نعم لذلك كله أمر صلى الله عليه وآله بقتله وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لكن الشيخين رؤفا به حين وجداه يصلي تثبتا على المبدء، وتحفظا على كرامة الصلاة ومن أتى بها، وزاد عمر: إن أبا بكر خير مني ولم يقتله. أو لم يكن النبي الآمر بقتله خيرا منهما؟ أولم يكن هو مشرع الصلاة والآتي بحرمتها؟ أو لم يكن مصدقا لدى الصديق وصاحبه في قوله حول الرجل وإعرابه عن نواياه؟
كان خيرا للشيخين أن يتركا هذا التعلل الواضح فساده ويتعللا بما في لفظ أبي نعيم في الحلية من أنهما هابا أن يقتلاه، وبما أسلفناه عن ثمار القلوب للثعالبي من أنهما كعا عن الرجل. أي جبنا وضعفا وتهيبهما الرجل وإن كان مصليا غير شاك السلاح، فلعله يكون معذرا لهما عن ترك الامتثال، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لكنهما يوم عرفا نفسهما كذلك والانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره لماذا أقدما على قتل الرجل، ففوتا على النبي صلى الله عليه وآله طلبته وعلى الأمة السلام والأمن ولو بعد لأي من عمر الدهر عند ثورات الخوارج؟ وأبو بكر هذا هو الذي يحسبه ابن حزم والمحب الطبري والقرطبي والسيوطي أشجع الناس كما مر ص 200 وقد يهابه ظل الرجال في مصلاهم.
وللرجل (ذي الثدية) سابقة سوء عند الشيخين من يوم قسم رسول الله صلى الله عليه وآله غنيمة هوازن قال ذو الثدية للنبي صلى الله عليه وآله لم أرك عدلت. أو: لم تعدل هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمر: يا رسول الله ألا أقتله؟ قال: لا، سيخرج من ضيضئ هذا الرجل قوم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم تراقيهم. تاريخ أبي الفدا ج 1 ص 148، الامتاع للمقريزي ص 425.
- 4 -
تهالك الخليفة في العبادة
لم يؤثر عن الخليفة دؤب على العبادة على العهد النبوي أو بعده غير أشياء لا تنجع من أثبتها له إلا بعد تحمل متطاول، أو تفلسف في القول لو أجدت الفلسفة على لا شيئ.
روى المحب الطبري في الرياض النضرة 1 ص 133: إن عمر بن الخطاب أتى إلى زوجة أبي بكر بعد موته فسألها عن أعمال أبي بكر في بيته ما كانت فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها ثم قالت: ألا إنه كان في كل ليلة جمعة يتوضأ و يصلي ثم يجلس مستقبل القبلة رأسه على ركبتيه فإذا كان وقت السحر رفع رأسه و تنفس الصعداء فيشم في البيت روائح كبد مشوي. فبكا عمر وقال: أنى لابن الخطاب بكبد مشوي.
وفي مرآة الجنان 1 ص 68: جاء إن أبا بكر كان إذا تنفس يشم منه رائحة الكبد المشوية.
وفي عمدة التحقيق للعبيدي المالكي ص 135: لما مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه واستخلف عمر رضي الله عنه كان يتبع آثار الصديق رضي الله عنه ويتشبه بفعله فكان يتردد كل قليل إلى عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما ويقول لهما: ما كان يفعل الصديق إذا خلا بيته ليلا؟ فيقال له: ما رأينا له كثير صلاة بالليل ولا قيام إنما كان إذا جنه الليل يقوم عند السحر ويقعد القرفصاء ويضع رأسه على ركبتيه ثم يرفعها إلى السماء ويتنفس الصعداء ويقول: أخ. فيطلع الدخان من فيه. فيبكي عمر ويقول:
كل شيئ يقدر عليه عمر إلا الدخان. فقال:
وأصل ذلك أن شدة خوفه من الله تعالى أوجبت احتراق قلبه، فكان جليسه يشم منه رائحة الكبد المشوي، وسببه أن الصديق لم يتحمل أسرار النبوة الملقاة إليه وفي الحديث: أنا أعلمكم بالله وأخوفكم منه. فالمعرفة التامة تكشف عن جلال
وروى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ص 31 و 261، عن بكر بن عبد الله المزني قال: لم يفضل أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثرة صوم ولا صلاة إنما فضلهم بشئ كان في قلبه. وذكر أبو محمد الأزدي في شرح مختصر صحيح البخاري 2: 41، 105.
