فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك! لا يسمعن هذا الكلام الناس، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة.
قال المقداد: إن من دعى إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة، ولكن من أقحم الناس في الباطل وآثر الهوى على الحق، فذلك صاحب الفتنة والفرقة.
قال: فتربد وجه عبد الرحمن، ثم قال: لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي ولك شأن.
قال المقداد: إياي تهدد يا بن أم عبد الرحمن؟ ثم قام عن عبد الرحمن وانصرف.
قال جندب بن عبد الله: فأتبعته وقلت له: يا عبد الله، أنا من أعوانك، فقال: رحمك الله، إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة (1).
(22)
أبو الأسود وعمران مع عائشة
بعد ورود عائشة وطلحة والزبير البصرة، أرسل عثمان بن حنيف إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم وما الذي أقدمهم، فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى، وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة فنالاها ووعظاها وذكراها وناشداها الله، فقالت لهما: القيا طلحة والزبير.
فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلماه فقال لهما: إنا جئنا للطلب بدم عثمان، وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم.
فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة
____________
(1) ابن أبي الحديد في النهج: ج 9 ص 56 - 57 وج 8 ط الكمپاني ص 330، وسيأتي ص 525.
(23)
أبو أيوب مع معاوية
كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري - صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وكان سيدا معظما من سادات الأنصار، وكان من شيعة علي عليه السلام - كتابا. " لا تنسى الشيباء - شيباء خ ل - أبا عذرتها وقاتل بكرها " فلم يدر أبو أيوب ما هو؟ فأتى به عليا، وقال: يا أمير المؤمنين! إن معاوية - ابن آكلة الأكباد وكهف المنافقين - كتب إلي بكتاب لا أدري ما هو؟
فقال له علي: وأين الكتاب؟ فدفعه إليه فقرأه وقال: نعم، هذا مثل ضربه لك، يقول: " ما أنسى الذي لا تنسى الشيباء، لا تنسى أبا عذرتها " والشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها، لا تنسى بعلها الذي افترعها أبدا، ولا تنسى قاتل بكرها وهو أول ولدها، كذلك لا أنسى أنا قتل عثمان.
[ وروى عمر بن شمر: أن معاوية ] كتب في أسفل كتاب أبي أيوب.
____________
(1) ابن أبي الحديد في النهج: ج 9 ص 313.
فلما قرأ الكتاب على علي عليه السلام قال: لشد ما شحذكم معاوية يا معشر الأنصار! أجيبوا الرجل. فقال أبو أيوب: يا أمير المؤمنين ما أشاء أن أقول شيئا من الشعر يعبأ به الرجال إلا قلته، قال: فأنت إذا أنت.
فكتب أبو أيوب إلى معاوية: [ أما بعد، فإنك كتبت إلي ] لا تنسى الشيباء - وقال في هذا الحديث: الشيباء: الشمطاء - ثكل ولدها ولا أبا عذرتها (لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها خ ل) فضربتها مثلا بقتل عثمان، وما نحن وقتل عثمان؟ إن الذي تربص بعثمان وثبط يزيد بن أسد وأهل الشام في نصرته لأنت، وإن الذي قتلوه لغير الأنصار.
وكتب في آخر كتابه:
(24)
جعدة بن هبيرة مع عتبة بن أبي سفيان
قال عتبة بن أبي سفيان في يوم من أيام صفين: إني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة، فقال معاوية: بخ بخ! قومه بنو مخزوم، وأمه أم هاني بنت أبي طالب، كفؤ كريم...
بعث معاوية إلى عتبة، فقال: ما أنت صانع في جعدة؟ قال: ألقاه اليوم وأقاتله غدا. وكان لجعدة في قريش شرف عظيم، وكان له لسان، وكان من أحب الناس إلى علي عليه السلام فغدا عليه عتبة فنادى: أبا جعدة أبا جعدة!
