المناظرة التاسعة

(مناظرة الدكتور التيجاني مع أحد الأصدقاء في حكم الصلاة والسلام على أهل البيت عليهم السلام)

يقول الدكتور التيجاني: تحدّثت يوماً مع صديقي ورجوته وأقسمت عليه أن يجيبني بصراحة، وكان الحوار التالي:

أنتم تُنزلون عليّاً ـ رضي الله عنه وكرّم الله وجهه ـ منزلة الاَنبياء:، لاَني ما سمعت أحداً منكم يذكره إلاّ ويقول «عليه السلام».

قال: فعلاً نحن عندما نذكر أمير المؤمنين أو أحد الاَئمة من بنيه نقول عليه السلام، فهذا لا يعني أنّهم أنبياء، ولكنهم ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وعترته الذين أمرنا الله بالصلاة عليهم في محكم تنزيله، وعلى هذا يجوز أن نقول: عليهم الصلاة والسلام أيضاً.

قلت: لا يا أخي، نحن لا نعترف بالصلاة والسلام إلاّ على رسول الله صلى الله عليه وآله والاَنبياء الذين سبقوه، ولا دخل لعلي وأولاده في ذلك ـ رضي الله عنهم ـ.

قال: أنا أطلب منك وأرجوك أن تقرأ كثيراً حتى تعرف الحقيقة.

قلت: أي الكتب أقرأ يا أخي ؟ ألست أنت الذي قلت: بأنّ كتب أحمد أمين ليست حجّة على الشيعة، كذلك كتب الشيعة ليست حجّة علينا ولا نعتمد عليها، ألا ترى أنّ كتب النّصارى التي يعتمدونها تذكر أنّ عيسى عليه السلام قال: «إنّي ابن الله» في حين أن القرآن الكريم ـ وهو أصدق القائلين ـ يقول على لسان عيسى بن مريم: (مَا قُلتُ لَهُم إلاّ مَا أمَرْتني بهِ أن اعبدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكم)(1)

قال: حسناً قلت: لقد قلت ذلك، والذي أريده منك هو هذا، أعني استعمال العقل والمنطق والاستدلال بالقرآن الكريم والسنّة الصحيحة ما دمنا مسلمين، ولو كان الحديث مع يهودي أو نصراني لكان الاستدلال بغير هذا.

قلت: إذاً، في أي كتاب سأعرف الحقيقة، وكل مؤلف وكلّ فرقة وكل مذهب يدّعي أنّه على الحق.

قال: سأعطيك الآن دليلاً ملموساً، لا يختلف فيه المسلمون بشتّى مذاهبهم وفرقهم ومع ذلك فأنت لا تعرفه !.

قلت: وقل ربّي زدني علماً.

قال: هل قرأت تفسير الآية الكريمة: (إنَّ اللهَ وملائكَتَهُ يُصلُّونَ على النَّبي يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلُّوا عليهِ وَسلِّموا تَسلِيماً)(2) .

فقد أجمع المفسّرون سنّة وشيعة على أن الصحابة الذين نزلت فيهم هذه الآية، جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: يا رسول الله، عرفنا كيف نسلّم عليك، ولم نعرف كيف نصّلي عليك ! فقال: قولوا اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد(3) ولا تصلّوا عليَّ الصلاة البتراء، قالوا: وما الصلاة البتراء يا رسول الله ؟ قال: أن تقولوا: اللّهم صلّ على محمد وتصمتوا(4) وـ، وأنّ الله كامل ولا يقبل إلاّ الكامل.

ولكل ذلك عرف الصحابة ومن بعدهم التابعون أمر رسول الله فكانوا يصلّون عليه الصلاة الكاملة، حتى قال الاِمام الشافعي في حقّهم:

يا آل بيت رسول الله حبّكم * فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الشأن أنّكم * من لم يصلّ عليكم لا صلاة له(5)
كان كلامه يطرق سمعي وينفذ إلى قلبي ويجد في نفسي صدىً إيجابياً، وبالفعل فقد سبق لي أن قرأت مثل هذا في بعض الكتب، ولكن لا أذكر في أي كتاب بالضبط، وأعترفت له بأننا عندما نصلّي على النبي نصلّي على آله وصحبه أجمعين، ولكن لا نفرد عليّاً بالسلام كما يقول الشيعة.

