لا يفعل ذلك وهو يريد خيرا بآله وصلاحا في ماله، وعلى ذلك جرت سنة المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا الحاضر، وأقرته الشريعة الإسلامية، وشرعت للوصايا أحكاما، وجاء في الصحيحين (1) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده. كذا في لفظ البخاري، وفي لفظ مسلم: يبيت ثلاث ليال، قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي. قال النووي في رياض الصالحين 156: متفق عليه.
فإذا كانت الوصية ثابتة في حطام زائل؟ فما بالها تنفى في خلافة راشدة، وشريعة خالدة، مكتفلة بصلاح النفوس والنواميس والأموال والأحكام والأخلاق والصالح العام والسلام والوئام؟ ومن المسلم قصور الفهم البشري العادي عن غايات تلكم الشئون فلا منتدح والحالة هذه عن أن يعين الرسول الأمين عن ربه خليفته من بعده ليقتص أثره في أمته.
وقد مر في صفحة 132 رأي عائشة وعبد الله بن عمر ومعاوية وحديث الناس بأن راعي إبل أو غنم أو قيم أرض لأي أحد لا يسعهم ترك رعيتهم هملا، ورعية الناس أشد من رعية الإبل والغنم فالأمة لماذا صفحت يوم السقيفة عن هذا الحكم المتسالم عليه بينها؟ ولماذا نبأت عنه الاسماع؟ وخرست الألسن؟ وذهلت الأحلام عنه يوم ذاك، ثم حدث به الناس ونبأته الأمة؟ ولماذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمته سدى هملا؟ وفتح بذلك أبواب الفتن المضلة المدلهمة؟ واستحقر أمته ورأى
____________
(1) صحيح البخاري 4: 2 كتاب الوصية، وصحيح مسلم 2: 10.
(2) الجزء الأخير من الفتوحات المكية لابن العربي ص 575.
ثم إن الخليفة النادم لماذا تمنى التسلل عن الأمر يوم السقيفة؟ وقذفه في عنق أحد الرجلين: أبي عبيدة أو عمر؟ أكان ندمه عن حق وقع؟ فالحق لا ندم فيه. و إن كان عن باطل سبق؟ فهو يهدم أساس الخلافة الراشدة.
ثم الذي وده من قذفه إلى عنق أحد الرجلين فإنا لا نعرف وجها لتخصيصهما بالقذف وفي الصحابة أعاظم وذو وفضائل لا يبلغ الرجلان شأو أي منهم، وهذان بالنظر إلى ما عرفناه من أحوال الصحابة إن لم نقل إنهما من ساقتهم، فإنا نقول بكل صراحة إنهما لم يكونا من الأعالي منهم وفيهم من فيهم، وقبل جميعهم سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام صاحب السوابق والمناقب والصهر والقرابة والغناء والعناء، وصاحب يوم الغدير، والأيام المشهودة، والمواقف المشهورة، نفس النبي الأعظم بنص من الكتاب العزيز (4) المطهر من كل رجس بآية التطهير (5).
فهلا ود أن يقذفه إليه؟ فيسير بالأمة سيرا سجحا، ويحملهم على المحجة البيضاء، ويأخذ بهم الطريق المستقيم، ويجدونه هاديا مهديا، يدخلهم الجنة. كما أخبر بهذه كلها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وقد مر شطر منها في الجزء الأول صفحه 12، 13 ط 2.
____________
(1) مستدرك الحاكم 3: 140، 142، وصححه هو والذهبي في تلخيصه، تاريخ الخطيب 1 ص 216، تاريخ ابن كثير 6: 219، كنز العمال 6: 157.
(2) مستدرك الحاكم 3: 140 وصححه هو وأقره الذهبي.
(3) أخرجه ابن عساكر، والمحب الطبري في الرياض 2: 210 نقلا عن أحمد في المناقب والحافظ الكنجي في الكفاية ص 142، والخوارزمي في المقتل 1: 36.
(4) بآية المباهلة في سورة آل عمران: 61.
(5) في سورة الأحزاب: 33.
