هذا والله أمير المؤمنين وإن تربدت فيه وجوه ورغمت فيه معاطس، أما والله!
لهو أمير المؤمنين، وأمس برسول الله رحما، وأقرب قرابة، وأقدم سبقا، وأكثر علما وأعلى منارا، وأكثر آثارا من أبيك ومن عمر.
فقالت: أبيت ذلك، فقال: أما والله! أن كان إباؤك فيه لقصير المدة عظيم التبعة ظاهر الشوم بين النكد، وما كان إباؤك فيه إلا حلب شاة، حتى صرت ما تأمرين ولا تنهين ولا ترفعين ولا تضعين، وما كان مثلك إلا كمثل ابن الخضرمي بن نجمان أخ بني أسد، حيث يقول:
قال: فأراقت دمعتها وأبدت عويلها وتبدا نشيجها، ثم قالت: أخرج والله عنكم، فما في الأرض بلد أبغض إلي من بلد تكونون فيه.
فقال ابن عباس رحمه الله: فلم؟ والله ماذا بلاءنا عندك ولا بصنيعنا إليك، إنا جعلناك للمؤمنين أما وأنت بنت أم رومان، وجعلنا أباك صديقا وهو ابن أبي قحافة [ حامل قصا الودك لابن جذعان إلى أضيافه ].
فقالت: يا ابن عباس تمنون علي برسول الله؟ فقال: ولم لا نمن عليك بمن لو كان منك قلامة منه مننتنا به، ونحن لحمه ودمه ومنه وإليه، وما أنت إلا حشية من تسع حشايا خلفهن بعده، لست بأبيضهن لونا ولا بأحسنهن وجها ولا بأرشحهن عرقا ولا بأنضرهن ورقا ولا بأطراهن أصلا، فصرت تأمرين فتطاعين وتدعين فتجابين، ما مثلك إلا كما قال أخو بني فهر:
قال: ثم نهضت وأتيت أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته بمقالتها وما رددت
قال الأحمدي: نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (2)، وابن الأعثم في الفتوح (3) وفيه زيادة لا بأس بنقله:
قال: ثم دعا علي رضي الله عنه بعبد الله بن عباس، فقال له: إذهب إلى عائشة فقل لها: أن ترتحل إلى المدينة كما جاءت ولا تقيم بالبصرة، فأقبل إلى عائشة فاستأذن عليها، فأبت أن تأذن له، فدخل عبد الله بغير إذن، ثم التفت فإذا راحلة عليها وسائد، فأخذ منها وسادة وطرحها، ثم جلس عليها.
فقالت عائشة: يا ابن عباس أخطأت السنة، دخلت منزلي بغير إذني!
فقال ابن عباس: لو كنت في منزلك الذي خلفك فيه رسول الله صلى الله عليه وآله لما دخلت عليك إلا بإذنك، وذلك المنزل الذي أمرك الله عز وجل أن تقري فيه، فخرجت منه عاصية لله عز وجل ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وبعد، فهذا أمير المؤمنين يأمرك بالارتحال إلى المدينة، فارتحلي ولا تعصي.
فقالت عائشة: رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطاب! فقال ابن عباس: وهذا والله أمير المؤمنين! وإن رغمت له الأنوف، وأربدت له الوجوه.
فقالت عائشة: أبيت ذلك عليكم يا بن عباس.
فقال ابن عباس: لقد كانت أيامك قصيرة المدة ظاهرة الشؤم بينة النكد، وما كنت في أيامك إلا كقدر حلب شاة، حتى صرت ما تأخذين وما تعطين
____________
(1) البحار: ج 8 ص 418 ط الكمباني عن كش ص 57 - 60، وقال: رواه ابن أبي الحديد والشيخ المفيد رحمه الله في الكافية بسندين: أحدهما من طريق العامة، والآخر من طريق الخاصة باختلاف يسير في بعض الألفاظ. وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 3. وبهج الصباغة: ج 6 ص 411.
(2) شرح نهج البلاغة: ج 6 ص 229.
