الوجه الأول:
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
وهو باطل لوجوه..
الأوّل: إنّهم أنكروا ما عَلِمه كلُّ عاقل من حسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضارّ، سواء كان هناك شرع أم لا(2)، ومنكر الحكم الضروري سوفسطائي.
____________
(1) نهج الحقّ: 83.
(2) الإرشاد ـ للجويني ـ: 231 ـ 232، المواقف: 324، شرح المقاصد 4 / 282 ـ 283.
وقال الفضـل(1):
جوابـه: إنّ حسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضارّ ; إنْ أُريد بهما صفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة فلا شكّ أنّهما عقليّان، كما سـبق.
وإنْ أُريد بهما تعلّق المدح والثواب والذمّ والعقاب، فلا نسلّم أنّه ضروري، بل هو متوقّف على إعلام الشارع.
وكيف يُدرك تعلّق الثواب وهو من الله، وبالشرع والإعلام من الشارع؟!
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 363.
وأقـول:
قد عرفت أنّ الصدق والكذب فعلان في أنفسهما، وأنّ الحسن والقبح ثابتان لهما عقلا مع قطع النظر عن لحاظ الوصفيّة والملاءمة والمنافرة ; فيتمّ المطلوب.
ولا دخل للثواب والعقاب في محلّ النزاع حتّى يقال: لا دخل للعقل في إدراكهما!
الوجه الثاني:
قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):
الثاني: لو خُـيِّر العاقل الذي لم يسمع الشرائع ولا عَلِم شيئاً من الأحكام، بل نشأ في بادية خالياً من العقائد كلّها، بين أن يصدق ويُعطى ديناراً، وبين أن يكذب ويُعطى ديناراً، ولا ضرر عليه فيهما، فإنّه يتخيّر الصدق على الكذب.
ولولا حكم العقـل بقبـح الكذب وحسـن الصـدق لَمـا فرّق بينهما ولا اختار(2) الصدق دائماً.
____________
(1) نهج الحقّ: 83.
(2) في طبعة القاهرة: وما اختار.
وقال الفضـل(1):
قد سـبق جواب هذا(2)، وأنّ مثل هذا الرجل لو فرضنا أنّه يختار الصدق بحكم عقله، فإنّه يختاره لكونه صفة كمال، أو موجب مصلحة.
وهذا لا نزاع في أنّهما عقليّان، لا أنّه يختاره لكونه موجباً للثواب والعقاب، وكيف وهو لا يعرف الثواب ولا العقاب؟!
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 367.
(2) انظر الصفحة 416.
وأقـول:
قد عرفت ما فيه ممّا سـبق(1)، فلا حاجة إلى الإعادة، ولا أدري متى كان إيجاب الثواب والعقاب معنىً للحسن والقبح العقليّين حتّى يدّعيه الإمامية، ويكون محلاًّ للنزاع.
وإنّما نقول في المثال: إنّ الصدق ـ بما هو فعل صادر من الشخص ـ حسن عقلا، والكذب ـ كذلك ـ قبيح عقلا، وهم يُنكرونه.
ولا يخفى أنّ جعله لاختيار الصدق فرضياً دليل على تكلّفهم في إثبات الحسن والقبح العقليّين بالمعنيين اللذين زعم عدم النزاع بهما.
____________
(1) انظر الصفحتين 413 ـ 414.
الوجه الثالث:
قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):
الثالث: لو كان الحسن والقبح شرعيّـين لَما حكم بهما من ينكر الشرائع، والتالي باطل ; فإنّ البراهمة(2) بأسرهم ينكرون الشرائع والأديان كلّها، ويحكمون بالحسن والقبح، مسـتندين إلى ضرورة العقل في ذلـك(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 83.
(2) البراهمة أو البرهمانية: نسبة إلى برهمان أو برهام، وهو اسم مؤسّس هذه الطريقة، وقيل: هم قبيلة بالهند فيهم أشراف أهل الهند، ويقولون: إنّهم من وُلد برهمي ملك من ملوكهم ; ولهم علامة ينفردون بها، وهي خيوط ملوّنة بحمرة وصفرة يتقلّدونها تقلّد السيوف، وقيل: إنّهم قائلون بالتوحيد! ومن أُصول هذه الطائفة ـ كذلك ـ نفي النبوّات أصلا وقرّروا استحالتها في العقول، وقد تفرّقوا أصنافاً، فمنهم: أصحاب البددة، وهم البوذيّون ; وأصحاب الفكر والوهم، وهم العلماء منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم ; وأصحاب التناسخ.
انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 1 / 86، الملل والنحل 3 / 706 ـ 716.
(3) الإرشاد ـ للجويني ـ: 230 ـ 231، نهاية الإقدام في علم الكلام: 371، شرح المواقف 8 / 192
وقال الفضـل(1):
جوابـه: إنّ البراهمة المنكرين للشرائع يحكمون بالحسن والقبح للأشياء لصفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة، لا تعلّق الثواب والعقاب.
وكيف يحكمون بالثواب والعقاب وهم لا يعرفونهما؟!
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 368.
وأقـول:
البراهمة يحكمون بحسن الأفعال وقبحها بما هي أفعال، كما هو محلّ الكلام على الصحيح..
وما اختلقه بعض الأشاعرة من تعدّد المعاني والتفصيل فيها فإنّما قصدوا به الفرار لكن في غير الطريق المستقيم، أو تسليم للحقّ لكن بوجه المعارضة.
الوجه الرابع:
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
الرابع: الضرورة قاضية بقبح العبث، كمن يستأجر أجيراً ليرمي من ماء الفرات في دجلة، ويبيع متاعاً ـ أُعطي في بلده عشرة دراهم ـ في بلد يحمله إليه بمشقّة عظيمة، ويعلم أنّ سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضاً.
وقبح تكليف ما لا يطاق كتكليف الزمِن الطيرانَ إلى السماء، وتعذيبه دائماً على ترك هذا الفعل.
وقبح ذمّ العالِم الزاهد على علمه وزهده، وحسن مدحه، وقبح مدح الجاهل الفاسق على جهله وفسقه، وحسن ذمّه عليهما.
ومن كابر في ذلك فقد أنكر أجلى الضروريات ; لأنّ هذا الحكم حاصل للأطفال، والضروريات قد لا تحصل لهم.
____________
(1) نهج الحقّ: 83.
وقال الفضـل(1):
جوابـه: إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على المفسدة، لا لكونه موجباً لتعلّق الذمّ والعقاب، وهذا ظاهر.
وقبح مذمّة العاقل، وحسن مدحة الزاهد ; للاشتمال على صفة الكمال والنقص.
فكلّ ما يذكر هذا الرجل من الدلائل هو إقامة الدليل على غير محلّ النزاع، فإنّ الأشاعرة معترفون بأنّ كلّ ما ذكره من الحسن والقبح عقليّان، والنزاع في غير هذين المعنيَين.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 370.
وأقـول:
ليت شعري أكان محلّ الكلام في حسن الأفعال وقبحها عقلا مشروطاً بأن لا تكون فيها مصلحة ومفسدة حتّى يقول: إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على مفسدة؟!
ومنشأ اشتباهه أنّه رأى أصحابه يعبّرون عن ملاءمة الغرض ومنافرته بالمصلحة والمفسدة(1)، فتخيّل ذلك ولم يعلم أنّهم إنّما جعلوا الحسن والقبح ـ اللذين بمعنى الملاءمة والمنافرة، والمصلحة والمفسدة ـ خارجَين عن محلّ النزاع ; لا أنّه يشترط في محلّ النزاع عدم المصلحة والمفسدة في الفعل واقعاً.
على أنّ قبح العبث ضروري وإن لم يشتمل على مفسدة، بل لو اشتمل عليها لم يثبت القبح عندهم بمعنى المنافرة للغرض، إذ لا غرض للعابث، فيلزم أن لا يقبح العبث عندهم وقد أقرّوا بقبحه!
وأمّا قوله: " وقبح مذمّة العالم، وحسن مدحة الزاهد "..
ففيـه: تسليم للحقّ باسم المعارضة، والوفاق بصورة الخلاف، فما ضرّهم لو أنصفوا؟!
واعلم أنّ الخصم لم يُجِب عن قبح تكليف ما لا يطاق عجزاً عن الجواب ; لأنّ التكليف المذكور ليس عندهم صفة نقص ولا مفسدة، وإلاّ لَما أجازوه على الله تعالى.
