الصفحة 380

شـرائط التكليـف

قال المصنّـف ـ شرّف الله منزلته ـ(1):

المطلب الثامن عشر
في شرائط التكليف

ذهبت الإماميّـة إلى أنّ شرائط التكليف سـتّـة:

الأوّل: وجود المكلّف; لامتناع تكليف المعدوم، فإنّ الضرورة قاضية بقبح أمر الجماد، وهو إلى الإنسان أقرب من المعدوم(2).

وقبح أمر الرجل عبيـداً يريد أن يشتريهم وهو في منزله وحده، ويقول: يا سالم قمْ، ويا غانم كُلْ، ويعدّه كلّ عاقل سفيهاً، وهو إلى الإنسان الموجود أقرب.

وخالفت الأشاعرة في ذلك، فجوّزوا تكليف المعدوم ومخاطبته والإخبار عنه(3)، فيقول الله في الأزل: ( يا أيّها النـاس اعبدوا ربّـكم )(4)، ولا شخص هناك..

ويقول: ( إنّـا أرسلنا نوحاً )(5)، ولا نوح هناك.

وهذه مكابرة في الضرورة.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 134.

(2) التذكرة بأُصول الفقه: 32، الغَيـبة ـ للطوسي ـ: 15، العدّة في أُصول الفقه 1 / 251.

(3) التقريب والإرشاد 2 / 298 وما بعدها، المستصفى من علم الأُصول 1 / 85، المحصول في علم أُصول الفقه 1 / 328، الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ 1 / 131، منتهى الوصول والأمل في علمَي الأُصول والجدل: 44، فواتح الرحموت 1 / 146 ـ 147.

(4) سورة البقرة 2: 21.

(5) سورة نوح 71: 1.


الصفحة 381

الصفحة 382

وقال الفضـل(1):

قد عرفت جواب هذا في مبحث إثبات الكلام النفساني، وأنّ الخطاب موجود في الأزل قبل وجود المخاطبـيـن بحسـب الكلام النفساني(2)، ويحدث التعلّق عند وجودهم.

ولا قبح في هذا، فإنّ من زوّر في نفسه كلاماً ليخاطب به العبـيد الّذين يريد أن يشتريهم بأن يخاطبهم بعد الشراء لا يعدّ سفيهاً.

ثمّ ما ذكر أنّ الأشاعرة جوّزوا تكليف المعدوم، فهذا ينافي ما أثبته في الفصل السابق أنّهم يقولون: إنّ التكليف مع الفعل، وليـس قبله تكليـف.

فإذا كان وجود التكليف عند الأشاعرة مع الفعل، فهل يجوز عندهم أن يقولوا بتكليف المعدوم؟!


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 172.

(2) راجع ج 2 / 237 و 244 ـ 245.


الصفحة 383

وأقـول:

تقدّم في ذلك المبحث أنّ خطاب المعدوم وتكليفه سفه بالضرورة، إذ لا يصحّان من دون مخاطَب ومكلّف، ولا أثر لحدوث التعلّق لو عقلنا التعلّـق(1).

والقياس على من زوّر في نفسه كلاماً، خطأٌ ظاهر; لأنّ المزوّر ليس بمخاطب، وإنّما هو متصوّر ومقدّر لخطاب في المستقبل، فلا يقاس عليه الكلام النفسي الذي هو خطاب وتكليف في الأزل.

وأمّا ما ذكره من المنافاة، فقد عرفت أنّه ليس على المصنّف رفع التنافي عن أقوالهم، وكيف يمكن إنكارهم لتكليف المعدوم وقد قالوا: إنّه مأمور ومنهي في الأزل؟!


*    *    *

____________

(1) راجع ج 2 / 238 و 246.


الصفحة 384

قال المصنّـف ـ طاب رمسه ـ(1):

الثاني: كون المكلّف عاقلا; فلا يصحّ تكليف الرضيع، ولا المجنون المطبـق(2).

وخالفت الأشاعرة في ذلك وجـوّزوا تكليف هؤلاء(3).

فلينظر العاقل هل يحكم عقله بأن يؤاخذ المولود حال ولادته بالصلاة وتركها، وترك الصوم والحجّ والزكاة، وهل يصحّ مؤاخذة المجنون المطبق على ذلك؟!


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 135.

(2) شرح جمل العلم والعمل: 100، الذخيرة في علم الكلام: 121، تقريب المعارف: 129، المنقذ من التقليد 1 / 253.

(3) ذكر ذلك الباقلاّني عن بعض الفقهاء; انظر: التقريب والإرشاد 1 / 240 و 243 ـ 244.