وفذلكة ذلك النبأ العظيم أن الصديقة سلام الله عليها قضت وهي واجدة على من ارتكبه، وكانت صلوات الله عليها تدعو عليه بعد كل صلاة صلتها (1).
وإن تعجب فعجب أن القوم ارتكب ما ارتكب من تلكم الفظايع وارتبك فيها وملأ الاسماع هتاف النبي صلى الله عليه وآله بقوله: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي بضعة مني، هي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني. بقوله: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها.
وبقوله: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني.
وبقوله: فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها (2).
وبقوله: فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها (3).
وبقوله: يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك (4).
وبهذا الهتاف تعلم أن ندم الخليفة كان في محله، غير أنه ندم ولات حين مندم، ندم وقد قضى الأمر ووقع ما وقع، ندم والصديقة الطاهرة مقبورة وملأ اهابها موجدة.
الثلاثة الوسطى
وأما الثلاثة من هاتيك الأمور التسعة التي ندم عليها الخليفة على تركها فإنها تعرب عن أنه ارتكب ما ارتكب فيها لا عن ترو أو بصيرة في الأمر، أو استناد إلى حكم شرعي، حتى كشف له الخطأ فيها جمعاء، وقد وقعت فيها عظائم، وأعقبتها طامات، و خليفة المسلمين يجب أن لا يرتكب ما يستتبعها، ولا يفعل ما يوجب الندم في مغبته، و قصة الأشعث بن قيس تعرب عن أن ندم الخليفة كان في محله، فإن الرجل بعد ما ارتد
____________
(1) الإمامة والسياسة 1: 14، رسائل الجاحظ ص 301، أعلام النساء 3 ص 1215.
(2) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا ص 20، وسنوقفك على تفصيلها في هذا الجزء إنشاء الله
(3) الأغاني 8: 156.
(4) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا ص 180 ط 2، وسنفصل فيه القول إنشاء الله.
كفر الأشعث. فلما فرغ طرح سيفه وقال: إني والله ما كفرت ولكن زوجني هذا الرجل أخته ولو كنا في بلادنا كانت وليمة غير هذه، وأهل المدينة! كلوا، ويا أصحاب الإبل!
تعالوا خذوا شرواها، فكان ذلك اليوم قد شبه بيوم الأضحى وفي ذلك يقول وبرة بن قيس الخزرجي:
وقال الأصبغ بن حرملة الليثي متسخطا لهذه المصاهرة:
الثلاثة الأخر
إن الثلاثة الأخر التي تمنى الخليفة أن يكون استعلمها من رسول الله صلى الله عليه وآله فإنها تنبأنا بقصوره في علم الدين، وإنه كان نابيا في فقهه، لا يعرف أحكام المواريث
____________
(1) تاريخ الطبري 3: 276، ثمار القلوب للثعالبي ص 69، الاستيعاب: 1: 51، الكامل لابن الأثير 2: 160، مجمع الأمثال للميداني 2: 341، الإصابة 1: 51 و ج 3: 630.
وعلى أي فهو في تسنمه عرش الخلافة غير متيقن بالرشد من أمره، ولا نحكم ها هنا غير ضميرك الحر، وليس في الحق مغضبة.
ثم إني لا أعرف لهذا التمني محصلا لأنه لو كان سأله صلى الله عليه وآله عن ذلك لما كان يجيبه إلا بمثل قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه. غ ج 1 (1).
وقوله: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي (2).
وقوله: إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي (3).
وقوله: علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي غ 3: 199.
وقوله لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي، إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي. غ 3: 172.
وقوله: أوحي إلي في علي ثلاث: إنه سيد المسلمين. وإمام المتقين. وقائد الغر المحجلين: مستدرك الحاكم 3: 138.
وقوله: إن الله اطلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيا، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إلي فأنكحته واتخذته وصيا. غ 2: 318 و ج 3: 23.
وقوله: علي الصديق الأكبر وفاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل، ويعسوب المؤمنين، وهو بابي الذي أوتي منه، وهو خليفتي من بعدي. غ 2: 213.
وقوله: علي راية الهدى، وإمام أوليائي، ونور من أطاعني، والكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه أحبني ومن أبغضه أبغضني. غ 3: 118.
