وشئ آخر: وهو أنه لو احتمل معنى لا يقتضي الفضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام لما احتج به أمير المؤمنين عليه السلام يوم الدار، ولا جعله شاهدا على أنه أفضل من الجماعة، وذلك: أنه لو لم يكن الأمر على ما وصفناه وكان محتملا لما ظنه المخالفون - من أنه سأل ربه تعالى أن يأتيه بأحب الخلق إليه في الأكل معه - لما أمن أمير المؤمنين عليه السلام من أن يتعلق بذلك بعض خصومه في الحال أو يشتبه ذلك على إنسان، فلما احتج به على القوم واعتمده في البرهان دل على أنه لم يك مفهوما منه إلا فضله. وكان إعراض الجماعة أيضا عن دفاعه عن ذلك بتسليم ما ادعي دليلا على صحة ما ذكرناه.
وهذا بعينه يسقط قول من زعم: أنه يجوز مع إطلاق النبي صلى الله عليه وآله في أمير المؤمنين عليه السلام ما يقتضي فضله عند الله تعالى على الكافة وجود من هو أفضل منه في المستقبل، لأنه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد عليه، ولجعلوه شبهة في منعه مما ادعاه من القطع على نقصانهم عن في الفضل، وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أن القول مقيد بإطلاق فضله عليه السلام ومؤمن من بلوغ أحد منزلته في الثواب بشئ من الأعمال، وهذا بين لمن تدبره (1).
(3)
المفيد مع أبي بكر بن صراما
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه: حضر الشيخ مجلس أبي منصور ابن المرزبان، وكان بالحضرة جماعة من متكلمي المعتزلة، فجرى كلام وخوض في شجاعة الإمام.
فقال أبو بكر بن صراما: عندي أن أبا بكر الصديق كان من شجعان
____________
(1) البحار: ج 10 ص 431 - 436.
فقال الشيخ أدام الله عزه: من أين حصل ذلك عندك؟ وبأي وجه عرفته؟.
فقال: الدليل على ذلك: أنه رأى قتال أهل الردة وحده في نفر معه، وخالفه على رأيه ذلك جمهور الصحابة، وتقاعدوا عن نصرته، فقال: أما والله، لو منعوني عقالا لقاتلتهم، ولم يستوحش من اعتزال القوم له، ولا ضعف ذلك نفسه ولا منعه من التصميم على حربهم، فلولا أنه كان من الشجاعة على حد يقصر الشجعان عنه: لما أظهر هذا القول عند خذلان القوم له.
فقال الشيخ أدام الله عزه: ما أنكرت على من قال لك: إنك لم تلجأ إلى معتمد عليه في هذا الباب، وذلك أن الشجاعة لا تعرف بالحس لصاحبها فقط ولا بادعائها، وإنما هي شئ في الطبع يمده الاكتساب، والطريق إليها أحد الأمرين: إما الخبر عنها من جهة علام الغيوب المطلع على الضمائر جلت عظمته فيعلم خلقه حال الشجاع وإن لم يبد منه فعل يستدل به عليها. والوجه الآخر:
أن يظهر منه أفعال يعلم بها حاله، كمبارزة الأقران ومقاومة الشجعان ومنازلة الأبطال والصبر عند اللقاء وترك الفرار عند تحقق القتال، ولا يعلم ذلك أيضا بأول وهلة ولا بواحدة من الفعل حتى يتكرر ذلك على حد يتميز به صاحبه ممن حصل له ذلك اتفاقا أو على سبيل الهوج والجهل بالتدبير.
وإذا كان الخبر عن الله سبحانه بشجاعة أبي بكر معدوما وكان هذا الفعل الدال على الشجاعة غير موجود للرجل فكيف يجوز لعاقل أن يدعي له الشجاعة بقول قاله ليس من دلالتها في شئ عند أحد من أهل النظر والتحصيل؟ لا سيما ودلائل جبنه وهلعه وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج فيها إلى التأمل، وذلك أنه لم يبارز قط قرنا ولا قاوم بطلا ولا سفك بيده دما، وقد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله مشاهده، فكان لكل أحد من الصحابة
وقال رجل من طياب الشيعة كان حاضرا: عافاك الله، أي دليل هذا؟
وكيف يعتمد عليه؟ وأنت تعلم أن الإنسان قد يغضب فيقول: لو سامني السلطان هذا الأمر قبلته، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم ظاهر الجبن يصلي بنا في مسجدنا، فما يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال: والله لأصبرن على هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت فيه ربيعة ومضر.