و ج 3: 98. و ج 4: 63، والشعراني في اليواقيت والجواهر 2: 221، واليافعي في مرآة الجنان 1: 68، والصفوري في نزهة المجالس 2 ص 183: إن في الحديث ما فضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولن بشئ وقر في صدره.
قال الأميني: لو صح حديث الكبد المشوي لوجب اطراده في الأنبياء والرسل ويقدمهم سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أخوف من الله من أبي بكر وخاتم النبيين أخوفهم، ولوجب أن تكون الرائحة فيهم أشد وأنشر، فإن الخوف فرع الهيبة المسببة عن إحاطة العلم بما هناك من عظمة وقهر وجبروت ومنعة، وينبأنا عن ذلك قوله تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء (1) قال ابن عباس: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني. وقيل: عظموه وقدروا قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد به خشية. " تفسير الخازن 3: 525 "
وفي الحديث: أعلمكم بالله أشدكم له خشية. " تفسير ابن جزي 3: 158 "
وفي خطبة له صلى الله عليه وآله: فوالله إني لأعلمهم بالله وأشد هم له خشية (2).
وفي خطبة أخرى له صلى الله عليه وآله: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا (3).
____________
(1) سورة فاطر آية 28.
(2) صحيح مسلم كتاب المناقب. باب علمه بالله وشدة خشيته، تفسير الخازن 3: 525.
(3) صحيح البخاري كتاب الرقاق. باب لو تعلمون ما أعلم، مسند أحمد 6: 164، تيسير الوصول 2، 26، تفسير الخازن 3: 525
وقال مقاتل: أشد الناس خشية الله أعلمهم. " تفسير الخازن " 3: 525 "
وقال الشعبي ومجاهد: إنما العالم من خشي الله (1).
وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم (2).
ومن هنا قوله صلى الله عليه وآله: إني أعلمكم بالله وأخشاكم لله (3) ولذلك تجد أن أزلف الناس إلى السلطان يتهيبه أكثر ممن دونه في الزلفة. فترى الوزير يكبره ويخافه أبلغ ممن هو أدنى منه، والأمر على هذه النسبة في رجال الوظايف، حتى تنتهي إلى أبسطها كالشرطي مثلا، ثم إلى سائر أفراد الرعية.
وهلم معي إلا الأولياء والمقربين والمتهالكين في الخشية من الله والمتفانين في العبادة وفي مقدمهم سيدهم مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي كان في حلك الظلام يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويتأوه ويتفوه بما ينم عن غاية الخوف والخشية، وهو قسيم الجنة والنار بنص من الرسول الأمين كما مر في الجزء الثالث ص 299 ط 2، وكان يغشى عليه عدة غشوات في كل ليلة، ولم يشم أحد منه ولا منهم رائحة الكبد المشوي.
ولو اطرد ما يزعمونه لوجب تكيف الفضاء من لدن آدم إلى عهد الخليفة بتلك الرائحة المنتشرة من تلكم الأكباد المشوية، ولا سود وجه الدنيا بذلك الدخان المتصاعد من الأكباد المحترقة.
أيحسب راوي هذه المهزأة أن على كبد المختشي نارا موقدة يعلوها ضرم، و يتولد منها دخان؟ فلم لم تحرق ما في الحشى كله ويكون إنضاجها مقصورا على الكبد فحسب؟ وهل للكبد حال المعذبين الذين كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا أخرى؟ وإلا فالعادة قاضية بفناء الكبد بذلك الحريق لمتواصل.
وإن تعجب فعجب بقاء الانسان بعد فناء كبده، ولعلك إذا أحفيت الراوي السؤال
____________
(1) تفسير القرطبي 14: 343، تفسير الخازن 3: 525.
(2) تفسير القرطبي 14: 343، تفسير الخازن 3: 525.
(3) تفسير البيضاوي 2: 302، اللمع لأبي نصر ص 96.
وأحسب أن صاحب المزاعم من المتطفلين على موائد العربية فإن العربي الصميم جد عليم بكثير الكناية والاستعارة في لغة الضاد فإذا قالوا: إن نار الخوف أحرقت فلانا لا يريدون لهبا متقدا يصعد منه الدخان أو تشم منه رائحة شي الأكباد، وإنما يعنون لهفة شديدة، وحرقة معنوية تشبه بالنيران.