(3) الفتوح لابن الأعثم: ج 2 ص 335
قال: فبكت عائشة بكاء شديدا ثم قالت: نعم والله أرحل عنكم، فما خلق الله بلدا هو أبغض إلي من بلد أنتم به يا بني هاشم! فقال ابن عباس: ولم ذلك؟
فوالله ما هذا بلاؤنا عندك يا بنت أبي بكر! فقالت عائشة: وما بلاؤكم عندي يا ابن عباس؟ فقال: بلاؤنا عندك أننا جعلناك أم المؤمنين وأنت بنت أم رومان، وجعلنا أباك صديقا وهو ابن أبي قحافة، وبنا سميت أم المؤمنين لا بتيم وعدي.
فقالت عائشة: يا ابن عباس أتمنون علي برسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقال: ولم لا نمن عليك برسول الله صلى الله عليه وآله ولو كانت فيك شعرة منه أو ظفر لمننت علينا وعلى جميع العالمين بذلك. وبعد، فإنما كنت إحدى تسع حشايا من حشاياه، لست بأحسنهن وجها، ولا بأكرمهن حسبا ولا بأرشحهن عرقا، وأنت الآن تريدين أن تقولي ولا تعصين وتأمري ولا تخالفين! ونحن لحم الرسول صلى الله عليه وآله ودمه، وفينا ميراثه وعلمه.
فقالت عائشة: يا ابن عباس ما با ذلك عليك علي بن أبي طالب؟ فقال ابن عباس: إيها! والله أقر له وهو أحق به مني وأولى، لأنه أخوه وابن عمه وزوج [ الطاهرة ] ابنته وأبو سبطيه ومدينة علمه وكشاف الكرب عن وجهه، وأما أنت فلا والله ما شكرت نعماءنا عليك وعلى أبيك من قبلك.
ثم خرج وسار إلى علي، فأخبره بما جرى بينه وبين عائشة من الكلام، الحديث.
وقد ذكر المؤرخون هنا كلاما جرى بينها وبين أمير المؤمنين عليه السلام تركناه مراعاة لشرط الكتاب، فمن أراد الاطلاع فليراجع المصادر المتقدمة.
(321)
ابن عباس ورجل
عن الأعمش، عن عباية الأسدي، قال: كان عبد الله بن العباس جالسا على شفير زمزم يحدث الناس، فلما فرغ من حديثه أتاه رجل فسلم عليه، ثم قال: يا عبد الله بن عباس إني رجل من أهل الشام. فقال: أعوان كل ظالم إلا من عصم الله منكم، سل عما بدا لك. فقال: يا عبد الله إني جئتك أسألك عمن قتله علي بن أبي طالب من أهل لا إله إلا الله لم يكفروا بصلاة ولا بحج ولا بصوم شهر رمضان ولا بزكاة، فقال له عبد الله: ثكلتك أمك! سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك.
فقال: ما جئتك أضرب إليك من حمص للحج ولا للعمرة، ولكني أتيتك لتشرح لي أمر علي بن أبي طالب عليه السلام وفعاله.
فقال له: ويلك! إن علم العالم صعب لا تحتمله ولا تقربه القلوب الصدئة، أخبرك أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان مثله في هذه الأمة كمثل موسى والعالم عليهما السلام، وذلك إن الله تبارك وتعالى قال في كتابه:
" يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " وكان موسى يرى أن جميع الأشياء قد أثبتت له، كما ترون أن علماءكم قد أثبتوا جميع الأشياء، فلما انتهى موسى إلى ساحل البحر، فلقي العالم فاستنطق بموسى ليضل (1) علمه، ولم يحسده كما حسدتم أنتم علي بن أبي طالب وأنكرتم
____________
(1) في العلل: " ليصل "
" إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " فقال له موسى: " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " فعلم العالم أن موسى لا يصبر على علمه فقال: " فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا " قال: فركبا في السفينة، فخرقها العالم، فكان خرقها لله عز وجل رضى وسخطا لموسى. ولقي الغلام فقتله، فكان قتله لله عز وجل رضى، وسخط ذلك موسى. وأقام الجدار، فكان إقامته لله عز وجل رضى، وسخط موسى ذلك.
