فقال: وما أقول فيه إلاّ أنّه من ذرّيّة الرسول واجبُ المحبّة والمودّة من جميع أهل الاسلام، وأنّه من أهل الله وخاصّته وخالصته الذين صفّاهم الله واصطفاهم بالعلم والعمل والزهد والفضل والشرف.
فقلت: وما تقول في أبيه الامام موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ ؟
فقال: أقول فيه: كما قلت في ابنه.
فقلت: وما تقول في خليفة حبس الاب ودسّ إليه السّمّ حتى قتله، وخليفة قتل الابن أيضا بالسمّ بعد الاعتراف بفضله ؟!
فقال: ومن ذاك ؟
فقلت: الخليفة الاوّل هارون الرشيد، حبس الامام موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ في حبس السندي بن شاهك مدّة من الزمان، وأعطاه السّمّ فدسّه إليه في الحبس حتى قتله، وقد ثبت ذلك في الاخبار الصحيحة، والخليفة الثاني ولده المأمون قد اشتهر عند الكلّ أنّه كان يفضّل الرضا عليه السلام وعقد له ولاية العهد بعده ثمّ أنّه بعد ذلك قتله بالسّمّ، ثبت ذلك عند أكثر أهل العلم ولم يخالف فيه إلاّ القليل.
فقال: أُريد أن تريني ذلك في مصنّفات العلماء.
فقلت: تريد من علمائنا أو علمائكم.
فقال: اُريد من الطرفين.
فقلت: أمّا من طرقنا فكثير، مثل: كتاب إرشاد المفيد(74) ، وكتاب عيون الاخبار لابن بابويه(75) ، وكتاب كشف الغمّة للاربلي(76) وغيرها، وبالاتّفاق في بيت السيّد محسن كتاب (عيون الاخبار) فأوقفته على قصّة الامام موسى الكاظم ـ عليه السلام ـ مع الرشيد وما جرى عليه من الاُمور المنكرة وما قتل من بني هاشم وما خاف منهم حتى تفرّقوا في البلاد، وما حبس منهم حتى ماتوا في الحبس والاغلال، فأنكر عليه غاية الانكار، وبكى لما جرى على بني هاشم واعترف بصحّة قولي.
ثمّ قلت: فأمّا طرقكم فلم يحضرني الان شيء من كتبكم.
فقال السيّد: بلى عندي هنا كتاب يسمّى كتاب العاقبة مصنّف لبعض الشافعيّة فلعلّ فيه شيء من ذلك.
فقلت: هات الكتاب، فجاء به ففتّشناه فوجدناه مشتملاً على ذكر عواقب الاُمور، فجرى فيه فصل يذكر فيه عواقب الخلفاء فوقفناه على ذلك الفصل فوجدناه قد اشتمل على ذكر عواقب ذميمة وأخلاق رديّة كانت لهم حتى أنّه ذكر أنّ منهم من مات مخمورا، ومنهم من تعشّق جارية، ومنهم من مات تحت الغناء وضرب الاوتار، وأمثال ذلك.
فلمّا وقف المُلاّ على ذلك وتحقّق صحّته قال: اللهمّ إنّي أُشهدك أنّي أتبرّأ إليك من جملة هؤلاء الخلفاء من بني أُميّة وبني العبّاس وأُدينك بالبراءة منهم واللّعن عليهم ومن أتباعهم، فظهر عليه الغلبَ.
ثمّ إنّا وجدنا في كتاب العاقبة حديثا يسنده إلى علي ـ عليه السلام ـ وهو أنّه قال يوما وهو جالس في نفر من أصحابه: أنا أوّل من يجلس بين يدي الله يوم القيامة للخصومة مع الثلاثة(77) ، فلمّا رأيت هذا الحديث مسندا إلى علي ـ عليه السلام ـ قلت له: إنَّ هذا الحديث حجّةٌ عليك.