وأما ما سرده العبيدي من فلسفة ذلك الحريق في كبد الخليفة فإنها من الدعاوي الفارغة وفيها الغلو الفاحش وإن شئت قلت: إنما هي أوهام لم تقم لها حجة، وليس من السهل أن يدعمها ببرهنة يمسكها عن التزحزح، فهي كالريشة في مهب الريح تجاه حجاج المجادل، ووجاه سيرة الخليفة نفسه، وما عزاه إلى الرواية من حديث خرافة: ما صب الله في صدري شيئا إلا وصببته في صدر أبي بكر. فهو على تنصيص العلماء على وضعها كما مر في ج 5 ص 316 لا يلزم به الخصم، ولا يثبت به المدعى، وفيه من سرف القول ما لا يخفى على العارف بالرجال وتاريخهم.
- 5 -
تبرز الخليفة في الأخلاق
لم نقف من أخلاقيات الخليفة على شئ يرفع الانسان من هذه الناحية عدا ما في صحيح البخاري في كتاب التفسير من طريق ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير قال: قد ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس (1) فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله و رسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. سورة الحجرات: 1.
وأخرج البخاري من طريق ابن أبي ملكية أيضا قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع. وأشار الآخر برجل آخر.
قال نافع: لا أحفظ اسمه. فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهر وآله بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. (2) الحجرات: 2.
قال الأميني: ألا تعجب من الرجلين أنهما طيلة مصاحبتهما هذا النبي المعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يحدهما التأثر بأخلاقه الكريمة إلى الحصول على أدب محاضرة العظماء والمثول بين أيديهم لا سيما هذا العظيم، العظيم خلقه بنص الذكر الحكيم، وما عرفا أن الكلام بين يديه لا بد وأن يكون تخافتا وهمسا إكبارا لمقامه وإعظاما لمرتبته. وأن لا يتقدم
____________
(1) الأقرع بن حابس هو ذلك الأعرابي الذي رآه النبي صلى الله عليه وآله وهو يبول في المسجد، وقد أخرج حديثه البخاري في صحيحه. راجع إرشاد الساري 1: 284 ].
(2) صحيح البخاري 7 ص 225، الاستيعاب في ترجمة القعقاع 2: 535، تفسير القرطبي 16: 300، تفسير ابن كثير 4: 205، تفسير الخازن 4: 172، الإصابة 1: 58 و ج 3: 24.
وما أخرجه ابن عساكر عن المقدام أنه قال: استب عقيل بن أبي طالب وأبو بكر وكان أبو بكر سبابا. وكأن ابن حجر استشعر من هذه الكلمة ما لا يروقه فقال: سبابا أو نسابا. لكن الرجل أنصف في الترديد وقد جاء بعده السيوطي فحذف كلمة: سبابا. وجعلها نسابا بلا ترديد (1) والمنقب يعلم أن لفظة نسابا لا صلة لها بقوله استبا بل المناسب كونه سبابا، وكأن الراوي يريد بذلك أنه فاق عقيلا بالسب لأنه كان ملكة له، وإن كان يسع المحور أن يقول بإرادة كونه نسابا أنه كان عارفا بحلقات الأنساب و مواقع الغمز فيها، فكان إذا استب يطعن مستابه في عرضه ونسبه، لكنه لا يجدي المتمحل نفعا فإنه من أشنع مصاديق السب، وفيه القذف وإشاعة الفحشاء.
ويظهر من لفظ الحديث كما في الخصايص الكبرى 2 ص 86 إن السباب بين أبي بكر وعقيل كان بمحضر من رسول الله صلى الله عليه وآله وكان ذلك في أخريات أيامه صلى الله عليه وآله.
ومن شواهد كونه سبابا (وسباب المسلم فسوق) (1) ما مر في صفحة 153 من قوله للسائل عن القدر: يا بن اللخناء. وقوله لعمر: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب.
لما بلغه طلب الأنصار أن يولي عليهم رجلا أقدم سنا من أسامة فأخذ بلحيته فقال:
استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأمرني أن أنزعه؟ (3).