فقال: ليس الدليل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره، والذي اعتمدنا عليه يدل كما يدل الفعل والخبر، ووجه الدلالة فيه: أن أبا بكر باتفاق لم يكن مؤوف العقل ولا غبيا ناقصا، بل كان بالإجماع من العقلاء، وكان بالاتفاق جيد الآراء، فلو لا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والأنصار، وهو لا يأمن أن يقيم القوم على خلافه فيخذلونه ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه عليه، فظهر منه الخلف في قوله، وليس يقع هذا من عاقل حكيم، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكينا على شجاعته كما وصفناه.
فقال الشيخ أدام الله عزه: ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادعيت من شجاعته بما رويت عنه من القول، ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب، وذلك أنه وإن كان ما ذكرت من الحكمة فليس يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه، ويحض المتأخرين عنه على نصرته، ويحثهم على جهاد عدوه، ويقوي عزمهم في معونته، ويصرفهم عن رأيهم في خذلانه، وهكذا يصنع الحكماء في تدبيراتهم، فيظهرون
فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب لحث القوم على موافقته في ذلك، ولم يبد لهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم ويقوى به رأيهم، واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره ونجع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ المراد، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول كما وصفناه في حال الرؤساء في تدبيراتهم.
على أن أبا بكر لم يقسم بالله تعالى في قتال أهل الردة بنفسه وإنما أقسم بأنصاره الذين اتبعوه على رأيه، وليس في يمينه بالله سبحانه لينفذن خالدا وأصحابه ليصلوا بالحرب دليل على شجاعته في نفسه.
وشئ آخر: وهو أن أبا بكر قال هذا القول عند غضبه لمباينة القوم له، ولا خلاف بين ذوي العقول أن الغضبان يعتريه عند غضبه من هيجان الطباع ما يفسد عليه رأيه، حتى يقدم من القول على ما لا يفي به عند سكون نفسه، ويعمل من الأعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه، ولا يكون وقوع ذلك منه دليلا على فساد عقله ووجوب إخراجه عن جملة أهل التدبير، وقد صرح بذلك الرجل في خطبته المشهورة عنه التي لا يختلف اثنان فيها، وأصحابه خاصة يصولون بها ويجعلونها من مفاخره، حيث يقول: " إن رسول الله صلى الله عليه
(4)
المفيد مع الزيدية
قال الشيخ أدام الله حراسته: كان يختلف إلي حدث من أولاد الأنصار يتعلم الكلام، فقال لي يوما: اجتمعت البارحة مع الطبراني شيخ من الزيدية، فقال لي: أنتم يا معشر الإمامية حنبلية وأنتم تستهزؤون بالحنبلية! فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: لأن الحنبلية تعتمد على المنامات وأنتم كذلك، والحنبلية تدعي المعجز لأكابرها وأنتم كذلك، والحنبلية ترى زيارة القبور والاعتكاف عندها وأنتم كذلك، فلم يكن عندي جواب أرتضيه، فما الجواب؟.
قال الشيخ أدام الله عزه: فقلت له: ارجع إليه وقل له: قد عرضت ما ألقيته علي على فلان، فقال: قل له: إن كانت الإمامية حنبلية بما وصفت أيها الشيخ فالمسلمون بأجمعهم حنبلية، والقرآن ناطق بصحة الحنبلية وصواب مذاهب أهلها.
وذلك أن الله عز وجل يقول: " إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص
____________
(1) البحار: ج 10 ص 436 - 439.
فقول الإمامية في هذا الباب ما نطق به القرآن، وقول هذا الشيخ هو قول الملأ من أصحاب الملك حين قالوا: " أضغاث أحلام ". ومع ذلك فإنا لسنا نثبت الأحكام الدينية من جهة المنامات، وإنما نثبت من تأويلها ما جاء به الأثر عن ورثة الأنبياء عليهم السلام.