الصفحة 385

وقال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّ القلم مرفوع عن الصبيّ حتّى يبلغ الحلم، وعن المجنون حتّى يفيق(2).

وما ذكره افتراء عليهم محض، كما هو عادته في الافتراء والكذب والاختراع.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 173.

(2) انظر: التقريب والإرشاد 1 / 236.


الصفحة 386

وأقـول:

ما نسبه المصنّف إليهم هو تجويز تكليف غير العاقل، وما نقله الخصم هو عدم الوقوع، ولا ربط لأحدهما بالآخر، ولا يمكن إنكار تجويزهم ذلك; لأنّهم يجوّزون تكليف ما لا يطاق; وهذا نوع منه.

ويقولون: إنّ الله يحكم ما يريد، ولا يقبح منه شيء(1)، فيجوز أن يكلّف من لا عقل له، ويعاقبه على المخالفة.

على أنّه قد نقل عنهم السيّد السعيد ما يدلّ على أنّهم يقولون بالوقوع(2).

ولا يهمّـنا أمره بعد كون ما نسبه المصنّف إليهم هو التجويز.


*    *    *

____________

(1) راجع: الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134 و 154، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 332 و 345، المواقف: 330، شرح المقاصد 4 / 294.

(2) إحقاق الحقّ 2 / 174.


الصفحة 387

قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

الثالث: فهم المكلّف; فلا يصحّ تكليف من لا يفهم الخطاب قبل فهمـه(2).

وخالفت الأشاعرة في ذلك، فلزمهم التكليف بالمهمل وإلزام المكلّف معرفته ومعرفة المراد منه، مع أنّه لم يوضع لشيء ألبتّة، ولا يراد منه شيء أصلا(3).

فهل يجوز للعاقل أن يرضى لنفسه المصير إلى هذه الأقاويل؟!


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 135.

(2) العدّة في أُصول الفقه 2 / 451 وما بعدها.

(3) انظر: تفسير الفخر الرازي 2 / 13، الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ 1 / 144، فواتح الرحموت 1 / 143 ـ 144.


الصفحة 388

وقال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّه لا يصحّ خطاب المكلّفين بما لا يفهمونه ممّا يتعلّق بالأمر والنهي(2).

وما لا يتعلّق به اختُلِف فيه.. فذهب جماعة منهم إلى جواز المخاطبة بما لا يفهمه المكلّف، كالمقطّعات في أوائل السور(3)، ولكن ليـس هذا مذهب العامّة.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 175.

(2) راجع ما مـرّ في الصفحة السابقة، الهامش 3.

(3) تفسير الفخر الرازي 2 / 13.


الصفحة 389

وأقـول:

كيف لا تصحّ نسبة المصنّف إليهم صحّة تكليف مَن لا يفهم الخطاب، وقد زعموا أنّ الله يحكم ما يريد ولا يقبح منه شيء(1)؟!

وأمّا ما نقله الخصم، فالظاهر أنّه في الوقوع لا الجواز، كما يرشد إليه تفصيلهم.

وتمثيل المجوّز للثاني بما زعم وقوعه، وهو المقطّعات كما نقله الخصم، وإلاّ فبالنظر إلى الجواز العقلي وعدمه لا وجه للتفصيل.


*    *    *

____________

(1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134 و 154، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 332 و 345، المواقف: 330، شرح المقاصد 4 / 294.


الصفحة 390

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

الرابع: إمكان الفعل إلى المكلّف; فلا يصحّ التكليف بالمحال(2).

وخالفت الأشاعرة فيه، فجوّزوا تكليف الزَمِن الطيران إلى السماء، وتكليف العاجز خلق مثل الله تعالى وضدّه وشريكه وولد له، وأن يعاقبه على ذلك، وتكليفه الصعود على السطح العالي بأن يضع رجلا في الأرض ورجلا على السطح(3).

وكفى مَن ذهب إلى هذا نقصاً في عقله، وقلّةً في دينه، وجرماً عند الله تعالى، حيث نسبه إلى إيجاد ذلك، بل مذهبهم أنّه تعالى لم يكلّف أحداً إلاّ بما لا يطاق.

أو تُرى ما يكون جواب هذا القائل إذا وقف بين يدي الله تعالى وسأله: كيف ذهبت إلى هذا القـول وكـذّبت القـرآن العـزيز، وإنّ فيـه: ( لا يُكلف الله نفساً إلاّ وُسعها )(4).


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 135.

(2) شـرح جمـل العلـم والعمـل: 98 ـ 99، الذخيـرة في علم الكـلام: 100 ـ 101 و 121، تقريب المعارف: 112 و 128، تجريد الاعتقاد: 203.

