وفي الكتاب المذكور قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ: «لو اجتمع الناس على حبّ علي بن أبي طالب لم يخلق الله النار»(122) وفي كتاب الفردوس: حبّ علي حسنة لا تضرّ معها سيّئة، وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة(123) .
وفي كتاب ابن خالويه عن حذيفة بن اليمان قال، قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ: «من أراد أن يتصدّق بفصّه الياقوت التي خلق الله بيده ثمّ قال لها: كوني فكانت فليتول علي بن أبي طالب بعدي».
وفي مسند أحمد بن حنبل في المجلّد الاوّل: أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أخذ بيد حسن وحسين وقال: «من أحبّني وأحبّ هذين وأحبّ أباهما كان معي في درجتي يوم القيامة»(124) .
قال يوحنّا: يا أئمة الاسلام هل بعد هذا كلام في قول الله تعالى ورسوله في محبّته وفي تفضيله على من هو عاطل عن هذه الفضائل ؟ قالت الائمّة: يا يوحنّا، الرافضة يزعمون أنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أوصى بالخلافة إلى علي ـ عليه السلام ـ ونصّ عليه بها، وعندنا أنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لم يوص إلى أحد بالخلافة.
قال يوحنّا: هذا كتابكم فيه: (كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين والاقربين)(125) .
وفي بخاريّكم يقول: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ: «ما من حق امرئ مسلم أن يبيت إلاّ وصيته تحت رأسه»(126) أفتصدقون أنّ نبيّكم يأمر بما لا يفعل مع أنّ في كتابكم تقريعاً للذي يأمر بما لا يفعل من قوله: (أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)(127) فوالله إن كان نبيّكم قد مات بغير وصيّة فقد خالف أمر ربّه، وناقض قول نفسه، ولم يقتد بالانبياء الماضية من إيصائهم إلى من يقـوم بالامـر من بعـدهم، علـى أنّ الله تعالى يقول: (فبهداهم اقتده )(128) لكنّه حاشاه من ذلك وإنّما تقولون هذا لعدم علم منكم وعناد، فإنّ إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أنّ سلمان قال: يا رسول الله فمن وصيّك ؟
قال: يا سلمان مَنْ كان وصيّ أخي موسى ـ عليه السلام ـ ؟
قال: يوشع بن نون ! قال: فإنّ وصيّي ووارثي علي بن أبي طالب.
وفي كتاب ابن المغازليّ الشافعي بإسناده عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال: لكلّ نبيّ وصيّ ووارث، وأنا وصيّي ووارثي علي بن أبي طالب(129) .
وهذا الامام البغوي محيي سنّة الدين، وهو من أعاظم محدّثيكم ومفسّريكم، وقد روى في تفسيره المسمّى بمعالم التنزيل عند قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الاقربين)(130) ، عن علي ـ عليه السلام ـ أنّه قال: لمّا نزلت هذه الاية أمرني رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن أجمع له بني عبد المطّلب فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون، فقال لهم بعد أن أضافهم برجل شاة وعسّ من لبن شبعا وريّا وإنّه كان أحدهم ليأكله ويشربه: يا بني عبد المطّلب إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والاخرة، وقد أمرني ربّي أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني عليه، ويكون أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي ؟ فلم يجبه أحد.
قال علي: فقمت إليه، وقلت: أنا أُجيبك يا رسول الله.
فقال لي: أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا، فقاموا يضحكون ويقولون لابي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(131) .
وهذه الرواية قد رواها أيضا إمامكم أحمد بن حنبل في مسنده(132) ومحمد بن إسحاق الطبري في تاريخه(133) والخركوشي أيضا رواها، فإن كانت كذبا فقد شهدتم على أئمتكم بأنّهم يروون الكذب على الله ورسوله، والله تعالى يقول: (ألا لعنة الله على الظالمين)(134) (الذين يفترون على الله الكذب)(135) ، وقال الله تعالى في كتابه: ( (فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(136) وإن كان لم يكذبوا وكان الامر على ذلك فما ذنب الرافضة ؟ إذن فاتّقوا الله يا أئمة الاسلام، بالله عليكم ماذا تقولون في خبر الغدير الذي تدّعيه الشيعة ؟
قال الائمة: أجمع علماؤنا على أنّه كذب مفترى.