كذلك كان علي بن أبي طالب عليه السلام لم يقتل إلا من كان قتله لله عز وجل رضى، ولأهل الجهالة من الناس سخطا.
اجلس حتى أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وآله تزوج زينب بنت جحش فأولم، فكانت وليمته الحيس، وكان يدعو عشرة (1)، فكانوا إذا أصابوا طعام رسول الله صلى الله عليه وآله استأنسوا إلى حديثه واستغنموا النظر إلى وجهه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يشتهي أن يخفوا عنه (2) فيخلو له المنزل، لأنه حديث عهد بعرس، وكان يكره أذى المؤمنين، فأنزل الله عز وجل فيه قرآنا أباد (3) للمؤمنين، وذلك قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي يستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق " فلما نزلت هذه الآية كان
____________
(1) في العلل: " عشرة عشرة ".
(2) في العلل: " يخففوا ".
(3) في العلل: " أدبا "
قال: فلبث رسول الله صلى الله عليه وآله سبعة أيام ولياليهن عند زينب بنت جحش، ثم تحول إلى بيت أم سلمة بنت أبي أمية، وكان ليلتها وصبيحة يومها من رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: فلما تعالى النهار انتهى علي عليه السلام إلى الباب فدقه دقا خفيفا له، عرف رسول الله صلى الله عليه وآله دقه وأنكرته أم سلمة، فقال: يا أم سلمة قومي فافتحي له الباب، فقالت: يا رسول الله من هذا الذي يبلغ من خطره أن أقوم له فافتح له الباب وقد نزل فينا بالأمس ما قد نزل من قول الله عز وجل " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب "؟ فمن هذا الذي بلغ من خطره أن أستقبله بمحاسني ومعاصمي؟.
قال: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله كهيئة المغضب: " من يطع الرسول فقد أطاع الله " قومي فافتحي له الباب! فإن بالباب رجلا ليس بالخرق ولا بالنزق ولا بالعجول في أمره، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وليس بفاتح الباب حتى يتوارى عنه الوطأ.
فقامت أم سلمة وهي لا تدري من بالباب، غير أنها قد حفظت النعت والمدح، فمشت نحو الباب وهي تقول: بخ بخ لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله! ففتحت له الباب. قال: فأمسك بعضادتي الباب ولم يزل قائما حتى خفي عنه الوطأ ودخلت أم سلمة خدرها، ففتح الباب ودخل، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أم سلمة أتعرفينه؟ قالت: نعم وهنيئا له! هذا علي بن أبي طالب، فقال:
صدقت يا أم سلمة، هذا علي بن أبي طالب لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.
يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد
فقال الشامي: فرجت عني يا عبد الله، وأشهد أن علي بن أبي طالب مولاي ومولى كل مسلم (1).
(322)
عمار وعبيد الله بن عمر
قال نصر: ثم نادى عمار عبيد الله بن عمر - وذلك قبل مقتله - فقال:
يا ابن عمر صرعك الله! بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإسلام. قال كلا! ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم.
قال: كلا! أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشئ من فعلك وجه الله، وأنك إن لم تقتل اليوم فستموت غدا، فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك؟.
ثم قال عمار: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت، اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى يخرج من ظهري لفعلت، اللهم وإني أعلم مما أعلمتني أني لا أعمل اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته (2).
____________
(1) البحار: ج 8 ص 431، ط الكمباني عن علل الشرايع: ص 64.
(2) وقعة صفين لنصر: ص 320. والبحار: ج 8 ص 457 عنه ط الكمباني. وقاموس الرجال: ج 6 ص 225
(323)
عمار مع رجل
عن أسماء بن الحكم الفزاري، قال: كنا بصفين مع علي بن أبي طالب تحت راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى استظللنا ببرد أحمر، إذ أقبل رجل يستقر الصف حتى انتهى إلينا، فقال: أيكم عمار بن ياسر؟ فقال عمار بن ياسر:
هذا عمار، قال: أبو اليقظان؟ قال: نعم.