(3) انظر: اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 98 ـ 101، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 140 و 163، المواقف: 330 ـ 331.

(4) سورة البقرة 2: 286.


الصفحة 391

وقال الفضـل(1):

قد عرفتَ في الفصـل الذي ذُكـر فيه " تـكليف ما لا يطـاق "، أنّ مـا لا يطاق على ثلاث مراتب، ولا يجوز التكليف بالوسطى دون الثالث.

والأوّل واقع بالاتّفاق، كتكليف أبي لهب بالإيمان وهذا بحسب التجويز العقلي، والاسـتقراء يحكم بأنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع، ولقوله تعالى: ( لا يُكلّف الله نفساً إلاّ وُسعها )(2)، وهذا مذهب الأشاعرة(3).

والعجب من هذا الرجل أنّه يفتري الكذب ثمّ يعترض عليه، فكأنّه لم يتّفق له مطالعة كتاب في الكلام على مذهب الأشاعرة، وسمع عقائدهم من مشايخه من الشيعة وتقرّر بينهم أنّ هذه عقائد الأشاعرة.

ثمّ لم يستحِ من الله تعالى ومن الناظر في كتابه، وأتى بهذه الترّهات والمزخرفات.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 176.

(2) سورة البقرة 2: 286.

(3) تقدّم في الصفحة 99 ـ 100 من هذا الجزء.


الصفحة 392

وأقـول:

سبق هناك بيان ما في دعوى الاتّفاق على وقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأُولى.

وحقّـقنا أنّا لا نجوّزه بالمراتب كلّها، وأنّهم يجوّزونه فيها جميعاً.

وأوضحنا المقام في تكليف أبي لهب بالإيمان.

وذكرنا أنّ الله سبحانه لم يكلّف عندهم إلاّ بما لا يطاق; لأنّ أفعال العباد مخلوقة له ولا أثر للعبد فيها، فكلّها لا تطاق للعبد ولا ممّا يسعه(1)، ومع ذلك قد كلّفه الله سبحانه بها، فيكون قوله تعالى: ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وُسعها )(2) كاذباً على مذهبهم، كما ذكره المصنّف ولم يجهله الخصم، ولكنّه قصد بتكذيب المصنّف وإساءة الأدب معه والتجاهل بمذهبه، التمويهَ وتلبيسَ الحقيقة.


*    *    *

____________

(1) تقدّم في الصفحة 101 ـ 104 من هذا الجزء.

(2) سورة البقرة 2: 286.


الصفحة 393

قال المصنّـف ـ قـدّس الله نفسه ـ(1):

الخامس: أنْ يكون الفعل ما يستحقّ به الثواب(2)، وإلاّ لزم العبث والظلم على الله تعالى.

وخالفت الأشاعرة فيه، فلم يجعلوا الثواب مستحقّاً على شيء من الأفعال، بل جوّزوا التكليف بما يستحقّ عليه العقاب(3)، وأنْ يرسل رسولا يكلّف الخلق فِعل جميع القبائح وترك جميع الطاعات.

فيلزمهم من هذا أن يكون المطيع المبالغ في الطاعة مِن أسفه الناس وأجهل الجهلاء، من حيث يتعب بماله وبدنه في فعله شيئاً ربّما يكون هلاكه فيه.

وأنْ يكون المبالغ في المعصية والفسوق أعقل العقلاء حيث يتعجّل اللذّة، وربّما يكون تركها سبب الهلاك وفعلها سبب النجاة.

فكان وضع المدارس والـرُّبُـط(4) والمساجد من نقص التدبيرات البشـريـة، حيـث تخسـر الأمـوال فـي مـا لا نـفع فيـه ولا فائـدة عاجلـة ولا آجلـة.

____________

(1) نهج الحقّ: 136.

(2) انظر: الذخيرة في علم الكلام: 112 و 131، تقريب المعارف: 119، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 112.

(3) التقريب والإرشاد 1 / 266، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134 و 140.

(4) الـرُّبُـطُ: الخيل تُربط بالأفنية وتُعلَـف، ورِباط الخيل مرابطتها في الثغور لصدّ الأعداء; وواحد الـرُّبُط: الـرَّبِـيط، وجمع الـرُّبُط: الرِّباط، وهو جمع الجمع.

انظر مادّة " ربط " في: لسان العرب 5 / 112، تاج العروس 10 / 259 ـ 262.