قال يوحّنا: الله أكبر، فهذا إمامكم ومحّدثكم أحمد بن حنبل روى في مسنده إلى البراء بن عازب قال: كنّا مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في سفر فنزلنا بغدير خم(137) فنودي فينا الصلاة جامعة وكشح لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ تحت شجرتين، وصلّى الظهر، وأخذ بيد علي ـ عليه السلام ـ فقال: ألستم تعلمون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه ؟
قالوا: بلى فأخذ بيد علي ورفعها حتى بان بياض إبطيهما وقال لهم: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
فقال له عمر بن الخطّاب: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
ورواه في مسنده بطريق آخر وأسنده إلى أبي الطفيل، ورواه بطريق آخر وأسنده إلى زيد بن أرقم(138) ، ورواه ابن عبد ربّه في كتاب العقد(139) ، ورواه سعيد بن وهب، وكذا الثعالبي في تفسيره(140) وأكّد الخبر مما رواه من تفسير (سأل سائل) أنّ حارث بن النعمان الفهري أتى رسول اللهـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في ملأ من أصحابه فقال: يا محمد أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّك محمد رسول الله فقبلنا، وأمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلنا منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا، وأمرتنا أن نحجّ البيت فقبلنا، ثمّ لم ترض حتى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضّلته علينا وقلت: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فهذا شيء منك أم من الله ؟
فقال: والله الذي لا إله إلاّ هو، إنّه أمر من الله تعالى، فولّى الحارث بن النعمان وهو يقول: اللهمّ إن كان ما يقول محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء، فما وصل إلى راحلته حتى رمى الله بحجر فسقط على رأسه وخرج من دبره فخرّ صريعا، فنزل: (سأل سائل بعذاب واقع)(141) ، فكيف يجوز منكم أن يروي أئمّتكم وأنتم تقولون: إنّه مكذوب غير صحيح ؟
قال الائمة: يا يوحنّا قد روت أئمّتنا ذلك لكن إذا رجعت إلى عقلك وفكرك علمت أنّه من المحال أن ينصّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على علي بن أبي طالب الذي هو كما وصفتم ثمّ يتّفق كلّ الصحابة على كتمان هذا النصّ ويتراخون عنه، ويتّفقون على إخفائه، ويعدلون إلى أبي بكر التيمي الضعيف القليل العشيرة، مع أنّ الصحابة كانوا إذا أمرهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بقتل أنفسهم فعلوا، فكيف يصدّق عاقل هذا الحال من المحال ؟
قال يوحنّا: لا تعجبوا من ذلك فأمّة موسى ـ عليه السلام ـ كانوا ستّة أضعاف أُمّة محمد ـ صلّى عليه وآله وسلّم ـ، واستخلف عليهم أخاه هارون وكان نبيّهم أيضا وكانوا يحبّونه أكثر من موسى، فعدلوا عنه إلى السامريّ، وعكفوا على عبادة عجل جسد له خوار، فلا يبعد من أُمّة محمد أن يعدلوا عن وصيّه بعد موته إلى شيخ كان رسول الله ـ صّلى الله عليه وآله وسلّم ـ تزوّج ابنته، ولعلّه لو لم يرد القرآن بقصّة عبادة العجل لما صدّقتموها.
قال الائمة: يا يوحنّا فلم لا ينازعهم بل سكت عنهم وبايعهم ؟
قال يوحنّا: لا شكّ أنّه لما مات رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان المسلمون قليلاً، واليمامة فيها مسيلمة الكذاب وتبعه ثمانون ألفاً والمسلمون الذين في المدينة حشوهم منافقون، فلو أظهر النزاع بالسيف لكان كلّ من قتل علي بن أبي طالب بنيه أو أخاه كان عليه وكان الناس يومئذ قليل من لم يقتل علي من قبيلته وأصحابه وأنسابه قتيلاً أو أزيد وكانوا يكونون عليه، فلذلك صبر وشاققهم على سبيل الحجّة ستّة أشهر بلا خلاف بين أهل السنّة، ثمّ بعد جرى من طلب البيعة منهم فعند أهل السنّة أنّه بايع، وعند الرافضة أنّه لم يبايع، وتاريخ الطبري(142) يدلّ على أنّه لم يبايع، وإنّما العبّاس لما شاهد الفتنة صاح: بايع ابن أخي.
