فلما وقف على ذلك وتحقيق صحته قال: إني أشهد أني أتبرأ إليك من جملة هؤلاء الخلفاء من بني امية وبني العباس وادينك بالبراءة منهم واللعن لهم ولمن اتبعهم، فظهر عليه الغلب.
ثم إنا وجدنا في كتاب العاقبة حديثا يسنده الى علي عليه السلام، وهو أنه قال يوما وهو جالس في نفر من أصحابه: أنا أول من يجلس بين يدي ربي يوم القيامة للخومة مع الثلاثة. فلما رأيت هذا الحديث فيه مسندا الى علي عليه السلام قلت له: إن هذا الحديث حجة عليك، فقال: إن صاحب الكتاب قد حمله على غير الثلاثة الذين تدعونهم، لانه قال: المراد بالثلاثة عتبة وشيبة والوليد الذين برزوا إليه والى عبيدة وحمزة يوم بدر.
فقلت: هذا المحل (1) كذا بعيدة، لان الشكوى من هؤلاء الثلاثة ليست له وحده بل له ولحمزة ولعبيدة، فالشكوى من علي لهم يوم القيامة لا فائدة فيها، لانه قتلهم، بل ظاهر الحديث أنه يشتكي من الثلاثة الذين اغتصبوه الخلافة، وما نعرف له من ظلامة ثلاثة يشتكي منهم عند الله إلا من الثلاثة الذين أخذوا حقه واستأثروا بالامر من دونه، وذلك ظاهر لائح.
ثم إني قلت: ما تقول في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله لعلي عليه السلام: يا أبا الحسن، إن امة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار، وافترقت امة عيسى اثنين وسبعين
____________
(1) الظاهر أنه: المحمل.
فقلت: فمن هي الفرقة الناجية إذا لم تكن هي أهل البيت الذين شهد الله لهم بالتطهير من الرجس بمحكم الكتاب العزيز في قوله (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فإن هذه الاية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين باتفاق الكل لما ألحفهم النبي بكسائه وقال:
اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأمر الله نبيه بالاستغاثة بهم في الدعاء في قصة مباهلة نصارى نجران بنص القرآن فقال تعالى: 0 قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) الاية، ولما خرج النبي للمباهلة لم يخرج بأحد غير علي وفاطمة والحسن والحسين باتفاق الكل، فعلم أنهم المعنيون بالاية دون غيرهم، وقال صلى الله عليه وآله في حقهم: (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك) فأيما الاولى بالاقتداء والاتباع هؤلاء وأتباعهم السالكون آثارهم والمقتدون بأقوالهم وأفعالهم، أم الحائدون عنهم الضالون عن طريقهم المقتدون بمن لم ينص الله على طهارته ولا أمر بمودته ولا حض على إتباعه ولا أمر نبيه بالاستغاثة بدعائه؟ بل أقول: الاحق بالاتباع والاولى بالاقتداء مذهب الامامية ويدل على ذلك وجوه:
الاول: أنهم أخذوا مذهبهم عن الائمة الذين يعتقدون عصمتهم وفضلهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم، ووافقهم الخصم على ذلك، فاعترف بفضلهم وعدالتهم وعلمهم وزهدهم حتى أنهم صنفوا في فضائلهم وتعداد مناقبهم كتبا مثل كتاب طلحة، وكتاب غاية السؤول في مناقب آل الرسول لابن المغازلي، وكتاب محمد بن مؤمن الشيرازي المستخرج من التفاسير الاثني عشر، وكتاب موفق بن أحمد المكي، وغيرها من الكتب، وإذا كان
فأي الفريقين حينئذ أولى بالاتباع وأحق بالاقتداء، اولاء الذين اتفق الكل على مدح أئمتهم وتعظيمهم أو اولئك المطعون في أئمتهم المقدوح في عدالتهم من أتباعهم وغيرهم؟
ومع ذلك فإن ما نشاهده اليوم من تعظيم الناس لقبور هؤلاء الائمة، واجتماع الخاص والعام عليها وزيارتها تبركا بها بقصدها من جمى الامصار وكونها في غاية التعظيم في قلوب جميع الخلق دليل واضح على عظم شأنهم عند الله، وأنهم الائمة الذين أوجب الله حقهم على خلقه وجعلهم حجة عليهم.