على أنه وهم في قوله هذا من ناحيتين: إحداهما أن الذي يجب أن لا يعزل من منصوبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الخليفة فحسب لا يتسرب إليه الرأي والمقائيس، كما لا يتطرقان إلى الأحكام والسنن المشرعة، لأنه صلى الله عليه وآله نصبه يوم نصب بأمر من المولى
____________
(1) الصواعق ص 43 تاريخ الخلفاء ص 37.
(2) مسند أحمد 1 ص 411، سنن ابن ماجة 2: 461، تاريخ الخطيب 5: 144، وصححه السيوطي في الجامع الصغير، وقال النووي في رياض الصالحين ص 323: متفق عليه.
(3) التمهيد للباقلاني ص 193، تاريخ الطبري 3: 212، تاريخ ابن عساكر 1: 117، الكامل لابن الأثير 2: 139، تاريخ أبي الفدا ج 1: 156، الروض الأنف 2: 375.
بخلاف أمراء الجنود والولاة والعمال فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يوليهم الأمر لمصالح وقتية بعد الفراغ من تأهلهم للإمارة والولاية والعمل، وإذا انقضى ظرف المصلحة أو تبدلت بأخرى أو سلب التأهل من أحدهم كان يزحزحه من عمل إلى عمل، أو يسقطه عن الوظيفة نهائيا، أو إلى أمد تعود بعده إليه جدارته، وكذلك شأن الخليفة من بعده فإنه قائم مقامه صلى الله عليه وآله وله وسلم النصب والنزع، والخفض والرفع، ولذلك أمر أبو بكر نفسه خالد بن سعيد على مشارق الشام في الردة، وكان قد استعمله النبي صلى الله عليه وآله على ما بين زمع وزبيد إلى حد نجران أو على صدقات مذحج ومات صلى الله عليه وآله وهو على عمله.
واستعمل أبو بكر نفسه أيضا يعلى بن أمية على حلوان، ثم عمل لعمر على بعض اليمن، ثم استعمله عثمان على صنعاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد استعمله على الجند وتوفي وهو على عمله.
واستعمل أبو بكر عكرمة على عمان ثم عزله واستعمل عليها حذيفة بن محصن وكان قد استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن العاص على عمان فمات رسول الله صلى الله عليه وآله وهو أميرها، واستعمل عكرمة على صدقات هوازن عام وفاته.
واستعمل عمر عثمان بن أبي العاص على عمان والبحرين سنة 15، وكان قد استعمله النبي صلى الله عليه وآله على الطائف وأقره أبو بكر بعد وفاته صلى الله عليه وآله.
واستعمل عمر عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعري على البصرة، ثم عزله عثمان و أقره على الكوفة، ثم عزله علي عليه السلام عنها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ولاه مخاليف اليمن.
وقال أبو الفدا في تاريخه 1: 166: أقر عثمان ولاة عمر سنة لأنه كان أوصى بذلك ثم عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وولاها سعد بن أبي وقاص، ثم عزله ولى الكوفة الوليد بن عقبة وكان أخا عثمان من أمة.
راجع تاريخ الطبري، والكامل لابن الأثير، والاستيعاب، وأسد الغابة، وتاريخ أبي الفدا، وتاريخ ابن كثير، والإصابة، وغيرها من كتب التاريخ ومعاجم التراجم.
وكم وكم لهؤلاء الولاة المذكورين من نظير، فليس أسامة ببدع من هؤلاء، وإنما هو كأحدهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.
الناحية الثانية: إن طلبة الأنصار هذه متخذة عن عمل الخليفة نفسه وصاحبيه حيث قدماه يوم السقيفة بكبر سنه وشيبته كما مر في صفحة 91، 92 فلا غضاضة على الأنصار إذن أن يتحروا للإمارة عليهم من هو أقدم سنا من أسامة تأسيا بالخلافة. و إذا كان تولية الرسول صلى الله عليه وآله أسامة للقيادة مانعة عن نزعة فما بال منصوبه صلى الله عليه وآله للخلافة يوم غدير خم بمشهد من مائة ألف أو يزيدون، وفي مواقف أخرى متكثرة يعزل عن الأمر؟ ولا منكر يصاخ إليه: ولا وازع يسمع منه، هب أن قيسا أخذ بلحية عمر يوم ذاك كما أخذ بها أبو بكر يوم أسامة، واحتج آخرون لأمير المؤمنين عليه السلام واحتدم الحوار لكن: لا رأي لمن لا يطاع.