وأنتم تعلمون أنّ الخلافة لو لم تكن لعلي لما ادّعاها، ولو ادّعاها بغير حقّ لكان مبطلاً، وأنتم تروون عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنّه قال: «علي مع الحقّ والحقّ مع علي»(143) ،فكيف يجوز منه أن يدّعي ما ليس بحقّ فيكذب نبيّكم يومئذ ما هذا بصحيح.
وأما تعجّبكم من مخالفة بني إسرائيل نبّيهم في خليفته وعدولهم إلى العجل والسامريّ ففيه سرُّ عجيب إنّكم رويتم أنّ نبيّكم قال: « ستحذو أُمّتي حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم فيه»(144) وقد ثبت في كتابكم أنّ بني إسرائيل خالفت نبيّها في خليفته، وعدلوا عنه إلى ما لا يصلح لها.
قال العلماء: يا يوحنّا أفتدري أنت أنّ أبا بكر لا يصلح للخلافة ؟
قال يوحنّا: أما أنا فو الله لم أر أبا بكر يصلح للخلافة، ولا أنا متعصّب للرافضة، لكنّي نظرت الكتب الاسلامية فرأيت أنّ أئمتكم أعلمونا أنّ الله ورسوله أخبر أنّ أبا بكر لا يصلح للخلافة.
قال الائمة: وأين ذلك ؟
قال يوحنّا: رأيت في بخاريّكم(145) ، وفي الجمع بين الصحاح الستّة، وفي صحيح أبي داود، وصحيح الترمذي(146) ، ومسند أحمد بن حنبل(147) أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بعث سورة براءة مع أبي بكر إلى أهل مكّة، فلمّا بلغ ذي الحليفة(148) دعا عليا ـ عليه السلام ـ، ثمّ قال له: أدرك أبا بكر وخذ الكتاب منه فاقرأه عليهم، فلحقه بالجحفة(149) فأخذ الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، فقال: يا رسول الله أنزل فيّ شيء ؟
قال: لا ولكن جاءني جبرئيل ـ عليه السلام ـ، وقال: لن يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك.
فإذا كان الامر هكذا وأبو بكر لا يصلح لاداء آيات يسيرة عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حياته، فكيف يصلح أن يكون خليفته بعد مماته ويؤدّي عنه كلّه وعلمنا من هذا أنّ عليا ـ عليه السلام ـ يصلح أن يؤدّي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ.
فيا أيّها المسلمون لم تتعامون عن الحق الصريح ؟ ولم تركنون إلى هؤلاء وكم ترهبون الاهوال ؟
قال الحنفي منهم: يا يوحنّا والله إنّك لتنظر بعين الانصاف، وإنّ الحقّ لكما تقول، وأزيدك في معنى هذا الحديث، وهو أنّ الله تعالى أراد أن يبيّن للناس أنّ أبا بكر لا يصلح للخلافة، فترك رسول الله حتى أخرج أبا بكر بسورة براءة على رؤوس الاشهاد، ثمّ أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن يخرج عليّا وراءه ويعزله عن هذا المنصب العظيم ليعلم الناس أنّ أبا بكر لا يصلح لها، وأنّ الصالح لها علي ـ عليه السلام ـ، فقال لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: والله لا يبلّغ عنك إلاّ أنت أو رجل منك(150) ، فما تقول أنت يا مالكي ؟
قال المالكي: والله فإنّه لم يزل يختلج في خاطري أنّ علياً نازع أبا بكر في خلافته مدّة ستّة أشهر، وكلّ متنازعين في الامر لا بدّ وأن يكون أحدهما محقّا، فإن قلنا إنّ أبا بكر كان محقّا فقد خالفنا مدلول قول النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ»(151) .