والثاني: إن النبي صلى الله عليه وآله نص على وجوب اتباع أهل بيته وسلوك آثارهم والاقتداء بهم وحض الناس على ذلك في روايات كثيرة من الطرفين، ولا حاجة الى ايراد الروايات الواردة في ذلك من طرق الامامية لشهرتها عندهم، وأما ما ورد من طرق الجمهور فكثير نورد بعضا من جملة:
ففي الجمع بين الصحاح الستة عنه عليه السلام قال: (رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيثما دار).
وروى أحمد بن حنبل عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(يا علي خلقت أنا وأنت من شجرة وأنا أصلها وأنت فرعها والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخهله الله الجنة).
وروى فيه عن سعيد: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي الثلين: كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا
وفي صحيح مسلم في موضعين عن زيد بن أرقم قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله بين مكة والمدينة ثم قال بعد الوعظ: أيهغا الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيتي رسول ربي فاجيب وإني تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله والثاني أهل بيتي، اذكركم الله في أهل بيتي).
وروى جار الله العلامة الزمخشري بإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله (فاطمة مهجة قلبي وأبناها ثمرة فؤادي وبعلها نور بصري والائمة من ولدها امناء ربي، وجعل حبلا ممدودا بينه وبين خلقه، من اعتصم بهم نجا ومن تخلف عنهم هوى).
وروى الثعلبي في تفسيره بأسانيد متعددة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أيها الناس قد تركت فيكم الثقلين خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
وفي اجمع بين الصحيحين للحميدي: (إنما انا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فاجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: كتاب الله فيه الهدى والنور وأهل بيتي اذكركم في أهل بيتي).
في مسند أحمد بن حنبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله (النجوم أما لاهل السماء فإذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان لاهل الارض فإذا ذهب أهلب بيتي ذهب أهل الارض).
وكذلك في رواية موفق بن أحمد المكي.
وفي رواية صحيح البخاري في موضعين بظريقين عن جابر وابن عيينة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا يزال أمر الناس ماضيا ما ولاهم اثنا عشر خليفة من قريش).
وفي صحيح داود والجمع بين الصحيحين وتفسير السندي: قال: لما كرهت سارة مكان هاجر أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام فقال: انطلق بإسماعيل وامه حتى تنزله البيت التهامى يعني مكة، فإني ناشر ذريته وجاعلهم ثقلا على من كفر بي وجاعل منهم نبيا عظيما ومظهره على الاديان وجاعل من ذريته اثني عشر عظيما.
وعن مسروق قال: سأل شاب عبد الله بن مسعود فقال: كم عهد إليكم نبيكم أن يكون بعده خليفة؟ فقال: إنك لحديث السن وهذا شئ ما سألني عنه أحد، نعم عهد إلينا نبينا بانه يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل.
والروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الجمهور، ولو أردنا الاستقصاء لطال علينا الامر واتسع، وقد دلت هذه الاحاديث على الحث والامر بالاقتداء بأهل بيته ووجوب اتباعهم والتمسك بطريقتهم، وأنهم اثنا عشر خليفة من ذرية الرسول عليه السلام، ولا قائل بالحصر في الاثني عشر سوى الامامية فإنهم حصروهم في هؤلاء الائمة المشهورين بالفضل والعلم والزهد عند الكل من أهل الاسلام فوجب الاقتداء بهم والانحياز الى فريقهم، وظهر أن مذهب القائلين بإمامتهم واجب الاتباع.