فاستأذن عليا عليه السلام في الخروج إليه، فأذن له. واجتمع الناس، فقال عتبة: يا جعدة إنه والله ما أخرجك علينا إلا حب خالك وعمك (ابن أبي سلمة) عامل البحرين، وإنا والله! ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لولا أمره في عثمان، ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به، فاعف لنا عنها، فوالله!
ما بالشام رجل به طرق إلا وهو أجد من معاوية في القتال، وليس بالعراق رجل له مثل جد علي في الحرب، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم، وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب.
فقال جعدة: أما حبي لخالي: فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك! وأما ابن أبي سلمة: فلم يصب أعظم من قدره، والجهاد أحب إلي من العمل. وأما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان. وأما رضاكم اليوم بالشام
____________
(1) وقعة صفين لنصر: ص 367 - 369 وابن أبي الحديد في النهج: ج 8 ص 360 ط الكمپاني.
وأما قولك: نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي، فوالله ما نسأله إن سكت ولا نرد عليه إن قال. وأما قتل العرب: فإن الله كتب [ القتل و ] القتال، فمن قتله الحق فإلى الله.
فغضب عتبة وفحش على جعدة، فلم يجبه وأعرض عنه. وانصرفا جميعا مغضبين (1).
(25)
يحيى مع الحجاج
كنز الفوائد للكراجكي: قال الشعبي: كنت بواسط وكان يوم أضحى، فحضرت صلاة العيد مع الحجاج، فخطب خطبة بليغة، فلما انصرف جاءني رسوله، فأتيته، فوجدته جالسا مستوفزا. قال: يا شعبي، هذا يوم أضحى، وقد أردت أن أضحي فيه برجل من أهل العراق! وأحببت أن تستمع قوله، فتعلم أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به.
فقلت: أيها الأمير، أو ترى أن تستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وتضحي بما أمر أن يضحى به وتفعل مثل فعله، وتدع ما أردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره؟
فقال: يا شعبي، إنك إذا سمعت ما يقول صوبت رأيي فيه، لكذبه على الله وعلى رسوله وإدخاله الشبهة في الإسلام.
____________
(1) وقعة صفين لنصر: ص 463 - 464. وابن أبي الحديد في النهج: ج 8 ص 98 - 99. وفتوح ابن أعثم: ج 3 ص 177 - 178.
فقال له الحجاج: أنت تزعم أنك زعيم العراق؟! قال يحيى: أنا فقيه من فقهاء العراق. قال: فمن أي فقهك زعمت أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله؟ قال: ما أنا زاعم ذلك، بل قائله بحق. قال: وبأي حق قلته؟ قال:
بكتاب الله عز وجل. فنظر إلي الحجاج وقال: اسمع ما يقول! فإن هذا مما لم أكن سمعته عنه، أتعرف أنت في كتاب الله عز وجل أن الحسن والحسين من ذرية محمد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فجعلت أفكر في ذلك، فلم أجد في القرآن شيئا يدل على ذلك. وفكر الحجاج مليا، ثم قال ليحيى: لعلك تريد قول الله تعالى: " فمن حاجك من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ". وأن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج للمباهلة ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين؟
قال الشعبي: فكأنما أهدى إلى قلبي سرورا، وقلت في نفسي: قد خلص يحيى. وكان الحجاج حافظا للقرآن، فقال له يحيى: والله إنها لحجة في ذلك بليغة، ولكن ليس منها أحتج لما قلت، فاصفر وجه الحجاج وأطرق مليا، ثم رفع رأسه إلى يحيى وقال له: إن أنت جئت من كتاب الله بغيرها في ذلك فلك عشرة آلاف درهم، وإن لم تأت بها فأنا في حل من دمك، قال: نعم.