قال: إن لي حاجة إليك، فأنطق بها علانية أو سرا؟ قال: اختر لنفسك أي ذلك شئت. قال: لا بل علانية، قال: فانطق، قال: إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحق الذي نحن عليه، لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل، فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى كان ليلتي هذه صباح يومنا هذا، فتقدم منادينا، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونادى بالصلاة، فنادى مناديهم بمثل ذلك، ثم أقيمت الصلاة، فصلينا صلاة واحدة، ودعونا دعوة واحدة، وتلونا كتابا واحدا، ورسولنا واحد، فأدركني الشك في ليلتي هذه، فبت بليلة لا يعلمها إلا الله! حتى أصبحت. فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له، فقال: هل لقيت عمار بن ياسر؟ قلت: لا، قال: فالقه فانظر ما يقول لك فاتبعه فجئتك لذلك.
قال له عمار: هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة (لمقابلتي خ ل المقابلتي خ ل) فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث مرات، وهذه الرابعة ما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرهن وأفجرهن، أشهدت بدرا واحدا وحنينا أو شهدها لك أب فيخبرك عنها؟ قال: لا. قال: فإن مراكزنا على مراكز رايات رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وإن هؤلاء على مراكز رايات
قال: فانصرف الرجل. ثم دعاه عمار بن ياسر، فقال: أما أنهم سيضربوننا بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم، فيقولون: لو لم يكونوا على حق ما ظهروا علينا، والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا مسعفات هجر لعرفت أنا على حق وهم على باطل، وأيم الله لا يكون سلما سالما أبدا حتى يبوء أحد الفريقين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين، وحتى يشهدوا على الفريق الآخر بأنهم على الحق وأن قتلاهم في الجنة وموتاهم، ولا ينصرم أيام الدنيا حتى يشهدوا بأن موتاهم وقتلاهم في الجنة، وأن موتى أعدائهم وقتلاهم في النار وكان أحياؤهم على الباطل (1).
(324)
عمار مع ذي الكلاع
... فقال أبو نوح: فكنت في الخيل يوم صفين في خيل علي عليه السلام وهو واقف بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أفناء قحطان، وإذا أنا برجل من أهل الشام يقول: من دل على الحميري أبي نوح؟ فقلنا: هذا الحميري فأيهم تريد؟ قال: أريد الكلاعي أبا نوح.
____________
(1) وقعة صفين: ص 321. والبحار: ج 8 ص 457 ط الكمباني عنه. وسيأتي برواية أخرى عن ابن أبي الحديد ص 213
فقال ذو الكلاع: إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه عمرو بن العاص [ قديما ] في إمارة عمر بن الخطاب. قال أبو نوح: وما هو؟ قال ذو الكلاع:
حدثنا عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " يلتقي أهل الشام وأهل العراق، وفي إحدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر " قال أبو نوح: لعمر الله إنه لفينا! قال: أجاد هو في قتالنا؟ قال أبو نوح: نعم ورب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني! ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته، وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي! قال ذو الكلاع: ويلك! علام تتمنى ذلك منا؟ والله ما قطعتك فيما بيني وبينك، وإن رحمك لقريبة وما يسرني أن أقتلك. قال أبو نوح: إن الله قطع بالإسلام أرحاما قريبة ووصل به أرحاما متباعدة، وإني لقاتلك أنت وأصحابك! ونحن على الحق وأنتم على الباطل مقيمون مع أئمة الكفر ورؤوس الأحزاب.
فقال له ذو الكلاع: [ فهل تستطيع أن تأتي معي في صف أهل الشام ف ] أنا جار لك من ذلك ألا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعة ولا تحبس عن جندك، وإنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص، لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين ويضع الحرب والسلاح.
فقال أبو نوح: إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك. فقال ذو الكلاع: أنا لك بما قلت زعيم. فقال أبو نوح: اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع، وأنت تعلم ما في نفسي، فاعصمني واختر لي وانصرني وادفع عني
قال أبو نوح: علي سيماء محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه، وعليك سيماء أبي جهل وسيماء فرعون.
