ويحتمل أن عليا رضي الله عنه رأى أن قتلة عثمان بغاة حملهم على قتله تأويل فاسد استحلوا به دمه رضي الله عنه لإنكارهم عليه أمورا كجعله مروان ابن عمه كاتبا له ورده إلى المدينة بعد أن طرده النبي صلى الله عليه وآله منها، وتقديمه أقاربه في ولاية الأعمال، وقضية محمد بن أبي بكر، ظنوا أنها مبيحة لما فعلوه جهلا منهم وخطأ والباغي إدا انقاد إلى الإمام العدل لا يؤاخذ بما أتلفه في حال الحرب عن تأويل دما كان أو مالا كما هو المرجح من قول الشافعي رضي الله عنه، وبه قال جماعة آخرون من العلماء، وهذا الاحتمال وإن أمكن لكن ما قبله أولى بالاعتماد منه. إلخ
قال الأميني: هب أن عثمان قتل مظلوما بيد الجور والتعدي.
وأنه لم يك يقترف قط ما يهدر دمه.
وأن قتله لم يقع بعد إقامة الحجة عليه والأخذ بكتاب الله في أمره.
وأنه لم يقتل في معمعة بين آلاف مكردسة من المدنيين والمصريين والكوفيين والبصريين.
ولم تكن البلاد تمخضعت عليه، وما نقم عليه عباد الله الصالحون.
وأن قاتله لم يجهل من يوم أودى به، وكان مشهودا يشار إليه، ولم يكن قتيل عمية (1) لا يدرى من قتله حتى تكون ديته من بيت مال المسلمين.
ولم يقتل الذين باشروا قتله وكان قد بقي منهم باقية يقتص منها.
وأن المهاجرين والأنصار ما اجتمعوا على قتله، ولم تكن لأولئك المجتهدين العدول يد في تلك الواقعة، ولم يشارك في دمه عيون الصحابة.
وأن أهل المدينة ليسوا كاتبين إلى من بالآفاق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنكم
____________
(1) بكسر العين والميم المشددة مع تشديد الياء.
وأن المهاجرين لم يكتبوا إلى من بمصر من الصحابة والتابعين: أن تعالوا إلينا و تداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها، فإن كتاب الله قد بدل، وسنة رسول الله قد غيرت، وأحكام الخليفتين قد بدلت. إلى آخر ما مر ج 9.
وأن طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وعمرو بن العاص لم يكونوا أشد الناس عليه، ولم يكن لهم تركاض وراء تلك الثورة.
وما قرع سمع الدنيا نداء عثمان: ويلي على ابن الحضرمية - يعني طلحة - أعطيته كذا وكذا بهارا ذهبا وهو يروم دمي، يحرض على نفسي.
وأن طلحة لم يقل: إن قتل - عثمان - فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأنه لم يمنع الناس عن إيصال الماء إليه.
وأن مروان لم يقتل طلحة دون دم عثمان، ولم يؤثر عنه قوله يومئذ: لا أطلب بثأري بعد اليوم.
وأن الزبير ما باح بقوله: اقتلوه فإنه غير دينكم، وإن عثمان لجيفة على - الصراط غدا.
وأن عائشة ما رفعت عقيرتها بقولها: اقتلوا نعثلا قتله الله فقد كفر. وإنها لم تقل لمروان: وددت والله إنك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره في رجل كل واحد منكما رحا وإنكما في البحر. ولم تقل لابن عباس: إياك أن ترد الناس عن هذا الطاغية.
وأن عمرو بن العاص لم يقل: أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع، إن كنت لأحرض عليه حتى أني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.
وأن سعد بن أبي وقاص لم يبح بقوله: أمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه.
وأن عثمان لم يبق جثمانه ملقى ثلاثا في مزبلة لا يهم أمره أحدا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الصحابة العدول.
وأن طلحة لم يك يمنع عن تجهيزه ودفنه في مقابر المسلمين، وأنه لم يقبر في حش كوكب جبانه اليهود بعد ذل الاستخفاف.