وهذا حديث صحيح لا خلاف فيه، فما تقول يا حنبلي ؟
قال الحنبلي: يا أصحابنا كم نتعامى عن الحقّ ؟ والله إنّ اليقين أنّ أبا بكر وعمر غصبا حقّ علي ـ عليه السلام ـ فكانا... الخ.
فقال له الحنفي: ولا بهذه العبارة.
فقال الحنبلي: يا حنفي تيقّظ لامرك فإنّ البخاري ومسلم أوردا في صحيحهما أنّه لما توفّي أبو بكر وجلس عمر مكانه أتى العبّاس وعلي إلى عمر وطلبا ميراثهما من رسول الله، فغضب عمر وقال كلاما يقول فيه: فلمّا توفّي رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال أبو بكر أنا وليّ رسول الله، فجئت أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب علي هذا ميراث امرأته من أبيها.
فقال لكما أبو بكر: إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: «نحن معاشر الانبياء لا نورّث ما تركناه يكون صدقة»(152) ، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا، ثمّ توفّي أبو بكـر فقلــت: أنـا ولـي رسـول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من بعده ووليّ أبو بكر، فجئت أنت وعلي وأنتما جميعا أمركما واحد فقلتم: الامر لنا دونكم فقلت لكما مقالة أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا، وقول عمر هذا لعلي ـ عليه السلام ـ كان بمحضر أنس بن مالك وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد، ولم يعتذر أمير المؤمنين علي ولا العبّاس عمّا نسب إليهما من الاعتقاد الذي ذكره عمر ولا أحد من الحاضرين اعتذر إلى أبي بكر، فيا حنفي إن كان عمر صدق فيما نسب إلى أبي بكر وإلى نفسه فمن يعتقد فيه العباس وعلي أنّه كاذب آثم خائن غادر فكيف يصلح للخلافة ؟ وإن قلت: إنّ عمر كان كاذبا في ذلك فكفاه ذلك.
قال يوحنّا: يا أئمة الاسلام هذه الرواية هي سبب تجرّي الناس على أبي بكر في الطعن عليه وعلى عمر، فإذا سمعت الرافضة أنّ في بخاريكم أنّ عمر قد شهد على نفسه أنّ عليّا هو الذي رويتم فيه أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال في حقّه: «علي مع الحقّ والحقّ مع علي» والعبّاس عمّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ شهد على أبي بكر وعمر أنّهما كاذبان آثمان خائنان فكيف لايتجرئون عليهم ويجعلون هذا مبدأ أشياء أُخر.
قالت العلماء: يا يوحنّا إنّ الرافضة يطعنون في أكثر الصحابة، وهذا هو الذي أوجب قتلهم، إنّ رسول الله مدح الصحابة وقال: « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»(153) فكيف يصح للرافضة أن يطعنوا فيهم ؟
قال يوحنّا: علماء الاسلام لا تقولوا هذا فمن الجائز أن يكون هذا المدح لهم في زمن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وبعد رسول الله حصل لبعضهم الارتداد، فإنّ إمامكم ومحدّثكم الحميدي روى في الجمع بين الصحيحين من المتّفق عليه عندكم من الحديث الستّين من مسند عبدالله بن العباس، قال: إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: ألا إنّه سيجيء برجال من أُمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا ربّ أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول لهم كما قال العبد الصالح: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شيء شهيد، إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم)(154) فيقال: إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم(155) .
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة عن عبدالله، الحديث الحادي عشر من افراد مسلم قال: إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أيّ قوم أنتم ؟
قال عبد الرحمن: نكون كما أمرنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسّلم ـ.
فقال رسول الله: بل تتنافسون وتتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون وتنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض(156) .
أليس هذا وعد بارتدادهم، وناهيك بقوله تعالى: (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا)(157) .