فأما قولنا في المعجزات: فهو كقول الله تبارك وتعالى: " وأوحينا إلى أم
" فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " فكان نطق المسيح معجزا لمريم عليها السلام إذ كان شاهدا ببراءة ساحتها، وأم موسى ومريم لم تكونا نبيتين ولا مرسلتين، ولكنهما كانتا من عباد الله الصالحين، فعلى مذهب هذا الشيخ كتاب الله تعالى يصحح الحنبلية.
وأما زيارة القبور:
فقد أجمع المسلمون على زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله حتى أنه من حج ولم يزره فقد جفاه وثلم حجه بذلك الفعل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من سلم علي من عند قبري سمعته ومن سلم علي من بعيد بلغته عليه سلام الله ورحمته وبركاته. وقال صلى الله عليه وآله للحسن عليه السلام:
" من زارك بعد موتك أو زار أباك أو زار أخاك فله الجنة ". وقال له عليه السلام أيضا في حديث له أول مشروح في غير هذا الكتاب: " تزورك طائفة من أمتي يريدون به بري وصلتي، فإذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف، فأخذت بأعضادها فأنجيتها من أهواله وشدائده ".
ولا خلاف بين الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فرغ من حجة الوداع لاذ بقبر قد درس، فقعد عنده طويلا، ثم استعبر، فقيل له: يا رسول الله، ما هذا القبر؟ فقال: " هذا قبر أمي آمنة بنت وهب، سألت الله في زيارتها فأذن لي ". وقال صلى الله عليه وآله: " قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا
فإن كان ما تذهب إليه الإمامية من زيارة مشاهد الأئمة عليهم السلام حنبلية وسخفا من العقل فالاسلام مبني على الحنبلية، ورأس الحنبلية رسول الله صلى الله عليه وآله! وهذا قول متهافت جدا يدل على قلة دين قائله وضعف رأيه وبصيرته.
ثم قلت له: يجب أن تعلمه أن الذي حكيت عنه قد حرف القول وقبحه ولم يأت على وجه.
والذي نذهب إليه في الرؤيا:
أنها على أضرب، فضرب منها يبشر الله به عباده ويحذرهم، وضرب تحزين من الشيطان وكذب يخطره ببال النائم، وضرب من غلبة الطباع بعضها على بعض.
ولسنا نعتمد على المنامات كما حكى، لكنا نأنس بما يبشر به ونتخوف مما يحذر فيها، من وصل إليه شئ من علمها عن ورثة الأنبياء عليهم السلام ميز بين حق تأويلها وباطله، ومن لم يصل إليه شئ من ذلك كان على الرجاء والخوف.
وهذا يسقط ما لعله سيتعلق به في منامات الأنبياء عليهم السلام من أنها وحي، لأن تلك مقطوع بصحتها، وهذه مشكوك فيها. مع أن منها أشياء قد اتفق ذو والعادات على معرفة تأويلها حتى لم يختلفوا فيه ووجدوه حسنا.
وهذا الشيخ لم يقصد بكلامه الإمامية، لكنه قصد الأمة ونصر البراهمة والملحدة. مع أني أعجب من هذه الحكاية عنه، وأنا أعرفه يميل إلى مذهب أبي هاشم ويعظمه ويختاره، وأبو هاشم يقول في كتابه " المسألة في الإمامة ": إن أبا
(5)
المفيد مع شيخ المعتزلة
ثم قال رضي الله عنه: ومن حكايات الشيخ أيده الله قال: حضرت مجمعا لقوم من الرؤساء، وكان فيهم شيخ من أهل الري معتزلي، يعظمونه لمحل سلفه وتعلقه بالدولة، فسئلت عن شئ من الفقه، فأفتيت فيه على المأثور عن الأئمة عليهم السلام.
فقال ذلك الشيخ: هذه الفتيا تخالف الإجماع: فقلت له: عافاك الله، من تعني بالإجماع؟ فقال: الفقهاء المعروفين بالفتيا في الحلال والحرام من فقهاء الأمصار. فقلت: هذا أيضا مجمل من القول، فهل تدخل آل محمد عليهم السلام في جملة هؤلاء الفقهاء، أم تخرجهم من الإجماع؟ فقال: بل أجعلهم في صدر الفقهاء، ولو صح عنهم ما تروونه لما خالفناه.
