الصفحة 192

وقال الفضـل(1):

خلق الكفر والمعاصي لا يوجب أن لا يستعان من الخالق ولا يستعاذ به، فإنّ الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق ما يوجب الاستعانة والاسـتعاذة، ولو كان الأمر كما ذكروا لانسدّ باب الدعاء والطلب من الله تعالى; لأنّه خالق الأشياء.

وهذا من التـرّهات التي لا يتفوّه بها عاقل فضلا عن فاضل.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 54.


الصفحة 193

وأقـول:

الاسـتعانة: طلب إعانة المعين على فِعل المستعين، فإذا كان الفعل والأثر لله وحده، كيف يحصل معنى الاسـتعانة؟!

كما إنّ الاستعاذة به تعالى من الشيطان إنّما تكون إذا كان للشيطان أثر، فإذا كان الأثر لله وحده، كيف يستعاذ به من غير المؤثّر؟!

هذا هو مراد المصنّف لا ما فهمه الخصم!

ودعوى أنّ الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق موجبهما دعوىً شبيهة بالكسب في عدم ظهور معناها، مع إنّها لا تنافي وجه الاستدلال الذي ذكرناه!

فنحن ندعوه سبحانه بأن يعيننا على فعل الخير، ويعيذنا من فعل الشيطان وشـرّه، وباب دعائه تعالى مفتوح للسائلين.

وقد تغافل الخصم عمّا ذكره المصنّف من لزوم بطلان الألطاف والدواعي; لعجزه عن الجواب! ولعلّه عن غفلة; لأنّ من كانت بضاعته دعوى الكسب ونحوه لا يعجز عن الجواب.


*    *    *


الصفحة 194

قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):

الثامن: الآيات الدالّة على اعتراف الأنبياء بذنوبهم وإضافتها إلى أنفسـهم.

كقوله تعالى حكاية عن آدم (عليه السلام): ( ربّـنا ظلمنا أنفسـنا )(2)..

وعن يونس (عليه السلام): ( سـبحانك إنّي كنت من الظالمين )(3)..

وعن موسى (عليه السلام): ( ربّ إنّي ظلمت نفسي )(4)..

وقال يعقوب لأولاده: ( بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً )(5)..

وقال يوسف (عليه السلام): ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي )(6)..

وقال نوح (عليه السلام): ( ربّ إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم )(7).

فهذه الآيات تدلّ على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لأفعالهم(8).


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 110.

(2) سورة الأعراف 7: 23.

(3) سورة الأنبياء 21: 87.

(4) سورة النمل 27: 44، سورة القصص 28: 16.

(5) سورة يوسف 12: 18.

(6) سورة يوسف 12: 100.

(7) سورة هود 11: 47.

(8) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 286.


الصفحة 195

وقال الفضـل(1):

اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لا يدلّ على اعتقادهم بكونهم خالقين، والمدّعى هو هذا، وفيه التنازع، فإنّ كلّ إنسان يعلم أنّه فاعل للفعل، ولكن الكلام في الخلق والإيجاد، فليس فيه دلالة لمدّعاه!


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 56.


الصفحة 196

وأقـول:

سبق أنّ إسناد الفعل الاختياري إلى فاعله صريح الدلالة على إيجاده إيّـاه، وأنّ الكسب بالمعنى الذي فسّره به، إنّما هو عبارة عن نسبة محلّـيّة لا فاعليّة(1)، فتكون الآيات دليلا واضحاً على المطلوب.

وقوله: إنّ " الكلام في الخلق والإيجاد "..

مُسلّم; والآيات دالّة عليه، فإنّ الخلْق لغةً هو الفِعل، وإن كان ينصرف في الاستعمال إلى فعل الله تعالى خاصّة، ولذا يتقصّده الخصم، ليسـتبشع السامع من دعوى الأنبياء في أنفسهم الخلق، ولم يعلم أنّ الله تعالى نسبه إلى عيسى فقال: ( وإذ تخلق من الطين )(2)..

ونسبه إلى غيره فقال: ( وتخلقون إفكاً )(3)..

وقال سبحانه: ( تبارك الله أحسن الخالقين )(4).