الصفحة 394

وقال الفضـل(1):

شرط الفعل الذي يقع به التكليف أن يكون ممّا يترتّب عليه الثواب في عادة الله تعالى، لا أنّه يجب على الله تعالى إثابة المكلّف المطيع; لأنّه لا يجب عليه شيء، بل جرى عادة الله تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح، وليس للمكلّفين على الله تعالى دَين يجب عليه قضاؤه.

ولو كان إلاّ كذلك، للزم أن يكون العباد متاجرين مع الله تعالى، كالأُجراء الّذين يأخذون أُجرتهم عند الفراغ من العمل، ولو لم يعط المؤجّر أُجرتهم لكان ظالماً وجائراً.

وهذا مذهب باطل لا يذهب إليه من يعرف نِعَـمَ الله تعالى على عباده، ويعرف علوّ الشأن الإلهي، وأنّ الناس كلّهم عبـيد الله، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وليس لهم عليه حقّ ولا استحقاق، بل الثواب بفضله وجرى عادته أن يعطي العبد المطيع عقيب طاعته، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز.

وهل يحسن أن يقال: إنّه إذا لم يجب على الله تعالى إعطاء الشبع عقيب أكل الخبز، تموت الناس من الجوع؟!

كذلك لا يحسن أن يقال: لو لم يجب على الله تعالى إثابة المطيع وجزاء العاصي، لارتفع الفرق بين المطيع والعاصي، ولكان فعل الخيرات وإثارة المبرّات ضائعاً عبثاً؟!

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 177.


الصفحة 395
لأنّا نقول: جرت عادة الله تعالى التي لا تتخلّف إلاّ بسبيل خرق العادة على إعطاء الثواب للمطيع من غير أن يجب عليه شيء.

فلم يرتفع الفرق بين المطيع والعاصي، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز، فهل يكون من أكل الخبز فشبع، كمن ترك أكل الخبز فجاع؟!


*    *    *


الصفحة 396

وأقـول:

قد سبق أنّ الثواب غيبي، فلا تصحّ دعوى العلم بالعادة فيه..

وأمّا إحرازها بإخبار الله تعالى، فغير تامّ; لابتنائه على صدق كلامه تعالى، وهو غير محقّق على مذهبهم!

مع أنّه قال تعالى: ( يمحُو الله ما يشاء ويثبت )(1)، ولعلّ ما أخبر به من الثواب ممّا يمحوه.

فأين العادة في الثواب وإحرازها؟! لا سيّما وقد أجاز الخصم خرقها كما هو واقع في عادات الدنيا.

وأمّا ما ذكره من نفي كون الثواب دَيناً على الله تعالى، فنحن نمنعه ونقول: إنّه دَين، أي إنّه حقّ عليه اقتضاه عدله.

وأمّا كون العباد متاجرين مع الله تعالى، فهو ممّا نطق به الكتاب العزيز، قال تعالى: ( إنّ الّذين يتلُون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانية يرجُون تجارةً لن تبُور * ليوفّيهم أُجورهم ويزيدهُم من فضله )(2)..

وقال تعالى: ( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة ) إلى قوله تعالى: ( فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتُم به )(3)..

____________

(1) سورة الرعد 13: 39.

(2) سورة فاطر 35: 29 و 30.

(3) سورة التوبة 9: 111.


الصفحة 397
وقال تعالى: ( هل أُدلّكم على تجارة تُنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله... )(1) الآية..

( إنّـا لا نضيع أجر من أحسن عملا )(2)..

( إنّـا لا نضيع أجر المصلحين )(3)..

( نِعم أجرُ العاملين )(4)..

( إنّما تُوفّون أُجوركم )(5)..

( فيوفّيهم أُجورهم )(6).

إلى غير ذلك من الآيات المتضافرة والأخبار المتواترة.

وأمّا قوله: " لو لم يعطِ المؤجّر أُجرتهم كان ظالماً وجائراً "..

فهو من مقالة أهل الحقّ التي صرّح بها الكتاب المجيد، قال تعالى: ( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوفّ إليكم وأنتم لا تُظلمون )(7).

وقال تعالى: ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أُنثى وهو مؤمنٌ فأُولئك يدخلون الجنّة ولا يُظلمون نَقيراً )(8).

وقال تعالى: ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريبَ فيه ووُفّيت كلُّ

____________

(1) سورة الصفّ 61: 10 و 11.

(2) سورة الكهف 18: 30.

(3) سورة الأعراف 7: 170.

(4) سورة آل عمران 3: 136، سورة العنكبوت 29: 58.

(5) سورة آل عمران 3: 185.

(6) سورة آل عمران 3: 57، سورة النساء 4: 173.

(7) سورة الأنفال 8: 60.

(8) سورة النساء 4: 124.