فقال: إنّ صاحب الكتاب قد حمله على غير الثلاثة الذين تدّعونهم، فإنّه قال: المراد بالثلاثة عتبة وشيبة والوليد الذين برزوا إلى حمزة وعبيدة يوم بدر.
فقلتُ: هذا الحمل بعيد لانّ الشكوى من قبلهِم بل ظاهر الحديث يقتضي أنّه يشتكي من ظلامته من الثلاثة ولا يعرف له ظلامة من ثلاثة يشتكي منهم عند الله إلاّ من الثلاثة الذين أخذوا حقّه، واستأثروا بالامر من دونه مع أنّ الاستحقاق كان له دونهم، وذلك لائحٌ، ثمّ إنّي قلت: ما تقول في الحديث المروي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو قوله لعلي ـ عليه السلام ـ: يا أبا الحسن، إنّ أُمّة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة؛ فرقة ناجية، والباقون في النار، وإنّ أُمّة عيسى ـ عليه السلام ـ افترقت اثنين وسبعين فرقة؛ فرقة ناجية، والباقي أهل النار، وإنّ أُمّتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ فرقة ناجية، والباقي أهل النار(78) ؟
فقال: حديث صحيح.
فقلت: من الفرقة الناجية، إن هي إلاّ أهل البيت الذين شهد الله لهم بالتطهير من الرجس بحكم الكتاب العزيز في قوله تعالى: (إنّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطِهّرَكُمْ تَطْهِيرا)(79) . فإنّ هذه الاية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ باتّفاق الكلّ لمّا ألحفهم النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بكسائه وقال: «اللهمّ أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»(80) .
إن الله أمره في الاستعانة بهم في الدعاء في مباهلة النصارى بنصّ القرآن قال الله تعالى: (قل تعالوا ندعُ أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(81) . ولمّا خرج النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ للمباهلة لم يخرج بأحد غيرهم باتّفاق الكلّ فعلم أنّهم المعنيّون في الاية دون غيرهم.
وقال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق(82) فأيّما الاولى بالاقتداء والاتباع ؟ هل هؤلاء وأتباعهم السالكين آثارهم، والمقتدين بأقوالهم وأفعالهم أو الجاحدين لهم الضالّين عن طريقهم، المقتدين لمن لم ينصّ الله تعالى على طهارته ولا حضّ على اتّباعه ولا أمر نبيّه بالاستعانة بدعائه، بل أقول: الاحقّ بالاتّباع، والاولى بالاقتداء مذهب الاماميّة،ويدلّ على ذلك وجوه.
الاوّل: أنّهم أخذوا مذهبهم عن الائمّة الذين يعتقدون عصمتهم وفضلهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم فوافقهم الخصم على ذلك فاعترف بفضلهم وعدالتهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم حتى أنّهم صنّفوا في فضائلهم وتعداد مناقبهم كتبا مثل كتاب ابن طلحة(83) ، وكتاب غاية السؤول في مناقب آل الرسول لابن المغازلي، وكتاب أبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي المستخرج من التفاسير الاثني عشر، وكتاب موفّق بن محمد المكّي، وغيرها من الكتب، وإذا كان الخصم مُساعدا على مدح هؤلاء الائمّة الذين اعتقدوا الامامة فيهم وليس لطاعن إليه سبيل كانوا بالاتّباع أولى ممّن لا يساعد الخصم على مدح أئمّتهم بل طعن فيهم ببعض المثالب الشينة، وظهرت عنهم الاعمال القبيحة رواها مجموع الاُمّة من يعتقد إمامتهم وغيرهم فأيّ الفريقين حينئذٍ أولى بالاقتداء وأحق بالاتّباع هؤلاء الذين اتّفق الكلّ على مدح أئمتهم وتعظيمهم أو أولئك الطاعنون في أئمّتهم المقدوح في عدالتهم من أتباعهم وغيرهم، ومع ذلك مشاهدهم اليوم من تعظيم الناس كقبور هؤلاء الائمّة واجتماع العامّ والخاصّ عليها وزيارتهم لها وتبرّكهم بقصدها من جميع الاقطار وكونها في غاية التعظيم في قلوب جميع الخلق دليل واضح على عظم شأنهم عند الله تعالى، وأنّهم الائمّة الذين أوجب الله حقّهم على خلقه، وجعلهم حجّة عليهم، انّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ نصّ على وجوب اتّباع أهل بيته وسلوك آثارهم والاقتداء بهم وحضّ الناس على ذلك في روايات كثيرة من الطرفين، ولا حاجة في إيراد الروايات الواردة في ذلك من طرق الامامية لشهرتها عندهم.
