبحث لك في معاوية وأسألك عمّا تعتقد به.

فقال: أعتقد أنّه موحّد مسلم سادس الاسلام، وخال المؤمنين، وأنّه خليفة من خلفاء المسلمين، لا يجوز وصمُه ولا الطعن عليه بحال.

فقلت: وكيف تعتقد هذا الاعتقاد فيه مع أنّه حَارَبَ عليّا ـ عليه السلام ـ وقاتله، وخالَفَ بين المسلمين حتى قتل كثيرا منهم، وقد قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ: يا علي، حربك حربي، وسلمك سلمي(61) ، وهذا حديث اتّفق عليه الكلّ أو تنكره أنت ؟

فقال: لست أنكره.

فقلت: إذن حرب علي حرب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، كفر بالاجماع، فحرب معاوية عليّا كذلك بمقتضى الحديث.

فقال: إنّ حربه كان باجتهاده والعمل بالاجتهاد جائز بل واجب وقد أدّاه اجتهاده إلى المحاربة وإن كان مخطئا في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد لا لوم على صاحبه.

فقلت: لقد أبطلت وأحلت، كيف أنت تترك الاجتهاد في الاستدلال على إثبات الخليفة بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وترجع إلى التّقليد، وتقول: إنّ مسألة الامامة من الفروع التي يكفي فيها التقليد وتسوّغ لمعاوية الاجتهاد في محاربة من نصّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على أنّ حربه مثل حربه على الامامة مع أنّه في تلك الحالة إمام واجب الاتّباع بالاجماع إن هذا إلاّ خَبط وقلّةُ حياء في إيراد الشبهة التي تعلم أنّها ليست حجّةً.

ثمّ قلت له: أليس علي ـ عليه السلام ـ خليفة ثابت الخلافة بعد عثمان بما عندكم بالاجماع من أهل الحلّ والعقد ؟

فقال: بلى.

فقلت: أليس معاوية قد خالف الاجماع، ومخالف الاجماع كافر ؟

وهل يصحّ الاجتهاد في مسألة بعد حصول الاجماع من الاُمّة على خلافه وقد تقرّر في الاُصول أنّ الاجتهاد لا يعارض الاجماع فكيف ساغ لمعاوية الاجتهاد المؤدّي إلى الفساد والاختلاف بين أُمّة محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، وحصول القتل العظيم، ونهب الاموال حتى قُتل في تلك الحرب عمّار بن ياسر، وقد قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حَقّهِ: عَمَّارٌ جلدةٌ بين عيني تقتله الفئة الباغية(62) ، هذا حديث نقله كلّ الاُمّة ولمّا قُتل قال أهل الشام: نحن الفئة الباغية بنصّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لانّا القاتلون لعمّار.

فقال معاوية مجيبا لهم بالتمويه وستر الحقّ: إنّما قتله من جاء به إلينا فأوهمهم بهذه الشبهة أنّ الفرقة الباغية أهل العراق، ولمّا سمع ابن عبّاس اعتذار معاوية بما ذكره، قال: قاتل الله معاوية وأبعده يلزم أن يكون رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قاتل حمزة وعبيدة وغيرهما من شهداء بدر وأُحد، لانّه هو الذي جاء بهم إلى الكفّار(63) ، وكيف يعتذر لهم بهذا الاعتذار ومع ذلك فكيف يسوغ له سَبُّ علي ـ عليه السلام ـ، وشتمه على المنابر وعلى رؤوس الاشهاد(64) ، حتّى استمرّ على ذلك بنو أُمية برهة من الزمان إلى وقت خلافة عمر بن عبد العزيز فرفعه(65) ، وكيف يسوغ له ذلك مع أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول: من سَبَّ عليا فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله(66) الحديث، وهل يصحّ أن يجتهد في ذلك، فما عذره وعذر من يعتذر له عند الله إذا سبّ من مدحه الله تعالى.

وأوجب حقّه، ونزّهه عن الخطأ، وفضّله وكان أساس الاسلام بسيفه ونظام الاُمّة بتدبيره، وأحكام الشريعة بعلومه، وقد قال فيه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: علي مَعَ الحقّ والحق مع عليّ يدور حيثما دار(67) ، حديث اتّفق على نقله الكلّ، ثمّ إنّي قلت: ما أظنّ عالما مثلك يقف على مثل هذه الاحوال ثمّ يتوقّف ويخالطه شكّ في معاوية، أليس مولانا سعد الدين التفتازاني لمّا وقف على هذه الاحوال وتحقّقها تبرّأ منه وسبّه حتى اشتهر ذلك عنه في جميع بلاد خراسان، فكيف تمدحه أنت أو تتوقّف في وصمه ؟

ثمّ قلت: ما تقول في يزيد ؟

فقال: لا أشكّ أنّه ملعون يجب على كلّ مسلم التبرّي منه لقتله الحسين ـ عليه السلام ـ، بل وقتل الانصار يوم الحرة(68) ، وضرب الكعبة بالمجانيق حتى هدمها(69) ، وحكيت له القصص.