____________
(1) شرح المواقف 8 / 182.
الوجه الخامس:
قال المصنّـف ـ قدّس الله روحه ـ(1):
الخامس: لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لَما قبح من الله تعالى شيء.
ولو كان كذلك لَما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين، وتجويز ذلك يسـدّ باب معرفة النبوّة(2).
فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عُقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة.
____________
(1) نهج الحقّ: 84.
(2) انظر: شرح الأُصول الخمسة: 318 و 321، ومؤدّاه في: المحيط بالتكليف: 235.
وقال الفضـل(1):
جوابه: إنّه لم يقبح من الله شيء.
قوله: " لو كان كذلك لَما قبح منه إظهار المعجزات على يد الكاذبين ".
قلنا: عدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ليس لكونه مقبحاً عقلا، بل لعدم جريان عادة الله تعالى، الجاري مجرى المحال العادي بذلك.
قوله: " تجويز هذا يسدّ باب معرفة النبوّة ".
قلنا: لا يلزم هـذا ; لأنّ العلم العادي حاكم باستحالة هذا الإظهار، فلا ينسدّ ذلك الباب.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 371.
وأقـول:
كيف تصحّ دعوى العادة؟! والحال أنّه لا اطّلاع له على كلّ من ادّعى النبوّة!
ولو فـرض الاطّـلاع فمن المحتـمل كـذب كلّ من جاء بمعجـزة، فلا تثبت نبوّة صادقة فضلا عن جريان العادة بها.
على أنّه كيف يقطع بعدم تخلّف العادة في مقام تخلّف العادة بإظهار المعجزة؟!
الوجه السادس:
قال المصنّـف ـ قدّس سرّه ـ(1):
السادس: لو كان الحسن والقبح شرعيّين، لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر، وتكذيب الأنبياء، وتعظيم الأصنام، والمواظبة على الزنا والسرقة، والنهي عن العبادة والصدق ; لأنّها غير قبيحة في أنفسها، فإذا أمر الله بها صارت حسنة ; إذ لا فرق بينها وبين الأمر بالطاعة، فإنّ شكر المنعم، وردّ الوديعة، والصدق، ليست حسنة في أنفسها، ولو نهى الله عنها كانت قبيحة(2).
لكن لمّا اتّفق أنّه تعالى أمر بهذه مجاناً لغير غرض ولا حكمة، صارت حسنة، واتّفق أنّه نهى عن تلك فصارت قبيحة، وقَبْل الأمر والنهي لا فرق بينها.
ومن أدّاه عقله إلى تقليد من يعتقد ذلك فهو أجهل الجهّال، وأحمق الحمقاء، إذا علم أنّ معتقد رئيسه ذلك!
ومن لم يعلم ووقف عليه ثمّ استمرّ على تقليده فكذلك!
فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم لئلاّ يضلّ غيرهم وتستوعب البلية جميع الناس.
____________
(1) نهج الحقّ: 84.
(2) انظر: شرح الأُصول الخمسة: 318 ـ 320.
وقال الفضـل(1):
جوابـه: إنّه لا يلزم من كون الحسن والقبح شرعيّين، بمعنى أنّ الشرع حاكم بالحسن، والقبح أن يحسن من الله الأمر بالكفر والمعاصي ; لأنّ المراد بهذا الحسن: إنْ كان استحسان هذه الأشياء، فعدم هذه الملازمة ظاهر ; لأنّ من الأشياء ما يكون مخالفاً للمصلحة لا يستحسنه الحكيم، وقد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها.
وإنْ كان المـراد بهذا الحسـن عـدم الامتـناع عليـه، فـقد ذكرنـا أنّـه لا يمتنع عليه شيء عقلا، لكن جرى عادة الله على الأمر بما اشتمل على مصلحة من الأفعال، والنهي عمّا اشتمل على مفسدة من الأفعال.