الثالث: إن أحسن المقالات وخير الاعتقادات ما اشتمل عليه مذهب الامامية اصولا وفروعا، يعرف ذلك من اطلع على اصول المذاهب ونظر في فروع الاعتقادات، فإنه بعد النظر الخالي عن مخالطة الشبهة والتقليد يتحقق أن مذهب الامامية من بينهم أولى بالاتباع وأحق بالاقتداء، وقد صدق فيهم قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) فإن من اصولهم تنزيه الله
واعتقدوا في الانبياء: أنهم معصومون عن المعاصي الصغائر والكبائر والخطأ والنسيان من أول أعمارهم الى آخرها، وأئمتهم معصومون عن الخطأ والمعاصي وأنهم أعلم الخلق وأفضلهم وأشرفهم نسبا، وفي مذاهب السنة ما يخالف ذلك وينافيه فجوزوا التشبيه والجهة والحلول والاتحاد والتجسيم والرؤية البصرية والمعاني الزائدة، وقالوا: لافاعل في الوجود الا الله، وأن جميع المعاصي والقبائح والشرور كلها بخلق الله وإرادته، وأن العباد مجبورون، وأنه رضى بالكفر والمعاصي، وأنه كلف عباده فوق ما يطيقون، وأن الانبياء يجوز عليهم الكفر والمعاصي والنسيان ورووا فيما بينهم روايات تقضي بالدناءة والخسة، فررووا أنه صلى الله عليه وآله نسي فصلى الظهر ركعتين ولم يذكر حتى أذكره بعض أصحابه، وأنه دخل المحراب للصلاة جنبا، وأنه استمع الى اللعب بالدفوف، وغير ذلك من الاشياء القبيحة التي لا تليق بأدنى الرجال، وقالوا:
إن الخلفاء الذين تجب طاعتهم جائز عليهم الخطأ والمعاصي والكبائر، وأنهم غير عالمين بما تحتاج إليه الامة بل لهم الرجوع الى الامة، والاحتياج في الفتوى والاحكام إليهم، وأنهم لا يحتاجون أن يكونوا أفضل الخلق ولا أشرفهم نسبا ولا أعلامهم محلا في الاسلام.
وأما في الفروع: فإن الامامية لم يأخذوا بالقياس ولا بالرأي ولا بالاستحسان ولا اضطربوا في الفتاوي ولا اختلفوا في المسائل، ولا كفر بعضهم بعضا ولا حرم بعضهم الاقتداء بالاخر، لانهم أخذوا فتاويهم وأحكامهم عن ائمتهم الذين هم ذرية الرسول عليه السلام الذين يعتقدون عصمتهم، وأنه
كل فرقة تطعن الاخرى وتتبرأ منها ويكفر بعضهم بعضا ويحللون ويحرمون عمن هو جائز الخطأ والمعاصي والكبائر، وانقطعت عنهم مواد الاخذ عن النبي صلى الله عليه وآله لانهم رفضوا اتباع أهل البيت ووضعوا على مقتضى آرائهم وزادوا فيه ونقصوا وحرفوا وغيروا وبدلوا، فأحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله لانهم لم يأخذوا الحلال والحرام عمن لا يجوز كذبه وخطأه كالامامية، وكانت حينئذ حلالهم وحرامهم وفرائضهم وأحكامهم معرضة للخطأ والكذب، لانها ليست عن الله ولا عن رسوله.
يعرف ذلك من اطلع على أحوالهم ورواياتهم، فإنا نجد في فتاويهم الاشياء المنكرة التي تخالف العقول والمنقول، ومن له أدنى إنصاف واطلاع على أحوال المذاهب يعرف ذلك ويتحققه ومصنفات الفريقين تدل على صحة ذلك.
وإذا نظر العاقل المنصف في المقالتين ولمح المذهبين عرف موقع مذهب الامامية في الاسلام وأنهم أولى بالاتباع وأحق بالاقتداء، لانهم الفرقة الناجية بنص الرسول عليه السلام، فقد روى أبو بكر محمد بن مؤمن الشيرازي في كتابه المستخرج من التفاسير الاثني عشر في إتمام الحديث المتقدم بعده: قال علي: يارسول الله من الفرقة الناجية؟ فقال: المتمسكون بما أنت عليه وأصحابك. وفي الاحاديث المذكورة آنفا ما يدل على أن المتبعين لاهل البيت والمقدمين لهم والمقتدين بهم هم الفرقة الناجية، وحث الرسول على الاقتداء بهم
____________
(1) الظاهر أنها: والمتعمدين.
فكل من اقتدى بهم وسلك آثارهم فقد نجا، ومن تخلف عنهم وزاغ عن طريقهم فقد غوى، ويدل على الحديث المشهور المتفق على نقله: (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) وهو حديث نقله الفريقان وصححه القبيلان لا يمكن لطاعن أن يطعن عليه وأمثاله في الاحاديث كثيرة.