وأن إمام الوقت ليس له العفو عن قصاص كما عفى عثمان عن عبيد الله بن عمر حين قتل هرمزان وجفينة بنت أبي لؤلؤة بلا أي جريرة.
وأن معاوية لم يك يتثبط عن نصرته، ولم يتربص عليه دائرة السوء، ولم يشهد عليه عيون الصحابة بأن الدم المهراق عنده، وأنه أولى رجل بأن يقتص منه ويؤخذ بدم عثمان.
وأن عثمان لم يكن له خلف يتولى دمه غير معاوية.
وأن عليا عليه السلام هو الذي قتل عثمان، أو آوى قاتليه.
وأن معاوية لم يك غائبا عن ذلك الموقف، وكان ينظر إليه من كثب، فعلم بمن قتله، وبمن انحاز عن قتله.
وأن ما ادعاه معاوية لم يكن إفكا وبهتا وزورا من القول متخذا عن شهادة مزورة واختلاق.
وأن هذه الخصومة لها شأن خاص لا ترفع كبقية الخصومات إلى إمام الوقت.
وأن قتال معاوية إنما كان لطلب قتلة عثمان فحسب لا لطلب الخلافة، وأنه لم يك يروم الخلافة في قتاله بعد ما كان يعلم نفسه إنه طليق وابن طليق، ليس ببدري و لا له سابقة، وأنه لا يستجمع شرايط الخلافة، وأنه لم تؤهله لها الخيرة والاجماع والانتخاب.
هب أن الوقايع هكذا وقعت - يا بن حجر -؟! واغضض عن كل ما هنالك من حقائق ثابتة على الضد مما سطر (1) فهلا كانت مناوئة معاوية مع خليفة وقته الإمام المنصوص والمجمع عليه خروجا عليه؟! وهلا كان الحزب السفياني بذلك بغاتا أهانوا سلطان الله، و استذلوا الإمارة الحقة، وخلعوا ربقة الاسلام من أعناقهم؟! فاستوجبوا إهانة الله، يجب قتالهم ودرأهم عن حوزة الإيمان، وكانوا مصاديق للأحاديث المذكورة في أول هذا البحث ص 272، 273.
____________
(1) راجع الجزء التاسع حتى تقف على حقيقة الأمر.
(حديث الوفود)
وفد علي عليه السلام الأول
أوفد الإمام عليه السلام في أول ذي الحجة سنة 36 بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي على معاوية وقال: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله، وإلى الطاعة والجماعة. فأتوه ودخلوا عليه فتكلم بشير بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية: إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله عز وجل محاسبك بعملك، وجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله عز وجل أن تفرق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها.
فقطع عليه الكلام وقال: هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال بشير: إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل، والدين، والسابقة في الاسلام والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فيقول ماذا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عز وجل، و إجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلم لك في دنياك، وخير لك في عاقبة أمرك.
قال معاوية: ونطل دم عثمان رضي الله عنه؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا. فتكلم شبث بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه وقال:
يا معاوية! إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله ما يخفى علينا ما تغزو وما تطلب، إنك لم تجد شيئا تستغوي به الناس، وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلا قولك: " قتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه " فاستجاب له سفهاء طغام،
فتكلم معاوية وكان من كلامه: فقد كذبت ولو مت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما ذكرت ووصفت، انصرفوا من عندي، فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف، وغضب وخرج القوم وأتوا عليا وأخبروه بالذي كان من قوله (1)
وفد علي عليه السلام الثاني
ولما دخلت سنة 37 توادعا على ترك الحرب في المحرم إلى انقضائه طمعا في الصلح واختلف فيما بينهما الرسل في ذلك من دون جدوى، فبعث علي عليه السلام عدي بن حاتم، ويزيد بن قيس، وشبث بن ربعي، وزياد بن حنظلة إلى معاوية، فلما دخلوا عليه تكلم عدي بن حاتم فحمد الله ثم قال:
أما بعد: فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا، و يحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الاسلام أثرا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية! لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل.
