المناظرة الرابعة والعشرون

(مناظرة السيد مصطفى العاملي مع بعض الفلسطينيين في حكم الجمع بين الصلاتين)

يقول السيد مصطفى مرتضى العاملي: كنت يوماً في مخيم الرشيدية في رأس العين مع بعض الاِخوان من أهل فلسطين، فقال لي رجل منهم: لقد رأيت حال الشيعة وسبرت أخلاقهم وعاداتهم فوجدتهم متمسكين بالدين الاِسلامي كل التمسك، ولم أجد ما يعابون به سوى شيء واحد.

فقلت: وما هذا الشيء الذي تعيبهم به ؟

قال: إنهم يجمعون بين الصلاتين.

قلت: وهل من حرج عليهم في ذلك، بعدما صرحوا بأن النبي صلى الله عليه وآله جمع وفرّق.

قال: إنّ النبي صلى الله عليه وآله إنّما جمع في السفر.

قلت له: قد صحّ عندكم ورويتم في كتبكم أن النبي صلى الله عليه وآله صلّى الظهر ثمانياً والعشاء سبعاً، من غير خوف ولا سفر ولا مطر ولا حرب ولا عذر من الاَعذار(1) ، وقيل لابن عمر: لماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ؟ فقال: لئلا يضيق على اُمته(2) ، فإذا كانت الشيعة تفعل ما فعله رسول الله فلا يجوز عيبهم والتشنيع عليهم، فإنكم بذلك تعيبون رسول الله صلى الله عليه وآله وتشنعون عليه.

قال: الحق معكم، وإني أستغفر الله مما فرطُ، ولكن أيهما أفضل: الجمع أم التفريق ؟

قلت: لا أدري.

قال: يجب أن تدري.

قلت: هذا لا يخصني، ولا يجب عليَّ معرفته، فإن الشارع هو الله، والله لا يسأل عما يفعل، والمبلغ عنه رسول الله صلى الله عليه وآله، ورسول الله أعرف بما جاء به، ومثلي يجب عليه التسليم فقط.

قال: فإني سألت أحد مشايخ الشيعة عن ذلك، وقال لي: إن التفريق أفضل، وأدلك عليه إذا شئت، هو الشيخ حسن شمس الدين من حنويه.

قلت: إن الشيخ هو أجل قدراً من أن يعطيك الجواب هكذا على مثل هذا السؤال.

قال: بلى والله لقد سألته وأجابني هكذا.

قلت: لعلك لم تفهم معنى كلامه.

قال: بلى والله لقد فهمت، وهو ما قلته لك.

قلت: كلا ليس الاَمر كذلك، وإني أستطيع أن أعرفك ما قاله الشيخ لك.

قال: وما الذي تظنه قال حيث لم تصدق قولي.

قلت: إني لم أكذبك، وإنما قلت: إنك لم تفهم معنى كلامه، وعلى كل حال إن صحّ أنه أجابك، فإنه يقول لك: حيث ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله فعل الاَمرين علمنا بتساوي الفضلين، لاَنه لا يعقل أن رسول الله صلى الله عليه وآله ترك الاَفضل وعمل ماهو دونه في الرتبة، لاَنه صلى الله عليه وآله ما عرض عليه أمران إلاّ واختار أشدهما عليه ليزداد أجره بزيادة المشقة، ونحن الآن مخيرون بين الجمع والتفريق، ورسول الله صلى الله عليه وآله فعل الاَمرين، فهما في الفضل سواء، فلا حرج علينا في أي الفعلين التزمنا.

ثم قلت له: لنفرض جدلاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يجمع بين الصلاتين إلاّ لعذر كالمطر والسفر والحرب وغيرهما من الاَعذار.

فتهلل وجهه، وقال: والاَمر كذلك.

قلت له: فقد صحّ أنه جمع، والجمع كان لعذر.

فقال: نعم.

قلت: إن كان العذر يبيح الجمع بين الصلاتين، فما المانع من الجمع بين الصلوات الخمس، فيصليها كلها دفعة واحدة في وقت واحد.

قال: أن الصلاة لا تجوز قبل دخول الوقت، ولو أداهاالمكلّف قبل وقتها لم يسقط الوجوب بعد دخوله، وكذا لا يجوز تأخيرها عن وقتها مع الاختيار.

قلت: أن الجمع بين صلاتين يقتضي إما تأخير أولاهن عن وقتها أو تقديم الثانية عليه، وعلى أي الوجهين فإن إحدى الصلاتين وقعت في غير وقتها، لاَن وقتيهما متغايران بزعمك.

قال: إن الجمع بين الظهر والعصر فيه شيء من التسامح، وذلك لقرب الوقتين بعضهما من البعض.

قلت: هذا التسامح هل كان من الرسول صلى الله عليه وآله خاصة أم عن أمر الله تعالى، فإن زعمت أنّه من الرسول كذبك الله عزّ وجلّ لاَنّه وصف الرسول صلى الله عليه وآله بأنه (ومَا ينطقُ عن الهوى)(3) وإن قلت: إنه من الله، دلّ على اتحاد الوقتين، قل ما شئت فإن الحق معنا.