قال الشعبي: فغمني قوله، وقلت: أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتج به يحيى ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه وتخلص منه حتى رد عليه وأفحمه؟
فإن جاءه بعد هذا بشئ لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل به حجته
فقال يحيى للحجاج: قول الله تعالى: " ومن ذريته داود وسليمان " من عنى بذلك؟ قال الحجاج: إبراهيم - عليه السلام، قال: فداود وسليمان من ذريته؟ قال: نعم. قال يحيى: ومن نص الله عليه بعد هذا أنه من ذريته؟ فقرأ الحجاج " وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين " قال يحيى:
ومن؟ قال: " وزكريا ويحيى وعيسى " قال يحيى: ومن أين كان عيسى من ذرية إبراهيم عليه السلام ولا أب له؟ قال: من أمه مريم عليها السلام قال يحيى:
فمن أقرب: مريم من إبراهيم أم فاطمة من محمد صلى الله عليه وآله، وعيسى من إبراهيم والحسن والحسين عليهما السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قال الشعبي: فكأنما ألقمه حجرا! فقال: اطلقوه قبحه الله، وادفعوا إليه عشرة آلاف درهم لا بارك الله له فيها!
ثم أقبل علي فقال: قد كان رأيك صوابا، ولكنا أبيناه. ودعا بجزور فنحره، وقام فدعا بطعام فأكل وأكلنا معه. وما تكلم بكلمة حتى انصرفنا، ولم يزل مما احتج به يحيى بن يعمر واجما (1).
(26)
يحيى مع الحجاج
وفي طبقات السيوطي: قال الحاكم: فقيه أديب نحوي أخذ النحو عن أبي الأسود: ولما بنى الحجاج واسط سأل الناس ما عيبها؟ فقال له يحيى: بنيتها من غير مالك وسيسكنها غير ولدك، فغضب الحجاج وقال: ما حملك على ذلك؟ قال: ما أخذ الله تعالى على العلماء في علمهم أن لا يكتموا الناس
____________
(1) البحار: ج 10 ص 147 الطبع الحديث. وقاموس الرجال: ج 9 والعقد الفريد: ج 2 ص 175 وج 5 ص 20. ويأتي عن المحاضرات للراغب.
فنفاه إلى خراسان، فولاه قتيبة بن مسلم قضاءها، فقضى في أكثر بلادها:
نيسابور، ومرو، وهراة، وآثاره ظاهرة. وفي الجهشياري: قال له الحجاج: هل ألحن؟ قال: تلحن لحنا خفيا تزيد حرفا أو تنقص حرفا، وتجعل " إن " في موضع " أن " قال: إن وجدتك بعد ثلاثة بالعراق قتلتك (1).
(27)
مؤمن الطاق مع أبي حنيفة
قال أبو حنيفة لأبي جعفر مؤمن الطاق: ما تقول في الطلاق الثلاث؟ قال:
أعلى خلاف الكتاب والسنة؟ قال: نعم، قال أبو جعفر: لا يجوز ذلك. قال أبو حنيفة: ولم لا يجوز ذلك؟ قال: لأن التزويج عقد بالطاعة فلا يحل بالمعصية، وإذا لم يجز التزويج بجهة المعصية لم يجز الطلاق بجهة المعصية، وفي إجازة ذلك طعن على الله عز وجل فيما أمر به وعلى رسوله فيما سن، لأنه إذا كان العمل بخلافهما فلا معنى لهما، وفي قولنا: من شذ عنهما رد إليهما وهو صاغر. قال أبو حنيفة: قد جوز العلماء ذلك، قال أبو جعفر: ليس العلماء الذين جوزوا للعبد العمل بالمعصية واستعمال سنة الشيطان في دين الله، ولا عالم أكبر من الكتاب والسنة. فلم تجوزون للعبد الجمع بين ما فرق الله من الطلاق الثلاث في وقت واحد، ولا تجوزون له الجمع بين ما فرق الله من الصلوات الخمس؟ وفي تجويز ذلك تعطيل الكتاب وهدم السنة، وقد قال الله عز وجل: " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ".
ما تقول يا أبا حنيفة في رجل قال: إنه طالق امرأته على سنة الشيطان، أيجوز له ذلك الطلاق؟ قال أبو حنيفة: فقد خالف السنة وبانت منه امرأته
____________
(1) قاموس الرجال: ج 9 ص 431.