فالعلم العادي حاكم بأنّ الله تعالى لم يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء قطّ، ولم ينه عن شكر المنعم وردّ الوديعة، فحصل الفرق بين هذا الأمر والنهي بجريان عادة الله الذي يجري مجرى المحال العادي، فلا يلزم شيء ممّا ذكر هذا الرجل، فقد زعم أنّه فلق الشَعرَ في تدقيق هذا السؤال الظاهر دفعه عند أهل الحقّ، حتّى رتّب عليه التشنيع والتفظيع، فيا له من رجل ما أجهله!
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 372.
وأقـول:
قد سبق أنّ القبيح عندهم ما نُهيَ عنه شرعاً، والحسن ما لم ينه عنه كما في " المواقف "(1).
وحينئذ فالأفعال كلّها ليست حسنة أو قبيحة بالنظر إلى ذواتها وقبل تعلّق التكاليف بها، وإنّما تكون حسنة أو قبيحة بعد تعلّقها بها.
فلو تعلّق أمره تعالى مثلا بالكفر وتكذيب الأنبياء وتعظيم الشياطين كانت حسنة وكان أمره أيضاً حسناً ; لأنّ أمره من فعله، وفعله حسن ; لأنّه لم ينه عنه فيشمله تعريف الحسن المذكور، كما صرّح به في " شرح المواقف "(2) وذكرناه سابقاً(3)..
وحينئذ يتمّ ما ذكره المصنّف (قدس سره) بقوله: " لو كان الحسن والقبح شرعيّين لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر " فإنّ الكفر ـ مثلا ـ ليس قبيحاً قبل التكليف، فيصحّ تعلّق الأمر به، وإذا تعلّق به صار حسناً كما يحسن الأمر به.
وبذلك يُعلم أنّه لا محلّ لتفسـير الخصم للحسن والقبح الشرعيّين بأنّ الشرع حاكم بهما، ولا لترديده في مراد المصنّف (رحمه الله) بالحسن بين أمرين لا دخل لهما بمقصود المصنّف ولا بمصطلح الأشاعرة.
على أنّه لو أراد المصنّف الشقّ الأوّل فهو لازم لهم على مذهبـهم ;
____________
(1) المواقف: 323.
(2) شرح المواقف 8 / 182.
(3) انظر الصفحتين 413 ـ 414 من هذا الجزء.
ودعوى أنّ فعله لها إنّما يدلّ على استحسانه لها من حيث فاعليّته لها، لا من حيث كسب العبد إيّاها ومحلّـيّته لها، غير ضارّة في المطلوب لو سُـلّمت، إذ لا يهمّنا إلاّ إثبات ما أنكره الخصم من استحسانها على مذهبهم من أيّ حيثية كانت.
وقوله: " قد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها... "..
خطأٌ ظاهرٌ ; لأنّ الذي ذكره هو حصول المصلحة والمفسدة بمعنى الملاءمة والمنافرة لا الذاتيّين(1).
وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني بقوله: " وإن كان المراد عدم الامتناع عليه، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ".
ففيـه: إنّه بعدما بيّن في الشقّ الأوّل أنّ الحكيم لا يستحسن ما يكون مخالفاً للمصلحة، كيف لا يمتنع عليه الأمر به؟! فإنّ الحكيم لا يجوز عليه أن يأمر بما يكون مخالفاً للمصلحة ولا يسـتحسـنه.
ثمّ ما ذكره من جريان العادة غير مفيد له، فإنّه لو سُلّم العلم بالعادة مع عدم الاطّلاع على أديان جميع الأنبياء، فالإشكال إنّما هو من جهة جواز أمره تعالى بالكفر ونحوه وحسنه، لا من جهة الوقوع حتّى يجيب بعدم جريان العادة.
____________
(1) انظر الصفحة 411 من هذا الجزء.
فظهر أنّ المصنّف قد فَلقَ الشَعرَ بتدقيقه، فجزاه الله تعالى عن الدين وأهله أفضل جزاء المحسنين، وجعلنا من أعوانه على الحقّ، إنّه أكرم المسـؤولين.
الوجه السابع:
قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):
السابع: لو كان الحسن والقبح شرعيّين، لزم توقّف وجوب الواجبات على مجيء الشرع، ولو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء ; لأنّ النبيّ إذا ادّعى الرسالة وأظهر المعجزة كان للمدعوّ أن يقول: إنّما يجب علَيَّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق، فأنا لا أنظر حتّى أعرف صدقك، ولا أعرف صدقك إلاّ بالنظر، وقبله لا يجب علَيَّ امتثال الأمر ; فينقطع النبيّ ولا يبقى له جواب!