فقال معاوية:
كأنك إنما جئت متهددا، لم تأت مصلحا، هيهات يا عدي، كلا والله، إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان (2) أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان رضي الله عنه، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عز وجل به، هيهات يا عدي بن
____________
(1) تاريخ الطبري 5: 242، الكامل لابن الأثير 3: 122، تاريخ ابن كثير 7: 256.
(2) القعقعة: تحريك الشيئ اليابس الصلب مع صوت. والشنان جمع شن بالفتح: القربة البالية. وإذا قعقع بالشنان للإبل نفرت، وهو مثل يضرب لمن لا يروعه ما لا حقيقة له.
فقال له شبث بن ربعي وزياد بن حنظلة: أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت تضرب الأمثال، دع ما لا ينتفع به من القول والفعل، وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه.
وتكلم يزيد بن قيس فقال:
إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك، ونحن - على ذلك - لن ندع أن ننصح لك، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة، وإنك راجع به إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفى عليك، إن أهل الدين والفضل لم يعدلوا بعلي، ولن يميلوا بينك وبينه فاتق الله يا معاوية! ولا تخالف عليا، فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا. ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فتكلم معاوية وقال:
أما بعد: فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
فقال له شبث: أيسرك يا معاوية! أنك أمكنت من عمار تقتله؟ فقال معاوية:
وما يمنعني من ذلك؟ والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان رضي الله عنه، و لكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان. فقال شبث:
وإله الأرض وإله السماء ما عدلت معتدلا، لا والذي لا إله إلا هو، لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقوام، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها.
فقال له معاوية: إنه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق، وتفرق القوم عن معاوية فلما انصرفوا بعث معاوية إلى زياد بن حنظلة التميمي فخلا به. فحمد الله وأثنى عليه وقال:
أما بعد يا أخا ربيعة، فإن عليا قطع أرحامنا، وآوى قتلة صاحبنا، وإني أسألك النصر بأسرتك وعشيرتك، ثم لك عهد الله عز وجل وميثاقه أن أوليك إذا
أما بعد: فإني على بينة من ربي، وبما أنعم علي، فلن أكون ظهيرا للمجرمين ثم قمت (1)
وروى ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد بإسناده أن قراء أهل العراق، وقراء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريبا من ثلاثين ألفا، وأن جماعة من قراء العراق منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر بن عبد قيس، وعبد الله بن عتبة بن مسعود وغيرهم جاؤا معاوية فقالوا له: ما تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان. قالوا: فمن تطلب به؟ قال: عليا. قالوا: أهو قتله؟ قال: نعم وآوى قتلته. فانصرفوا إلى علي فذكروا له ما قال فقال: كذب! لم أقتله وأنتم تعلمون أني لم أقتله، فرجعوا إلى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده فقد أمر رجالا، فرجعوا إلى علي فقال: والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت. فرجعوا فقال معاوية: فإن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان، فإنهم في عسكره وجنده. فرجعوا، فقال علي: تأول القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لأجلها، وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال:
إن كان الأمر على ما يقول فما له أنفذ الأمر دوننا من غير مشورة منا ولا ممن ها هنا؟
فرجعوا إلى علي فقال علي: إنما الناس مع المهاجرين والأنصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم، ورضوا وبايعوني، ولست أستحل أن أدع مثل معاوية يحكم على الأمة ويشق عصاها، فرجعوا إلى معاوية فقال: ما بال من ها هنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فرجعوا، فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدري إلا وهو معي، وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم (2)
ها هنا تجد الباغي متجهما تجاه تلك الدعوة الحقة كأنه هو بمفرده، أو هو و طغام الشام والأجلاف الذين حوله بيدهم عقدة أمر الأمة، تنحل وتعقد بمشيئتهم
____________
(1) تاريخ الطبري 6: 3، الكامل لابن الأثير 3: 124، تاريخ ابن كثير 7: 258.