فقال: إن جميع ما ذكرته من هذه الوجوه الدالة على أن مذهب الامامية واجب الاتباع وأنهم الفرقة الناجية تكثير على السامع وتلبيس عليه بروايات الاحاد، وأيضا فإن أهل السنة يقولون في مذهبهم من المدائح مثل ما ذكرت وأكثر، ويذمون مذاهب غيرهم بأقبح المذمات، وقد قال الله تعالى: (وكل حزب بما لديهم فرحون).
وقال الشاعر:
وقيل في المثل السائر: كل ريق في فمه حلو. ولكن الذي ينبغي لذوي العقول وأهل العلم والانصاف (1) في المجادلة وقلة الاشتغال بالمدح والذم، فإنه باب واسع يطول فيه المجال ويكثر فيه القيل والقال والتعداد من الطرفين.
فقلت: أنت محق في ذلك وقد قلت الانصاف، ولكن ما تقول في هذه الاحاديث المروية في كتبكم التي تشتمل على حصر الخلفاء في اثني عشر وأنهم من قريش؟ أليست دالة على صحة مذهب الامامية لانهم لاغيرهم القائلون بتخصيصها بإمامة اثني عشر من قريش وهم من ذرية الرسول عليه
____________
(1) الظاهر أن الصحيح: (الانصاف) بحذف الواو.
فقال: هذه الاحاديث معارضة بأمثالها والذنب فيها على الرواة.
فقلت: إن الروايات إذا وردت من الطرفين وتضافرت عن رجال الفريقين وتساعد على إيرادها كل من الخصمين صارت متواترة عند الامة فيجب المصير إليها والترك لما ورد من الطرف الواحد، وهذه الاحاديث المعارضة لهذه الاخبار المروية من الطريقين لم يروها الكل ولم يتفق على نقلها الفريقان بل ردها الخصم وأنكرها، فكان حينئذ الاولى بالعمل في الترجيح والواجب على السامع العمل بما اتفق على نقله وطرح ما اختلف فيه مع المعارضة، لانه الاحتياط التام والاخذ بالاحزم من الرأي.
ثم قلت له: ومع هذا كله فهاهنا برهان واضح ودليل لائح موجود الان مشاهد للابصار وقد شاع في جميع الامصار.
فقال: وما هو؟
فقلت: هذا مشهد الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام تزوره الزوار من كل البلاد وله في كل سنة ميقات هو أول ليلة من شهر رجب يجتمع عنده عالم من الامامية وأهل السنة وغيرهم، ويأتي أهل السنة بعمى وصم ومقعدين ويصفونهم على ساحته تلك الليلة، فكل من خرج من اولئك العمى والصم والمقعدين من مذهب أهل السنة وتبرأ منه ورفضه بقلبه وخالص اعتقاده برئ من علته ورجع إلى أحسن حال، وهذا آخر المجالس، والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وعلى آله الاطهار ما اختلف الليل والنهار وسلم تسليما كثيرا.
(945)
الشيخ الكاظمي مع الالوسي
نقل السيد المحقق العلامة الحاج السيد مهدي الروحاني: أن في بغداد انعقدت
كان الماضون من العلماء يباحثون في مسائل دينية في المجالس فيستفيد منه الناس، فهل لك أن تناظرني في بعض المسائل الشرعية حتى يستفيد هؤلاء؟
قال الشيخ: باختياركم.
قال الآلوسي: فهل في الاصول أو الفروع؟
- باختياركم.
- فاذن نبحث في الأصول ولكن في أي أصل منها؟ فهل نجعلها مناظرة؟
- باختياركم.
- لم لا يقول الشيعة بإمامة الشيخين.
- للمدعي أن يأتي بدليل، فانا نسأل أهل السنة عن أن لم اختاروا إمامة الشيخين؟
- لأن النبي - صلى الله عليه وآله - نصبه للصلاة في أيام مرضه.
- أن المرء ليهجر.