فقام أبو الأعور فسل سيفه، ثم قال: لا أرى هذا الكذاب اللئيم يشاتمنا بين أظهرنا وعليه سيماء أبي تراب! فقال ذو الكلاع: أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأخطمن أنفك بالسيف! ابن عمي وجاري عقدت له بذمتي وجئت به إليكما ليخبركما عما تماريتم فيه.
قال له عمرو بن العاص: أذكرك بالله يا أبا نوح إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا أفيكم عمار بن ياسر؟ فقال له أبو نوح: ما أنا بمخبرك عنه حتى تخبرني لم تسألني عنه؟ فإنا معنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله عدة غيره وكلهم جاد في قتالكم! فقال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " إن عمارا تقتله الفئة الباغية وإنه ليس ينبغي لعمار أن يفارق الحق و أن تأكل النار منه شيئا " فقال أبو نوح: لا إله إلا الله والله أكبر! والله إنه لفينا جاد على قتالكم. فقال عمرو: والله إنه لجاد على قتالنا؟ قال: نعم والله الذي لا إله إلا هو [ و ] لقد حدثني يوم الجمل إنا سنظهر عليهم، ولقد حدثني أمس أن لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق وأنهم على باطل، و [ ل ] - كانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال له عمرو: فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه؟ قال: نعم.
فلما أراد أن يبلغه أصحابه ركب عمرو بن العاص وابناه وعتبة بن أبي
فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعدا مع أصحاب له منهم ابنا بديل وهاشم والأشتر وجارية بن المثنى وخالد بن المعمر وعبد الله بن حجل وعبد الله ابن العباس.
وقال أبو نوح: إنه دعاني ذو الكلاع - وهو ذو رحم - فقال: أخبرني عن عمار ابن ياسر أفيكم هو؟ قلت: لم تسأل؟ قال: أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر ابن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " يلتقي أهل الشام وأهل العراق، وعمار في أهل الحق تقتله الفئة الباغية " فقلت: إن عمارا فينا، فسألني أجاد هو في قتالنا؟ فقلت: نعم والله أجد مني، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحتكم وبدأت بك يا ذا الكلاع! فضحك عمار وقال: هل يسرك ذلك؟ قال: قلت: نعم!.
قال أبو نوح: أخبرني [ الساعة ] عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " عمار تقتله الفئة الباغية " قال عمار: أقررته بذلك؟
قال: نعم أقررته فأقر، فقال عمار: صدق وليضرنه ما سمع ولا ينفعه!.
ثم قال أبو نوح لعمار - ونحن اثنا عشر رجلا -: فإنه يريد أن يلقاك. فقال عمار لأصحابه: اركبوا، فركبوا وساروا، ثم بعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمى عوف بن بشر، فذهب حتى كان قريبا من القوم، ثم نادى: أين عمرو ابن العاص؟ قالوا: هاهنا، فأخبره بمكان عمار وخيله. قال عمرو: قل له فليسر إلينا. قال عوف: إنه يخاف غدراتك، فقال له عمرو: ما أجرأك علي وأنت على هذه الحال! فقال له عوف: جرأني عليك بصيرتي فيك وفي أصحابك، فإن شئت نابذتك [ الآن ] على سواء، وإن شئت التقيت أنت وخصماؤك، وأنت
ما أنا بالمستوحش فابعث بأشقى أصحابك! قال عمرو: فأيكم يسر إليه؟ فسار إليه أبو الأعور.