(2) تاريخ ابن كثير 7: 258.
من يكن ابن آكلة الأكباد وزبانيته حتى يكون لهم رأي في الخلافة؟ ويطلبوا من أمير المؤمنين اعتزال الأمر، ورده شورى بين المسلمين بعد أن العمد والدعائم من المسلمين رضوا بتلكم البيعة وعقدوها للإمام الحق على زهد منه عليه السلام فيها، لكنهم تكاثروا عليه كعرف الفرس حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاه، فكان تدخل الطليق ابن الطليق في أمر الأمة الذي أصفق عليه رجال الرأي والنظر تبرعا منه من غير طلب ولا جدارة، بل كان خروجا على الإمام الذي كانت معه جماعة المسلمين، وانعقدت عليه طاعتهم، فتبا لمن شق عصاهم، وفت في عضدهم.
وابن هند إن لم يكن ينازع للخلافة كما حسبه ابن حجر فما كانت تلك المحاباة وتغرير وجوه الناس ورجالات الثورات بولايات البلاد؟ فترى يجعل مصر طعمة لعمرو ابن العاص، وله خطواته الواسعة وراء قتل عثمان، ويعهد على زياد التميمي أن يوليه أي المصرين أحب إذا ظهر، غير أن التميمي كان على بينة من ربه فيما أنعم الله عليه لم يك ظهيرا للمجرمين، وكذلك قيس بن سعد الأنصاري كتب إليه معاوية يعده بسلطان العراقين إذا ظهر ما بقي، ولم أحب قيس سلطان الحجاز ما دام له سلطان (1) وقيس شيخ الأنصار، وهم المتسربلون بالحديد يوم الجمل قائلين: نحن قتلة عثمان.
ولنا حق النظر في قوله لشبث بن ربعي: وما يمنعني من ذلك والله لو أمكنت من
____________
(1) تاريخ الطبري 5: 228.
وإن صدق في دعواه وكان الأمر كما قرره هو فلا قود عندئذ إذ عمار من المجتهدين العدول لا يقتل إنسانا إلا من هدر الاسلام دمه، يتبع أثره، ولا ينقض حكمه، كيف لا؟ وقد ورد الثناء عليه في خمس آيات فصلناها في ج 9 ص 21 - 24، وجاء عن النبي الأعظم قوله صلى الله عليه وآله: إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، وخلط الإيمان بلحمه ودمه.
وقوله صلى الله عليه وآله: عمار خلط الله الإيمان ما بين قرنه إلى قدمه، وخلط الإيمان بلحمه ودمه، يزول مع الحق حيث زال، وليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئا.
وقوله صلى الله عليه وآله: ملئ إيمانا إلى مشاشه. وفي لفظ: حشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنيه إيمانا.
وقوله صلى الله عليه وآله: إن عمارا مع الحق والحق معه، يدور عمار مع الحق أينما دار، وقاتل عمار في النار.
وقوله صلى الله عليه وآله: إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق.
وقوله صلى الله عليه وآله: دم عمار ولحمه حرام على النار أن تطعمه.
وقوله صلى الله عليه وآله: ما لهم ولعمار؟ يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي، فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يستبق فاجتنبوه.
نعم: صدق معاوية في قوله: ما يمنعني من ذلك؟ وأي وازع للانسان عن قتل عمار إذا ما صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله هذه وقوله: ما لقريش وعمار يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار.
وقوله: من عادى عمارا عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن يسفه عمارا يسفهه الله، ومن يسب عمارا يسبه الله، ومن يحقر عمارا حقره الله، ومن يلعن عمارا لعنه الله، ومن ينتقص عمارا ينتقصه الله (1)
____________
(1) راجع تفصيل هذه الأحاديث في الجزء التاسع ص 24 - 28.
وفد معاوية إلى الإمام عليه السلام
وبعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري، وشرحبيل بن السمط، ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه وتكلم حبيب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد: فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفة مهديا، يعمل بكتاب الله عز وجل، وينيب إلى أمر الله تعالى، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه رضي الله عنه، فادفع إلينا قتلة عثمان - إن زعمت أنك لم تقتله - نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم.