الصفحة 398
نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون )(1).

وقـال تـعـالى: ( ومـا تـنـفـقوا مـن خيـر يُـوفّ إليـكـم وأنـتـم لا تُظلمون )(2).

وقـال تـعـالى: ( ولـتـجـزى كـلُّ نـفـس بـمـا كـســبـت وهـم لا يُظلمون )(3).

وقال تعالى: ( وتُوفّى كلّ نفس ما عملت وهم لا يُظلمون )(4).

وقال تعالى: ( ولكلّ درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون )(5).

إلى غير ذلك من الآيات المسـتفيضة.

وأمّا قوله: " لا يذهب إليه من يعرف نِعمَ الله على عباده "..

فإنْ أراد به أنّ من يعرف نِعَمَه لا يرى أنّه مستحقّ للأجر، فظاهر البطلان; لأنّ وجوب شكر المنعم لا ينافي استحقاق الأجر على ما كلّفه به المنعم، وإنْ حسُن من العبد أو وجب عليه عدم المطالبة بالأجر شكراً للنعمة.

وإنْ أراد أنّ حصول الإنعام من الله تعالى كاف في صحّة التكليف منه بلا إعطاء أجر، ليكون التكليف ناشئاً من طلب المنعم جزاءَ نِعَمِه بالشكر عليها، كما عن أبي القاسم البلخي(6)، فهو أظهر بطلاناً; إذ يقبح من

____________

(1) سورة آل عمران 3: 25.

(2) سورة البقرة 2: 272.

(3) سورة الجاثية 45: 22.

(4) سورة النحل 16: 111.

(5) سورة الأحقاف 46: 19.

(6) انظر: شرح الأُصول الخمسة: 617.


الصفحة 399
الكريم طلب جزاء نعمته من دون أن يعطيه ثواباً على ما كلّفه به، بل يكون تكليفه بلا أجر عبثاً وظلماً!

ولو كان الثواب تفضّلا محضاً، لصحّ منع الثواب عن سيّد النبيّين أو مساواته فيه لسائر المؤمنين، بل للأطفال والمجانين، ولجاز خلق النار دون الجنّـة.

وأمّا ما ذكره من مثال الموت من الجوع; فإنّما لا يحسن السؤال فيه إذا ترتّب عليه فائدة للعبد، أو كان جزاء عمله السـيّئ، وإلاّ فيقبح إيلام العبد بلا فائدة له ولا ذنب منه، ويصحّ السؤال عنه.

كما يصحّ السؤال عن ترك إثابة المطيع وجعله بمنزلة العاصي، لكن مثل هذه الأُمور ليست من فِعله ولا تصدر عنه، فلا يُسأل عنها; لانتفاء الموضوع.


*    *    *


الصفحة 400

قال المصنّـف ـ قدّس الله روحه ـ(1):

السادس: أن لا يكون حراماً; لامتناع كون الشيء الواحد من الجهة الواحدة مأموراً به منهيّـاً عنه; لاستحالة التكليف بما لا يطاق(2).

وأيضاً: يكون مراداً ومكروهاً في وقت واحد من جهة واحدة، وهذا مسـتحيل عقلا.

وخالفت الأشاعرة في ذلك، فجوّزوا أن يكون الشيء الواحد مأموراً به منهيّـاً عنه; لإمكان تكليف ما لا يطاق عندهم(3).


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 136.

(2) التذكرة بأُصول الفقه: 31، العدّة في أُصول الفقه 1 / 181.

(3) انظر: التقريب والإرشاد 1 / 246 ـ 247 و 260، تمهيد الأوائل: 320، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 140، فواتح الرحموت 1 / 110 ـ 111.


الصفحة 401

وقال الفضـل(1):

لا خلاف في أنّ المأمور به لا بُـدّ أن لا يكون حراماً; لأنّ الحرام ما نهى الله عنه..

ولا يكون الشيء الواحد مأموراً به، منهيّـاً عنه، في وقت واحد، من جهة واحدة، ولكن إن اختلف الوقت والجهة والشرائط التي اعتبرت في التناقض، يجوز أن يتعلّق به الأمر في وقت من جهة، والنهي في وقت آخر من جهة أُخرى; فهذا مذهب أهل السُـنّة.

وأمّا إمكان التكليف بما لا يطاق، فقد سمعته غير مرّة، وأنّه لا يقع ولم يقع.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 181.


الصفحة 402

وأقـول:

قد نصدّقه في ما يتعلّق بالوقوع، بأن لم يقولوا بوقوع الأمر بالحرام.