*    *    *

____________

(1) تقدّم في الصفحة 156 من هذا الجزء.

(2) سورة المائدة 5: 110.

(3) سورة العنكبوت 29: 17.

(4) سورة المؤمنون 23: 14.


الصفحة 197

قال المصنّـف ـ طاب مثواه ـ(1):

التاسع: الآيات الدالّة على اعتراف الكـفّار والعصاة بأنّ كفرهم ومعاصيهم كانت منهم.

كقوله تعالى: ( ولَو ترى إذ الظالمون موقُوفُون عندَ ربّهم ـ إلى قوله تعالى: ـ أنحنُ صددناكُم عن الهُدى بعد إذ جاءَكم بل كنتم مجرمين )(2)..

وقوله تعالى: ( ما سلككم في سقر * قالُوا لم نَـكُ من المصلّين )(3)..

( كلّما أُلقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ـ إلى قوله تعالى: ـ فكـذّبنا )(4)..

وقوله تعالى: ( أُولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب )(5).. ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكسـبون )(6)(7).


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 111.

(2) سورة سبأ 34: 31 و 32.

(3) سورة المدّثّر 74: 42 و 43.

(4) سورة الملك 67: 8 و 9.

(5) سورة الأعراف 7: 37.

(6) سورة الأعراف 7: 39.

(7) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 286.


الصفحة 198

وقال الفضـل(1):

اعتراف الكـفّار يوم القيامة لظهور ما ينكره المعتزلة، وهو أنّ الكسب من العبد، والخلق من الله تعالى.

ألا ترى إلى قوله تعالى لهم يوم القيامة: ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكسـبون )(2) أي كان هذا الجزاء لكسـبكم الأعمال السـيّـئة.

وكلّ هذا يدلّ على أنّ للعبد كسباً يؤاخذ به يوم القيامة ويجزى به، ولا يدلّ على ما هو محلّ النزاع، وهو كونه خالقاً لفعله وموجداً إيّاه، فليس فيها دلالة على المقصود.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 57.

(2) سورة الأعراف 7: 39.


الصفحة 199

وأقـول:

التعلّل بالكسب عليل; لأنّه معنىً حادث اخترعه الأشاعرة، فكيف تحمل عليه الآية؟! والحال أنّ معناه اللغوي: العمل.

وهل يفهم عربي أنّ معنى الآية ( فذوقوا العذاب بما... ) أنّـكم محلّ لفعل أنا خلقته؟!

وهل يصحّ من العدل أن يذيقهم العذاب لأجل جعله لهم محلاًّ لفعله؟!

وكذا الآيات الأُخر صريحة في المطلوب لما عرفت من أنّ إسناد الفعل الاختياري إلى فاعله صريح في إيجاده إيّـاه(1).


*    *    *

____________

(1) انظر الصفحة 169.


الصفحة 200

قال المصنّـف ـ قدّس الله نفسه ـ(1):

العاشر: الآيات التي ذكر الله تعالى فيها ما يحصل منهم من التحسّر في الآخرة على الكفر، وطلب الرجعة.

قال تعالى: ( وهم يصطرخون فيها ربّـنا أخرجنا )(2)..

( قال ربِّ ارجعونِ * لعلّي أعمل صالحاً )(3)..

( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً )(4)..

( أو تقول حين ترى العذاب لو أنّ لي كـرّة فأكون من المحسـنين )(5)(6).


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 112.

(2) سورة فاطر 35: 37.

(3) سورة المؤمنون 23: 99 و 100.

(4) سورة السجدة 32: 12.

(5) سورة الزمر 39: 58.

(6) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 286.


الصفحة 201

وقال الفضـل(1):

التحسّر وطلب الرجعة لاكتساب الأعمال السيّئة والاعتقادات الباطلة التي من جملتها اعتقاد الشركاء لله تعالى، كما هو مذهب المجوس ومن تابعهم من الملّـيّين كالمعتزلة وتابعيهم، وليس في هذه الآيات دليل على مدّعاهم.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 58.


الصفحة 202

وأقـول:

سبق أنّ الكسب كأصل الفعل لا أثر للعبد فيه(1)، فكيف يتحسّر لوقوعه منه والمؤثّر غيره؟!