فلما تواقفا تعارفا، فقال عوف لأبي الأعور: إني لأعرف الجسد وأنكر القلب، إني لا أراك مؤمنا وإنك لمن أهل النار. فقال أبو الأعور: لقد أعطيت لسانا يكبك الله به على وجهك في نار جهنم. فقال عوف: كلا! والله إني أتكلم بالحق، وتتكلم أنت بالباطل، وإني أدعوك إلى الهدى وأقاتل أهل الضلالة وأفر من النار، وأنت بنعمة الله ضال تنطق بالكذب وتقاتل على ضلالة وتشتري العقاب بالمغفرة والضلالة بالهدى، انظروا إلى وجوهنا ووجوهكم وسيمانا وسيماكم واسمعوا إلى دعوتنا ودعوتكم فليس أحد منا إلا [ و ] هو أولى بمحمد صلى الله عليه وآله وأقرب إليه قرابة منكم. قال له أبو الأعور: [ لقد ] أكثرت الكلام وذهب النهار، ويحك! ادع أصحابك وأدعو أصحابي فأنا جار لك حتى تأتي موقفك أنت فيه الساعة، فإني لست أبدأ بغدر ولا أجترئ على غدر حتى تأتي أنت وأصحابك وحتى تقفوا، فإذا علمت كم هم جئت من أصحابي بعددهم، فإن شاء أصحابك فليقلوا، وإن شاؤا فليكثروا.
فسار أبو الأعور في مائة فارس حتى إذا كان حيث كنا بالمرة الأولى وقفوا، وسار في عشرة بعمرو. وسار عمار في اثني عشر فارسا حتى إذا اختلفت أعناق الخيل، خيل عمرو وخيل عمار. ورجع عوف بن بشر في خيله وفيها الأشعث بن قيس، ونزل عمار والذين معه فاحتبوا بحمائل سيوفهم. فتشهد عمرو بن العاص.
فقال له عمار بن ياسر: اسكت (بعد هذا الكلام ليس عند ابن عقبة إلى
قال عمرو: يا أبا اليقظان ليس لهذا جئت إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم، أذكرك الله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم وحرضت على ذلك، فعلام تقاتلنا؟ أو لسنا نعبد إلها واحدا ونصلي [ إلى ] قبلتكم وندعو دعوتكم ونقرأ كتابكم ونؤمن برسولكم؟.
قال عمار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك، إنها لي ولأصحابي: القبلة و الدين وعبادة الرحمن والنبي صلى الله عليه وآله والكتاب من دونك ودون أصحابك، الحمد لله الذي قررك لنا بذلك دونك ودون أصحابك، وجعلك ضالا مضلا لا تعلم هاد أنت أم ضال، وجعلك أعمى، وسأخبرك فعلام قاتلتك عليه أنت وأصحابك:
أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن أقاتل الناكثين وقد فعلت، وأمرني أن أقاتل القاسطين فأنتم هم، وأما المارقون فما أدري أدركهم أم لا، أيها الأبتر!
ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والي من والاه وعاد من عاداه " وأنا مولى الله و رسوله وعلي بعده وليس لك مولى.
قال له عمرو: لم تشتمني يا أبا اليقظان و لست أشتمك؟.
قال عمار: وبم تشتمني؟ أتستطيع أن تقول: إني عصيت الله و رسوله يوما قط؟.
____________
(1) يأتي موضع العلامة بعد ذلك ص 54
فقال عمار: إن الكريم من أكرمه الله، كنت وضيعا فرفعني الله، ومملوكا فأعتقني الله، وضعيفا فقواني الله، وفقيرا فأغناني الله.
وقال له عمرو: فما ترى في قتل عثمان؟ قال: فتح لكم باب سوء. قال عمرو: فعلي قتله؟ قال عمار: بل الله رب علي قتله و علي معه. قال عمرو:
أكنت فيمن قتله (من هنا عند ابن عقبة) قال: كنت مع من قتله، وأنا اليوم أقاتل معهم.
قال عمرو: فلم قتلتموه؟ قال عمار: أراد أن يغير ديننا فقتلناه. فقال عمرو: ألا تسمعون؟ قد اعترف بقتل عثمان. قال عمار: وقد قالها فرعون قبلك لقومه: " ألا تستمعون " فقام أهل الشام ولهم زجل، فركبوا خيولهم فرجعوا [ وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا ] فبلغ معاوية ما كان بينهم فقال: هلكت العرب! أن أخذتهم خفة العبد الأسود، يعني عمار بن ياسر (1).
(325)
محمد بن أبي حذيفة مع معاوية
حدثني رجل من أهل الشام، قال: كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع علي بن أبي طالب عليه السلام ومن أنصاره وأشياعه - وكان ابن خال معاوية وكان رجلا من خيار المسلمين - فلما توفي علي عليه السلام أخذه معاوية وأراد قتله، فحبسه في السجن دهرا.