قالت العلماء: يا يوحنّا، هذا الذي ذكرته يدلّ على أنّ ذلك البعض أبو بكر وعمر وأتباعهما وما ندري ما الذي جرّأهم على ذلك ؟ ومن أين جاز لهم ذلك ؟
قال يوحنّا: جرّأهم على ذلك أئمتكم وعلماؤكم كالبخاري(158) ومسلم، فإنّهم أوردوا أنّه لما مات رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أرسلت فاطمة ـ صلوات الله عليها ـ إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ مما أفاء الله عليه بالمدينة من فدك وما بقي من خمس خيبر، فأبى أبو بكر أن يردّ على فاطمة ـ عليها السلام ـ شيئا منه، فوجدت فاطمة على أبي بكر مما أقلقها وأحزنها فهجرته ولم تكلّم مما وقع عليها منه من الاذى وما زالت تتنفّس حتى ماتت، وإنّها عاشت بعد أبيها ستّة أشهر، فلما توفّيت دفنها علي ـ عليه السلام ـ ليلاً سرّا ولم يؤذن بها أبا بكر(159) ، ومع هذه الشناعة روى أئمتكم في الصحيحين أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: «فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني، ويؤذيني ما آذاها»(160) ، فأخذ الرافضة هذين الحديثين وركَّبوا منهما مقدّمتين وهو: أبو بكر آذى فاطمة، ومن آذى فاطمة فقد آذى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، ولا شكّ أنّ الله سبحانه يقول: (إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة وأعدّ لهم عذابا مهينا)(161) ، ولو احتجّ عليكم أحد بهذه الحجّة لم يسعكم إنكار مقدّمة من مقدّماتها، ولا إنكار نتيجتها.
وقال يوحنّا: فاختبط القوم، وكثر بينهم النزاع لكن كان مآل كلامهم، أنّ الحقّ في طرف الرافضة، وكان أقربهم إلى الحقّ إذن إمام الشافعية، فقال لهم: أراكم تشكّون أنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: من مات ولم يعرف إمام زمانه(162) فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا.
فما المراد بإمام الزمان ؟ ومن هو ؟
قالوا: إمام زماننا القرآن فإنّا به نقتدي.
فقال الشافعي: أخطأتم لانّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: الائمة من قريش(163) ولا يقال للقرآن إنّه قريشي.
فقالوا: النبيّ إمامنا.
فقال الشافعي: أخطأتم، لانّ علماءنا لما اعترض عليهم بأن كيف يجوز لابي بكر وعمر أن يتركا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ مسجَّى غير مغسَّل ويذهبا لطلب الخلافة، وهذا دليل على حرصهم عليها، وهو قادح في صحّة خلافتهما.
أجاب علماؤنا إنّهم لمحوا أقوال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» ولم يجوّزوا على أنفسهم الموت قبل تعيين الامام، فبادروا لتعيينه هربا من ذلك الوعيد، فعلمنا أن ليس المراد بالامام هنا النبي.
فقالوا للشافعي: فأنت مَن إمامك يا شافعي ؟
قال: إن كنت من قبيلتكم فلا إمام لي، وإن كنت من قبيلة الاثني عشرية فإمامي محمد بن الحسن ـ عليه السلام ـ.
فقال العلماء: هذا والله أمر بعيد كيف يجوز أن يكون واحد من مدّة لا يعيش أحد مثله، ولا يراه أحد هذا بعيد جّدا.
فقال الشافعي: هذا الدجّال من الكفرة تقولون: إنّه حيّ وموجود، وهو قبل المهدي والسامري كذلك ووجود إبليس لا تنكرونه، وهذا الخضر، وهذا عيسى تقولون: إنّهما حيّان، وقد ورد عندكم ما يدلّ على التعمير في حقّ السعداء والاشقياء، وهذا القرآن ينطق أنّ أهل الكهف ناموا ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون، أفبعيد أن يعيش من ذرّية محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ واحد مدّة طويلة يأكل ويشرب إلاّ أنّه لا يخبرنا أحد أنّه رآه، واستبعادكم هذا بعيد جدّا .
قال يوحنّا: فأطرق القوم، فقالوا يا شافعي: الناس اختلفوا، وكلّ أحد منهم أخذ طرفا والله ما ندري ماذا نصنع ؟
قال يوحنّا: إنّ نبيّكم قال: ستفترق اُمّتي من بعدي ثلاث وسبعين ، واحدة ناجية، واثنتان وسبعون في النار فهل تعرف الناجية من هي ؟
قالوا: إنهم أهل السنّة والجماعة لقول النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لما سئل عن الفرقة الناجية من هم ؟ فقال: «الذين هم على ما أنا عليه اليوم وأصحابي»(164) .