فقلت له: هذا مذهب لا أعرفه لك ولا لمن أومأت إليه ممن جعلتهم الفقهاء، لأن القوم بأجمعهم يرون الخلاف على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو سيد أهل البيت في كثير مما قد صح عنه من الأحكام،
____________
(1) البحار: ج 10 ص 439 - 443.
فقال: معاذ الله! ما نذهب إلى هذا ولا يذهب إليه أحد من الفقهاء، وهذه شناعة منك على القوم بحضرة هؤلاء الرؤساء.
فقلت له: لم أحك إلا ما أقيم عليه البرهان، ولا ذكرت إلا معروفا لا يمكن أحدا من أهل العلم دفعي عنه لما هو عليه من الاشتهار، لكنك أنت تريد أن تتجمل بضد مذهبك على هؤلاء الرؤساء. ثم أقبلت على القوم، فقلت:
لا خلاف عند شيوخ هذا الرجل وأئمته وفقهائه وسادته أن أمير المؤمنين عليه السلام قد يجوز عليه الخطأ في شئ يصيب فيه عمرو بن العاص زيادة على ما حكيت عنه من المقال! فاستعظم القوم ذلك وأظهروا البراءة من معتقده، وأنكره هو وزاد في الإنكار. فقلت له: أليس من مذهبك ومذهب هؤلاء الفقهاء أن عليا عليه السلام لم يكن معصوما كعصمة النبي صلى الله عليه وآله؟ قال: بلى. قلت: فلم لا يجوز عليه الخطأ في شئ من الأحكام؟ فسكت.
ثم قلت له: أليس عندكم أن أمير المؤمنين عليه السلام قد كان يجتهد رأيه في كثير من الأحكام، وأن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة كانوا من أهل الاجتهاد؟ قال: بلى. قلت له: فما الذي يمنع من إصابة هؤلاء القوم ما يذهب على أمير المؤمنين عليه السلام من جهة الاجتهاد مع ارتفاع العصمة عنه وكون هؤلاء القوم من أهل الاجتهاد؟ فقال: ليس يمنع من ذلك مانع. قلت له: فقد أقررت بما أنكرت الآن، ومع هذا فليس من أصلك أن كل أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله يؤخذ من قوله ويترك إلا ما انعقد عليه الإجماع. قال: بلى. قلت له: أفليس هذا يسوغكم الخلاف على أمير المؤمنين عليه السلام في كثير من أحكامه التي لم يقع عليه الإجماع؟.
وبعد، فليست لي حاجة إلى هذا التعسف، ولا أنا مفتفر فيما حكيت إلى هذا
وإني لأعجب من إنكارك ما ذكرت، وصاحبك الشافعي يخالف أمير المؤمنين عليه السلام في الميراث والمكاتب ويذهب إلى قول زيد فيهما!
ويروي عنه أنه كان لا يرى الوضوء من مس الذكر، ويقول هو: إن الوضوء منه واجب وإن عليا عليه السلام خالف الحكم فيه بضرب من الرأي! وحكى الربيع عنه في كتابه المشهور: أنه لا بأس بصلاة الجمعة والعيدين خلف كل أمين وغير مأمون ومتغلب، صلى علي بالناس وعثمان محصور، فجعل الدلالة على جواز الصلاة خلف المتغلب على أمر الأمة صلاة الناس خلف علي في زمن حصر عثمان، فصرح بأن عليا كان متغلبا، ولا خلاف أن المتغلب على أمر الأمة فاسق ضال. وقال: لا بأس بالصلاة خلف الخوارج، لأنهم متأولون وإن كانوا فاسقين.
فمن يكون هذا مذهبه ومقالة إمامه وفقيهه يزعم معه أنه لو صح له عن أمير المؤمنين شئ أو عن ذريته لدان به! لولا أن الذاهب إلى هذا يريد التلبيس.