____________
(1) نهج الحقّ: 84.
وقال الفضـل(1):
جواب هذا قد مرّ في بحث النظر(2)..
وحاصله: إنّه لا يلزم الإفحام ; لأنّ المدعوّ ليس له أن يقول: إنّما يجب عليَّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ; بل النظر واجب عليه بحسب نفس الأمر.
ووجوب النـظر لا يتوقّـف على معرفته له ; للزوم الدور كما سبق، فلا يلزم الإفحام.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 375.
(2) انظر الصفحة 145 من هذا الجزء.
وأقـول:
قـد سـبق أنّ ارتـفاع الإفحـام إنّمـا يكـون بعلـم المدعـوّ بالوجـوب لا بمجرّد ثبوته واقعاً، كما ذكرناه موضّحاً فراجـع(1).
____________
(1) انظر الصفحتين 149 ـ 150 من هذا الجزء.
الوجه الثامن:
قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):
الثامن: لو كان الحسن والقبح شرعيّين لم تجب المعرفة ; لتوقّف معرفة الإيجاب على معرفة الموجِب، المتوقّفة على معرفة الإيجاب، فيـدور.
____________
(1) نهج الحقّ: 84.
وقال الفضـل(1):
جواب هذا أيضاً قد مرّ في ما سبق(2)، وأنّ توقّف وجوب المعرفة على الإيجاب ممنوع.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 376.
(2) انظر الصفحة 143 من هذا الجزء.
وأقـول:
قد مرّ فساد جوابه بما لا يخفى على ذي معرفة، فراجـع(1).
____________
(1) انظر الصفحة 148 ـ 150 من هذا الجزء.
الوجه التاسع:
قال المصنّـف ـ قدّس سرّه ـ(1):
التاسع: الضرورة قاضية بالفرق بين من أحسن إلينا دائماً، ومن أساء إلينا دائماً، وحسن مدح الأوّل وذمّ الثاني، وقبح ذمّ الأوّل ومدح الثاني، ومن شكّ في ذلك فقد كابر مقتضى عقله.
____________
(1) نهج الحقّ: 85.
وقال الفضـل(1):
هذا الحسن وهذا القبح ممّا لا نزاع فيه بأنّهما عقليّان ; لأنّهما يرجعان إلى الملاءمة والمنافرة، أو الكمال والنقص.
على أنّه قد يقال: جاز أن يكون هناك عرف عامّ هو مبدأ لذلك الجزم المشترك، وبالجملة: هو من إقامة الدليل في غير محلّ النزاع، والله تعالى أعلم.
هذه جملة ما أورده من الدلائل على رأيه العاطل، وقد وفّقنا الله لأجوبتها كما يرتضيه أُولو الآراء الصائبة.
ولنا في هذا المبحث تحقيق نريد أن نذكره في هذا المقام، فنقول:
اتّفقت كلمة الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة على أنّ من أفعال العباد ما يشتمل على المصالح والمفاسد، وما يشتمل على الصفات الكمالية والنقصانية، وهذا ممّا لا نزاع فيه.
وبقي النزاع في أنّ الأفعال التي تقتضي الثواب أو العقاب، هل في ذواتها جهة محسّنة، صارت تلك الجهة سبب المدح والثواب، أو جهة مقبّحة، صارت سبباً للذمّ والعقاب، أو لا؟
فمن نفى وجود هاتيـن الجهتين في الفعل، ماذا يريد من هذا النـفي؟!
إنْ أراد عدم هاتين الجهتين في ذوات الأفعال، فيرد عليه أنّك
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 377.
وإنْ أراد نفي كون هاتين الجهتين مقتضيتان للمدح والثواب بلا حكم الشرع بأحدهما ; لأنّ تعيين الثواب والعقاب للشارع والمصالح والمفاسد في الأفعال التي تدركهما العقول، لا يقتضي تعيين الثواب والعقاب بحسب العقل ; لأنّ العقل عاجز عن إدراك أقسام المصالح والمفاسد في الأفعال، ومزج بعضها ببعض، حتّى يعرف الترجيح ويحكم بأنّ هذا الفعل حسن لاشتماله على المصلحة، أو قبيح لاشتماله على المفسدة، فهذا الحكم خارج عن طوق العقل فتعيّن تعيّنه للشرع.