سكت الآلوسي وبهت وتحير، وبان وجهه الأنكسار والعي وفهمه الحاضرون، وانكسر أهل السنة الموجودون في المجلس وسر وفرح الشيعة، فأراد الآلوسي أن يجبر الانكسار بشئ ينسيه فقال:
هلموا بالطعام، فجاءوا بالطعام الي وإليه، فأراد الآلوسي جبران ما فات بالمزاح، وأخذ يأكل من الطعام الموضوع أما الشيخ قائلا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أكل وحده فشريكه شيطان.
قال الشيخ: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله.
فانكسر الآلوسي أيضا وضحك الحاضرون.
قال الشيخ: لا، بل فحفر الشيخ تحته فتهدم.
نقل السيد الروحاني هذا في منزلي في محلة خاكفرج ليلة الجمعة في شهر ربيع الاول من 1406 هـ ق الموافق لاذر من 1364 هـ ش.
(946)
الصدوق مع ركن الدولة
لما بلغ صيت فضائل شيخنا الصدوق المبرور الى سمع السلطان ركن الدولة المذكور أرسل إليه - رحمه الله - يستدعي حضوره الشريف الى موكب السلطان، فلما حضر قرب مجلسه إليه وأدناه من نفسه وبالغ في إعمال مراسم التعظيم والتكريم بالنسبة إليه، فلما استقر المجلس المبارك التفت الملك الى شيخنا الصدوق - رحمه الله - وقال له:
يا شيخ إن فرقة أهل الفضل الحاضرين هنا والجالسين بحضرتنا لقد اختلفوا في شأن جماعة من الصحابة الكبار تلعنهم الشيعة الامامية ويظهرون منهم البراءة مثل الطوائف غير الاسلامية، فبعض هؤلاء الفضلاء يوافقونهم في ذلك، ويقولون بوجوب إظهار البراءة من اولئك، وبعضهم لا يجوزون ذلك فضلا أن يوجبوه ويراقبوه، فبين لنا أي الفريقين أحق بالاتباع؟ وأي المذهبين أقرب الى رأيك المطاع؟
فلما سمع شيخنا الصدوق كلام الملك بالتمام أخذ بزمام خير الكلام متوكلا على الملك العزيز العلام وقال متوجها الى حضرته السلطانية:
اعلم أيها الملك لازلت مؤيد بالعنايات السبحانية، أن الله سبحانه وتعالى
فلما التفت الملك إلى مضمون هذا الخطاب أخذ في تحسين ما لفقه (1) من الجواب، زائد على حد الحساب، ثم توجه بجميل نظره الى ذلك الجناب وقال:
اريد أن تزيد لنا في البيان وتبين لنا حقيقة أحوال المتصرفين في الخلافة والامامة على سبيل الظلم والعدوان.
فقال الصدوق - رحمه الله -: نعم أيها الامير إن حق القول في ذلك: أن إجماع الامة منعقد على قبول قصة سورة البراءة، وهي كافية في إثبات خروج المتغلب الاول عن دائرة الاسلام، وأنه ليس من الله ورسوله في شئ، وأن إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام منزلته (2) من جانب السماء قال: فأنبئني عن تفصيل هذه القصة رحمك الله.
فقال: الشيخ: إن نقلة الاثار من المخالف والمؤالف متفقون على انه لما نزلت سورة براءة دعا رسول الله صلى الله عليه وآله باابكر وقال له: خذ هذه السورة واخرج إلى جهة مكة واقرأها عني على أهل الموسم، فلما خرج وقطع
____________
(1) في المصدر (لقفه) والصحيح ما أثبتناه.
(2) كذا في المصدر والظاهر (منزلة).