وليس في فقهاء الأمصار - سوى الشافعي - إلا وقد شارك الشافعي في الطعن على أمير المؤمنين - عليه السلام - وتزييف كثير من قوله والرد عليه في أحكامه، حتى أنهم يصرحون بأن الذي يذكره أمير المؤمنين - عليه السلام - في الأحكام معتبر، فإن أسنده إلى النبي - صلى الله عليه وآله - قبلوه منه على الظاهر العدالة، كما يقبلون من أبي موسى الأشعري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة ما يسندونه إلى النبي صلى الله عليه وآله بل كما يقبلون من حمال في السوق على ظاهر العدالة ما يرويه مسندا إلى النبي - صلى الله عليه وآله - فأما ما قال أمير المؤمنين - عليه السلام - من غير إسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - كان موقوفا على سيرهم ونظرهم
وهذا ما لا يذهب إليه من وجد في صدره جزء من مودته - عليه السلام - وحقه الواجب له وتعظيمه الذي فرضه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله: بل لا يذهب إلى هذا القول إلا من رد على رسول الله - صلى الله عليه وآله - قوله:
" علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار " وقوله صلى الله عليه وآله ": أنا مدينة العلم وعلي بابها " وقوله صلى الله عليه وآله: " علي أقضاكم " وقول أمير المؤمنين عليه السلام: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وآله - يده على صدري وقال: " اللهم اهد قلبه وثبت لسانه " فما شككت في قضاء بين اثنين.
فلما ورد عليه هذا الكلام تحير، وقال: هذه شناعات على الفقهاء والقوم، لهم حجج على ما حكيت عنهم.
فقال له بعض الحاضرين: نحن نبرأ إلى الله من هذا المقال وكل دائن به.
وقال له آخر: إن كان مع القوم حجج على ما حكاه الشيخ فهي حجج على إبطال ما ادعيت أولا من ضد هذه الحكاية، ونحن نعيذك بالله أن تذهب إلى هذا القول! فإن كل شئ تظنه حجة عليه فهو كالحجة في إبطال نبوة النبي - صلى الله عليه وآله -. فسكت مستحييا مما جرى، وتفرق الجمع (1).
(6)
المفيد مع بعض المعتزلة
قال الشيخ أدام الله عزه: قال لي يوما بعض المعتزلة: لو كان ما تدعونه من هذا الفقه الذي تصيفونه إلى جعفر بن محمد وأبيه وابنه - عليهم السلام - حقا وأنتم
____________
(1) البحار: ج 10 ص 443 - 445.
وإن هذا لشئ عجيب!
قال الشيخ أدام الله عزه: فقلت له: إن الجواب عن هذا السؤال قريب جدا، غير أني أقلبه عليك، فلا يمكنك الانفصال منه إلا بإخراج من ذكرت من جملة أهل العلم ونفي المعرفة عنهم وإسقاط مقال من زعمت أنهم كانوا من أصحاب الفتيا، والعلم الضروري حاصل لكل من سمع الأخبار بضد ذلك وخلافه، وأنهم - عليهم السلام - كانوا من أجلة أهل الفتيا.
وذلك: أننا وإن كنا كاذبين على قولك فلا بد لهؤلاء القوم - عليهم السلام - من مقال في الفتيا يتضمن بعض ما حكيناه عنهم، فما بالنا معشر الشيعة، بل ما بالكم - معشر الناصبة - لا تعلمون مذاهبهم على الحقيقة بالضرورة، كما تعلمون مذاهب أهل الحجاز والعراق ومن ذكرت من فقهاء الأمصار؟ فإن زعمت أنك تعلم لهم في الفتيا مذهبا بخلاف ما نحكيه عنهم علم اضطرار - مع تديننا بكذبك في ذلك - لم نجد فرقا بيننا وبينك إذا ادعينا أننا نعلم صحة ما نحكيه عنهم بالاضطرار، وإنك وأصحابك تعلمون ذلك، ولكنكم تكابرون العيان، وهذا ما لا فصل فيه.
فقلت له: فإن هذا بعينه موجود في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي ومن عددت، لأن هؤلاء تخيروا من أقوال الصحابة والتابعين، فكان يجب أن لا نعلم مذاهبهم باضطرار، على أنك إن قنعت بهذا الاعتلال، فأنا نعتمد عليه في جوابك، فنقول: إننا إنما تعرفنا على علم الاضطرار بمذاهبهم عليهم السلام، لأن الفقهاء تقسموا مذاهبهم المنصوصة عندنا، فدانوا بها على سبيل الاختيار، لأن قولهم متفرق في مقال الفقهاء، فلذلك لم يقع العلم به باضطرار.