ولكنّ كلام المصنّف في التجويز كما لا ينكره الخصم، وكفاهم نقصاً في تجويز مثله على الله سبحانه، وهو ممّا لا يجوز على أقلّ العقلاء.


*    *    *


الصفحة 403

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

ومن العجب أنّهم حرّموا الصلاة في الدار المغصوبة، ومع ذلك لم يوجبوا القضاء وقالوا: إنّها صحيحة(2).

مع أنّ الصحيح هو المعتبر في نظر الشارع، وإنّما يطلق على المطلوب شرعاً، والحرام غير معـتبر في نظر الشـارع، مطلوب الترك شـرعاً.

وهل هذا إلاّ محض التناقض؟!


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 137.

(2) المجموع ـ للنووي ـ 3 / 164.


الصفحة 404

وقال الفضـل(1):

الصلاة الصحيحة ما استجمعت شرائط الصحّة التي اعتبرت في الشرع، فالصلاة في الدار المغصوبة صحيحة; لأنّها مستجمعة لشرائط الصحّة التي اعتبرت في الصلاة في الشرع، وليس وقوعها في مكان مملوك غير مغصوب من شرائط صحّة الصلاة.. نعـم، من شرائطها أن تقع في مكان طاهر من النجاسات.

ولو كان من شرائط الصحّة وقوعها في مكان غير مغصوب، لكان الواقع في المكان المغصوب منها فاسدة، وكان يجب قضاؤها; لكونها غير معتبرة في نظر الشرع; لعدم استجماعها الشرائط المعتبرة فيها.

وأمّا كونها حراماً، فلأجل أنّها تتضمّن الاستيلاء على حقّ الغير عدواناً، فهي بهذا الاعتبار حرام، فالحرمة باعتبار، والصحّة باعتبار آخر، فأين التناقض؟!

والعجب أنّه مشتهر بالدراية في المعقولات، ولا يعلم شرائط حصول التناقض!


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 182.


الصفحة 405

وأقـول:

إذا أقرُّوا بحرمة الصلاة في الدار المغصوبة، لزمهم الحكم بعدم اعتبارها شرعاً، لعدم مطلوبيّتها، فلا تصحّ; لأنّ العبادة الصحيحة هي المطلوبة للشارع، المعتبرة في نظره.

وهذه عبارة أُخرى عن كون إباحة المكان شرطاً في صحّة الصلاة، فإذا حكموا بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة ثبت التناقض; لأنّه يكون هذا الوجود الشخصي للصلاة في الدار المغصوبة معتبَراً وغيرَ معتبَر، صحيحاً وغيرَ صحيح، وهو تناقض ظاهر.


*    *    *


الصفحة 406

الإعواض على الآلام

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

المطلب التاسع عشر
في الإعـواض

ذهبت الإمامية إلى أنّ الألم الذي يفعله الله تعالى بالعبد، إمّا أن يكون على وجه الانتقام والعقوبة، وهو المستحقّ; لقوله تعالى: ( ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسـئين )(2)..

وقوله تعالى: ( أَوَلا يرون أنّهم يُفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذّكّرون )(3)، ولا عوض فيه.

وإمّا أن يكون على وجه الابتداء، وإنّما يحسن فعله من الله تعالى بشرطين:

أحدهما: أنْ يشتمل على مصلحة مّا للمتألّم أو لغيره، وهو نوع من اللطف; لأنّه لولا ذلك لكان عبثاً، والله تعالى منزّه عنه.

____________

(1) نهج الحقّ: 137.

(2) سورة البقرة 2: 65.

(3) سورة التوبة 9: 126.


الصفحة 407
الثاني: أنْ يكون في مقابلته عوض للمتألّم يزيد على الألم، بحيث لو عرض على المتـألّم الألمَ والعوضَ اختار الألم، وإلاّ لزم الظلم والجور من الله سبحانه على عبيـده; لأنّ إيلام الحيـوان وتعذيـبه على غير ذنـب ولا لفائدة تصل إليه ظلم وجور، وهو على الله تعالى محال(1).

وخالفت الأشاعرة في ذلك، فجوّزوا أن يؤلم الله عبده بأنواع الألم من غير جرم ولا ذنب لا لغرض وغاية ولا يوصل إليه العوض، ويعذّب الأطفال والأنبياء والأولياء من غير فائدة ولا يعوّضهم على ذلك بشيء ألبتّة(2)، مع أنّ العلم الضروري حاصل لنا بأنّ من فعل من البشر مثل هذا عدّه العقلاء ظالماً جائراً سفيهاً.

فكيـف يجـوز للإنسـان نسـبة الله تعـالى إلى مثـل هـذه النـقـائص ولا يخشى ربّه؟!