وقوله: علي أخي ووصي ووارثي وخليفتي من بعدي. غ 2: 279 - 281.
وقوله: علي سيد مبجل، مؤمل المسلمين، وأمير المؤمنين، وموضع سري وعلمي، وبابي الذي يؤوى إليه، وهو الوصي على أهل بيتي، وعلى الأخيار من أمتي، وهو أخي في الدنيا والآخرة. غ 3: 116.
____________
(1) هذا رمز كتابنا هذا (الغدير) في هذا الجزء وبقية الأجزاء
(2) (3) مر الايعاز إلى حديث الثقلين غير مرة وسنفصل القول فيه إنشاء الله.
وقوله: علي مع الحق والحق مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. غ 3: 177.
وقوله: علي مع الحق والحق معه وعلى لسانه يدور حيثما دار علي. غ 3: 178.
وقوله: علي مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا علي الحوض. غ 3: 180.
وقوله: علي مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي غ 3: 22، 215.
وقوله: علي مولى كل مؤمن بعدي ومؤمنة غ 1: 15، 51 وقوله: علي أنزله الله مني بمنزلتي منه. غ 1: 22.
وقوله: علي وليي في كل مؤمن بعدي، مسند أحمد 1: 231.
وقوله: علي مني بمنزلتي من ربي، السيرة الحلبية 3: 391 وقوله: علي ولي المؤمنين من بعدي. تاريخ الخطيب 4: 339.
وقوله: من كان الله ورسوله وليه فعلي وليه. غ 1: 38.
وقوله: لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني. غ 6: 338 - 350.
وقوله: ما من نبي إلا وله نظير وعلي نظيري. غ 3: 23.
وقوله: أنا وعلي حجة على أمتي يوم القيامة. تاريخ الخطيب 2: 88.
وقوله: من أطاع عليا فقد أطاعني، ومن عصى عليا فقد عصاني، مستدرك الحاكم 3: 121، 128.
كيف تمنى الخليفة ما تمنى مع هذه النصوص؟ أو كان في الآذان وقر يوم هتف صلى الله عليه وآله بهاتيك الكلم الجامعة المعربة عن الخلافة بكل ما يمكن من التعبير؟ أم أن في القوم من تصامم عنها لأمر دبر بليل.
أولم يكف الخليفة أنه صلى الله عليه وآله لما عرض نفسه على القبائل وكان معه علي أمير المؤمنين ومعهما أبو بكر وبلغ بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلى الله فقال له قائلهم:
أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء (1)؟
____________
(1) مرت مصادره في هذا الجزء ص 134.
تحفظ على كرامة
حذف أبو عبيد من الحديث ذكر الأمر الأول من الثلاثة الأول وهو: كشف بيت فاطمة وجعل مكانه قوله: فوددت أني لم أكن فعلت كذا وكذا - لخلة ذكرها - فقال: لا أريد اذكرها. وما حرف ما حرف إلا تحفظا على كرامة الخليفة، والأسف على أن غيره ما شاركه فيما فعل، فظهرت خيانته على ودائع التاريخ،
- 12 -
سؤال يهودي أبا بكر
عن أنس بن مالك قال: أقبل يهودي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فأشار القوم إلى أبي بكر فوقف عليه فقال: أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي قال أبو بكر: سل عما بدا لك. قال اليهودي: أخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله. فقال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة يا يهودي! وهم أبو بكر والمسلمون رضي الله عنهم باليهودي، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما أنصفتهم الرجل. فقال أبو بكر: أما سمعت ما تكلم به؟ فقال ابن عباس إن كان عندكم جوابه وإلا فاذهبوا به إلى علي رضي الله عنه يجيبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي بن أبي طالب:
أللهم اهد قلبه، وثبت لسانه، قال: فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا علي بن أبي طالب
قل. فرد اليهودي المسائل: فقال علي رضي الله عنه: أما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معشر اليهود! إن العزيز ابن الله، والله لا يعلم أن له ولدا. وأما قولك: أخبرني بما ليس عند الله. فليس عنده ظلم للعباد، وأما قولك: أخبرني بما ليس لله فليس له شريك. فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنك وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو بكر والمسلمون لعلي عليه السلام: يا مفرج الكرب. " المجتنى لابن دريد ص 35 " قال الأميني: إقرأ واحكم.