فقال: فهب أن الأمر كما وصفت، ما بالنا لا نعلم ما رويتم عنهم من خلاف جميع الفقهاء علم اضطرار؟.
فقلت له: ليس شئ مما تومئ إليه إلا وقد قاله صحابي أو تابعي وإن اتفق من ذكرت من فقهاء الأمصار على خلافه الآن، فلما قدمنا مما رضيته من الاعتلال لم يحصل علم الاضطرار. مع أنك تقول لا محالة: بأن قولهم عليهم السلام في هذه الأبواب بخلاف ما عليه غيرهم فيها، وهو ما أجمع عليه عندك فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين بإحسان، فما بالنا لا نعلم ذلك من مقالهم علم اضطرار؟ وليس هو مما تحدثته مذاهب الفقهاء ولا اختلف فيه عندك من أهل الإسلام أحد، فبأي شئ تعلقت في ذلك تعلقنا به في إسقاط سؤالك، والله الموفق للصواب.
فلم يأت بشئ تجب حكايته، والحمد لله.
قال السيد رضي الله عنه مؤلف الفصول المختارة، وقلت للشيخ عقيب هذه الحكاية لي: إن حمل هؤلاء القوم أنفسهم على أن يقولوا: إن جعفر بن محمد وأباه محمد بن علي وابنه موسى بن جعفر عليهم السلام لم يكونوا من أهل الفتيا
قال: يقال لهم: هب أنا سامحناكم في هذه المكابرة وجوزناها لكم، أليس من قولكم وقول كل مسلم وذمي وعدو لعلي بن أبي طالب عليه السلام وولي له: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان من أهل الفتيا؟ فلا بد من أن يقولوا: بلى فيقال لهم: فما بالنا لا نعلم جميع مذاهبه في الفتيا كما نعلم جميع مذاهب من عددتموه من فقهاء الأمصار بل من الصحابة كزيد وابن مسعود وعمر بن الخطاب؟.
إن قالوا إنكم تعلمون ذلك باضطرار، قلنا لهم: وذلك هو ما تحكونه أنتم عنه أو ما نحكيه نحن مما يوافق حكايتنا عن ذريته عليهم السلام. فإن قالوا: هو ما نحكيه دونكم، قلنا لهم: ونحن على أصلكم في إنكار ذلك مكابرون. وإن قالوا: نعم، قلنا لهم: بل العلم حاصل لكم بما نحكيه عنه خاصة وأنتم في إنكار ذلك مكابرون، وهذا ما لا فصل فيه.
وهو أيضا يسقط اعتلالهم في عدم العلم الضروري بمذاهب الذرية لما ذكروه من تقسيم الفقهاء لها، لأن أمير المؤمنين عليه السلام قد سبق الفقهاء الذين أشاروا إليهم، وكان مذهب علي عليه السلام متفردا. فإن اعتلوا بأنه كان منقسما في قول الصحابة فهم أنفسهم ينكرون ذلك، لروايتهم عنه الخلاف، مع أنه يجب أن لا يعرف مذهب عمرو ابن مسعود، لأنهما كانا منقسمين في مذاهب الصحابة. وهذا فاسد من القول بين الاضمحلال.
قال الشيخ أدام الله عزه: وهذا كلام صحيح، ويؤيده علمنا بمذاهب المختارين من المعتزلة والزيدية والخوارج، مع انبثاثها في أقوال الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.
وقال الشيخ أدام الله حراسته: وقد ذكرت الجواب عما تقدم من السؤال في هذا الباب في كتابي المعروف ب " تقرير الأحكام " ووجوده هناك يغني عن
(7)
المفيد مع علي بن نصر
ثم قال السيد رحمه الله: قال الشيخ أدام الله تأييده: سألني أبو الحسن علي ابن نصر الشاهد - بعكبرا في مسجده وأنا متوجه إلى سر من رأى - فقال: أليس قد ثبت عندنا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أعلم الصحابة كلها وأعرفها بمعالم الدين، وكانوا يستفتونه ويتعلمون منه لفقرهم إليه، وكان غنيا عنهم لا يرجع إلى أحد منهم في علم ولا يستفيد عليه السلام منهم؟ فقلت: نعم هذا قولنا، وهو الواضح الذي لا خفاء به ولا يمكن عاقلا دفعه ولا يقدم أحد على إنكاره، إلا أن يرتكب البهت والمكابرة.