قال أبو حنيفة: هذا عمر بن الخطاب، وهو من أفضل أئمة المسلمين، قال:
إن الله جل ثناؤه جعل لكم في الطلاق أناة فاستعجلتموه وأجزنا لكم ما استعجلتموه. قال أبو جعفر: إن عمر كان لا يعرف أحكام الدين. قال أبو حنيفة: وكذلك ذلك؟ قال أبو جعفر: ما أقول فيه ما تنكره.
أما أول ذلك: فإنه قال: " لا يصلي الجنب حتى يجد الماء ولو سنة " والأمة على خلاف ذلك.
وأتاه أبو كيف العائذي، فقال: يا أمير المؤمنين، إني غبت فقدمت وقد تزوجت امرأتي! فقال: " إن كان قد دخل بها فهو أحق بها، وإن لم يكن دخل بها فأنت أولى بها " وهذا حكم لا يعرف والأمة على خلافه.
وقضى في رجل غاب عن أهله أربع سنين أنها تتزوج إن شاءت. والأمة على خلاف ذلك، إنها لا تتزوج أبدا حتى تقوم البينة أنه مات أو طلقها.
وإنه قتل سبعة نفر من أهل اليمن برجل واحد، وقال: لولا ما عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. والأمة على خلافه.
وأتي بامرأة حبلى شهدوا عليها بالفاحشة فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: إن كان لك السبيل عليها فما سبيلك على ما في بطنها؟ فقال: " لولا علي لهلك عمر ".
وأتي بمجنونة قد زنت فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: أما علمت أن القلم قد رفع عنها حتى تصح؟ فقال: " لولا علي لهلك عمر ".
وإنه لم يدرك الكلالة فسأل النبي صلى الله عليه وآله عنها فأخبره بها فلم يفهم عنه، فسأل ابنته حفصة أن تسأل النبي عن الكلالة فسألته، فقال لها:
أبوك أمرك بهذا؟ قالت: نعم فقال لها: إن أباك لا يفهمها حتى يموت.
(28)
الفضال مع أبي حنيفة
كتاب الفصول للسيد رحمه الله: أخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا، قال:
مر الفضال بن الحسن بن فضال الكوفي بأبي حنيفة، وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه. فقال لصاحب كان معه: والله لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة! قال صاحبه: إن أبا حنيفة ممن قد علت حاله وظهرت حجته. قال:
مه! هل رأيت حجة كافر علت على مؤمن؟ ثم دنا منه، فسلم عليه فرد ورد القوم السلام بأجمعهم.
فقال: يا أبا حنيفة رحمك الله إن لي أخا يقول: إن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام وأنا أقول: إن أبا بكر خير الناس وبعده عمر، فما تقول أنت رحمك الله؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه، فقال: كفى بمكانهما من رسول الله صلى الله عليه وآله كرما وفخرا، أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره، فأي حجة أوضح لك من هذه؟.
فقال له فضال: إني قد قلت ذلك لأخي، فقال: والله لئن كان الموضع لرسول الله صلى الله عليه وآله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله صلى الله عليه وآله فقد أساءا وما أحسنا إذا رجعا في هبتهما ونكثا عهدهما. فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال له: لم يكن له ولا لهما خاصة، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما.
فقال له فضال: قد قلت له ذلك، فقال: أنت تعلم أن النبي صلى الله
____________
(1) البحار: ج 10 ص 230 - 231 الطبع الحديث.
وبعد، فما بال حفصة وعائشة ترثان رسول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة بنته تمنع الميراث؟ فقال أبو حنيفة: يا قوم نحوه عني فإنه والله رافضي خبيث! (1).
(29)
الفضل بن شاذان مع المخالفين
وقال رضي الله عنه: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه قال: سئل أبو محمد الفضل بن شاذان النيشابوري رحمه الله فقيل له: ما لدليل على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال: الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وآله ومن إجماع المسلمين.