ثم قال معاوية ذات يوم: ألا نرسل إلى هذا السفيه محمد بن أبي حذيفة؟
فنبكته ونخبره بضلاله، ونأمره أن يقوم فيسب عليا قالوا: نعم
____________
(1) وقعت صفين لنصر: ص 333 - 339. والبحار: ج 8 ص 488 - 489 ط الكمباني. وشرح النهج لابن أبي الحديد: ج 9 ص 16. وبهج الصباغة: ج 6 ص 5. وسيأتي عن فتوح ابن أعثم، في ص 160
فقال له معاوية: ألم يأن لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك علي بن أبي طالب الكذاب؟ ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوما؟ وأن عائشة وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه، وأن عليا هو الذي دس في قتله ونحن اليوم نطلب بدمه.
قال محمد بن أبي حذيفة: إنك لتعلم أني أمس القوم بك رحما وأعرفهم بك. قال: أجل. قال: فوالله الذي لا إله غيره ما أعلم أحدا شرك في دم عثمان وألب الناس عليه غيرك! لما استعملك ومن كان مثلك، فسأله المهاجرون و الأنصار أن يعزلك، فأبى، ففعلوا به ما بلغك، ووالله ما أحد اشترك في دمه بدءا وأخيرا إلا طلحة والزبير وعائشة، فهم الذين شهدوا عليه بالعظيمة وألبوا عليه الناس، وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار جميعا. قال: قد كان ذلك.
قال: فوالله إني لأشهد أنك منذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد، ما زاد فيك الإسلام قليلا ولا كثيرا، وإن علامة ذلك فيك لبينة، تلومني على حب علي عليه السلام خرج مع علي عليه السلام كل صوام قوام مهاجري وأنصاري، وخرج معك أبناء المنافقين والطلقاء والعتقاء، خدعتهم عن دينهم وخدعوك عن دنياك، والله ما خفي عليك ما صنعت، وما خفي عليهم ما صنعوا، إذ أحلوا أنفسهم لسخط الله في طاعتك، والله لا أزال أحب عليا لله ولرسوله، وأبغضك في الله ورسوله أبدا ما بقيت.
قال معاوية: وإني أراك بعد على ضلالك، ردوه! فمات في السجن (1).
____________
(1) قاموس الرجال: ج 7 ص 500. والبحار: ج 8 ص 530 ط الكمباني، كلاهما عن الكشي:
ص 70 - 72
(326)
صعصعة مع معاوية
عن عاصم بن أبي النجود، عمن شهد ذلك: أن معاوية حين قدم الكوفة دخل عليه رجال من أصحاب علي عليه السلام وكان الحسن عليه السلام قد أخذ الأمان لرجال منهم مسمين بأسمائهم وأسماء آبائهم، وكان منهم صعصعة.
فلما دخل عليه صعصعة قال معاوية لصعصعة: أما والله! إني كنت لأبغض أن تدخل في أماني. قال: وأنا والله أبغض أن أسميك بهذا الاسم، ثم سلم عليه بالخلافة.
قال: فقال معاوية: إن كنت صادقا فاصعد المنبر فالعن عليا.
قال: فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس؟ أتيتكم من عند رجل قدم شره وأخر خيره، وإنه أمرني أن ألعن عليا! فالعنوه لعنه الله! فضج أهل المسجد بآمين.
فلما رجع إليه فأخبره بما قال. قال: لا والله ما عنيت غيري، ارجع حتى تسميه باسمه. فرجع وصعد المنبر ثم قال: أيها الناس! إن أمير المؤمنين أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب! فالعنوا من لعن علي بن أبي طالب! قال:
فضجوا بآمين.
قال: فلما خبر معاوية، قال: لا والله ما عني غيري، أخرجوه لا يساكنني في بلد، فأخرجوه (1).