وكيف لا يخجل منه غداً يوم القيامة إذا سألته الملائكة يوم الحساب: هل كنت تعذّب أحداً من غير استحقاق ولا تعوّضه عن ألمه عوضاً يرضى بـه؟!

فيقول: كلاّ، ما كنت أفعل ذلك.

فيقال له: كيف نسـبت ربّك إلى هذا الفعل الذي لم ترضه لنفسك؟!


*    *    *

____________

(1) الذخيرة في علم الكلام: 239، تقريب المعارف: 137، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 150، المنقذ من التقليد 1 / 330.

(2) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 115 ـ 116، تمهيد الأوائل: 382 ـ 385، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134 و 144، المواقف: 330.


الصفحة 408

وقال الفضـل(1):

إعلم أنّ الإعواض مذهب المعتزلة(2)، ولهم على هذا الأصل اختلافات ركيكة تدلّ على فساد الأصل مذكورة في كتب القوم.

وأمّـا الأشـاعرة، فذهبـوا إلى أنّ الله تعـالى لا يجـب عليـه شـيء، لا عوض على الألم ولا غيره; لأنّه يتصرّف في ملكه ما يشاء، والعوض إنّما يجب على من يتصرّف في غير ملكه(3).

نعم، جرت عادة الله على أنّ المتألّم بالآلام إمّا أن يكفّر عنه سيّئاته، أو يرفع له درجاته إن لم يكن له سيّئات، ولكن لا على طريق الوجوب عليـه.

وأمّا حديث العوض في أفعال الله تعالى، فقد مرّ بطلانه في ما سبق.

وأمّا تعذيب الأطفال والأنبياء والأولياء، ففيه فوائد ترجع إليهم، من رفع الدرجات وحطّ السيّئات، كما أُشير إليه في الأحاديث الصحاح، ولكن على سبيل جري العادة لا على سبيل الوجوب، فلا يلزم منه جور ولا ظلم.

ثمّ ما ادّعى من العلم الضروري بأنّ البشر لو عذّبَ حيواناً بلا عوض لكان ظالماً، فهذا قياس فاسد; لأنّ البشر يتصرّف في الحيوان بما ليس له،

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 187.

(2) انظر: شرح الأُصول الخمسة: 494 وما بعدها.

(3) انظر: تمهيد الأوائل: 384، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ: 115 ـ 116، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 295، المواقف: 330، شرح المواقف 8 / 195 ـ 200.


الصفحة 409
والله تعالى مالك مطلق يتصرّف كيف يشاء.

ونحن لا نمنع وقوع الجزاء والمنافع، ولكن نمنع وجوب هذا.

ونحن نقول: من يعتقد أنّ الله تعالى يجب عليه الإعواض عن الآلام، إذا حضر يوم القيامة عند ربّه، ورأى الجلال الإلهي، والعظمة الربّانية، والتصرّف المطلق الذي حاصل له في الملك والملكوت، سيّما في موقف القيامة التي يقال فيها: ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار )(1)، أَمَا يكون مسـتحيياً من الله تعالى أن يعتقد في الدنيا أنّه مع الله تعالى كالتاجر العامل، أعطى الأعمالَ والآن يريد جزاء الواجب على الله تعالى؟! فيدّعي على الله في ذلك المشهد: إنّك عـذّبتني وآلمتني في الدنيـا، فالآن لا أُخلّيك حتّى آخذ منك العوض; لأنّه واجب عليك أن تعوّضني.

فيقول الله تعالى: يا عبدَ السوء! أنا خلقتك وأنعمت عليك كيت وكيت، أتحسبني كنت متاجراً معك، معاملا لك، حتّى توجب علَيَّ العوض؟! أَدخِلوا العبدَ السوء النار.

فيقول: هكذا علّمني ابن المطهّر الحلّي، وهو كان إمامي، وأنا الآن بريء منه.

فيقول الله تعالى: أدخلوا جميعاً النار! ( كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار )(2).

والله أعلم، وهو أصدق القائلين.


*    *    *

____________

(1) سورة غافر 40: 16.

(2) سورة البقرة 2: 167.


الصفحة 410

وأقـول:

كم للمعتزلة من أصل خالفوا فيه العقل والنقل! كقولهم: إنّ الإمامة بالاختيار(1).

وكم لهم من أصل دلّ عليه العقل والنقل كالأصل الذي نحن فيه! وذلك لأنّ لهم ميلا إلى طريقة أمير المؤمنين، وهوىً بموالاة أعدائه.