وأمّا ما ورد من طرق الجمهور فكثير نورد بعضها من جملته في الجمع بين الصحاح الستّة عنه ـ عليه السلام ـ قال: رحم الله عليّا، اللهمّ أدر الحقّ معه حيثما دار(84) .
وروى أحمد بن موسى بن مردويه من عدّة طرق أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: الحقّ مع علي، وعلي مع الحقّ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض(85) .
وفي مسند أحمد بن حنبل، عن جابر قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: يا علي، خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها، وأنت فرعها، والحسن والحسين أغصانها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها أدخله الله تعالى الجنّة(86) .
وروى عنه سعيد قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: إنّي قد تركت فيكم ما ان تمسّكتم به لن تضلّوا؛ كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، إلاّ وانّهما لا يفترقان حتى يردا علىٍّّ الحوض(87) .
وفي صحيح مسلم في موضعين، عن زيد بن أرقم قال: خطب بنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بين مكّة والمدينة، ثمّ قال بعد الوعظ: أيّها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول الله ربّي فأُجيبه فإنّي تارك فيكم الثقلين؛ أولّهما كتاب الله تعالى، والثاني أهل بيتي.
وروى جار الله العلاّمة الزمخشري بإسناده قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: فاطمة مهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والائمّة من ولدها أُمناء ربّي، حبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم به نجا، ومن تخلّف عنه هوى(88) .
وروى الثعلبي(89) في تفسيره بأسانيد متعدّدة أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: أيّها الناس قد تركت فيكم الثقلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا؛ كتاب الله حبل ممدود بين السماء والارض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي: إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله فيه الهدى والنّور، وأهل بيتي أمان لاهل الارض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الارض.
وكذلك في رواية موفق بن أحمد المكّي وفي صحيح البخاري في موضعين بطريقين عن جابر، وعن عيينة قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ: ما يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.
وفي رواية أُخرى: لا يزال الاسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش.
وفي صحيح مسلم(90) : لا يزال الدين قائما حتى تقوم السّاعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.
وفي صحيح أبي داود، والجمع بين الصحيحين، وتفسير الترمذي، قال: لمّا كرهت سارة مكان هاجر أمر الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ فقال: انطلق بإسماعيل وأُمّه حتى تنزله البيت التهامي ـ يعني مكة ـ فإنّي ناشر ذرّيّته وجاعلهم ثقلاً على من كفر بي، وجاعل منهم نبيّا عظيما ومظهره على الاديان وجاعل من ذرّيته اثني عشر إماما عظيما.
وعن مسروق، قال: سألت عبدالله بن مسعود، فقلت له: كم عهد إليكم نبيّكم يكون بعده خليفةً ؟
فقال: إنّك لحدث السّنّ وهذا شيء ما سألني عنه أحد، نعم عهد إلينا نبيّنا يكون بعده اثنا عشر خليفةً عدد نقباء بني إسرائيل، والرّوايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الجمهور لو أردنا الاستقصاء لطال علينا الامر واتّسع، وقد دلّت هذه الاحاديث على الحثّ والامر بالاقتداء بأهل البيت، ووجوب اتّباعهم، والتمسّك بطريقهم، فإنّهم اثنا عشر خليفة من ذرّيّة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولا قائل بالحصر في الاثني عشر سوى الامامية القائلين بإمامة هؤلاء المشهورين بالفضل والعلم والزهد عند أهل الاسلام فوجب الاقتداء بهم والانحياز إلى فريقهم، وظهر أنَّ مذهب القائل بإمامتهم واجب الاتّباع.