____________
(1) البحار: ج 8 ص 531 ط الكمباني عن الكشف. وقاموس الرجال: ج 5 ص 120. والكشي: ص 69. والصراط المستقيم: ج 3 ص 72 عنه
(327)
شيخ مع معاوية
قال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: كنت أنا ومعاوية بن أبي سفيان بالشام، فبينا نحن ذات يوم إذ نظرنا إلى شيخ وهو مقبل من صدر البرية من ناحية العراق. فقال معاوية: عرجوا بنا إلى هذا الشيخ لنسأله من أين أقبل وإلى أين يريد؟ وكان مع معاوية أبو الأعور السلمي وولدا معاوية خالد ويزيد وعمرو بن العاص.
قال: فعرجنا إليه. فقال له معاوية: من أين أقبلت يا شيخ وإلى أين تريد؟ فلم يجبه الشيخ. فقال عمرو بن العاص: لم لا تجب أمير المؤمنين؟
فقال الشيخ: إن الله جعل التحية غير هذه. فقال معاوية: صدقت يا شيخ وأخطأنا وأحسنت وأسأنا، السلام عليك يا شيخ فقال: وعليك السلام. فقال معاوية: ما اسمك يا شيخ؟ فقال: اسمي جبل.
وكان ذلك الشيخ طاعنا في السن، بيده شئ من الحديد ووسطه مشدود بشريط من ليف المقل، وفي رجليه نعلان من ليف المقل وعليه كساء قد سقط لحامه وبقي سداته، وقد بانت شراسيف حذبه، وقد غطت حواجبه على عينيه.
فقال معاوية: يا شيخ من أين أقبلت وإلى أين تريد؟ قال الشيخ: أتيت من العراق أريد بيت المقدس. قال معاوية: كيف تركت العراق؟ قال:
على الخير والبركة والنفاق. قال: لعلك أتيت من الكوفة من الغري. قال الشيخ: وما الغري؟ قال معاوية: الذي فيه أبو تراب. قال الشيخ: من تعني بذلك ومن أبو تراب؟ قال: ابن أبي طالب. قال له الشيخ: أرغم الله أنفك، ورض الله فاك، ولعن الله أمك وأباك، ولم لا تقول: الإمام العادل،
فعندها قال معاوية: يا شيخ! إني أرى لحمك ودمك قد خالط لحم علي بن أبي طالب عليه السلام ودمه حتى لو مات ما أنت فاعل؟.
قال: لا أتهم في فقده ربي واجلل في بعده حزبي، واعلم أن الله لا يميت سيدي وإمامي حتى يجعل من ولده حجة قائمة إلى يوم القيامة.
فقال: يا شيخ! هل تركت من بعدك أمرا تفتخر به؟ قال: تركت الفرس الأشقر والحجر والمدر والمنهاج لمن أراد المعراج.
قال عمرو بن العاص: لعله لا يعرفك يا أمير المؤمنين! فسأله معاوية فقال له: يا شيخ أتعرفني؟ قال الشيخ: ومن أنت؟ قال: أنا معاوية بن أبي سفيان، أنا الشجرة الزكية والفروع العلية سيد بني أمية.
فقال له الشيخ: بل أنت اللعين على لسان نبيه وفي كتابه المبين، إن الله قال: " والشجرة الملعونة في القرآن " والشجرة الخبيثة والعروق المجتثة الخسيسة الذي ظلم نفسه وربه، وقال فيه نبيه: " الخلافة محرمة على أبي سفيان الزنيم بن الزنيم ابن آكلة الأكباد الفاشي ظلمه في العباد ".
فعندها اغتاظ معاوية وحنق عليه فرد يده إلى قائم سيفه وهم بقتل الشيخ، ثم قال: لولا أن العفو حسن لأخذت رأسك، ثم قال: أرأيت لو كنت فاعلا ذلك؟ قال الشيخ: إذا والله أفوز بالسعادة، وتفوز أنت بالشقاوة، وقد قتل من هو أشر منك من هو خير مني، وعثمان شر منك.
قال معاوية: يا شيخ هل كنت حاضرا يوم الدار؟ قال: وما يوم الدار؟
قال معاوية: يوم قتل علي عثمان. فقال الشيخ: تالله ما قتله، ولو فعل ذلك