وكيف يطلب الرجعة للعمل وهو عود على بدء؟! لأنّ العمل لغيره ولا قدرة له على الدفع!

وما الفائدة بالرجعة والمحسن مثل المسيء عند الأشاعرة في تجويز العذاب؟! ولعلّه يكون الأمر فيها أسوأ!

ونتيجة مقالتهم أنّ الله سبحانه خلق في العبد الكفر والمعصية، وجعله محلاًّ لها بإرادته من دون أثر للعبد أصلا، ويعاقبه عليهما بأشدّ العقاب!

ويخلق فيه التحسّر وطلب الرجعة ولا يجيبه إليها، ويخلق فيه الاعتراف بالظلم، وهو خلق الظلم فيه، ويخيّره في أفعاله ولا خيار له!

ومع ذلك لا جور ولا سفه في فعله، بل كلّه عدل ورحمة وصواب، ما هذا إلاّ شيء عجاب!!


*    *    *

____________

(1) راجع الصفحة 161 ـ 162 من هذا الجزء.


الصفحة 203

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

فهذه الآيات وأمثالها من نصوص الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..

فما عذر فضلائهم؟! وهل يمكنهم الجواب عند هذا السؤال: كيف تركتم هذه النصوص ونبذتموها وراءكم ظهريّاً؟! إلاّ بأنّا طلبنا الحياة الدنيا وآثرناها على الآخرة!

وما عذر عوامّهم في الانقياد إلى فتوى علمائهم واتّباعهم في عقائدهم؟!

وهل يمكنهم الجواب عند السؤال: كيف تركتم هذه الآيات وقد جاءكم بها النذير، وعمّرناكم ما يتذكّر فيه من تذكّر؟! إلاّ بأنّا قلّدنا آباءنا وعلماءنا من غير فحص ولا بحث ولا نظر، مع كثرة الخلاف وبلوغ الحجّة إلينا!

فهل يُـقبل عذر هذين القبيلين، وهل يُسمع كلام الفريقين؟!


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 112.


الصفحة 204

وقال الفضـل(1):

قـد عرفت في ما مضى أنّ النصّ ما لا يحتمل خلاف المقصود(2)، وقد علمت في كلّ الفصول من استدلالاته بالآيات أنّها دالّة على خلاف مقصوده، فهي نصوص مخالفة لمدّعاه.

والعجب أنّه يفتخر ويباهي بإتيانها ثُمّ يقول: ما عذر علمائهم وعوامّهم؟!

فنقول: أمّا عذر علمائهم فإنّهم يقولون يوم القيامة: إلهنا كنّا نعلم أنّه لا خالق في الوجود سواك، وأنت خلقت كلّ شيء، ونحن كسبنا المعصية أو الطاعة، فإن تعذّبنا فنحن عبادك، وإن تغفر لنا فبفضلك وكرمك، ولك التصرّف كيف شـئت.

وأمّا عذر عوامّهم فإنّهم يقولون: إلـهَـنا! إنّ نبيّك محمّـداً (صلى الله عليه وآله وسلم)أمرنا أن نكون ملازمين للسواد الأعظم، فقال: عليكم بالسواد الأعظم(3); ورأينا في أُمّته السواد الأعظم كان أهل السُـنّة، فدخلنا فيهم واعتقدنا مثل اعتقادهم، ورأينا المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة كاليهود، يخفون مذهبهم ويسمّونه التقية، ويهربون من كلّ شاهق إلى شاهق، ولو نسب إليهم أنّهم معتزلـيّون أو شيعة يستنكفون عن هذه النسبة، فعلمنا أنّ الحقّ مع السواد الأعظم.

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 59.

(2) راجع الصفحة 167.

(3) السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ 1 / 39 ح 80، تفسير القرطبي 14 / 39.


الصفحة 205

وأقـول:

قد سبق أنّ النصّ ما لا يحتمل الخلاف بحسب فهم أهل اللسان(1)، وأنّ الآيات الكريمة كذلك، ونحن نكل إلى السامع قوله: " دالّة على خلاف مقصـوده "(2).