إنّ أحسن الاعتقادات، وخير المقالات ما اشتمل عليه مذهب الامامية أُصولاً وفروعا، يعرف ذلك من اطّلع على أُصول المذاهب، ونظر في فروع الاعتقادات، فإنّه بعد النظر الخالي عن مخالطة الشُبَه والتقليد يتحقّق أنّ مذهب الامامية من بينهم أولى بالاتّباع، وأحقّ بالاقتداء وقد صدق فيهم قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل فَيتّبعونَ أحْسَنَهُ)(91) ، فإنّ في أُصولهم من تنزيه الله تعالى وتعظيمه وتنزيه الانبياء والائمّة وتعظيمهم ما لا يكون في أُصول غيرهم فإنّهم نزّهوا الله عن التشبيه، والرؤية، والاتّحاد، والحلول، والمعاني القديمة، وخلق أفعال العباد، والرضى بالكفر والفسوق، ونسبة القبائح والسرقة إليه وكون أفعاله لا لغرض وأنّه كلّف ما لا يطاق.
واعتقدوا في الانبياء أنّهم معصومون عن الخطأ والمعاصي، الصّغائر والكبائر، والنسيان والسّهو، من أوّل أعمارهم إلى آخرها، وأنّ أئمّتهم أيضا معصومون عن الخطايا والمعاصي، وأنّهم أعلم الخلق بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأفضلهم، وأكرمهم نفسا، وأشرفهم نسبا(92) .
وفي مذاهب السنّة ما يخالف ذلك وينافيه فجوّزوا التشبيه(93) والجهة(94) والاتّحاد(95) والحلول(96) والتجسيم(97) والرؤية(98) ، والمعاني الزائدة القديمة، وقالوا: إنّه لا فاعل في الوجود إلاّ الله، وإنّ جميع المعاصي والقبائح والشرور كلّها بخلق الله وإرادته(99) وإنّ العباد مجبورون(100) وأنّه راض بالكفر والمعاصي وان أفعاله لا لغرض، وانّ القبائح بخلقه وانّه كلّف عباده فوق ما يطيقون، وانّ الانبياء يجوز عليهم الكفر والمعاصي والخطأ والنّسيان(101) ورووا في نبيّهم روايات تقتضي الدناءة والخسّة ورووا أنّه نسي فصلّى الظهر ركعتين ولم يذكر حتى ذكَّره بعض أصحابه(102) ، وأنّه دخل المحراب للصلاة بالناس جنبا، وأنّه يستمع إلى اللعب بالدفوف وغناء البغات(103) ، وأنّه بال قائما(104) ...، وغير ذلك من الاشياء القبيحة التي لا تليق بأدنى الناس.
وقالوا: إنّ الخلفاء الذين تجب طاعتهم جائزوا الخطأ والمعاصي والكبائر، وأنّهم غير عالمين بما تحتاج إليه الاُمّة، بل لهم الرجوع إلى الاُمّة والاحتياج في الفتاوى والاحكام إليهم، وأنّهم لا يحتاج إلى أن يكونوا أفضل الخلق، ولا أشرفهم نسبا، ولا أعلاهم محلاًّ في الاسلام.
وأمّا الفروع فإنّ الاماميّة لم يأخذوا بالقياس، ولا بالرأي، ولا بالاستحسان، ولا اضطربوا في الفتاوى، ولا اختلفوا في المسائل، ولا كفّر بعضهم بعضا، ولا حرّم بعضهم الاقتداء بالاخر، لانّهم أخذوا فتاواهم وأحكامهم عن أئمّتهم الذين هم ذرّية الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الذين يعتقدون عصمتهم، وأنّهم أخذوا علومهم واحدا عن واحد، وكابراً عن كابر، وآخر عن أوّل إلى جدّهم، فكانت فروعهم أوثق الفروع، وشرعهم أحسن الشرائع، ودينهم أتمّ الاديان فإنّ غيرهم أخذوا بالقياس والاستحسان والرأي، وأسندوا رواياتهم عن الفسقة والمتعمّدين للكذب، وافترقوا أربع فرق، كلّ فرقة تطعن على الاخرى، وتتبرّأ منها(105) ، ويكفّرون بعضهم بعضا، ويحلّلون ويحرّمون عمّن هو جائز الخطأ والمعاصي والكبائر.