ولذا أصابوا الحقّ في أصل هذا الأصل، وأخطأوا في كيفيّاته، ولو فسد الأصل بالاختلاف في جهاته لفسد الإسلام باختلاف أهله.

والأشاعرة لما جانبوا باب مدينة العلم وخالفوه بتمام جهدهم، لم يجتمعوا مع شيعة الحقّ في كلّ الأُصول المهمّة، ولم يأخذوا بما أُمروا به من التمسّك بأهل بيت العصمة.

وممّا خالفوا فيه صريح الحقّ وحكم العقل والنقل، هذا الأصل، بحجّة أنّ المالك المطلق يجوز له التصـرّف كيف شاء بلا حدّ ولا نهاية، ولا يلزمه بتصرّفه شيء من الأشياء.

فإنْ أرادوا أنّ جواز تصرّفه كذلك نفس معنى الملكية المطلقة، فهو ظاهر البطلان; لأنّ الملكية سلطنة وأمر نسبي اعتباري.

وإنْ أرادوا به أنّه من أحكامها وآثارها، فهو عين المدّعى، ومحلّ الكلام.

وكيف يكون من أحكامها جواز تعذيـب العبـد بلا ذنـب، وإيلامـه

____________

(1) انظر: شرح الأُصول الخمسة: 753.


الصفحة 411
بلا عوض، وهما منافيان لحقّ الرعاية وإنصاف المملوك؟!

فلا بُـدّ عقلا من ثبوت عوض عن الألم يرضى به العبد.

ولقوله تعالى: ( كتب ربّـكم على نفسه الرحمة )(1)، ومن الرحمة إعطاء العوض على الآلام، فيكون ممّا كتبه وأوجبه على نفسه تعالى.

وممّا يشهد بضرورة حكم العقل بوجوب العوض، تفريع الخصم خلافاً لمذهبه قوله: " فلا يلزم منه جور ولا ظلم " على ما أثبته من الفوائد في تعذيب الأطفال والأنبياء والأولياء، فإنّ تفريع ذلك على هذا يستدعي لزوم الجور والظلم بدون الفوائد، وإلاّ لم يكن محلّ للتفريع.

وأمّا ما ذكره من العادة التي هي غيب، فقد عرفت ما فيه مراراً.

وأمّا قوله: " وأمّا حديث العوض في أفعال الله تعالى، فقد مرّ بطلانه "..

فـفيه: إنّه لم يتقدّم ذِكر العوض على أفعال الله تعالى ـ وهي الآلام ـ الذي عرّفه المتكلّمون بالنفع المستحقّ، لا على وجه التعظيم والإجلال.

وإنّما تقدّم في الشرط الخامس للتكليف ذِكر الثواب على أفعال العبد المكلّف بها، الذي عرّفوه بالنفع المستحقّ على وجه التعظيم والإجلال(2)، فكيف يزعم أنّ حديث العوض في أفعال الله تعالى ـ الذي وقع به كلام المصنّف هنا ـ قد مرّ بطلانه؟!

ولكنّه اشتبه عليه الأمر وخلط من حيث لا يعلم، وعلى هذا الخلط جرى في قوله: " كالتاجر والعامل، أعطى الأعمالَ والآن يريد جزاء الواجب

____________

(1) سورة الأنعام 6: 54.

(2) تقدّم في ردّ الفضل في الصفحة 389 من هذا الجزء.


الصفحة 412
على الله تعالى، فيدّعي على الله في ذلك المشهد أنّك عذّبتني وآلمتني في الدنيا "..

إذ لا ربط للآلام التي هي أفعال الله تعالى، بأعمال العبد التي عملها، ولا دخل لجزاء أحدهما بجزاء الآخر.

وأمّا قوله: " أَما يكون مسـتحيياً من الله تعالى أن يعتقد "..

فـفيه: إنّه لا حياء في اعتقاد الحقّ الذي دلّ عليه العقل وصرّح به الكتاب العزيز في موردَي الثواب والعوض، حيث كتب على نفسه الرحمة المسـتدعية لإعطائهما.

نعـم، ينبغي حياء العبد من ادّعائه بالحقّ لو كانت له حاجة إلى الدعوى، ولكن يسـتحيل أن يحوج الله تعالى عبده المسكين إلى الدعوى، فإنّه أسرع الحاسـبين وأرحم الراحمين.

ثمّ إنّ هذا الاعتقاد والتعليم إنّما هما من فعل الله وحده عندهم، فما بال ابن المطهّر يلام على التعليم وهو من الله تعالى، ولا يلام عليه الخالق المؤثّر؟!!

ما هذا إلاّ عجـب!!


*    *    *