فقال له علي بن أبي طالب: وما أنت لا أم لك والعزل، وهذا الأمر؟ اسكت فإنك لست هناك ولا بأهل له. فقال وقال له: والله لتريني بحيث تكره. فقال علي. و ما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي، أحقرة وسوءا؟
اذهب فصوب وصعد ما بدا لك.
وقال شرحبيل: إني إن كلمتك فلعمري ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به؟ فقال علي: نعم، لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد: فإن الله جل ثناؤه بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، فأنقذ به من الضلالة، و انتاش به من الهلكة، وجمع من الفرقة، ثم قبضه الله إليه، وقد أدى ما عليه صلى الله عليه وسلم ثم استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه، واستخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، وقد وجدنا عليهما أن توليا علينا، ونحن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فغفرنا ذلك لهما، وولي عثمان رضي الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم، فقالوا لي: بايع. فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس، فبايعتهم، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عز وجل له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الاسلام، طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب، لم يزل
فقالا: إشهد أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما. فقال لهما: لا أقول: إنه قتل مظلوما، ولا أنه قتل ظالما. قالا: فمن لم يزعم أن عثمان قتل مظلوما فنحن منه برآء.
ثم قاما فانصرفا، فقال علي: إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون. (1)
أنباء في طيات الكتب
تعرب عن مرمى معاوية
هلم معي ننظر في شطر من كتب ابن حرب المعربة عن مرماه الذي كان تركاضه وراءه، هل فيها إيعاز أو تلويح أو تصريح بغايته المتوخاة في نزاعه الإمام الطاهر عليه السلام، وإنه كان يروم الخلافة ويحوم حولها وينازع الأمر أهله؟ رغم إنكار ابن حجر إياه إنكارا باتا نصرة له.
إن النعمان بن بشير لما قدم على معاوية بكتاب زوجة عثمان تذكر فيه دخول القوم عليه، وما صنع محمد بن أبي بكر عن نتف لحيته، في كتاب رققت فيه وأبلغت حتى إذا سمعه السامع بكى حتى يتصدع قلبه. وبقميص عثمان مخضبا بالدم ممزقا، وعقدت شعر لحيته في زر القميص، قال: فصعد المنبر معاوية بالشام وجمع الناس، ونشر عليهم القميص، وذكر ما صنعوا بعثمان فبكى الناس وشهقوا حتى كادت نفوسهم أن تزهق، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه، فقام إليه أهل الشام فقالوا: هو ابن عمك وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه، فبايعوه أميرا عليهم، وكتب، وبعث الرسل إلى كور الشام، وكتب
____________
تاريخ الطبري 6: 4، الكامل لابن الأثير 3: 125، تاريخ ابن كثير 7:
258.
فإنك أخطأت خطأ عظيما حين كتبت إلي أن أبايع لك بالإمرة، وإنك تريد أن تطلب بدم الخليفة المظلوم وأنت غير خليفة، وقد بايعت ومن قبلي لك بالخلافة.
فلما قرأ معاوية كتابه سره ذلك ودعا الناس وصعد المنبر وأخبرهم بما قال شرحبيل ودعاهم إلى بيعته بالخلافة، فأجابوه ولم يختلف منهم أحد، فلما بايع القوم له بالخلافة واستقام له الأمر كتب إلى علي. (1)
وفي حديث عثمان بن عبيد الله الجرجاني قال:
بويع معاوية على الخلافة، فبايعه الناس على كتاب الله وسنة نبيه، فأقبل مالك ابن هبيرة الكندي - وهو يومئذ رجل من أهل الشام - فقام خطيبا وكان غائبا من البيعة فقال: يا أمير المؤمنين! اخدجت هذا الملك، وأفسدت الناس، وجعلت للسفهاء مجالا، وقد علمت العرب أنا حي فعال، ولسنا بحي مقال، وإنا نأتي بعظيم فعالنا على قليل مقالنا، فابسط يدك أبايعك على ما أحببنا وكرهنا.