وانقطعت عنهم مواد الاخذ عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لانّهم لم يرضوا بالاتباع لاهل بيته ووضعوا الشرع على مقتضى رأيهم وزادوا فيه ونقصوا وحرّفوا وغيّروا، فأحلّوا ما حرّم الله، وحرّموا ما أحلّ الله لانّهم لم يأخذوا الحلال والحرام عن من لا يجوز عندهم كذبه وخطاؤه كالامامية فكان حينئذٍ حلالهم وحرامهم وفرائضهم وأحكام شرعهم معرَّضة للخطأ والكذب لانّها ليست عن الله تعالى، ولا عن رسوله، يعرف ذلك من اطّلع على أُصولهم وفروعهم، فإنّا نجد في فتاويهم الاشياء المنكرة التي تخالف المعقول والمنقول ومن له أدنى إنصاف واطّلاع بأحوال المذاهب يعرف ذلك ويتحقّقه، ومصنّفات الفريقين تدلّ على صحّة ذلك، وإذا نظر العاقل المنصف في المقالتين، ولمح المذهبين عرَف موقع مذهب الامامية في الاسلام وأنّهم أولى بالاتّباع، وأحقّ بالاقتداء لانّهم الفرقة الناجية بنصّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ.
وقد روى أبو بكر محمد بن موسى الشيرازي في كتابه المستخرج من التفاسير الاثني عشر في إتمام الحديث المتقدم بعدما قال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: ستفترق أمتّي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة؛ فرقة ناجية، والباقون في النّار(106) .
قال علي ـ عليه السلام ـ: يا رسول الله مَن الفرقة الناجية ؟ قال: المتمسّكون بما أنت عليه وأصحابك.
وفي الاحاديث المذكورة آنفا ما يدلّ على أنّ المتّبعين لاهل البيت ـ عليهم السلام ـ، والمقتدين بهم هم الفرقة الناجية بحثّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على الاقتداء بهم، والتمسّك بما هم عليه، وإيجاب ذلك على جميع الخلق بروايات الكلّ فعلمنا علما ضروريّا أنّ أهل البيت هم الفرقة الناجية، فكلّ من اقتدى بهم، وسلك آثارهم فقد نجا، ومن تخلّف عنهم وزاغ عن طريقهم فقد هوى، ويدلّ عليه الحديث المشهور المتّفق على نقله: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وهذا حديث نقله الفريقان وصححه القبيلان لا يمكن لطاعن أن يطعن فيه وأمثاله في الاحاديث كثيرة.
فقال المُلاّ الهروي: ما ذكرته في وجوه هذه الدلالات على أنّ مذهب الامامية واجب الاتّباع، وأنّهم هم الفرقة الناجية يكثر على السامع بروايات الاحاد، وأيضا فإنّ أهل السنّة يقولون في مذهبهم من المدائح مثل ما ذكرت وأكثر ما يذمّون مذاهب غيرهم بأقبح الذّمائم وقد قال تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(107) .
وقال الشاعر:
كُلٌ بما عندهُ مُستبشر فرح | يرى السَّعادة فيما قال واعتقدا |
فقلت: أنت محقّ في ذلك، وقد قلت الانصاف، ولكن ما تقول في هذه الاحاديث المرويّة في كتبكم التي تشتمل على حصر الخلفاء في اثني عشر من قريش أليس هي دالّة على صحّة مذهب الاماميّة لانّهم قائلون بتخصيصها في اثنّي عشر من ذرّيّة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ دون غيرهم من الفرق ؟
فقال: هذه الاحاديث معارضةٌ بأمثالها والذنب فيها على الرواة.