نعم: أخرج ابن حبان في خلق الخليفة من طريق إسماعيل بن محمد الكذاب الوضاع مرفوعا عن جبرئيل أنه قال: أبو بكر لفي السماء أشهر منه في الأرض فإن الملائكة لتسميه حليم قريش. الخ: قد أسلفناه في الجزء الخامس ص 344 ط 2 بينا هناك أنه كذب موضوع.
ولو كان الخليفة حليم قريش أو كان يرث النبي الأعظم شيئا من خلقه العظيم لما توفيت بضعته الطاهرة سلام الله عليها وهي واجدة عليه من جراء ما تلقت منه من غلظة وعنف في كشف بيتها الذي تمنى تركه عند وفاته، ولم يكن يأمر بقتال من فيه (1) إلى هنات وهنات.
أخرج البخاري في باب فرض الخمس ج 5 ص 5 عن عائشة: إن فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة. فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرة حتى توفيت.
____________
(1) راجع صفحة 77 و 174.
ويوجد الحديث في صحيح مسلم 2 ص 72، مسند أحمد 1 ص 6، 9، تاريخ الطبري 3 ص 202، مشكل الآثار للطحاوي 1 ص 48، سنن البيهقي 6 ص 300، 301، كفاية الطالب ص 226، تاريخ ابن كثير 5 ص 285 وقال في ج 6 ص 333:
لم تزل فاطمة تبغضه مدة حياتها، وذكره بلفظ الصحيحين الديار بكري في تاريخ الخميس 2: 193.
بلغت من موجدتها أنها أوصت بأن تدفن ليلا، وأن لا يدخل عليها أحد، ولا يصلي عليها أبو بكر، فدفنت ليلا ولم يشعر بها أبو بكر، وصلى عليها علي وهو الذي غسلها مع أسماء بنت عميس (1).
وقال الواقدي كما في السيرة الحلبية 3 ص 390: ثبت عندنا أن عليا كرم الله وجهه دفنها رضي الله عنها ليلا وصلى عليها ومعه العباس والفضل ولم يعلموا بها أحدا.
وقال ابن حجر في الإصابة 4 ص 379، والزرقاني في شرح المواهب 3 ص 207: روى الواقدي من طريق الشعبي قال: صلى أبو بكر على فاطمة. وهذا فيه ضعف و انقطاع، وقد روى بعض المتروكين عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه نحو ووهاه الدارقطني وابن عدي، وقد روى البخاري عن عائشة: أنها لما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يأذن بها أبا بكر وصلى عليها.
قال الأميني: حديث مالك عن جعفر بن محمد أسلفناه في الجزء الخامس صحيفة 350 ط 2 ولفظه: توفيت فاطمة ليلا فجاء أبو بكر وعمر وجماعة كثيرة فقال أبو بكر لعلي:
____________
(1) طبقات ابن سعد، رسائل الجاحظ ص 300، حلية الأولياء 2: 43، مستدرك الحاكم 3: 163، طرح التثريب 1 ص 15، أسد الغابة 5: 254، الاستيعاب 2: 751، مقتل الخوارزمي 1 ص 83، إرشاد الساري للقسطلاني 6: 362، الإصابة 4 ص 378، 380، تأريخ الخميس 1 ص 313.
وقد بينا هنا لك أنه من موضوعات عبد الله بن محمد القدامي المصيصي كما عده الذهبي في الميزان 2: 7 من مصائبه.
ومن جراء تلك الموجدة منعت عن أن تدخلها يوم ذاك عائشة كريمة أبي بكر فضلا عن أبيها، فجاءت تدخل فمنعتها أسماء فقالت: لا تدخلي. فشكت إلى أبي بكر و قالت: هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف أبو بكر على الباب وقال: يا أسماء! ما حملك على أن منعت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد صنعت لها هودج العروس؟ قالت: هي أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، وأمرتني أن أصنع لها ذلك.
راجع الاستيعاب 2: 772، ذخاير العقبى ص 53، أسد الغابة 5: 524، تاريخ الخميس 1: 313، كنز العمال 7: 114، شرح صحيح مسلم للسنوسي 6: 281، شرح الآبي لمسلم 6: 282، أعلام النساء 3: 1221.