- 13 -
وفد النصارى وأسؤلتهم
أخرج الحافظ العاصمي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وآله اجتمعت النصارى إلى قيصر مالك الروم فقالوا له: أيها الملك أنا وجدنا في الانجيل رسولا يخرج من بعد عيسى إسمه أحمد وقد رمقنا خروجه وجائنا نعته فأشر علينا فإنا قد رضيناك لديننا ودنيانا قال: فجمع قيصر من نصارى بلاده مائة رجل وأخذ عليهم المواثيق أن لا يغدروا ولا يخفوا عليه من أمورهم شيئا وقال: وانطلقوا إلى هذا الوصي الذي من بعد نبيهم فسلوه عما سئل عنه الأنبياء عليهم السلام وعما أتاهم به من قبل، والدلايل التي عرفت بها الأنبياء، فإن أخبركم فآمنوا به وبوصيه واكتبوا بذلك إلي، وإن لم يخبركم فاعلموا أنه رجل مطاع في قومه، يأخذ الكلام بمعانيه، ويرده على مواليه، وتعرفوا خروج هذا النبي. قال: فسار القوم حتى دخلوا بيت المقدس واجتمعت اليهود إلى رأس جالوت فقالوا له مثل مقالة النصارى بقيصر، فجمع رأس جالوت من اليهود مائة رجل، قال سلمان فاغتنمت صحبة القوم فسرنا حتى دخلنا المدينة وذلك يوم عروبة (1) وأبو بكر قاعد في المسجد رضي الله عنه يفتي الناس فدخلت عليه فأخبرته بالذي قدم له النصارى واليهود فأذن لهم بالدخول عليه فدخل عليه رأس جالوت
____________
(1) يعني يوم الجمعة وكان يسمى قديما بيوم عروبة، ويوم العروبة. والأفصح ترك الألف واللام.
ما كان هذا نبيا: قال سلمان: فنظر إلي القوم، قلت لهم: أيها القوم! ابعثوا إلى رجل لو ثنيتم الوسادة لقضى لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الانجيل بإنجيلهم، ولأهل الزبور بزبورهم، ولأهل القرآن بقرآنهم، ويعرف ظاهر الآية من باطنها، وباطنها من ظاهرها.
قال معاذ: فقمت فدعوت علي بن أبي طالب وأخبرته بالذي قدمت له اليهود والنصارى فأقبل حتى جلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود: وكان علينا ثوب ذل: فلما جاء علي بن أبي طالب كشفه الله عنا قال علي: سلني عما تشاء أخبرك إن شاء الله قال اليهودي:
ما أنا وأنت عند الله؟ قال أما أنا فقد كنت عند الله وعند نفسي مؤمنا إلى الساعة فلا أدري ما يكون بعد. وأما أنت فقد كنت عند الله وعند نفسي إلى الساعة كافرا ولا أدري ما يكون بعد..
قال رأس جالوت: فصف لي صفة مكانك في الجنة وصفة مكاني في النار فأرغب، في مكانك وأزهد عن مكاني قال: علي: يا يهودي! لم أر ثواب الجنة ولا عذاب النار فأعرف ذلك، ولكن كذلك أعد الله للمؤمنين الجنة وللكافرين النار، فإن شككت في شيئ من ذلك فقد خالفت النبي صلى الله عليه وسلم ولست في شيئ من الاسلام. قال: صدقت رحمك الله فإن الأنبياء يوقنون على ما جاؤا به فإن صدقوا آمنوا، وإن خولفوا كفروا. قال: فأخبرني أعرفت الله بمحمد أم محمدا بالله؟ فقال علي: يا يهودي! ما عرفت الله بمحمد ولكن عرفت محمدا بالله لأن محمدا محدود مخلوق وعبد من عباد الله اصطفاه الله واختاره لخلقه وألهم الله نبيه كما ألهم الملائكة الطاعة، وعرفهم نفسه بلا كيف ولا شبه. قال صدقت قال: فأخبرني الرب في الدنيا أم في الآخرة؟ فقال علي: إن " في " وعاء فمتى ما كان بفي كان محدودا ولكنه يعلم ما في الدنيا والآخرة، وعرشه في هواء الآخرة وهو محيط بالدنيا، والآخرة بمنزلة القنديل في وسطه إن خليت يكسر، إن أخرجته لم يستقم
{هلم معي إلى الغلو}
هذه جملة مما وقفنا عليه من فتاوى أبي بكر وآرائه وهي على قلتها تدلك على مكانته من علم الكتاب، وعرفان السنة، وفقه الشريعة، وأحكام الدين، أو ليس من المغالاة إذن أن يقال: علم كل ذي حظ من العلم أن الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه؟ (1).