فقلت: إنّ الروايات إذا وردت من الطرفين، وتظافرت من رجال الفريقين، وساعد على إيرادها الخصمان صارت متواترة عند الاُمّة فيجب المصير إليه والترك لما ورد من الطرف الواحد وهذه الاحاديث المعارضة لهذه الاخبار المرويّة من الطرفين لم تروِها الكلّ ولم يتّفق على نقلها الفريقان، بل ردّها الخصم وأنكرها، فكان حينئذٍ الاولى في الترجيح الواجب على السامع العمل بما اتّفق على نقله، وطرح ما اختلف فيه من المعارضة لانّه الاحتياط التامّ، والاخذ بالحزم من الرأي.
ثمّ قلت: ومع هذا فهنا برهانٌ واضحٌ، ودليل لائح موجود الان مُشاهدٌ بالابصار، وقد شاع في جميع الامصار.
فقال: وما هو ؟
فقلت: هذا مشهد الحسين ـ عليه السلام ـ يزوره الزّوّار من كُلّ البلاد في ميقات، وله في كلّ سنة ميقاتٌ، هو أوّل ليلة من شهر رجب يجتمع عنده عالم كثير من الامامية وأهل السنّة وغيرهم بعُمِيٍ وصُمٍّ ويأتون أهل السنّة يرونهم مقعدين ويضعونهم على ساحته ـ عليه السلام ـ تلك الليلة فكلّ من خرج من أُولئك العُمِي والصُمّ والمقعدين من دين السنّة، وتبرّأ منهم، ونظّف قلبه، وخلّص اعتقاده بريء من علّته، وصار بصيرا ماشيا بعد العمى والاقعاد، ومن بقي على حالته فلم يبرأ ممّا به، فما تقول في هذه المعجزة ؟
فهل عندك في هذا طعن، أو لك إلى القدح فيه سبيل ؟ وهل ذلك دالّ على أنّ مذهب أهل السنّة على الخطأ والباطل وأنّه يجب على كلّ مكلّف الخروج منه والدخول في مذهب الامامية، وهذا دليل واضح وبرهان لائح مشُاهَد بالابصار، لا يمكن لاحد ردّه، ولا الطعن فيه.
فقال: ومن شاهد هذا، ومن عرف صحّته ؟
فقال السيّد محسن: إنّ هذا ثابت بالتواتر من الاُمّة إنّ ذلك يقع عند الحسين ـ عليه السلام ـ في كلّ عام، لا ينكره إلاّ مكابرٌ ولو شئت لاسمعتك هذه المعجزة ممّن شاهدها ورآها أربعون رجلاً وخمسون، وأكثر من أهل الصّلاح والدين.
فقال: إنْ صحّ ما ذكرتم فهو حجّة قاطعة، ودليل ظاهر، ولمّا وصلت المجادلة إلى هذا الحدّ أذّنَ المؤذّن للصلاة، فقمنا لصلاة الجمعة، وتفرّق المجلس ولم ألقه بعد ذلك، وقد حكى لي السيّد محسن أنّه لقيه بعد مفارقته لنا بأيّام وسأله عن حاله فظهر له منه أنّه بقي متردّدا لا مذهب له، وأنّه قال: أُريد أمضي إلى الحسين ـ عليه السلام ـ لانظر ما حكيتموه من المقعد والاعمى إذا خرجا من مذهب أهلالسنّة ودخلا فيمذهب الامامية.
وبعد ذلك لانعرف ما صار إليه أمره، وهذا ما كان بيني وبينه من المجادلة في المجالس الثلاثة التي ذكرت، ومن المجادلة على الاستقصأ.
والحمد لله على ظهور الحقّ، وزهوق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقا، ونستغفر الله عن الزيادة والنقصان فإنّه هو الغفور الرحيم المستعان.