فأما كتاب الله تبارك وتعالى: فقوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فدعانا سبحانه إلى طاعة أولي الأمر كما دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله، فاحتجنا إلى معرفة أولي الأمر كما وجبت علينا معرفة الله تعالى ومعرفة الرسول عليه وآله السلام، فنظرنا في أقاويل الأمة فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الأمر وأجمعوا في الآية على ما يوجب كونها في علي ابن أبي طالب عليه السلام فقال بعضهم: أولي الأمر هم أمراء السرايا، وقال بعضهم: هم العلماء، وقال بعضهم: هم القوام على الناس والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال بعضهم: هم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته عليهم السلام.
فسألنا الفرقة الأولى فقلنا لهم: أليس علي بن أبي طالب عليه السلام من أمراء السرايا؟ فقالوا: بلى. فقلنا للثانية: ألم يكن عليه السلام من العلماء؟
____________
(1) البحار: ج 10 ص 231 - 232 وج 44 ص 155 وج 47 ص 400.
وأما السنة: فإنا وجدنا النبي - صلى الله عليه وآله - استقضى عليا - عليه السلام - على اليمن، وأمره على الجيوش، وولاه الأموال وأمره بأداءها إلى بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد ظلما، واختاره لأداء رسالات الله سبحانه والابلاغ عنه في سورة براءة، واستخلفه عند غيبته على من خلف. ولم نجد النبي - صلى الله عليه وآله - سن هذه السنن في أحد غيره، ولا اجتمعت هذه السنن في أحد بعد النبي - صلى الله عليه وآله - كما اجتمعت في علي - عليه السلام - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله - بعد موته واجبة كوجوبها في حياته. وإنما تحتاج الأمة إلى الإمام بهذه الخصال التي ذكرناه، فإذا وجدنا في رجل قد سنها الرسول صلى الله عليه وآله فيه كان أولى بالإمامة ممن لم يسن النبي فيه شيئا من ذلك.
وأما الإجماع: فإن إمامته ثبتت من جهته من وجوه:
منها: أنهم قد أجمعوا جميعا أن عليا - عليه السلام - قد كان إماما ولو يوما واحدا، ولم يختلف في ذلك أصناف أهل الإمامة، ثم اختلفوا، فقالت طائفة:
كان إماما في وقت كذا وكذا، وقالت طائفة: بل كان إماما بعد النبي - صلى الله عليه وآله - في جميع أوقاته، ولم تجمع الأمة على غيره أنه كان إماما في الحقيقة طرفة عين، والإجماع أحق أن يتبع من الاختلاف.
ومنها: أنهم أجمعوا جميعا على أن عليا عليه السلام كان يصلح للإمامة وأن
ومنها: أنهم أجمعوا على أن عليا عليه السلام - كان بعد النبي - صلى الله عليه وآله ظاهر العدالة واجبة له الولاية، ثم اختلفوا، فقال قوم: كان مع ذلك معصوما من الكبائر والضلال، وقال آخرون: لم يك معصوما. ولكن كان عدلا برا تقيا على الظاهر لا يشوب ظاهره الشوائب، فحصل الإجماع على عدالته عليه السلام واختلفوا في نفي العصمة عنه عليه السلام ثم أجمعوا على أن أبا بكر لم يكن معصوما واختلفوا في عدالته، فقالت طائفة: كان عدلا، وقال آخرون: لم يكن عدلا، لأنه أخذ ما ليس له، فمن أجمعوا على عدالته واختلفوا في عصمته أولى بالإمامة وأحق ممن اختلفوا في عدالته وأجمعوا على نفي العصمة عنه (1).
(30)
الفضل بن شاذان مع المخالفين
سئل الفضل بن شاذان رحمه الله عما روته الناصبة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري " فقال: إنما روى هذا الحديث سويد بن غفلة، وقد أجمع أهل الآثار على أنه كان كثير الغلط. وبعد، فإن نفس الحديث متناقض، لأن الأمة مجمعة على أن عليا عليه السلام كان عدلا في قضيته، وليس من العدل أن يجلد حد المفتري من لم يفتر، لأن هذا جور على لسان الأمة كلها، وعلي بن أبي طالب عليه السلام عندنا برئ من ذلك.