أليس من المغالاة؟ أن يقال: إن المعروف أن الناس قد جمع الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فوجدوا أصوبها وأدلها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر، ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وجد نص يخالفها عن عمر أقل مما وجد عن علي، وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه؟
أليس من المغالاة؟ أن يقال: لم يكن أبو بكر وعمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصان عليا بسؤال، والمعروف: أن عليا أخذ العلم عن أبي بكر؟ (2).
أليس من المغالاة أن يقال: إن أبا بكر من أكابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة على الإطلاق؟ قال ابن حجر في الصواعق ص 19.
أليس من المغالاة؟ أن يقال: أن أبا بكر أعلم الصحابة وأذكاهم، وكان مع ذلك أعلمهم بالسنة كما رجع إليه الصحابة في غير موضع، يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يحفظها هو ويستحضرها عند الحاجة إليها ليست عندهم، وكيف لا يكون
____________
(1) قاله ابن حزم في الفصل 4: 136. راجع ما مر في الجزء الثالث ص 95 ط 2.
(2) منهاج السنة لابن تيمية 3: 128. راجع ما أسلفناه في ج 6 ص 329 ط 2.
أليس من المغالاة؟ ما عزوه إلى النبي الأقدس من قيله صلى الله عليه وآله وسلم ما صب الله في صدري شيئا إلا صببته في صدر أبي بكر (2).
أليس من المغالاة؟ ما رووه عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: رأيت كأني أعطيت عسا مملو البنا فشربت منه حتى امتلأت، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت منها فضلة فأعطيتها أبا بكر. قالوا: يا رسول الله! هذا علم أعطاكه الله حتى إذا امتلأت ففضلت فضلة فأعطيتها أبا بكر، قال صلى الله عليه وسلم: قد أصبتم " الرياض النضرة 1: 101 "
أليس من المغالاة؟ ما جاء به ابن سعد عن ابن عمر من أنه سئل عمن كان يفتي في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أبو بكر وعمر ولا أعلم غيرهما.
راجع أسد الغابة 3: 216، الصواعق ص 10، 20 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 35.
قال الأميني: ليتني أدري وقومي ما بال القوم؟ في نحت هذه الدعاوي الفارغة، واختلاق هذه الأكاذيب المكردسة، وزعق بسطاء الأمة إلى المزالق والطامات، و ردعهم عن مهيع الحق، وجدد الصدق في عرفان الرجال، ومقادير السلف.
أليست هذه الآراء تضاد نداه المشرع الأقدس وقوله لفاطمة: أما ترضين إني زوجتك أول المسلمين إسلاما وأعلمهم علما؟
وقوله لها: زوجتك خير أمتي أعلمهم علما.
وقوله: إن عليا لأول أصحابي إسلاما وأكثرهم علما.
وقوله: أعلم أمتي من بعدي علي.
وقوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها.
وقوله: علي وعاء علمي.
وقوله: علي باب علمي.
وقوله: علي خازن علمي.
وقوله: علي عيبة علمي.
وقوله: أنا دار الحكمة وعلي بابها.
____________
(1) تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 29.
(2) راجع الجزء الخامس من كتابنا هذا ص 316 ط 2 وهذا الجزء ص 87.
وقوله: أنا ميزان العلم وعلي كفتاه.