قال يوحنّا: فمن أين لكم أنكم أنتم اليوم على ما كان عليه النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ؟
قالوا: ينقل ذلك الخلف عن السلف.
فقال يوحنّا: فمن الذي يعتمد على نقلكم ؟
قالوا: وكيف ذلك ؟
____________
(121) المناقب للخوارزمي ص67، لسان الميزان ج5 ص219، ميزان الاعتدال ج3 ص 597.
وفي هذا المعنى قال بعضهم ـ عليه الرحمة ـ:
لو أن عبداً أتى بالصالحــات غداً | وودّ كــل نبـي مرسـل وولــي |
وقام ما قام قوَّامـاً بـلا كســلِ | وصام ما صام صوَّامـاً بــلا ملل |
وحجَّ ما حجَّ من فرضٍ ومن سننٍ | وطاف بالبيت حافٍ غيـر منتعــل |
وطار في الجو لا يأوي إلى أحـدٍ | وغاص في البحر لا يخشى من البلل |
وعاش في النـاس آلافاً مؤلفــة | خلواً من الذنب معصوماً من الـزلل |
يكسو اليتامى من الديبــاج كلهم | ويطعـم البائسيـن البـر بالعســل |
ما كان في الحشر عند الله منتفعاً | إلاّ بحب أمير المؤمنيــن علــي |
(123) الفردوس ج2 ص142 ح2725، مناقب الخوارزمي ص75 ح56.
(124) مسند أحمد ج1 ص77، سنن الترمذي ج5 ص599 ح3733، تاريخ بغداد ج13 ص288، كنز العمّال ج13 ص639 ح37613.
(125) سورة البقرة: الاية 180.
(126) صحيح البخاري ج4 ص2، صحيح مسلم ج3 ص1249 ح1، سنن ابن ماجة ج2 ص901 ح2699.
(127) سورة البقرة: الاية 44.
(128) سورة الانعام: الاية 90.
(129) مناقب ابن المغازلي: ص200 ـ 201 ح238، ذخائر العقبى ص71.
(130) سورة الشعراء: الاية 214.
(131) معالم التنزيل للبغوي ج3 ص400.
(132) مسند أحمّد ج1 ص159.
(133) تاريخ الطبري ج2 ص319 ـ 321.
(134) سورة هود: الاية 18.
(135) سورة يونس: الاية 60 و 69، وسورة النحل: الاية 116.
(136) سورة آل عمران: الاية 61.
(137) غدير خم: قيل: موضع تصبّ فيه عين، وقيل: بئر من الميثَب، حفرها مرّة بن كعب، نسب إلى ذلك غدير خُم، وهو بين مكة والمدينة، قيل: على ثلاثة أميال من الجُحْفة، وقيل: على ميل، وهي التي عناها الشاعر في قوله:
وقالت بالغدير غدير خمٌّ | أخيَّ إلى متى هذا الركوب |
انظر: مراصد الاطلاع ج1 ص482، سفنية البحار ج2 ص309.
وقد جاء اسم هذا المكان ـ غدير خم ـ كثيراً في الشعر وذلك بمناسبة تنصيب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ خليفة من بعده، في هذا المكان وذلك بعد عودته من حجة الوداع، وقال فيه يومئذٍ: ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله... الخ.