فهذا كلام صالح صحيح لا ينبغي أن يردّه المعتزلي.
مثلا: شرب الخمر كان مباحاً في بعض الشرائع، فلو كان شرابه حسناً في ذاته بالحسن العقلي، كيف صار حراماً في بعض الشرائع الأُخـر؟! هل انقلب حسنه الذاتي قبحاً؟!
وهذا ممّا لا يجوز، فبقي أنّه كان مشتملا على مصلحة ومفسدة، كلّ واحد منهما بوجه، والعقل كان عاجزاً عن إدراك المصالح والمفاسد بالوجوه المختلفة.
فالشرع صار حاكماً بترجيح جهة المصلحة في زمان، وترجيح جهة المفسدة في زمان آخر، فصار حلالا في بعض الأزمنة حراماً في البعض الآخر.
فعلى الأشعري أن يوافق المعتزلي ; لاشتمال ذوات الأفعال على جهة المصالح والمفاسد، وهذا يدركه العقل ولا يحتاج في إدراكه إلى الشرع.
وعلى المعتـزلي أن يوافق الأشـعري أنّ هاتيـن الجهتيـن في العقـل لا تقتضي حكم الثواب والعقاب والمدح والذمّ باستقلال العقل ; لعجزه عن مزج جهات المصالح والمفاسد في الأفعال.
وقد سلّم المعتزلي هذا في ما لا يستقلّ العقل به، فليُسلّم في جميع الأفعال، فإنّ العقل في الواقع لا يستقلّ في شيء من الأشياء بإدراك تعلّق الثواب.
فإذاً كان النزاع بين الفريقين مرتفعاً، تحفّظ بهذا التحقيق، وبالله التوفيـق.
وأقـول:
قد عرفت في أوّل المطلب أنّ الملاءمة والمنافرة جهتان تقتضيان الحبّ والبغض، والرضا والسخط، لا الحسن والقبح العقليّين، فلا معنى لعدّهما من معاني الحسن والقبح.
وعرفت أنّ كثيراً من صفات الكمال والنقص، كالإحسان والإساءة أفعال حقيقية، والحسن والقبح فيها لا يُناطان بلحاظ الوصفية، فإذا أقرّ الخصم بحسن الإحسان وقبح الإساءة فقد تمّ المطلوب.
على أنّه لا ريب بصحّة مدح المحسن وذمّ المسيء، فيكون الإحسان حسناً والإساءة قبيحةً بالمعنى الثالث الذي فيه النزاع، فلا معنى لإرجاعه إلى أحد المعنيين الأوّلَين.
وأمّا ما ذكره في العلاوة المأخوذة من " شرح المواقف "(1)..
ففيـه: إنّه إذا أُريد من العرف العامّ اتّفاق آراء العقلاء على حسن شيء أو قبحه، فهو الذي تذهب إليه العدلية، ولكن لا معنى لتسميته بالعرف العامّ، ولا يتصوّر تحقّق العرف العامّ من دون أن يكون هناك حسن وقبح عقليّان، فإنّه ليس أمراً اصطلاحياً.
وأمّا ما بيّنه في تحقيقه فهو رجوع إلى قول العدلية بثبوت الحسن والقبح العقليّين، بسبب جهات محسّنة أو مقبّحة، ولا نزاع لأهل العدل معهم إلاّ بهذا كما سبق.
____________
(1) شرح المواقف 8 / 192.
ومنها ما هو مقتض للحكم كالصدق أو الكذب..
ومنها ما هو يختلف بالوجوه والاعتبارات، والعقل قد يعجز عن إدراك الوجوه.
وأمّا تمثيله بشرب الخمر، فغير صحيح عند الإمامية ; لِما أخبرهم به أهل البيت من أنّ الخمر لم يحلّ في شرع من الشرائع(1)، وأهل البيت أدرى بما فيه.
____________
(1) الكافي 6 / 395 ح 1، تهذيب الأحكام 9 / 102 ح 445.