قال الشيخ أدام الله عزه:
وأقول: إن هذا الحديث إن صح عن أمير المؤمنين
____________
(1) البحار: ج 10 ص 374 - 377.
مع أنه لو كان هذا الحديث صحيحا وتأويله على ما ظنه القوم يوجب أن يكون حد المفتري واجبا على الرسول صلى الله عليه وآله وحاشا له من ذلك!
لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد فضل أمير المؤمنين عليه السلام - على سائر الخلق، وآخى بينه وبين نفسه، وجعله بحكم الله في المباهلة نفسه، وسد أبواب القوم إلا بابه، ورد أكثر الصحابة عن إنكاحهم ابنته سيدة نساء العالمين عليها السلام وأنكحه، وقدمه في الولايات كلها ولم يؤخره، وأخبر أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأنه أحب الخلق إلى الله تعالى، وأنه مولى من كان مولاه من الأنام، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى بن عمران، وأنه أفضل من
وكان أيضا يجب أن يكن عليه السلام قد أوجب الحد على نفسه، إذ أبان فضله على سائر أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله حيث يقول: " أنا عبد الله وأخو رسول الله، لم يقلها أحد قبلي ولا يقولها أحد بعدي إلا مفتر كذاب، صليت قبلهم سبع سنين " وفي قوله لعثمان وقد قال له: " أبو بكر وعمر خير منك " فقال: " بل أنا خير منك ومنهما عبدت الله عز وجل قبلهما وعبدته بعدهما ".
وكان أيضا قد أوجب الحد على ابنه الحسن وجميع ذريته وأشياعه وأنصاره وأهل بيته، فإنه لا ريب في اعتقادهم فضله على سائر الصحابة، وقد قال الحسن عليه السلام صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام: " لقد قبض الليلة رجل، ما سبقه الأولون بعمل ولا أدركه الآخرون " وهذه المقالة متهافتة جدا.
وقال الشيخ أيده الله:
ولست أمنع العبارة بأن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل من أبي بكر وعمر على معنى تسليم فضلهما من طريق الجدل أو على معتقد الخصوم في أن لهما فضلا في الدين، وأما على تحقيق القول في المفاضلة فإنه غلط وباطل.
قال الشيخ:
وشاهد ما أطلقت من القول ونظيره قول أمير المؤمنين عليه السلام في أهل الكوفة: " اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم وسئموني، اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني " ولم يكن في أمير المؤمنين عليه السلام وإنما أخرج الكلام على اعتقادهم فيه، ومثله قول حسان بن ثابت وهو يعني رسول الله صلى الله عليه وآله:
ولم يكن في رسول الله صلى الله عليه وآله شر، وإنما أخرج الكلام على
(31)
داود مع ابن طاهر
دخل أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري على محمد بن طاهر بعد قتل يحيى بن عمر المقتول بشاهي، فقال له: أيها الأمير! إنا قد جئناك لنهنئك بأمر لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله حيا لعزيناه به (2).
(32)
عبد الله بن عباس مع يزيد
قال اليعقوبي: (3) أخذ ابن الزبير عبد الله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أن عبد الله بن عباس قد امتنع على ابن الزبير، فسره ذلك، وكتب إلى ابن عباس:
أما بعد، فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيرا وفي المآثم شريكا، وأنك امتنعت عليه واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا وطاعة لله فيما عرفك من حقنا، فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم! فإني أنس من الأشياء، فلست بناس برك وحسن جزائك وتعجيل صلتك بالذي أنت مني أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر - رحمك الله - فيمن قبلك من قومك ومن يطرأ عليك من الآفاق ممن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسك ببيعتي، فإنهم لك أطوع ومنك
____________
(1) البحار: ج 10 ص 377 - 379.
(2) البحار: ج 10 ص 391.
(3) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 247.