فقال أبو الحسن: فإن بعض أهل الخلاف قد احتج علي في دفع هذا بأن قال: وردت الرواية عن علي عليه السلام أنه قال: " ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته عليه، ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر " فلو كان يعلم عليه السلام جميع الدين ولا يفتقر إلى غيره لما أحتاج إلى استحلاف من يحدثه، ولا الاستظهار في يمينه ليصح عنده علم ما أخبر به. وقد روى أيضا أنه صلوات الله عليه حكم في شئ، فقال له شاب من القوم: أخطأت يا أمير المؤمنين! فقال عليه السلام: صدقت أنت وأخطأت. فماذا يكون الجواب عن هذا الكلام؟
وكيف الطريق إلى حله؟.
فقلت: أول ما في هذا الكلام: أن الأخبار لا تتقابل ويحكم ببعضها على بعض حتى تتساوى في الصفة، فيكون الظاهر المستفيض مقابلا لمثله في الاستفاضة، والمتواتر مقابلا لمثله في التواتر، والشاذ مقابلا لمثله في الشذوذ،
____________
(البحار: ج 10 ص 443 - 448.
والثاني: أنه لما ذكره الخصم من الحديث الأول عن أمير المؤمنين عليه السلام غير وجه، يلائم ما ذكرناه من فضل مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه في العلم على سائر الأنام.
منها: أنه صلوات الله عليه إنما كان يستحلف على الأخبار لئلا يجترئ مجترئ على الإضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بسماع ما لم يسمعه منه، وإنما ألقي إليه عنه فحصل عنده بالبلاغ.
ومنها: أنه عليه السلام كان يستحلف مع العلم بصدق المخبر ليتأكد خبره عند غيره من السامعين، فلا يشك فيه ولا يرتاب ومنها: أنه عليه السلام كان استحلف فيما عرفه يقينا ليكون ذلك حجة له إذا حكم على أهل العناد، ولا يقول منهم قائل عند حكمه بذلك: قد حكم بالشاذ.
ومنها: أن يكون استحلافه صلوات الله عليه للمخبر بما لا يتضمن حكما في الدين ويتضمن أدبا وموعظة ولفظة حكمة أو مدحة لإنسان أو مذمته، فلا يجب إذا علم ذلك من غيره أن يكون فقيرا في علم الدين إليه وناقصا في العلم عن رتبته.
على أن لفظ الحديث " ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته " فهذا يوجب بالضرورة أنه كان يستحلف على ما يعلم، لأنه محال أن يكون كل من حدثه بما لا يعلم، فإذا ثبت أنه قد استحلف على علم لأحد ما ذكرناه أو لغيره من العلل
وأما الحديث الثاني: فظهور بطلانه أوضح من أن يخفى، وذلك: أنه قال فيه:
إن شابا قال له: ليس الحكم فيه ذلك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام على ما زعم الخصم: أصبت أنت وأخطأت، وهذا واضح السقوط على ما بيناه، لأنه لا يخلو، مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، أن يكون حكم بالخطأ مع علمه بأنه خطأ، أو يكون حكم بالخطأ وهو يظن أنه صواب، فإن كان حكم بالخطأ على أنه خطأ عاند في دين الله وضل بإقدامه على تغيير حكم الله، وهو صلوات الله عليه يجل عن هذه الرتبة، ولا يعتقد مثل هذا فيه الخوارج فضلا عمن دونهم في عداوته من الناصبة، وإن كان حكم بالخطأ وهو يظن أنه صواب، فكيف زال ظنه عن ذلك فانتقل عنه بقول رجل واحد لا يعضده برهان؟ فهذا ما لا يتوهم على أحد من أهل الأديان.