ومن الشعراء الذين ذكروا ذلك في شعرهم: حسان بن ثابت في قصيدته الشهيرة حيث يقول:
يُناديهمُ يومَ الغدير نبيُّهــم | بخُمٍّ وأكرم بالنبيّ منــاديــا |
ويوم الدّوح دوح غدير خمّ | أبانَ له الولاية لو أُطيعـا |
ولكنّ الرجالَ تدافعـوهـا | فلم أرَ مثلها خطراً منيعـا |
ويوم الغدير استوضح الحق أهله | بفيحأ ما فيها حجاب ولا ستـر |
أقام رسول الله يدعوهـم بهـا | ليقربهم عرفٌ وينآهم، نكــر |
يمـد بضبعيــه ويعلــم أنَّه | وليُّ ومولاكم فهل لكمُ خبــرُ |
قام النبيُّ يوم خمٍّ خاطبــاً | بجانب الدوحات أوحيالهـا |
فقال: من كنت له مولى فذا | مولاه ربي اشهد مراراً قالها |
وقد ذكر العلامة الاميني في كتابه الغدير الشعراء الذين خلدوا واقعة الغدير في شعرهم ابتدأً من القرن الاول حتى القرن الرابع عشر، وقد طُبع منه أحد عشر مجلداً وقد ذكر فيه ـ 105 ـ من شعراء الغدير وقد انتهى به المطاف الى القرن الثاني عشر الهجري.
(138) مسند أحمد ج2 ص93 وج4 ص368 وص372 وص381.
(139) العقد الفريد ج5 ص61.
(140) وممن ذكر خبر الحارث بن النعمان: فرائد السمطين ج1 ص82 ح53، نور الابصار للشبلنجي ص71 ط السعيدية وص71 ط العثمانية، نظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص93، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص328 ط الحيدرية وص274، ط اسلامبول وج2 ص99 ط العرفان بصيدا.
(141) سورة المعارج: الاية 1.
(142) تاريخ الطبري ج3 ص208، وقد تقدمت تخريجاته.
(143) تقدمت تخريجاته.
(144) انظر: معالم التنزيل للبغوي ج4 ص465، مجمع البيان ج10 ص462 باختلاف، وقد تقدم المزيد من تخريجات الحديث فيما سبق.
(145) صحيح البخاري ج6 ص81.
(146) سنن الترمذي ج5 ص256 ـ 257 ح3090 ـ 3092 وج3 ص222 ح871.
(147) مسند أحمد ج4 ص164.
(148) ذو الحليفة: قريةٌ بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، منها ميقات أهل المدينة، وهي من مياه بني جُشم. وذو الحليفة: موضع من تهامة بين حاذَة وذات عرق. مراصد الاطلاع ج1 ص420.
(149) الجُحفة: كانت قرية كبيرة، ذات منبرٍ، على طريق مكة على أربع مراحل، وهي ميقات أهل مصر والشام، إن لم يمرُّوا على المدينة، وكان اسمها مَهْيَعة، وسُميَت الجُحفة لان السيل جحفها، وبينها وبين البحر ستة أميال، وبينها وبين غدير خُمٍّ ميلان. مراصد الاطلاع ج1 ص315.
(150) مسند أحمد ج3 ص212، المصنّف لابن أبي شيبة ص84 ـ 85 ح12184، كنز العمّال ج2 ص431 ح4421، البداية والنهاية ج5 ص37، وقد تقدمت تخريجاته.
(151) تقدمت تخريجاته.
(152) البداية والنهاية ج5 ص290 ـ 291، وقد تقدمت تخريجاته.
(153) ميزان الاعتدال ج2 ص413، لسان الميزان ج2 ص118.
(154) سورة المائدة: الاية 117 و 118.
(155) صحيح البخاري ج6 ص69 و 122، صحيح مسلم ج4 ص2194 ـ 2195 ح58، سنن الترمذي ج4 ص532 ح2423.
(156) صحيح مسلم ج4 ص2274 ح7.
(157) سورة آل عمران: الاية 144.
(158) صحيح البخاري ج5 ص25 ـ 26.
(159) تقدمت تخريجاته.
(160) صحيح البخاري ج5 ص26، صحيح مسلم ج4 ص1903 ح94، وقد تقدمت تخريجاته.
(161) سورة الاحزاب: الاية 57.
(162) تقدمت تخريجاته.
(163) مسند أبي داود ص125 ح926، مسند أحمد ج3 ص183، المصنّف لابن أبي شيبة ج12 ص169 ح12438 وص173 ح12447، كنز العمّال ج12 ص30 ح33831.
(164) المعجم الصغير للطبراني ج1 ص256، كنز العمّال ج1 ص210 ح1055 و 1057، مجمع الزوائد ج1 ص189.