وأمّا ما ذكره في عذر علمائهم فهو لا يُسمع عند من يعلم الحقائق والصادق من الكاذب، ويعلم أنّهم ما قالوا ذلك في الدنيا إلاّ لإغواء العوامّ المساكين وتلبيس الحقّ المبين! فيقول لهم: كيف تقولون لا خالق في الوجود سواك، وأنتم تقولون بألسـنتكم ما ليس في قلوبكم؟! فإنّا نشاهد أعمالكم تشهد عليكم بخلاف أقوالكم، إذ تحتالون للدنيا ومقاصدكم بكلّ حيلة، وتتنازعون عليها بما ترون لكم من كلّ حول وقوّة.

وكيف تقولون ذلك وهذه آيات الكتاب المجيد تتلى عليكم بنسبة الأفعال إلى العباد؟! وقد صرّح بعضها بلفظ الخلق، قال تعالى: ( وإذ تخلُقُ من الطين كهيئة الطير )(3).. ( وتخلقون إفكاً )(4)..

فما غايتكم بهذا المقال إلاّ الإضلال، ونفي فعل القبيح عن أنفسكم، وإثباته للمنـزَّه عن كلّ عيب ونقص!

____________

(1) تقدّم في الصفحة 169.

(2) المتقـدّم في الصفحة السابقة.

(3) سورة المائدة 5: 110.

(4) سورة العنكبوت 29: 17.


الصفحة 206
وأيّ فائدة لقولكم: " إنّا كسبنا المعصية " وأنتم تريدون به أنّكم محلّ بالاضطرار؟! فيكون أرحم الراحمين ـ بزعمكم ـ قد خلق المعصية مع كسبها فيكم بلا جرم، فصيّرتموه أظلم الظالمين كما هو مرادكم بقولكم: إنّ " لك التصرّف " فينا، فإنّ الله سبحانه يتنزّه عن التصرّف المطوي على الظلم والجـور.

وأمّا ما ذكره في عذر عوامّهم بأن نبيّنا قال: " عليكم بالسواد الأعظم " فعذر بارد..

لأنّه يقال لهم أوّلا: كيف أخذتم دينكم من هذا الحديث، وهو لو صحّ سنداً وتمّ دلالة لا يفيد إلاّ الظنّ، وقد سمعتم قوله تعالى: ( إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شـيئاً )(1).. وقوله: ( إن يتّبعون إلاّ الظنّ وإن هم إلاّ يخرصون )(2)؟!

ويقال لهم ثانياً: كيف أخذتم بهذا الحديث وتركتم قول الله تعالى: ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم )(3) الدالّ على انقلاب السواد الأعظم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!..

وما رواه معتمدكم البخاري في " كـتاب الحوض " من صحيحه أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر أنّ الصحابة إذا وردوا عليه الحوض يحال بينه وبينهم، ويقال له: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ويؤخذ بهم إلى النار، ولا يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم(4).

____________

(1) سورة يونس 10: 36.

(2) سورة الأنعام 6: 116.

(3) سورة آل عمران 3: 144.

(4) صحيح البخاري 8 / 216 ح 164 ـ 166 باب في الحوض.


الصفحة 207
وما رواه أهل صحاحكم وغيرهم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يكون في هذه الأُمّة مثل ما كان في بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل(1)، وقد ارتدّ السواد الأعظم من بني إسرائيل، وخالفوا خليفة موسى أخاه هارون..

مع أنّ أكثر الناس في عامّة الأزمنة على الضلالة، كما يصرّح به الكتاب العزيز في كثير من الآيات(2).

ويقال لهم ثالثاً: كيف علمتم أنّ المراد بالحديث لزوم اتّباع السواد الأعظم حتّى في الدين؟! والحال أنّه مطلقٌ صالحٌ للتقييد بألف قيد، كما قيّدتموه أنتم بغير المعصية والظلم ونحوهما(3)، فكان يلزمكم الفحص والنظر في الأدلّة العقلية والنقلية.