وقوله: أنا ميزان الحكمة وعلي لسانه
وقوله: أقضى أمتي علي.
وقوله: أقضاكم علي (1) إلى أمثال هذه من الكثير الطيب.
أليست تلكم الآراء المجردة تخالف ما أسلفناه في الجزء الثالث ص 95 - 101 وفي نوادر الأثر في الجزء السادس من أقوال الصحابة الأولين والتابعين بإحسان في علم علي؟ نظراء عائشة. وعمر. ومعاوية. وابن عباس. وابن مسعود. وعدي بن حاتم. وسعيد بن المسيب. وهشام بن عتبة. وعطاء وعبد الله بن حجل.
أنى يسوغ القول بأعلمية أي أحد من الأمة غير علي أمير المؤمنين بعد ما مر في الجزء الثالث ص 100 من إجماع أهل العلم أن عليا عليه السلام هو وارث علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم دونهم. وما أسلفناه هناك من الصحيح الوارد عن مولانا أمير المؤمنين من قوله: والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارث علمه، فمن أحق به مني؟
ثم أي نجفة من العلم كانت آية فضلة عس شربها الخليفة من يد النبي الأعظم إن صحت الأحلام؟ أقوله في الأب؟ أم رأيه في الكلالة والجد والجدتين والخلافة وغيرها؟ أبمثل هذه كان هو وصاحبه ويفتيان في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
وأي صدر هذا لم يك ينضح بشئ من العلم - والاناء ينضح بما فيه - بعد ما صب فيه رسول الله كلما صب الله في صدره صلى الله عليه وآله؟.
وأنت جد عليم بأن الأخذ بمجامع تلكم الصحاح المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال الصحابة والتابعين في علم أمير المؤمنين عليه السلام والجمع بينها وبين تلكم الآراء في علم أبي بكر يستلزم القول بأعلميته من رسول الله أيضا بعد كونه وعلي صلى الله عليهما وآلهما صنوين في الفضائل، بعد كون علي رديف أخيه الأقدس ونفسه في مآثره، بعد كونه وارث علمه وبابه وعيبته ووعاءه وخازنه، ولا أحسب كل القوم ولأجلهم يقول بذلك. نعم: من لم يتحاش عن الغلو في أبي حنيفة والقول بأعلميته من رسول الله
____________
(1) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا ص 95 ط 2، والجزء السادس ص 61 / 81 ط 2.
هذا هو الغلو الممقوت الذي تصك به المسامع لا ما تقول به الشيعة يا أتباع أبناء حزم وتيمية وكثير وجوزية!
مظاهر علم الخليفة
وأول مظهر من مظاهر علم الخليفة عند الباقلاني من المتقدمين كما في تمهيده ص 191، وعند السيد أحمد زيني دحلان من المتأخرين كما في سيرته هامش الحلبية 3: 376 هو إعلامه الناس بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وحجاجه عمر بن الخطاب بقول العزيز الحكيم: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. الآية (1).
ما أذهل الرجلين عن أن الأمر لم يعضل على أي امرئ من الصحابة، وحاشاهم عن أن يكون هذا مبلغ علمهم، وقد كان حملة القرآن الكريم بأسرهم على علم من موته صلى الله عليه وآله أخذا بما أجرى الله بين البشر من الطبيعة المطردة وقضى أجلا وأجل مسمى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا، ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. وتمسكا بالقرآن العظيم، ونصوصه صلى الله عليه وآله الكثيرة عليه في مواقف لا تحصى، أحفلها حجة الوداع ومن هنا سميت تلك الحجة بحجة الوداع.
ولم يكن إنكار عمر موته صلى الله عليه وآله وسلم لجهله بذلك، وقد قرأ عمر وبن زائدة عليه و على الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله الآية المذكورة قبل تلاوة أبي بكر إياها وأشفعها بقوله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون (2) فضرب الرجل عنها وعن قارئها صفحا، وعمر وبن زائدة صحابي عظيم استخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرت في غزواته كما في الإصابة 2 ص 523.