* (إعتذار الخليفة إلى الصديقة) *
هذه المذكورات كلها وبعض سواها تكذب ما اختلقته رماة القول على عواهنه من رواية الشعبي أنه قال: جاء أبو بكر إلى فاطمة وقد اشتد مرضها فاستأذن عليها فقال لها علي: هذا أبو بكر على الباب يستأذن فإن شئت أن تأذني له؟ قالت: أو ذاك أحب إليك؟ قال: نعم. فدخل فاعتذر إليها وكلمها فرضيت عنه.
وعن الأوزاعي قال بلغني أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبت على أبي بكر فخرج أبو بكر حتى قام على بابها في يوم حار ثم قال: لا أبرح مكاني حتى ترضى عني بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها علي فأقسم عليها لترضى فرضيت (1).
ما قيمة هذه الرواية تجاه تلكم الصحاح؟ ولا يوجد لها أثر في أي أصل من أصول الحديث ومسانيد الحفاظ، وقد بلغت إلى الأوزاعي المتوفى 157 وأرسل بها الشعبي المتوفى 104 / 5 / 6 / 7 / 9 / 10 ولا يعرف من بلغها، ومن أتى بها، ومن أوحاها إلى الرجلين. نعم تساعد نصوص الصحاح ما أتى به ابن قتيبة والجاحظ قال الأول: إن
____________
(1) الرياض النضرة 2 ص 120، تاريخ ابن كثير 5 ص 289.
وقال الجاحظ في رسائله ص 300: وقد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما " يعني أبا بكر وعمر " في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير عليهما..! قد يقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما، أن ترك المتظلمين والمحتجين عليهما والمطالبين لهما دليل على صدق دعواهم، أو استحسان مقالتهم، ولا سيما وقد طالت المناجات، وكثرت المراجعة والملاحات، وظهرت الشكية، واشتدت الموجدة، وقد بلغ ذلك من فاطمة إنها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر. ولقد كانت قالت له حين أتته مطالبة بحقها ومحتجة لرهطها: من يرثك يا أبا بكر إذا مت؟ قال:
____________
(1) الإمامة والسياسة 1 ص 14، أعلام النساء 3 ص 1214.
فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها، وكلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة. حديث تقول له: والله لا أكلمك أبدا. فيقول: والله لا أهجرك أبدا. ثم تقول: والله لأدعون الله عليك. فيقول: والله لأدعون الله لك ثم يتحمل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه وما يجب لها من الرفعة والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك عن أن قال معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها، المكبر لمقامها، الصائن لوجهها، المتحنن عليها: ما أحد أعز علي منك فقرا، ولا أحب إلي منك غنى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور، وقد يبلغ من مكر الظالم ودها، الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم، و ذلة المنتصف، وحدب الوامق، ومقت المحق، وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة؟ وقد زعمتم أن عمر قال على منبره: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج، أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما (2) فما وجدتم
____________
(1) هذا الحديث أخرجه أحمد في المسند 1 ص 10، والبلاذري في فتوح البلدان ص 38، وابن كثير في تأريخه 5 ص 289.
(2) راجع الجزء السادس من كتابنا هذا ص 211 ط 2.
وكيف تقضون بترك النكير؟ وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأئمة من قريش (1) ثم قال في شكايته: لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه الشك (2) حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم شورى وسالم عبد لامرأة من الأنصار وهي اعتقته وحازت ميراثه، ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر، ولا قابل إنسان بين قوله ولا تعجب منه، وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلا على صدق قوله وصواب عمله، فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي القتل والاستحياء والحبس والاطلاق فليس بحجة تشفي ولا دلالة تضئ. إنتهت كلمة الجاحظ.
نظرة في كلمة قارصة
لا يسعنا أن نفوه في الدفاع عن الخليفة بما قال ابن كثير في تاريخه 5 ص 249 من أن فاطمة حصل لها - وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة - عتب وتغضب، ولم تكلم الصديق حتى ماتت. وقال في ص 289: وهي امرأة من بنات آدم تأسف كما يأسفون، وليست بواجبة العصمة، مع وجود نص رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ا ه.
أنى لنا السرف والمجازفة في القول بمثل هذا تجاه آية التطهير في كتاب الله العزيز النازلة فيها وفي أبيها وبعلها وبنيها؟.