تمت الرسالة يوم الثلاثاء حادي عشر من شهر جمادى الاخرة من سنين خمس وتسعين وتسعمائة من الهجرة النبويّة حرّره الفقير الحقير المذنب الجاني، المحتاج إلى رحمة الله صالح بن محمد بن عبد الاله السلامي في بلدة إصفهان، رحم الله من دعا لمالكـهـا ولكاتبها بالغفران آمين ربّ العالمين، والحمد لله ربّ العالمين(108) .
____________
(74) إرشاد المفيد: ص298 ـ 302 وص315.
(75) عيون أخبار الرضا ـ عليه السلام ـ: ج2 ص237 ـ 241.
(76) كشف الغمّة: ج2 ص230 ـ 235 وص280 ـ 283.
(77) انظر: ترجمة امير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر: ج3 ص224 ح1227، وفيه: أنا أوّل من يجثو، وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج6 ص170: أنا أولُ من يجثو للحكومة بين يدي الله تعالى.
(78) انظر إحقاق الحقّ: ج7 ص185، نفحات اللاهوت: ص114 ـ 115، مسند أحمد ج2 ص332، سنن ابن ماجة ج2 ص1332 ح3992، المعجم الكبير للطبراني ج18 ص51 ح91، المناقب للخوارزمي ص331، مجمع الزوائد ج7 ص323، كنز العمال ج1 ح1637، الخصال ص585 ح11، أمالي الطوسي ج2 ص137، الاحتجاج ص263.
(79) سورة الاحزاب: الاية 33.
(80) تقدمت تخريجاته.
(81) سورة آل عمران: الاية 61، فقد اجمع الجمهور ان الاية الشريفة نزلت في النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وعلي وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ حين باهل بهم نصارى نجران.
راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحنفي ج1 ص120 ـ 129 ح168، المستدرك للحاكم ج3 ص150، اسباب النزول للنيسابوري ص67، صحيح مسلم ج4 ص1883 ح61، صحيح الترمذي ج4 ص293 ح3085 وج5 ص301 ح3808، مسند أحمد ابن حنبل ج3 ص97 ح1608، تفسير الطبري ج3 ص299، الكشاف للزمخشري ج1 ص368، تفسير ابن كثير ج1 ص370، تفسير القرطبي ج4 ص104، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص295 ـ 296، تفسير الفخر الرازي ج8 ص85، جامع الاصول لابن الاثير ج9 ص470، ذخائر العقبى ص25، شرح النهج لابن ابي الحديد ج16 ص291، احقاق الحق للتستري ج3 ص46 ـ 62 وج9 ص70 ـ 91 وج14 ص131 ـ 148، فضائل الخمسة ج1 ص244.
(82) تقدمت تخريجاته.
(83) هو أبو سالم كمال الدين محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن القرشي العدوي النصيبي الشافعي، المفتي الرحّال، ولد سنة 582 هـ بالعمرية من قرى نصيبين وتوفّي في 17 رجب سنة 652 هـ، وكتابه هو «مطالب السؤول في مناقب آل الرسول» ألّفه بعد أن فقد كتابه «زبدة المقال فـي أحـوال الال» الـذي ضمّنه غرائب الفنون، راجع: مقدمة مطالب السؤول ـ ط النجف ـ.
(84) تقدمت تخريجاته، وبالاضافة الى ما هناك تجده في البداية والنهاية ج7 ص360، العلل المتناهية ج1 ص325 ح410.
(85) انظر: تاريخ بغداد: ج14 ص321، إحقاق الحقّ: ج5 ص623، الامامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص73.
(86) انظر: ميزان الاعتدال: ج3 ص41، العلل المتناهية: ج1 ص259 ح419، إحقاق الحقّ: ج7 ص183، فرائد السمطين ج1 ص51 ح16.
(87) انظر: سنن الترمذي: ج5 ص622 ح3788، نفحات اللاهوت: ص86، وقد تقدمت تخريجاته.
