بناء القبور وزيارتها
(مناظرة العلماء مع بعضهم في حكم بناء القبور)
العالم الشيعي: لماذا خرّبت تلك الاَبينة ؟ ـ يعني الاَبنية التي في البقيع ـ لماذا هذه الاهانة وعدم الاحترام ؟
السني: هل تقبل كلام الاِمام علي عليه السلام ؟
العالم الشيعي: نعم، هو أول إمام لنا، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله بلا منازع.
السني: ورد في كتبنا المعتبرة: حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قال: يحيى أخبرنا، وقال الآخران، حدثنا: وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج الاَسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب عليه السلام: الا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله ان لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.(1)
العالم الشيعي: هذا الحديث،مخدوش من حيث السند والدلالة ومرفوض، اما سنداً،فلوجود 1 ـ وكيع 2 ـ سفيان 3 ـ حبيب بن أبي ثابت 4 ـ أبي وائل، الذين لم يوثقوا من طرف أهل الحديث.
فمثلاً قال أحمد بن حنبل حول «وكيع»: «أنه أخطأ في خمس مائة حديث»(2) .
وأمّا «سفيان الثوري»، فقد نقل ابن المبارك: «أن سفيان الثوري كان يدلس في الحديث، ويخجل مني حين يراني»(3) ، والتدليس: هو أن يظهر الباطل بصورة الحق، وأمّا «حبيب بن أبي ثابت»، فقد نقل عن ابن حيان أنه كان يدلس في الحديث(4) .
وأمّا «أبي وائل» فقيل عنه: «إنه كان من النواصب، ومن جملة الذين انحرفوا عن الاِمام علي عليه السلام»(5) .
كما ينبغي التوجه إلى أن جميع كتب الصحاح الستة لاَهل السنة، قد نقلت عن «أبي الهياج» فقط هذا الحديث، ممايعتبر مؤشراً على أنه لم يكن من أهل الحديث،ولم يكن مورد اعتماد،فالحديث المذكور لا يُعتمد عليه سنداً.
وأما دلالة ومحتوىً:
أ ـ أن الاِصطلاح اللغوي لكلمة «مشرف» في الحديث المذكور، بمعنى المكان المرتفع المسلط على مكان آخر أدنى منه، فلا يشمل كل شيء مرتفع.
ب ـ وأمّا الاِصطلاح اللغوي لـ«سويته»، بمعنى التساوي والاستقامة، لذلك، لا يكون معنى الحديث هو هدم كل قبر عال، إضافة إلى أن مساوات القبر مع الاَرض خلاف للسنة الاِسلامية، لان جميع فقهاء الاِسلام قد افتوا باستحباب رفع القبر عن الاَرض ولو شبراً(6) .
ويطرأ احتمال آخر هو أن المراد من «سويته» تساوي سطح القبر وعدم جعله محدّباً كتحدب ظهر البعير، كما فهم هذا المعنى علماء كبار من أهل السنة، كمسلم في صحيحه، والترمذي والنسائي في سننهما.
فالنتيجة: إنّه توجد ثلاث احتمالات: 1 ـ هدم بناء القبر وخرابه 2ـمساوات سطح القبر مع الاَرض 3 ـ أن يكون سطح القبر مسطحاً لا محدباً، والاَحتمال الاَول والثاني غير صحيح، والاَحتمال الثالث هو الصحيح.
لذلك، لايدل الحديث المذكور على هدم بناء القبور، ونضيف أيضاً: لو كان الاِمام علي عليه السلام يقول بهدم أبنية القبور، فلماذا لم يهدم أبنية قبور أولياء الله والاَنبياء عليهم السلام في البيت المقدس، في عصر خلافته، ولم ينقل لنا التأريخ شواهد كهذه.
السني: أريد أن أطرح سؤالاً ؟ هل يوجد دليل في القرآن يصرح بلزوم بناء الاَبنية والاَضرحة المجللة والعظيمة على قبور أولياء الله ؟
العالم الشيعي: أولاً: ليس من المفروض أن يذكر كل شيء في القرآن، حتى المستحبات وإلا لبلغ حجم القرآن أضعاف ما عليه الآن.
وثانياً: هناك إشارات إلى هذا الموضوع، في القرآن، فمثلاً الآية 32 من سورة الحج (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) ، أن اصطلاح «شعائر» جمع «شعيرة» بمعنى العلامة أو الآية، وليس المنظور في هذا لآية وجود الله، لاَن العالم بأكمله، آيات وجود الله سبحانه، بل المنظور (معالم دين الله)(7) .
فكل ما له ارتباط بدين الله،فاحترامه يوجب القرب الاِلهي، فنقول: أن قبور الاَنبياء والاَئمة وأولياء اللهعليهم السلام تعتبر معالم لدين الله، فلوبنيت تلك القبور بنحو جميل ومجلل وفخم، كان دليلاً على احترام شعائر الله، ويكون عملاً محبوباً لدى الله طبقاً للقرآن، وأشارت الآية (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)(8) .
إن المودة والتقرب لاَهل بيت النبي صلى الله عليه وآله هي أجر للرسالة، فيكون بناء قبور أهل بيته بنحو مجلل لائق بهم، إحدى أسباب التقرب وإظهار الحب لاَهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، لا أنها فعل محرم.
فمثلاً، لو وضعنا القرآن الكريم في مكان غير مناسب،على التراب وفي معرض المطر والرياح، ألا يعتبر ذلك إهانة للقرآن ؟ وإذا لم يعتبر إهانة أليس من الاَفضل أن نغلفه ونضعه في مكان مناسب بعيداً عن الغبار والنجاسة ؟
السني: هذا الكلام يقع مورد قبول في المجامع العرفية، أما في القرآن فلا يوجد دليل صريح على ذلك.
العالم الشيعي: جاء في القرآن في قصة أصحاب الكهف: إنهم التجأوا إلى الغار وغطوا في نوم عميق، فحينما عثر الناس عليهم وهم بهذه الصورة، تنازعوا فيما بينهم، فقال بعض: (ابنوا عليهم بنياناً) ، وقال بعض آخر: (لنتخذن عليهم مسجداً)(9) .
فالقرآن ينقل كلا النظرين، من دون انتقاد لهما، فلو كان كلا النظرين، أو أحدهما، حراماً وغير صحيح، لتعرض قطعاً لانتقاد القرآن، وعلى أية حال فكلا النظرين، يدلان على نوع من الاَحترام لقبور أولياء الله، والآيات الثلاث المذكورة 1 ـ آية تعظيم الشعائر 2 ـ آية المودة 3 ـ النظران المذكوران في قبور أصحاب الكهف، تدل على جواز بل استحباب بناء قبور أولياء الله بصورة فخمة(10) .
____________
(1) صحيح مسلم: ج2 ص666 ح 93 (ك الجنائز ب 31)، الجامع الصحيح للترمذي: ج3 ص366 ح 1049، سنن النسائي: ج4 ص88 ـ 89.
(2) تهذيب التهذيب: ج11 ص125.
(3) تهذيب التهذيب: ج4 ص 115.
(4) تهذيب التهذيب: ج2 ص179.
(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4 ص99.
(6) الفقه على المذاهب الاَربعة للجزيري: ج1 ص535.
(7) مجمع البيان للطبرسي: ج7 ص133.
(8) سورةالشورى: الآية 23.
(9) سورة الكهف: الآية 21.
(10) أجود المناظرات للاَشتهاردي: ص 340 ـ 345.