فقال: إنّي لا أشكّ في لعنه.

فقلت: فإنّ خلافته مسببةٌ من أبيه فكان العصيان والفسوق والفساد الحاصل منه كلّه مسببا عن أبيه فكانا نظيرين، فإن الاب سمَّ الحسن(70) ـ عليه السلام ـ، والابن قتل الحسين ـ عليه السلام ـ، فَتَعَجَّبَ من قصّة سمّ الحسن ـ عليه السلام ـ.

فقلت: إنّها قصّة ثابتة عند أهل السير والاحاديث وحكيتها له وما كان السبب فيها، فوافق على التبرّي منه ولعنه.

فقلتُ: إنّ خلافته مسببة عن عثمان لانّه هو الذي استعمله على الشام فبقي متغلّبا عليها، مانعا لعلي ـ عليه السلام ـ عن التصرّف فيها، والسّبب في ذلك عثمان حيث استعمل على بلاد الاسلام من يعلم فسقه بل كفره حتى حصل منه الفساد، وهتك الاسلام والمسلمين وخراب الدنيا والدين بما قد حصل بل أقول: إنّ قتل الحسين ـ عليه السلام ـ مسببٌ عن عمر بن الخطّاب.

فقال: أقم لي الدليل على ذلك ؟ !

فقلت: الدليل واضح لانّ الحقّ لائح فإنّه لولا قصّة الشورى التي ابتدعها عمر، وتعدّى في ابتداعها، وأدخل عُثمان فيها، وجعل الامر إلى عبد الرحمان بن عوف، وأمر بقتل من يخالف الفريق الذي فيه عبد الرحمان لم يتوصّل عثمان إلى الخلافة أصلاً ولا كانت الاُمّة عدلت به عن علي ـ عليه السلام ـ لانّه لا يوازنه في الفضل، ولا يماثله في سبق، ولا يضاهيه في علم، ولا يقاربه في سؤدد وشرف، فكانت خلافته مسببة عن الشورى التّي هي بنصّ عمر، وخلافة معاوية مسببة عن عثمان لانّه جعله واليا على الشام(71) ولولا عثمان لم يحصل لمعاوية ولاية الشام لخموله في الاسلام وكونه من الطّلقاء والمؤلّفة قلوبهم يعرف ذلك أهل السير فخلافة يزيد التي حصل بها قتل الحسين ـ عليه السلام ـ والانصار وهدم الكعبة بنصّ معاوية ومتابعة أهل الشام، وبذله عليها الاموال فكان قتل الحسين ـ عليه السّلام ـ عن عمر وأنا أروي لك حديثاً يُعرف منه صحّة ذلك.

فقال: وما هو ؟

فقلت: إنّ عبدالله بن عمر لمّا قتل الحسين ـ عليه السلام ـ أنكر ذلك على يزيد واستعظمه، فكتب عبدالله بن عمر إلى يزيد ـ لعنه الله ـ:

أمّا بعد فقد عظمت الرزيّة، وجلّت المصيبة، وحدث في الاسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم الحسين ـ عليه السلام ـ(72) .

فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، يا أحمق فإنّا جئنا إلى بيوت مجدَّدة، وفرش ممهّدة، ووسائد منضدة، فقاتلنا عليها، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن يكن الحقّ لغيرنا فأبوك أوّل من سنَّ هذا، وأستأثر بالحقّ على أهله، والسلام.

فسكت عبدالله بن عمر عن جوابه، وأظهر للناس عذر يزيد فيما فعله.

فقال: هذا أظلم من يزيد ـ يعني عبدالله بن عمر ـ فإنّ عمر لم يأمر بذلك ولم يعلم انّ الامر يصل إلى يزيد ولو وصل إليه لم يعلم أنّه يعمل مثل هذه المناكير، فأيّ ذنب كان لعمر لانّه لم ينصب معاوية ولا نصّ عليّه فضلاً عن يزيد ؟

فقلت: فإنّ عمر وإن لم يكن قد نصّ على معاوية فإنّه نصّ على الشورى(73) التي كانت سبب خلافة عثمان، وعثمان كان سببا في تولية معاوية، ومعاوية كان سببا في خلافة يزيد، فيكون عمر سَببا في خلافة يزيد لانّ سبب السبب سبب بالضرورة.

فقال: إنّه لم يكن سببا تامّا بل جزء السبب.

فقلت: الحمد لله قد اعترفت أنّه جزء العلّة، وجزء العلّة علّة لتوقّف التأثير عليه، فقد صار عمر جزء العلّة التامة في قتل الحسين ـ عليه السلام ـ‍ باعترافك، فاعترف وسكت.

وقال: ابحث لي عن باقي الخلفاء من بني العبّاس.

____________

(48) انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج3 ص40 ـ 41.

(49) شرح نهج البلاغة ج1 ص199 وج3 ص52 و54 و55 وج8 ص256 و258.