(88) انظر: إحقاق الحقّ: ج13 ص77 و 79.
(89) انظر: ينابيع المودّة: ص32.
(90) انظر: صحيح مسلم: ج3 ص1453 ح10، عوالم العلوم:ج3/15 ص149 ح96، وقد تقدمت تخريجات هذه الاحاديث.
(91) سورة الزُمر: الاية 18.
(92) راجع: كتب العقائد للامامية، على سبيل المثال:
نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي، تجريد الاعتقاد للشيخ الطوسي، تنزيه الانبياء للشريف المرتضى، الشافي في الامامة للشريف المرتضى وغيرها.
(93) واصحاب هذا الرأي يُسمَون بالمشبهه راجع: معجم الفرق الاسلامية: ص225، الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص95.
(94) الملل والنحل للشهرستاني: ج1 ص99.
(95) راجع: شرح التجريد للعلامة الحلي ص318 (في نفي الاتحاد عنه تعالى) وقال ـ اعلى الله مقامه ـ في نهج الحق وكشف الصدق ص57: الضرورة قاضية ببطلان الاتحاد، فإنه لا يُعقَل صيرورةُ الشيئين شيئاً واحداً، وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور، فحكموا بأنه تعالى يتّحد مع أبدان العارفين، حتى أن بعضهم قال: إنه تعالى نفسُ الوجود، وكلّ موجود هو الله تعالى، وهذا عين الكفر والالِحاد.
(96) مقالات الاسلاميين للاشعري: ص214 وجاء فيه: واجاز عليه بعضهم الحلول في الاجسام، واصحاب الحلول اذا رأوا انساناً يستحسنونه، لم يدروا لعل الههم فيه !!، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج3 ص232، معجم الفرق الاسلامية ص102.
(97) مقالات الاسلاميين: ص207 ـ 209، معجم الفرق الاسلامية: ص213، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج3 ص229.
(98) مقالات الاسلاميين: ص213 ـ 217، شرح نهج البلاغة لابن ابي البلاغة ج3 ص236.
(99) مقالات الاسلاميين: ص245.
(100) وهم الجبريه راجع: الملل والنحل للشهرستاني: ج1 ص79، معجم الفرق الاسلامية: ص81.
(101) انظر: مقالات الاسلاميين: ص151 وص226 ـ 227، معجم الفرق الاسلامية ص99، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج7 ص11 و12 و19.
(102) انظر: مسند أحمد: ج2 ص386، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج7 ص19.
(103) انظر: الموضوعات لابن الجوزي: ج3 ص115.
(104) انظر: سنن النسائي: ج1 ص25.
(105) راجع مقالات الاسلاميين للاشعري: ص3 ـ 4.
(106) انظر: إحقاق الحقّ ج7 ص185، وقد تقدم المزيد من تخريجاته.
(107) سورة الروم: الاية 32.
(108) حصلنا على مخطوطة هذه المناظرة من مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي (قدس سره)، ضمن المجموعة رقم: 6896، وذكرت في فهرس المكتبة (المطبوع) ج18 ص89، ونص عليها أيضا أغا بزرك الطهراني في الذريعة: ج22 ص285 تحت رقم: 7124.
انظر: صورة الصفحة الاولى والصفحة الاخيرة من مخطوطة هذه المناظرة في آخر الكتاب.
وأما منهجنا في تحقيقها فقد اعتمدنا طريقة التلفيق بين المخطوطة وما جاء في هامشها حسب ما جأ من الاشارة إليه من الاختلاف والزيادة في بعض النسخ ـ آخذين بالارجح منها، كما أن بعض الكلمات لا تتم إلا بما في الهامش، ولذا آثرنا هذه الطريقة، كما قمنا بتخريج أحاديثها وإرجاعها الى مصادرها الاصلية إن وجدت، وتخريج بقية الاحاديث من أهم المصادر المتّبعة عند الجمهور حسب ما أمكن، وبالله التوفيق.