قال: ومشروعية الجمع إن كانت لقرب الوقتين بعضهما من بعض فلِمَ لم يجمع بين العصر والمغرب، فإن القرب بين وقتهما كالقرب بين وقتي الظهر والعصر، وكالقرب بين وقتي المغرب والعشاء، بل يجب على هذا القياس أن تجمع بين الأربع صلوات في وقت واحد ؟ !

قال: لقد أشكل عليَّ الاَمر، وليس في وسعي الجواب.

قلت: تزعمون أن الجمع بين الصلاتين كان لعذر، فلا يخلو الاَمر أن يكون صلّى إحدى الصلاتين في غير وقتها، ولم يسقط وجوبها عند دخول الوقت، فتركها عمداً، فتشهد عليه بقلة الدين ووضع الشيء في غير محله، فتكون قد كفرت، وأنت تدعي الاِسلام، وإما أن يكون الوقت مشتركاً كما تزعم الشيعة، فيكون صلى الله عليه وآله صلّى الصلاتين في وقتهما، وهو ما عليه الشيعة، والسلام.

قال الرجل: أشهد أن الحق معكم، وأن من نازعكم واعترضكم متعد مبطل.

قلت: أزيدك بياناً، أن المصلحة الاِنسانية تقتضي الجمع أكثر من التفريق، وذلك أن الناس ليس كلهم مترفاً حتى أنّه يفرغ نفسه لمراعاة الاَوقات، بل غالب الناس أهل كدٍّ وأصحاب أعمال، ولا يمكن للعامل أن يوقت لكل صلاة وقتاً، لأن صاحب العمل لا يسره التعطيل ونقص الشغل، كذلك لا تساعده الظروف، ولعله ينسى الصلاة في بعض الاَوقات، حيث يغلب عليه التعب، أو لا يمكنه صاحب العمل من التفرغ لكل صلاة، فإذا جمع بين الصلاتين سلم من كل هذه المحذورات.

قال: صدقت، هذا صحيح.

قلت: وانظر في قوله تعالى: (أَقِم الصلاةَ لِدُلوكِ الشمسِ إلى غَسق الليلِ وقُرآن الفجرِ إنَّ قرآنَ الفجرِ كانَ مشهوداً)(4) ، أتراه ذكر غير ثلاثة أوقات، وانظر في قوله عقيب هذا بلا فصل: (وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّد بهِ نَافِلَةً لكَ)(5) ، ألم تكن صلاة الليل واجبة لو لم يقل: (نافلة لك).

قال: بلى والله، ولكن لو جمعت الآية الاَولى إلى قوله تعالى: (أَقِم الصلاةَ طَرَفَي النهارِ وَزُلَفاً من اللّيل)(6) ، لكان المجموع خمس صلوات.

فقلت: لشد ما غلطت، بل كان المجموع ستة، لاَنّ الاُولى دلّت على ثلاثة أوقات، ودلّت الثانية على ثلاثة أوقات أيضاً.

قال: إن قوله: (إلى غَسق الليلِ)، (وَزُلَفاً مِن اللّيل) يدلان على وقت واحد.

قلت: أو ما علمت أن من أول الفجر إلى ركود الشمس في دائرة نصف النهار يسمى صباحاً، ومن الدلوك وهو زوال الشمس عن دائرة نصف النهار إلى الغروب يسمى مساءً، وأن المراد بطرفي النهار الصباح والمساء، فكما دلّ الغسق والزلفى من الليل على وقت واحد كذلك يدل الفجر والطرف الاَول من النهار على وقت واحد، ويدل الدلوك والطرف الثاني على وقت واحد.

فسكت الرجل ولم يحر جواباً.

وفي اليوم الثاني ذهبت إلى حنويه وأخبرت الشيخ حسن بما حصل، وطالبته بما أجاب به الرجل.

فقال: لم يكن الاَمر هكذا، وإنما صلّى الرجل معنا صلاة المغرب، وبعد الفراغ قال: أراك جمعت بين الصلاتين ؟

فقلت له: جوابك يأتي بعد الآن.

ثم لم يمض نصف ساعة وإذا جميع الحضور غلب عليهم النوم، فقلت له: هذا جواب سؤالك، أترى هؤلاء لو لم يصلوا العشاء مع صلاة المغرب ألم يكن سيفوت الكثير منهم الصلاة، ولو نبَّههم أحد هل يحصل منهم التوجه إلى الصلاة والاِقبال عليها كما يجب ؟

فقال لي: صدقت.

والحمدلله ربّ العالمين(7) .

____________

(1) راجع: صحيح مسلم: ج 1 ص 489 ـ 491 ح 49 و 50 و 54 (باب الجمع بين الصلاتين)، سنن النسائي: ج 1 ص 290.

(2) القائل هو ابن عباس، راجع: صحيح مسلم: ج1 ص490 ح50 و51 و53 و54، (باب الجمع بين الصلاتين).

(3) سورة النجم: الآية 3.

(4) سورة الاِسراء: الآية 78.

(5) سورة الاِسراء: الآية 79.

(6) سورة هود: الآية 114.

(7) الحقيبة مناظرات ومحاورات للسيد مصطفى العاملي: ص 123 ـ 128.