فبموجب هذا الحديث لا يكون أبو بكر من النبي صلى الله عليه وآله في شئ، وإذا لم يكن منه فليس بتابع له، لان الله تعالى يقول: (فمن تبعني فإنه مني) ومتى لم يكن تابعا له فليس بمحب له فهو كما قال سبحانه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ولما لم يكن محبا ثبت أنه كان مبغضا، ومن المسلم عند الكل أن حب النبي صلى الله عليه وآله الايمان وبغضه الكفر، وبهذا ثبت أيضا أن عليا عليه السلام كان منه وبمنزلة نفسه كما يشهد به كثير من الروايات بل الايات:
مثل ما نقله المخالفون في تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه): أن المراد بصاحب البينة هو النبي صلى الله عليه وآله وبالشاهد التالي هو أمير المؤمنين. وما نقلوه أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: طاعة علي - عليه السلام - كطاعت ومعصيته كمعصيتي. وما رووه أيضا: أن جبرئيل الامين عليه السلام لما نظر في واقعة احد الى مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، وانه كيف يجاهد في سبيل ربه سبحانه وتعالى بتمام جهده وكده قال: يا محمد، إن هذا لهو غاية النصر وبذل المجهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم يا جبرئيل، إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما.
فانظر أيها الملك إذا كان الرجل لا يأمن الله تعالى عليه في تبليغ سورة من القرآن الى جماعة الى جماعة من المسلمين في خصوص الزمان والمكان، فكيف يصلح
وأيضا كيف لا يكون مظلوما من نزلت ولايته من السماء فأخذها منه رجل آخر على سبيل الظلم والعدوان؟
فاستحسنه الملك وقال: نعم، كل ما ذكرته ظاهر واضح وغير خفي على أرباب القرائح.
ثم استأذنه في خلال تلك الاحوال واحد من رجال الدولة العلية يدعى أبا القاسم في الكلام مع شيخنا الصدوق - رحمه الله - وهو بين يدي السلطان قائم، فلما أذن له قال:
كيف يجوز أن تكون هذه الامة على ضلالة مع الامر مع أن النبي - صلى الله الله عليه وآله - قال: لا تجتمع امتي على الضلال؟
فأخذ الشيخ في الجواب عن ادعائه الاجماع حلا ونقضا بجميع ما هو مذكور في كتب اصول الشيعة، وهو من الظهور بمنزلة النور على شاهق الطور.
ثم إنه قد طال الكلام على أثر هذا المقام بين الملك والصدوق في مراتب شتى، وعرض عليه في ذلك الضمن أيضا كثيرا من أحاديث لزوم الحجة في كل زمان فانبسط وجه الملك جدا، وأظهر غاية اللطف والمرحمة بالنسبة إليه، وأعلن كلمة الحق في ذلك النادي، ونادى: أن اعتقادي في الدين هو ما ذكره هذا الشيخ الامين، والحق ما تذهب إليه الفرقة الامامية دون غيرهم.
واستدعى أيضا حضوره - رحمه الله - في مجلس الملك كثيرا.
فلما ورد الصدوق عليه من الغد وأخذ الملك في مدحه وثنائه أظهر بعضهم بحضرته المقدسة أن هذا الشيخ يرى أن رأس الحسين - عليه السلام كان يقرأ على القناة سورة الكهف.
فكتب في جوابه: نعم بلغنا أن رأسه الشريف قرأ آية من تلك السورة المباركة، ولكنه لم يوصل (1) إلينا من جانب الائمة عليهم السلام، ولا ننكره أيضا لانه إذا كان من الامر الجائز المحقق تكلم أيدي المجرمين وشهادة أرجلهم الخبيثة يوم القيامة بما كانوا يكسبون، كيف لا يجوز أن يتكلم رأس ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وخليفته في أرضه وإمام الائمة وسيد شباب أهل الجنة بتلاوة القرآن المجيد والذكر الحميد، وتظهر منه هذه الكرامة العليا بإرادة إلهه القادر على ما يريد؟ فإنكاره في الحقيقة إنكار لقدرة الله أو جحود لفضيلة رسول الله، والعجب ممن يفعل ذلك وهو يقبل أنه بكته ملائكة السماء، وأمطرت على مصيبته من الافلاك الدماء، وناحت عليه الجن بطريق الشيوع، واقيمت مراسم عزائه في جميع الاصقاع والربوع، بل من أبى عن قبول امثال ذلك مع تحقيقه وسلامة طريقه كيف لا يأبى عن صحة شرايع النبيين ومعجزاتهم المنقولة بأمثال هذه الطرق عاليا الى أهل الدين؟
فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الفاسقين (2).
____________
(1) هكذا في المصدر والصحيح (لم يصل).
(2) روضات الجنات: (ج 6 / 140 - 144.