فكتب إليه عبد الله بن عباس:
من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية.
أما بعد، فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإن يك ذلك كما بلغك فلست حمدك أردت ولا ودك، ولكن الله بالذي أنوي عليهم. وزعمت أنك لست بناس ودي، فلعمري ما تؤتينا مما في يديك من حقنا إلا القليل، وإنك لتحبس عنا منه العريض الطويل! وسألتني أن أحث الناس عليك وأخذلهم عن ابن الزبير، فلا، ولا سرورا ولا حبورا! وأنت قتلت " الحسين بن علي " بفيك الكثكث ولك الأثلب، إنك إن تمنيك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنك لأنت المفند المهور، لا تحسبني لا أبا لك!
نسيت قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب مصابيح الدجى ونجوم الأعلام؟ غادرهم جنودك مصرعين في الصعيد مرملين بالتراب مسلوبين بالعراء لا مكفنين، تسفي عليهم الرياح وتعاورهم الذئاب وتنتابهم عرج الضباع، حتى أتاح الله لهم أقواما لم يشتركوا في دمائهم، فأجنوهم في أكفانهم.
وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد!
وما أنس من الأشياء فلست بناس تسليطك الدعي العاهر ابن العاهر البعيد رحما اللئيم أبا وأما الذي في ادعاء أبيك إياه ما اكتسب أبوك به إلا العار والخزي والمذلة في الآخرة والأولى وفي الممات والمحيا. إن نبي الله قال: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقي ولده الرشيد.
وقد أمات أبوك السنة جهلا وأحيا البدع والأحداث المضلة عمدا.
وما أنس من الأشياء، فلست بناس إطرادك " الحسين بن علي " من حرم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى حرم الله ودسك إليه الرجال تغتاله،
ثم إنك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال، وأمرته بمعاجلته وترك مطاولته والإلحاح عليه حتى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فنحن أولئك لسنا كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد الحمير.
ثم طلب الحسين بن علي إليه الموادعة وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره واستئصال أهل بيته فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر.
فلا شئ عندي أعجب من طلبك ودي ونصري وقد قتلت بني أبي وسيفك يقطر من دمي! وأنت آخذ ثاري، فإن يشأ الله لا يطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قتل النبيون وآل النبيين، وكان الله الموعد وكفى به للمظلومين ناصرا ومن الظالمين منتقما، فلا يعجبنك إن ظفرت بنا اليوم، فوالله لنظفرن بك يوما.
فأما ما ذكرت من وفائي وما زعمت من حقي: فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعت أباك وإني لأعلم أن بني عمي وجميع بني أبي أحق بهذا الأمر من
ألا ومن أعجب الأعاجيب وما عشت أراك الدهر العجيب حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغارا من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، تري الناس أنك قهرتنا وأنك تأمرت علينا!
ولعمري، لئن كانت تمشي وتصبح آمنا لجرح يدي إني لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستغربك الجذل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله صلى الله عليه وآله إلا قليلا حتى يأخذك أخذا أليما، فيخرجك الله من الدنيا ذميما أثيما. فعش لا أبا لك! فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت. والسلام على من أطاع الله (1).
(33)
بنو هاشم مع معاوية
حج معاوية سنة (44)... ولما صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم وكلموه في أمورهم، فقال: أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم؟ وقد قتلتم عثمان حتى تقولوا ما تقولون، فوالله لأنتم أجل دما من كذا وكذا وأعظم في القول.
فقال له ابن عباس: كلما قلت لنا يا معاوية من شر بين دفتيك، وأنت
____________
(1) مقتل الحسين للخوارزمي: ج 2 ص 77. وتذكرة السبط: ص 275 عن الواقدي وابن هشام وابن
إسحاق وقال في آخره: فلما قرأ يزيد كتابه أخذته العزة بالإثم وهم بقتل ابن عباس، فشغله عنه أمر ابن
الزبير، ثم أخذه الله بعد ذلك بيسير أخذا عزيزا. والبحار: ج 45 ص 323 - 324.