فقال الزبرقان بن عبد الله السكوني:
جرت بين الإمام عليه السلام وبين معاوية مكاتبات نحن نأخذ من تلكم الكتب ما يخص
____________
(1) الإمامة والسياسة 1: 69، 70.
(2) كتاب صفين لابن مزاحم ص 90.
أما بعد: فقد علمت إعذاري فيكم، وإعراضي عنكم، حتى كان ما لا بد منه، ولا دفع له، والحديث طويل، والكلام كثير، وقد أدبر ما أدبر، وأقبل ما أقبل، فبايع من قبلك، وأقبل إلي في وفد من أصحابك، والسلام.
وفي لفظ:
أما بعد: فإن الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة مني، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، وأوفد إلي أشراف أهل الشام قبلك.
وفي لفظ ابن قتيبة: أما بعد: فقد وليتك ما قبلك من الأمر والمال، فبايع من قبلك، ثم أقدم إلي في ألف رجل من أهل الشام.
فكتب معاوية: أما بعد: فإنه
ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية: وقد بلغك ما كان من قتل عثمان رحمه الله، وبيعة الناس عامة إياي، ومصارع الناكثين لي، فادخل فيما دخل الناس فيه، وإلا فأنا الذي عرفت، وحولي من تعلمه. والسلام.
ومما كتب عليه السلام إليه مع جرير البجلي: فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إماما، كان ذلك لله رضا، وإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إلي قبولك العافية، إلا أن تتعرض للبلاء، فإن تعرضت له قاتلتك، واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمت القوم إلي، حملتك وإياهم على كتاب الله، وأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن.
قدم جرير على معاوية بكتاب علي، فلما أبطأ عليه معاوية برأيه استحثه بالبيعة، فقال له معاوية: يا جرير! إن البيعة ليست بخلسة، وإنه أمر له ما بعده، فأبلعني ريقي، ودعا أهل ثقته فاستشارهم، فقال له أخوه عتبة: إستعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص، فإنه من قد عرفت، فكتب معاوية إلى عمرو، وهو بفلسطين:
أما بعد: فقد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك، فأقدم على بركة الله، أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله.
فقال معاوية لجرير: إني قد رأيت رأيا، قال جرير: هات. قال: اكتب إلى علي أن يجعل لي الشام ومصر جباية، فإن حضرته الوفاة لم يجعل لأحد من بعده في عنقي بيعة، وأسلم إليه هذا الأمر، وأكتب إليه بالخلافة. قال جرير: اكتب ما شئت. فكتب إلى علي يسأله ذلك، فلما أتى عليا كتاب معاوية عرف إنها خدعة منه، وكتب إلى جرير بن عبد الله:
أما بعد: فإن معاوية إنما أراد بما طلب ألا يكون لي في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحب، وأراد أن يرثيك ويبطئك حتى يذوق أهل الشام، وقد كان المغيرة بن شعبة أشار علي وأنا بالمدينة أن أستعمله على الشام، فأبيت ذلك عليه (1) ولم يكن الله ليراني أن أتخذ المضلين عضدا، فإن بايعك الرجل وإلا فأقبل، والسلام. (2)
ولما فشا كتاب معاوية في العرب كتب إليه أخو عثمان لأمه الوليد بن عقبة:
____________
(1) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس 142 ط 2.
(2) كتاب صفين 38، 58، 59، الإمامة والسياسة 1: 82، وفي ط 72، شرح ابن أبي الحديد 1: 136، 249 - 251.
وكتب إلى معاوية أيضا:
فأقام جرير عند معاوية ثلاثة أشهر. وقيل: أربعة. وهو يماطله بالبيعة، فكتب علي إلى جرير:
سلام عليك، أما بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، وخيره بين حرب مجلية، أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فأنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين، وإن اختار السلم فخذ بيعته وأقبل إلي، والسلام.
____________