قال: فما رأيك في البخاري ؟ أهو من الشيعة ؟

قلت: إمام جليل من أئمة أهل السنّة والجماعة، وكتابه أصحّ الكتب بعد كتاب الله.

عند ذلك قام وأخرج من مكتبته صحيح البخاري وفتحه وبحث عن الصفحة التي يريدها، وأعطاني لاَقرأ فيه: حدّثنا فلان عن فلان عن علي عليه السلام، ولم أصدّق عيني واستغربت حتى أنّني شككت أن يكون ذلك هو صحيح البخاري، واضطربت وأعدت النظر في الصفحة وفي الغلاف!

ولمّا أحسّ صديقي بشكّي أخذ مني الكتاب وأخرج لي صفحة اُخرى فيها:حدّثنا علي بن الحسين عليهما السلام، فما كان جوابي بعدها إلاّ أن قلت: سبحان الله واقتنع مني بهذا الجواب وتركني وخرج، وبقيت أفكّر وأراجع قراءة تلك الصفحات وأتثّبت في طبعة الكتاب فوجدتها من طبع ونشر شركة الحلبي وأولاده بمصر.

يا إلهي، لماذا أكابر وأعاند وقد أعطاني حجّة ملموسة من أصحّ الكتب عندنا، والبخاري ليس شيعياً قطعاً، وهو من أئمة أهل السنّة ومحدّثيهم، أأسلم لهم بهذه الحقيقة وهي قولهم علي عليه السلام، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلّها تتبعها حقائق أخرى لا أحبّ الاعتراف بها، وقد انهزمت أمام صديقي مرّتين، فقد تنازلت عن قداسة عبد القادر الجيلاني وسلّمت بأنّ موسى الكاظم عليه السلام أولى منه، وسلّمت أيضاً بأنّ عليّاً عليه السلام هو أهل لذلك، ولكنّي لا اريد هزيمة اُخرى، وأنا الذي كنت منذ أيام قلائل عالماً في مصر أفخر بنفسي ويمجّدني علماء الاَزهر الشريف، أجد نفسي اليوم مهزوماً مغلوباً ومع من ؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنهم على خطأ، فقد تعوّدت على أنّ كلمة «شيعة» هي مسبّة.

إنّه الكبرياء وحبّ الذات، إنّها الاَنانية واللجاج والعصبية، إلهي ألهمني رشدي، وأعنّي على تقبّل الحقيقة ولو كانت مرّة.

اللهم افتح بصري وبصيرتي، واهدني إلى صراطك المستقيم، واجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أرنا الحق حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

رجع بي صديقي إلى البيت وأنا أردّد هذه الدعوات، فقال مبتسماً: هدانا الله وإيّاكم وجميع المسلمين، وقد قال في محكم كتابه: (وَالَّذينَ جَاهَدوا فينَا لَنَهدِيَنَّهم سُبُلنا وإِنَّ اللهَ لَمع المُحسِنينَ)(6) .

والجهاد في هذه الآية يحمل معنى البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة، والله سبحانه يهدي إلى الحقِّ كلّ من بحث عن الحقّ(7) .

____________

(1) سورة المائدة: الآية 117.

(2) سورة الاَحزاب: الآية 56.

(3) تقدمت تخريجاته.

(4) راجع: الغدير للاَميني: ج2 ص 303 ـ 304، الصواعق المحرقة لابن حجر: ص146، وروى محبّ الدين الطبري في الذخائر ص19 عن جابر (رضي الله عليه) أنّه كان يقول: لو صلّيت صلاةً لم اُصلِّ فيها على محمد وعلى آل محمد ما رأيت أنَّها تُقبل.

(5) الاِمام الشافعي، حياته ـ شعره تحقيق إسماعيل اليوسف ص 74، ينابيع المودة: ص 354 ط الحيدرية وص 259 ط إسلامبول، نور الاَبصار: ص 105 ط السعيدية وص 103 ط العثمانية، الغدير للاَميني: ج2 ص 303 وج3 ص 173.

(6) سورة العنكبوت: الآية 69.

(7) ثم اهتديت للتيجاني: ص 44 ـ 47.