على أنه لو كان لهذا الحديث أصل أو كان معروفا عند أحد من أهل الآثار لكان الرجل مشهورا معروفا بالعين والنسب مشهور القبيلة والمكان، ولكان أيضا الحكم الذي جرى فيه هذا الأمر مشهورا عند الفقهاء ومدونا عند أصحاب الأخبار. وفي عدم معرفة الرجل وتعين الحكم وعدمه من الأصول دليل على بطلانه، كما بيناه.
على أن الأمة قد اتفقت عنه صلوات الله عليه أنه قال " ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله بيده على صدري وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه، فما شككت في قضاء بين اثنين " وهذا مضاد لوقوع الخطأ منه في الأحكام، ومانع لدخول الشك عليه في شئ منها والارتياب.
وأجمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " علي مع الحق والحق مع علي، يدور حيثما دار " وليس يجوز أن يكون من هذا وصفه يخطئ في الدين أو يشك في الأحكام.
فدل ذلك على بطلان ما اعترض به الخصم، وكشف عن وهيه على البيان.
وبالله التوفيق وإياه لنستهدي إلى سبيل الرشاد (1).
(8)
المفيد مع رجل من الزيدية
قال السيد المرتضى رضي الله عنه: وحضر الشيخ أبو عبد الله أدام الله عزه بمسجد الكوفة فاجتمع إليه من أهلها وغيرهم أكثر من خمسمائة إنسان فابتدر له رجل من الزيدية أراد الفتنة والشناعة، فقال: بأي شئ استجزت إنكار إمامة زيد بن علي؟ فقال له الشيخ: إنك قد ظننت علي ظنا باطلا، وقولي في زيد لا يخالفني عليه أحد من الزيدية، فلا يجب أن يتصور مذهبي في ذلك بالخلاف.
فقال له الرجل: وما مذهبك في إمامة زيد بن علي؟ فقال له الشيخ: أنا أثبت من إمامة زيد رحمه الله ما تثبته الزيدية، وأنفي عنه من ذلك ما تنفيه!
فأقول: إن زيدا رحمة الله عليه كان إماما في العلم والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنفي عنه الإمامة الموجبة لصاحبها العصمة والنص والمعجز.
وهذا ما لا يخالفني عليه أحد من الزيدية حيثما قدمت.
فلم يتمالك جميع من حضر من الزيدية أن شكروه ودعوا له، وبطلت حيلة الرجل فيما أراد من التشنيع والفتنة (2).
____________
(1) البحار: ج 10 ص 448 - 451.
(2) البحار: ج 10 ص 451.
(9)
المفيد مع أبي علي ابن شاذان
قال السيوطي في " تنوير الحوالك " في شرح موطأ مالك في البحث عن أن الأنبياء عليهم السلام يورثون أم لا؟ ناقلا عن الباجي: وقالت الإمامية: إن جميع الأنبياء يورثون، وتعلقوا في ذلك بأنواع من التخليط لا شبهة فيها، مع ورود هذا النص، يعني حديث " لا نورث ما تركناه صدقة "، قال - أي الباجي -: وقد أخبرني القاضي أبو جعفر السماني أن أبا علي ابن شاذان - وكان من أهل العلم بهذا الشأن إلا أنه لم يكن قرأ عربية - فناظر يوما في هذه المسألة أبا عبد الله بن المعلم - وكان إمام الإمامية وكان مع ذلك من أهل العلم بالعربية - فاستدل ابن شاذان على أن الأنبياء لا يورثون بحديث " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " فقال له ابن المعلم: أما ما ذكرت من هذا الحديث فإنما هو " صدقة " نصب على الحال، فيقتضي ذلك: أن ما تركه النبي صلى الله عليه وآله على وجه الصدقة لا يورث عنه، ونحن لا نمنع هذا، وإنما نمنع ذلك فيما تركه على غير هذا الوجه.
واعتمد هذه النكتة العربية، لما علم أن ابن شاذان لا يعرف هذا الشأن ولا يفرق بين الحال وغيره، فلما عاد الكلم إلى ابن شاذان قال له: ما ادعيت من قوله صلى الله عليه وسلم: " لا نورث ما تركناه صدقة " إنما هو صدقة منصور على الحال، وأنت لا تمنع هذا الحكم فيما تركه الأنبياء على هذا الوجه (1).
____________