وقد كان يكفيكم من العقل أنّ الجبر مستوجب لنسبة الظلم إلى الله

____________

(1) انظر: سنن الترمذي 5 / 26 ح 2641، السُنّة ـ لابن أبي عاصم ـ 1 / 25 ح 45، المعجم الكبير 6 / 204 ح 6017 و ج 10 / 39 ح 9882 و ج 17 / 13 ح 3، الشريعة ـ للآجري ـ: 26 ـ 27 ح 29، المسـتدرك على الصحيحين 1 / 218 ـ 219 ح 444 و 445، مجمع الزوائد 7 / 261 عن البزّار.

(2) كقوله تعالى: (وإنْ تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سـبيل الله) سورة الأنعام 6: 116.

وقوله تعالى: (ولقد ضلّ قبلهم أكثر الأوّلين) سورة الصافّات 37: 71.

وقوله تعالى: (لقد جئناكم بالحقّ ولكنّ أكثركم للحقّ كارهون) سورة الزخرف 43: 78.

.. إلى كثير من الآيات الكريمة في هذا الصدد، يمكنك مراجعتها في مادّة " كثر " من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

(3) انظر مثلا: الإحكام في أُصول الأحكام ـ لابن حزم ـ 1 / 592 وقد أثبت عدم صحّة رواية " عليكم بالسواد الأعظم "، الاعتقاد على مذهب السلف ـ للبيهقي ـ: 139، المحصول في علم أُصول الفقه 2 / 46 ـ 47، فواتح الرحموت 2 / 222 ـ 223، شرح العقيدة الطحاوية: 111.


الصفحة 208
سبحانه.. ومن النقل الآيات السابقة; بل وُجدان كلّ شخص أنّه يحرم عليه اتّباع السـواد الأعظم في هذه المسألة; لأنّه يجد من نفسه أنّه المؤثّر في فعله، وعليه رأيه في كلّ عمله.

على أنّ السواد الأعظم هو العوامّ، فما معنى اتّباعه لنفسه وكلّه جاهل؟!

.. إلى غير ذلك من المفاسد المانعة من الاعتذار بهذا الحديث!

وأمّـا ما أشار إليه من أمر التقـيّة، فلو ذكره المعتذر كان الأمر عليه أشـدّ وأخـزى..

إذ يقال له أوّلا: ما أنكرتم من التقيّة وقد شرّعها الله تعالى في كتابه العزيز، فقال: ( إلاّ أن تـتّـقوا منهم تُـقَاةً )(1).. وقال تعالى: ( إلاّ من أُكرِه وقلبه مطمئنّ بالإيمان )(2)؟!

وثانياً: إنّ تقيّة الشيعة ليست إلاّ منكم; لأنّـكم أخفتموهم وقتلتموهم لتمسّـكهم بمن أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أُمّته بالتمسّك بهم! وأنتم اتّبعتم الظالمين في معاداة أهل بيت الرحمة وشيعتهم المؤمنين، وآمنتم المشركين والمنافقين والفاسقين!

____________

(1) سورة آل عمران 3: 28.

(2) سورة النحل 16: 106.


الصفحة 209
وقولكم: " يسـتنـكفون من هذه النسـبة "..

حاشا وكلاّ، رأينا علانيتهم تشهد لضمائرهم بالافتخار بموالاة آل محمّـد الطاهرين ومعاداة أعدائهم، كما قال شاعرهم الكميت رحمه الله تعـالى:


وما لي إلاّ آلَ أحمـدَ شـيعةًوما لي إلاّ مَذهبَ الحقّ مَذهبُ(1)


*    *    *

____________

(1) القصائد الهاشميات: 28، الأغاني 17 / 29، وجاء البيت فيهما هكذا:


فما لي إلاّ آلَ أحمـدَ شـيعةًوما لي إلاّ مَشْعَبَ الحقّ مَشْعَبُ


الصفحة 210

قال المصنّـف ـ بلّـغه الله مناه ـ(1):

ومنها: مخالفة الحكم الضروري الحاصل لكلّ أحد، عندما يطلب من غيره أن يفعل فعلا، فإنّه يعلم بالضرورة أنّ ذلك الفعل يصدر عنه.

ولهذا يتلطّف في استدعاء الفعل منه بكلّ لطيفة، ويعظه ويزجره عن تركه، ويحتال عليه بكلّ حيلة، ويعده ويتوعّده على تركه، وينهاه عن فعل ما يكرهه ويعنّفه على فعله، ويتعجّب من فعله ذلك ويستطرفه، ويتعجّب العقلاء من فعله.