وإنما كان إنكاره ذلك وإرهابه الناس لسياسة مدبرة، وذلك صرف فكرة الشعب
____________
(1) آل عمران. آية: 144.
(2) راجع تاريخ ابن كثير 5: 243، شرح المواهب للزرقاني 8. 281.
ألا ترى أن غير واحد من أعلام القوم قد اعتذروا عن إنكار عمر موته صلى الله عليه وآله سلم بغير الجهل فمنهم من قال: إن ذلك كان لتشوش البال، واضطراب الحال، والذهول عن جليات الأحوال (2) ومنهم من اعتذر بقوله: خبل عمر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: إنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه (3).
(المظهر الثاني) وجاء ابن حجر من علم الخليفة بمظاهر أخرى واحتج بها على كونه أعلم الصحابة على الإطلاق. منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه في صلح الحديبية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال: فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: يا أبا بكر: أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الله وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن. فقال: أيها الرجل! إنه رسول الله ولن يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق. فقلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الأميني: هل في هذه الرواية غير أن أبا بكر كان مؤمنا بنبوة رسول الله، وبطبع الحال إن كل من اعتنق هذا المبدء يرى أنه صلى الله عليه وآله لا يعصي ربه وهو ناصره و أن كل ميعاد جاء به لا بد وأن يقع في الأجل المضروب له إن كان موقتا وإلا فهو يقع
____________
(1) تاريخ الطبري 3 ص 197، طبقات ابن سعد رقم التسلسل ط مصر: 786، تفسير القرطبي 4: 223 عيون الأثر 2: 339.
(2) شرح المقاصد للتفتازاني 2: 294.
(3) عيون الأثر لابن سيد الناس 3: 339.
هذه غاية ما يوصف به أبو بكر بهذا الحديث، وهو معنى يشترك فيه جميع المسلمين وليس من خاصته، فأي دلالة فيه على كون أبي بكر أعلم الصحابة على الإطلاق؟ ولو كان عمر يسأل أي صحابي بسؤاله هذا لما سمع إلا لدة ما أجاب به أبو بكر ومثل ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وآله، وكذلك المسلمون كلهم إلى منصرم الدنيا، فإنك لا تجد عند أحدهم ضميرا غير هذا، وإذا فاتحته بالكلام عن مثله فلا تسمع جوابا غيره، فهل فاتح عمر بن غير أبي بكر أحدا من الصحابة وسمع جوابا غير ما أجاب به؟ حتى يستدل به على أعلميته على الإطلاق أو على التقييد.
وهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله في صدد بيان غامض من علومه لما أجاب عمر حتى يكون إذا وافقه أبو بكر في الجواب يصبح به أعلم الصحابة على الإطلاق؟
وابن حجر يعلم ذلك كله ولذلك تعمد بإسقاط لفظ الرواية وقال في الصواعق ص 19: هو (أبو بكر) من أكابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة على الإطلاق للأدلة الواضحة على ذلك منها: ما أخرجه البخاري وغيره أن عمر في صلح الحديبية سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الصلح وقال: علام نعطي الدنية في ديننا فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب إلى أبي بكر فسأله عما سأل عنه صلى الله عليه وسلم من غير أن يعلم بجواب النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه بمثل ذلك الجواب سواء بسواء. ا ه.
يوهم ابن حجر أن هناك معضلة كشفها أبو بكر، أو عويصة من العلوم حلها مما يعد الخوض فيه من الأدلة الواضحة على أعلمية صاحبه من الصحابة على الإطلاق فليفعل ابن حجر ما شاء فإن نظارة التنقيب رقيبة عليه، والله من وراءه حسيب.
* (المظهر الثالث) *
ومن الأدلة الواضحة عند ابن حجر على أن الخليفة أعلم الصحابة على الإطلاق ما روي في الصواعق ص 19 عن عايشة مرسلا أنها قالت. لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشرأب النفاق، أي رفع رأسه، وارتدت العرب، وانحازت الأنصار، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها، أي فتتها، فما اختلفوا في لفظة إلا طار أبي بعبأها وفصلها، قالوا: أين ندفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما وجدنا عند أحد في ذلك علما فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه.