فتكلم معاوية فقال:
قد قلت وقلتم، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فابني أحب إلي من أبنائهم، مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف، لأنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولى الناس أبا بكر وعمر، من غير معدن الملك والخلافة، غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.
ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئا من صلاتهم وأعطياتهم، ثم انصرف راجعا إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.
الإمامة والسياسة 1: 142 - 144، جمهرة الخطب 2: 233 - 236.
قال الأميني: لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلم به عبد الرحمن، ذكره ابن حجر في الإصابة 2: 408 قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فكلمه الحسين ابن علي، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فقال له عبد الرحمن: أهرقلية؟ كلما مات قيصر كان قيصر مكانه، لا نفعل والله أبدا.
صورة أخرى
من محاورة الرحلة الأولى
قدم معاوية المدينة حاجا (1) فلما أن دنى من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه ما بين راكب وماش، وخرج النساء والصبيان، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في القوت والقرب، فلان لمن كافحه، وفاوض العامة بمحادثته، وتألفهم جهده مقاربة
____________
(1) من المتسالم عليه أن معاوية حج في سنة خمسين.
أنت والله يا أم المؤمنين! العالمة بالله وبرسوله دللتنا على الحق، وحضضتنا على حظ أنفسنا، وأنت أهل لأن يطاع أمرك، ويسمع قولك، وإن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم؟ وقد أكد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟!
فلما سمعت ذلك عائشة علمت أنه سيمضي على أمره فقالت: أما ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتق الله في هؤلاء الرهط، ولا تعجل فيهم، فعلهم لا يصنعون إلا ما أحببت.
ثم قام معاوية فلما قام قالت عائشة: يا معاوية! قتلت حجرا وأصحابه العابدين المجتهدين. فقال معاوية: دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت: صالح. قال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا.
ثم أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به فقال له: قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي فما أربك إلى الخلاف، قال: فأرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلا منهم، وأن لا تكن عجلت علي بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحدا.
فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به فكلمه بكلام هو ألين من صاحبيه، وقال:
إني كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضان لا راعي لها (1) وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف، قال ابن عمر: هل لك في أمر تحقن به الدماء، وتدرك به حاجتك؟! فقال معاوية: وددت ذلك. فقال ابن عمر: تبرز سريرك ثم أجئ فأبايعك على أني أدخل فيما اجتمعت عليه الأمة، فوالله لو أن الأمة اجتمعت على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة. قال: وتفعل؟ قال: نعم ثم خرج.
وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فخلا به قال: بأي يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرحمن: أرجو أن يكون ذلك خيرا لي. فقال معاوية: والله لقد هممت أن أقتلك. فقال: لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا، ولأدخلك في الآخرة النار. ثم خرج.
بقي معاوية يومه ذلك يعطي الخواص. ويدني بذمة الناس، فلما كان صبيحة اليوم
____________
(1) أتصدق أن محمدا صلى الله عليه وآله ترك أمته كالضان لا راعي لها ولم يرض بذلك معاوية؟! حاشا نبي الرحمة عن أن يدع الأمة كما يحسبون، غير أنهم نبذوا وصيته وراء ظهورهم، وجروا الويلات على الأمة حتى اليوم.
أما بعد: فالحمد لله ولي النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا، وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فأدى عن الله وصدع بأمره، وصبر عن الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله، وأعز أولياءه، و قمع المشركين، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بذل له، واختار منها الترك لما سخر له زهادة واختيارا لله، وأنفة واقتدارا على الصبر، بغيا لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك، وبين ذلك خوض طول ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعا، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل، ولم الصدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب، وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدم على الصديق والفاروق ودونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين
كلمة الإمام السبط:
فتيسر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد: ونصيبي في التهمة أوفر. فأمسك ابن عباس فقام الحسين فحمد الله و صلى على الرسول ثم قال:
أما بعد: يا معاوية! فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم من جميع جزءا، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ البيعة، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى، وظهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوبا، أو تنعت غائبا، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على مواقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرا، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدر باطلا في جور، وحنقا في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا، و لقد لعمر الله أورثنا الرسول عليه السلام ولادة، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فأذعن للحجة بذلك، ورده الإيمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم: كان ويكون، حتى أتاك الأمر يا معاوية! من طريق كان قصدها
فنظر معاوية إلى ابن عباس فقال: ما هذا يا بن عباس؟ ولما عندك أدهى وأمر.
فقال ابن عباس: لعمر الله إنها لذرية الرسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطهر، فاله عما تريد، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.
فقال معاوية: أعود الحلم التحلم، وخيره التحلم عن الأهل، انصرفا في حفظ الله.
ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير فجلسوا، فحمد الله وأثني عليه معاوية ثم قال:
يا عبد الله بن عمر! قد كنت تحدثنا إنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وإن لك الدنيا وما فيها، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملأهم، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وكد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم.
ثم سكت.
فتكلم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال:
أما بعد: يا معاوية! قد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا، ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم، وإن تحذرني أن أشق عصا المسلمين، وأفزق ملاهم، واسفك دماءهم، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة محمد.
إنك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنها شورى أو لأعيدها جذعة، ثم قام ليخرج فتعلق معاوية بطرف ردائه ثم قال: على رسلك، أللهم اكفنيه بما شئت، لا تظهرن لأهل الشام. فإني أخشى عليك منهم. ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثم قال له. أنت ثعلب رواغ كلما خرجت من جحر انجحرت في آخر، أنت ألبت هذين الرجلين، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه.
فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيكما نطيع؟ أنطيعك؟! أم نطعيه؟!
إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه. فكثر كلامه وكلام ابن الزبير حتى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلا قاتلا نفسك، ولكأني بك قد تخبطت في الحبالة. ثم أمرهم بالانصراف واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج ثم خرج فأمر المنادي أن ينادي في الناس: أن يجتمعوا لأمر جامع فاجتمع الناس في المسجد وقعد هؤلاء (1) حول المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر يزيد فضله وقراءته القرآن ثم قال: يا أهل المدينة! لقد هممت بيعة يزيد وما تركت قرية ولا مدرة إلا بعثت إليها بيعته فبايع الناس جميعا وسلموا وأخرت المدينة بيعته وقلت بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله، والله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له.
فقام الحسين فقال: والله لقد تركت من هو خير منه أبا وأما ونفسا فقال معاوية كأنك تريد نفسك؟ فقال الحسين: نعم أصلحك الله. فقال معاوية: إذا أخبرك، أما قولك خير منه أما فلعمري أمك خير من أمه، ولو لم يكن إلا أنها امرأة من قريش لكان لنساء قريش أفضلهن، فكيف وهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فاطمة في دينها و سابقتها، فأمك لعمر الله خير من أمه. وأما أبوك فقد حاكم أباه إلي الله فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين: حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: و أما ما ذكرت من إنك خير من يزيد نفسا فيزيد والله خير لأمة محمد منك. فقال الحسين:
____________
(1) يعني المتخلفين عن بيعة يزيد.
ثم التفت معاوية إلى الناس وقال: أيها الناس قد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يستخلف أحدا، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعته بيعة هدى فعمل بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفر اختارهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعون نظرا للمسلمين، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ونظرا لهم بعين الانصاف (1).
رحلة معاوية الثانية
وبيعة يزيد فيها
قال ابن الأثير: فلما بايعه أهل العراق والشام سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس فلما دناه من المدينة لقيه الحسين بن علي أول الناس فلما نظر إليه قال: لا مرحبا ولا أهلا، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه، قال: مهلا فإني والله لست بأهل لهذه المقالة.
قال: بلى ولشر منها، ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحبا ولا أهلا، خب ضب تلعة، يدخل رأسه، ويضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه، ويدق ظهره، نحياه عني. فضرب وجه راحلته.
ثم لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له معاوية: لا أهلا ولا مرحبا شيخ قد خرف وذهب عقله، ثم أمر فضرب وجه راحلته، ثم فعل بابن عمر نحو ذلك فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبون فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال: من أحق منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟! وما أظن قوما بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتث أصولهم، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثلا.
____________
(1) الإمامة والسياسة 1: 149 - 155، تاريخ الطبري 6: 170 واللفظ لابن قتيبة.
هم أعز من ذلك، ولكني بايعت ليزيد وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت؟ قالت:
فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله. قال: أفعل. وكان في قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلا يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت - تعني أخاها محمدا - فقال لها: كلا يا أم المؤمنين! إني في بيت أمن. قالت: أجل. ومكث بالمدينة ما شاء الله.
ثم خرج إلى مكة فلقيه الناس فقال أولئك النفر: نتلقاه فلعله قد ندم على ما كان منه. فلقوه ببطن مر فكان أول من لقيه الحسين فقال له معاوية: مرحبا وأهلا يا ابن رسول الله! وسيد شباب المسلمين. فأمر له بدابة فركب وسايره، ثم فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة فكانوا أول داخل وآخر خارج، ولا يمضي يوم إلا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئا حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره فقال بعض أولئك النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبكم وما صنعه إلا لما يريد فأعدوا له جوابا. فاتفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وحملي ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم و أردت أن تقدموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسمونه لا يعارضكم في شيئ من ذلك. فسكتوا، فقال: ألا تجيبون؟ مرتين، ثم أقبل على ابن الزبير فقال: هات لعمري إنك خطيبهم، فقال: نعم نخيرك بين ثلاث خصال قال: أعرضهن.
قال: تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر، قال معاوية:
ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف أحدا فارتضى الناس أبا بكر قال:
ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الاختلاف. قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فإنه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية:
هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثم قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فإني قد أحببت أن أتقدم إليكم إنه قد أعذر من أنذر، إني كنت أخطب منكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رؤس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي
كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ثم انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم فأتاه ابن عباس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إن صاحبكم - يعني الحسين عليه السلام - لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: يا معاوية! إني لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثم أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلهم خوارج عليك. قال: يا أبا العباس تعطون وترضون وترادون. (1)
وجاء في لفظ ابن قتيبة: إن معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهبا إلى منزله وأمر من حرسه وشرطته قوما أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم: الحسين بن علي! وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر وأوصاهم معاوية قال: إني خارج العشية إلى أهل الشام فأخبرهم: إن هؤلاء النفر قد بايعوا وسلموا، فإن تكلم أحد منهم بكلام يصدقني أو يكذبني فيه فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه. فحذر القوم ذلك، فلما كان العشي خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدثهم وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلة حمراء، وألبس الحسين حلة صفراء، وألبس عبد الله بن عباس حلة خضراء، وألبس ابن الزبير حلة يمانية، ثم خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم - أي القوم - وإنهم بايعوا، فقال: يا أهل الشام! إن هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين، وقد
____________
(1) العقد الفريد 2: 302 - 304، الكامل لابن الأثير 3: 21 - 218، ذيل الأمالي ص 177، جمهرة الرسائل 2: 69 واللفظ لابن الأثير.
فيقال: عبد الله بن عباس فلم يأذن لأحد، فلما استيقظ قال: من بالباب؟ فقيل: عبد الله بن عباس فدعا بدابته فأدخلت إليه ثم خرج راكبا فوثب إليه عبد الله بن عباس فأخذ بلجام البغلة ثم قال: أين تذهب؟ قال: إلى مكة. قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم. قال ابن عباس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا.
فقال معاوية: لستم كغيركم، لا والله لا أعطيكم درهما حتى يبايع صاحبكم، فقال ابن عباس: أما والله لئن لم تفعل لألحقن بساحل من سواحل الشام ثم لأقولن ما تعلم، والله لأتركنهم عليك خوارج. فقال معاوية: لا بل أعطيكم جوائزكم، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعا إلى الشام. الإمامة والسياسة 1: 156.
قال الأميني: إن المستشف لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جد عليم أنها تمت برواعد الارهاب، وبوارق التطميع، وعوامل البهت والافتراء، فيرى معاوية يتوعد هذا، ويقتل ذاك، ويولي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له، ويدر من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة، وفي القوم من لا يؤثر فيه شيئ من ذلك كله، غير أنه لا رأي لمن لا يطاع، لكن إمام الهدى، وسبط النبوة، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كله مصحرا بالحقيقة، ومصارحا بالحق، وداحضا للباطل مع كل تلكم الحنادس المدلهمة، أصغت إليه أذن أم لا، وصغى إلى قيله أحد أو أعرض، فقام بواجب الموقف رافعا عقيرته بما تستدعيه الحالة، ويوجبه النظر في صالح المسلمين
نعم: تمت تلك البيعة المشومة مع فقدان أي جدارة وحنكة في يزيد، تأهله لتسنم عرش الخلافة على ما تردى به من ملابس الخزي وشية العار من معاقرة الخمور، ومباشرة الفجور، ومنادمة القيان ذوات المعازف، ومحارشة الكلاب، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية، وقد عرفته الناس بذلك كله منذ أولياته وعرفه به أناس آخرون، وحسبك شهادة وفد بعثه أهل المدينة إلى يزيد وفيهم: عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي، والمنذر بن الزبير، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأعظمهم جوائزهم، وشاهدوا أفعاله، ثم انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلا المنذر، فلما قدم الوفد المدينة قاموا فيهم، فأظهروا شتم يزيد وعتبه وقالوا: إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب - الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الحراب، وهم اللصوص والفتيان، وإنا نشهدكم إنا قد خلعناه فتابعهم الناس. (1)
وقال عبد الله بن حنظلة ذلك الصحابي العظيم المنعوت بالراهب قتيل يوم الحرة يومئذ: يا قوم! اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي
____________
(1) تاريخ الطبري 7: 4، الكامل لابن الأثير 4: 45، تاريخ ابن كثير 8: 216، فتح الباري 13: 59.
ولما قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم. (2)
وقال المنذر بن الزبير لما قدم المدينة: إن يزيد قد أجازني بمائة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره، والله إنه ليشرب الخمر، والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة. (3)
وقال عتبة بن مسعود لابن عباس: أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر، ويلهو بالقيان، ويستهتر بالفواحش؟ قال: مه فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آت ممن يشرب الخمر أو هو شر من شاربها أنتم إلى بيعته سراع، أما والله! إني لأنهاكم وأنا أعلم أنكم فاعلون حتى يصلب مصلوب قريش بمكة - يعني عبد الله بن الزبير -. (4)
نعم: لم يك على مخازي يزيد من أول يومه حجاب مسدول يخفيها على الأباعد والأقارب، غير أن أقرب الناس إليه وهو أبوه معاوية غض الطرف عنها جمعاء، وحسب أنها تخفى على الملأ الديني بالتمويه، وطفق يذكر له فضلا وعلما بالسياسة، فجابهه لسان الحق وإنسان الفضيلة حسين العظمة بكلماته المذكورة في صفحة 248 و 250 ومعاوية هو نفسه يندد بابنه في كتاب كتبه إليه ومنه قوله: إعلم يا يزيد! أن أول ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة، وآلائه المتواترة، وهي الجرحة العظمى، والفجعة الكبرى: ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثم استحسان العيوب، وركوب الذنوب، وإظهار العورة، وإباحة السر، فلا تأمن نفسك على سرك، ولا تعتقد على فعلك، الكتاب. (5)
فنظرا إلى ما عرفته الأمة من يزيد من مخازيه وملكاته الرذيلة عد الحسن البصري استخلاف معاوية إياه من موبقاته الأربع كما مر حديثه في صفحة 225.
____________
(1) تاريخ ابن عساكر 7: 372.
(2) تاريخ ابن عساكر 7: 372، الكامل لابن الأثير 4: 45، الإصابة 2: 299.
(3) كامل ابن الأثير 4: 45، تاريخ ابن كثير 8: 216.
(4) الإمامة والسياسة 1: 167.
(5) صبح الأعشى 6: 387.
- 15 -
جنايات معاوية
في صفحات تاريخه السوداء
إنما نجتزئ منها على شيئ يسير يكون كأنموذج مما له من السيئات التي ينبو عنها العدد ويتقاعس عنها الحساب، ويستدعي التبسط فيها مجلدات ضخمة فمنها: دؤبه على لعن مولانا علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وكان يقنت به صلواته كما مر حديثه في الجزء الثاني ص 132 ط 2 واتخذه سنة جارية في خطب الجمعة والأعياد، وبدل سنة محمد صلى الله عليه وآله في خطبة العيدين المتأخرة عن صلاتهما وقدمها عليها لإسماع الناس لعن الإمام الطاهر كما مر تفصيله في الجزء الثامن ص 164 - 171 وأوعزنا إليه في هذا الجزء ص 212 وكان يأمر عماله بتلك الأحدوثة الموبقة، ويحث الناس عليها، ويوبخ المتوقفين عنها، ولا يصيخ إلى قول أي ناصح وازع.
1 - أخرج مسلم والترمذي عن طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: أمر معاوية سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لإن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم - فذكر حديث المنزلة: والراية. والمباهلة - وأخرجه الحاكم وزاد: فلا والله ما ذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة. (1)
وفي لفظ الطبري من طريق ابن أبي نجيح قال: لما حج معاوية طاف بالبيت ومعه سعد فلما فرغ إنصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ووقع معاوية في علي وشرع في سبه فزحف سعد ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي والله لإن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس - إلى آخر الحديث وفيه من قول سعد: وأيم الله لا دخلت لك دارا ما بقيت. ونهض.
قال المسعودي بعد رواية حديث الطبري: ووجدت في وجه آخر من الروايات و ذلك في كتاب علي بن محمد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن عائشة وغيره: إن سعدا
____________
(1) راجع صحيح مسلم 7: 120، صحيح الترمذي 13: 171، مستدرك الحاكم 3: 109.
والله إني لأحق بموضعك منك. فقال معاوية: يأبى عليك بنو عذرة. وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة. (1)
وفي رواية ذكرها ابن كثير في تاريخه 8: 77: دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال له: مالك لم تقاتل عليا؟ فقال: إني مرت بي ريح مظلمة فقلت: اخ اخ، فأنخت راحلتي حتى انجلت عني، ثم عرفت الطريق فسرت. فقال معاوية: ليس في كتاب الله اخ اخ، ولكن قال الله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله. فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية، فقال سعد: ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي. فقال معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: فلان وفلان وأم سلمة. فقال معاوية: أما إني لو سمعته منه صلى الله عليه وسلم لما قاتلت عليا.
قال: وفي رواية من وجه آخر: إن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة حجها معاوية وإنهما قاما إلى أم سلمة فسألاه فحدثتهما بما حدث به سعد فقال معاوية:
لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت أو أموت.
قال الأميني: لقد أفك معاوية في ادعائه عدم إحاطة علمه بتلكم الأحاديث المطردة الشايعة فإنها لم تكن من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا البطانة والخاصة، وإنما هتف بهن صلى الله عليه وآله على رؤس الأشهاد، أما حديث الراية فكان في واقعة خيبر وله موقعيته الكبرى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. الحديث.
فلم تزل النفوس مشرئبة متتلعة إلى من عناه صلى الله عليه وآله حتى جيئ بأمير المؤمنين عليه السلام ومنح الفتح من ساحة النبوة العظمى، فانطبق القول، وصدقت الأكرومة، وعلم الغزاة
____________
(1) مروج الذهب 1: 61، وحكى شطرا منه سبط ابن الجوزي في تذكرته ص 12.