(50) شرح نهج البلاغة ج1 ص198 و335 وج3 ص29.

(51) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج10 ص286.

(52) راجع: نهج البلاغة ص48 الخطبة الثالثة، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج1 ص151.

(53) انظر: شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج1 ص151 ـ 206.

(54) نفس المصدر ج1 ص205 ـ 206.

(55) ومنها قوله في احدى قصائده:

ورأيت دين الاعتزال وانّني أهوى لاجلك كل مَنْ يتشيعُ
(56) سورة الاحقاف: الاية 4.

(57) سورة يونس: الاية 101.

(58) سورة الزخرف: الاية 22.

(59) سورة البقرة: الاية 166.

(60) الالفين في إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ، كتبه العلاّمة الحلي رحمه الله بالتماس ولده فخر المحقّقين، فيه ألف دليل على إمامة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وألف دليل على إبطال شبه المخالفين، فرغ من جزئه الاوّل سنة 709، ومن جزئه الثاني سنة 712، طبع الكتاب مرارا في إيران والعراق، انظر الذريعة: ج2 ص298.

(61) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج18 ص24، وذكر ان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ‍ قال لعلي ـ عليه السلام ـ في ألف مقام: «أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت».

البحار: ج40 ص93، ينابيع المودّة: ص85، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص50 ح73 وح285، المناقب للخوارزمي في ص129 ح143.

(62) انظر: تاريخ بغداد ج11 ص289 وج13 ص187، كشف الغمّة ج1 ص258، بحار الانوار ج33 ص12 ح375، كنز العمّال ج11 ص722 ح33033، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج18 ص24، فرائد السمطين ج1 ص120 ص287 ح227.

(63) راجع: نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ص307.

(64) راجع: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية لمحمد عقيل، تقوية الايمان في الرد على ابن أبي سفيان لمحمد عقيل، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص56 ـ 59 وج11 ص44، الغدير للاميني ج10 ص257.

(65) انظر: شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج4 ص59.

(66) راجع: ينابيع المودة للقندوزي: ص25، الصواعق المحرقة لابن حجر: ص74 ط الميمنية وص121 ط المحمدية بتفاوت، ذخائر العقبى ص66، المناقب للخوارزمي ص137 ح154، كفاية الطالب للكنجي ص83.

وروي أنه: مر ابن عباس ـ بعد ما كُفَ بصره ـ بقوم ينالون من علي ـ عليه السلام ـ ويسبونه، فقال لقائده: أدنيني منهم، فأدناه، فقال: أيكم الساب الله ؟!!

قالوا: نعوذ بالله أن نسب الله، فقال: أيكم الساب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، قالوا: سبحان الله من سبّ رسول الله فقد كفر، فقال: أيكم الساب علي بن أبي طالب ؟ قالوا: أما هذه فنعم، قال: أشهد لقد سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يقول: «من سبني فقد سب الله، ومن سب عليا فقد سبني» (وفي رواية: (فرائد السمطين) قال: أشهد بالله أني سمعت النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول: من سبّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله عزّ وجلّ، ومن سبّ الله أكبّه الله على منخريه في النار) فأطرقوُا، فلما ولىَّ قال لقائده: كيف رأيتهم ؟

فقال:

نظروا إليك بأعين مـُزْوَرَّة‌ٍ نظر التيوس إلى شفار الجازر
فقال: زدني فداك أبي وأمي، فقال:

خُزْرَ العيون مُنَكَسي أذقانهم ‌نظر الذليل إلى العزيز القاهر
قال: زدني فداك أبي وأمي، قال: ما عندي مزيد، قال: ولكن عندي:

أحياؤهم ‌تجني‌ على ‌أمواتهم ‌والميتون فضيحـة للغابــر
راجع: مروج الذهب للمسعودي: ج2 ص435، فرائد السمطين ج1 ص302 ـ 303 ح241، بحار الانوار ج39 ص311، الغدير للاميني ج2 ص219.

(67) تقدمت تخريجاته.

(68) تاريخ الطبري: ج5 ص482 (في حوادث سنة 63)، العقد الفريد: ج5 ص136.

(69) راجع: وفأ الوفأ: ج1 ص127، رسائل الجاحظ ص298، الفصول المهمة لشرف الدين ص116، مروج الذهب للمسعودي: ج3 ص81.

(70) راجع: مروج الذهب للمسعودي: ج3 ص5، مقاتل الطالبيين لابي فرج الاصفهاني ص29، تاريخ اليعقوبي: ج2 ص225، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16 ص49،صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين ص364 ـ 368.

(71) فقد ولّى عمر بن الخطاب معاوية على بعض الشام في خلافته، فلما قتل عمر أقر عثمان ولاية معاوية، راجع: تاريخ اليعقوبي: ج2 ص161، الكامل في التاريخ: ج3 ص77.

(72) انظر: بحار الانوار ج45 ص328، عوالم العلوم ج17 ص647 ح1.

(73) تقدمت تخريجاته.