وهذا كلّه دليل على فعله، ويعلم بالضرورة الفرق بين أمره بالقيام وبين أمره بإيجاد السماوات والكواكب، ولولا أنّ العلم الضروري حاصل بكوننا موجِدين لأفعالنا لَما صحّ ذلك.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 113.


الصفحة 211

وقال الفضـل(1):

الطلب من الغير للفعل ونهيه عن الفعل، للحكم الضروري بأنّه فاعل الفعل، وهذا لا ينكره إلاّ من ينكر الضروريّـات.

وقد مرّ مراراً أنّ هذا ليس محلّ النزاع(2)، فإنّ صدور الفعل عن أحدنا محسوس، ولهذا نطلب منه ونتلطّف، ونزجر ونعد ونوعد.

وكلّ هذه الأُمور واقعة، وليس النزاع إلاّ في أنّ هذا الفعل هل هو مخلوق لنا، أو نحن نباشره؟

فالنزاع راجع إلى الفرق بين المباشرة والخلق، وأنّهما متّحدان أو متغايران؟ وهذا ليس بضروري، ومن ادّعى ضرورية هذا فهو مكابرة لمقتضى العقل، فمخالفة الضرورة في ما ذكر ليس في محلّ النزاع، فليس له فيه دليل.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 63.

(2) انظر ردّ الفضل في الصفحتين 121 و 141.


الصفحة 212

وأقـول:

ما ذكره المصنّـف من التلطّف في الاستدعاء ونحوه دليلٌ ضروريٌّ على كون العبد موجِداً لفعله ومؤثّراً فيه، كما هو مذهبنا، ومجرّد محلّـيّـته لفعـل فاعـل آخـر مع عـدم الأثر له أيضـاً في المحلّـيّة ـ كما هو مذهبهم ـ لا يصحّح التلطّف ونحوه، وهذا من أوّليّات الضروريّات.

ولكنّ الخصم يستعمل المغالطة والتمويه، فادّعى أنّهم يقولون بمباشرة العبد للفعل، وأنّها غير الإيجاد.

فإنْ أراد أنّها فِعل آخر للعبد من آثاره فهو مخالف لمذهبه..

وإنْ أراد أنّها عبارة عن محلّيّة العبد لفِعل الله بلا أثر للعبد فيها أصلا، لم يرتفع الإشكال بمخالفتهم للحكم الضروري كما أوضحه المصنّـف.

وليت شعري إذا استعمل الإنسان التمويه في دينه اليوم، فهل يراه منجيه غداً يوم تكشف الحقائق ويظهر الكاذب من الصادق؟!

فليحذر العاقل! وليعتبر من يريد خلاص نفسه يوم حلوله في رمسه!


*    *    *


الصفحة 213

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

ومنها: مخالفة إجماع الأنبياء والرسل، فإنّه لا خلاف في أنّ الأنبياء أجمعوا على أنّ الله تعالى أمر عباده ببعض الأفعال كالصلاة والصوم، ونهى عن بعضها كالظلم والجور، ولا يصحّ ذلك إذا لم يكن العبد موجداً.

إذ كيف يصحّ أن يقال له: ائت بفعل الإيمان والصلاة، ولا تأت بالكفر والزنا، مع أنّ الفاعل لهذه الأفعال والتارك لها هو غيره؟!

فإنّ الأمر بالفعل يتضمّن الإخبار عن كون المأمور قادراً عليه، حتّى لو لم يكن المأمور قادراً على المأمور به لمرض أو سبب آخر ثُمّ أمره، فإنّ العقلاء يتعجّبون منه وينسبونه إلى الحمق والجهل والجنون، ويقولون: إنّك لتعلم أنّه لا يقدر على ذلك، ثُمّ تأمره به؟!

ولو صحّ هذا لصحّ أن يبعث الله رسولا إلى الجمادات مع الكتاب، فيبلّغ إليها ما ذكرناه، ثُمّ إنّه تعالى يخلق الحياة في تلك الجمادات ويعاقبها لأجل أنّها لم تمتثل أمر الرسول، وذلك معلوم البطلان ببديهة العقل.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 113.


الصفحة 214

وقال الفضـل(1):

أَمْـرُ الأنبياء عبادَ الله بالأشياء ونهيهم عن الأشياء لا يتوقّف على كون العبد موجِداً للفعل.

نعم، يتوقّف على كون العبد فاعلا مستقلاًّ في الكسب والمباشرة ومختاراً، وهذا مذهب الأشاعرة(2)، وما ذكره لا يلزم من يقول بهذا، بلى يلزم أهل مذهب الجبر.

وقد علمت أنّ الأشاعرة يثبتون اختيار العبد في كسب الفعل، ويمنعون كون قدرته مؤثّرة في الفعل، ومبدعة موجدة إيّاه، وشتّان بين الأمرين.

فكلّ ما ذكره لا يلزم الأشاعرة، وليس في مذهبهم مخالفة لإجماع الأنبياء.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 65.

(2) انظر: اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 69، تمهيد الأوائل: 342، شرح المقاصد 4 / 250، شرح المواقف 8 / 146.


الصفحة 215

وأقـول:

لم يُرِد الخصم بقوله: " فاعلا مستقلاًّ في الكسب " تأثير قدرته فيه، فإنّه مناف لقولهم: لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله تعالى.

بل أراد مجرّد محلّـيّته للفعل بلا تأثير له في الفعل والمحلّـيّة، غاية الأمر أنّه يقترن بالفعل قدرة له واختيار، وهما لا يصحّحان أمره ونهيه ما لم يكن لهما تأثير ألبتّـة.

فيرد عليهم ما ذكره المصنّـف (رحمه الله)، فليس أمر العباد ونهيهم إلاّ بمنزلة أمر الجمادات ونهيها!


*    *    *


الصفحة 216

قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم منه سدّ باب الاستدلال على وجود الصانع، والاستدلال على كونه تعالى صادقاً، والاستدلال على صحّة النبوّة، والاستدلال على صحّة الشريعة، ويفضي إلى القول بخرق إجماع الأُمّة; لأنّه لا يمكن إثبات الصانع إلاّ بأن يقال: العالَم حادث، فيكون محتاجاً إلى المحدِث قياساً على أفعالنا المحتاجة إلينا، فمع منع حكم الأصل في القياس، وهو كون العبد موجداً، لا يمكنه استعمال هذه الطريقة، فينسدّ عليه باب إثبات الصانع.

وأيضاً: إذا كان الله تعالى خالقاً للجميع من القبائح وغيرها، لم يمتنع منه إظهار المعجز على يد الكاذب، ومتى لم يقطع بامتناع ذلك انسدّ علينا باب إثبات الفرق بين النبيّ والمتنبّي.

وأيضاً: إذا جاز أن يخلق الله تعالى القبائح، جاز أن يكذب في إخباره، فلا يوثق بوعده ووعيده وإخباره عن أحكام الآخرة والأحوال الماضية والقرون الخالية.

وأيضاً: يلزم من خلقه القبائح جواز أن يدعو إليها وأن يبعث عليها، ويحثّ ويرغّب فيها، ولو جاز ذلك جاز أن يكون ما رغّب الله تعالى فيه من القبائح، فتزول الثقة بالشرائع ويقبح التشاغل بها.

وأيضاً: لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر والإضلال،

____________

(1) نهج الحقّ: 114.


الصفحة 217
ويزيّنه له ويصدّه عن الحقّ، ويستدرجه بذلك إلى عقابه، للزم في دين الإسلام جواز أن يكون هو الكفر والضلال، مع أنّه تعالى زيّنه في قلوبنا، وأن يكون بعض الملل المخالفة للإسلام هو الحقّ، ولكنّ الله تعالى صدّنا عنه وزيّن خلافه في أعيننا..

فإذا جـوّزوا ذلك لزمهم تجويز ما هم عليه هو الضلالة والكفر، وكون ما خصومهم عليه هو الحقّ، وإذا لم يمكنهم القطع بأنّ ما هم عليه هو الحقّ، وما خصومهم عليه هو الباطل، لم يكونوا مسـتحقّين للجواب!


*    *    *