أنى لنا بذلك وبين يدينا هتاف النبي الأقدس صلى الله عليه وآله: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني؟
وفي لفظة: فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها.
____________
(1) أخرجه غير واحد من الحفاظ وصححه ابن حزم في الفصل 4: 89 فقال: هذه رواية جاءت مجئ التواتر، ورواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر ومعاوية، وروى جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها، ومما يدل على صحة ذلك إذعان الأنصار به يوم السقيفة. ه.
(2) أخرجه ابن سعد، والباقلاني، وأبو عمر، والحافظ العراقي كما مر ص 144.
وفي لفظة: فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها. في تاج العروس: أي يتعبني ما أتعبها.
وفي لفظة: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها.
وفي لفظة: فاطمة بضعة مني يسعفني ما يسعفها. في تاج العروس: أي ينالني ما ينالها، ويلم بي ما يلم بها.
وفي لفظة: فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها.
وفي لفظة: فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني.
وفي لفظة فاطمة مضغة مني يقبضني ما قبضها، ويبسطني ما بسطها.
وفي لفظة: فاطمة مضغة مني يسرني ما يسرها.
أخرجها على اختلاف ألفاظها أئمة الصحاح الست وعدة أخرى من رجال الحديث في السنن والمسانيد والمعاجم وإليك جملة ممن رواها.
1 - ابن أبي مليكة المتوفى 117 كما في رواية البخاري ومسلم وابن ماجة و ابن داود وأحمد والحاكم.
2 - أبو عمر بن دينار المكي المتوفى 125 / 6 كما في صحيحي البخاري ومسلم.
3 - الليث بن سعد المصري المتوفى 175 كما في إسناد ابن ماجة وابن داود وأحمد.
4 - أبو محمد ابن عيينة الكوفي المتوفى 198 كما في الصحيحين.
5 - أبو النضر هاشم البغدادي المتوفى 205 / 7 كما في مسند أحمد.
6 - أحمد بن يونس اليربوعي المتوفى 227 كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود.
7 - الحافظ أبو الوليد الطيالسي المتوفى 227 كما في صحيح البخاري.
8 - أبو المعمر الهذلي المتوفى 336 كما في صحيح مسلم.
9 - قتيبة بن سعيد الثقفي المتوفى 240 روى عنه مسلم وأبو داود.
10 - عيسى بن حماد المصري المتوفى 248 / 9 روى عنه ابن ماجة.
11 - إمام الحنابلة أحمد المتوفى 241 في مسنده 4: 323، 328.
13 - الحافظ مسلم القشيري المتوفى 261 في صحيحه في الفضائل 2: 261.
14 - الحافظ أبو عبد الله ابن ماجة المتوفى 272 في سننه 1 ص 216.
15 - الحافظ أبو داود السجستاني المتوفى 275 في سننه 1 ص 324.
16 - الحافظ أبو عيسى الترمذي المتوفى 275 في جامعه 2 ص 319.
17 - الحكيم أبو عبد الله الترمذي المحدث المتوفى 285 في نوادر الأصول 308.
18 - الحافظ أبو عبد الرحمن النسائي المتوفى 303 في خصايصه ص 35.
19 - أبو الفرج الاصبهاني المتوفى 303 في الأغاني 8 ص 156.
20 - الحاكم أبو عبد الله النيسابوري المتوفى 405 في المستدرك 1543، 158، 159.
21 - الحافظ أبو نعيم الاصبهاني المتوفى 430 في حلية الأولياء 2: 40.
22 - الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفى 458 في السنن الكبرى 7: 307.
23 - أبو زكريا الخطيب التبريزي المتوفى 502 في مشكاة المصابيح ص 560.
24 - الحافظ أبو القاسم البغوي المتوفى 510 / 16 في مصابيح السنة 2: 278.
25 - القاضي أبو الفضل عياض المتوفى 544 في الشفاء 2: 19.
26 - أخطب الخطباء الخوارزمي المتوفى 568 في مقتله ص 53.
27 - الحافظ أبو القاسم ابن عساكر المتوفى 571 في تاريخه 1 ص 298.
28 - أبو القاسم السهيلي المتوفى 581 في الروض الأنف 2: 196.
وقال: إن أبا لبابة رفاعة بن عبد المنذر ربط نفسه في توبة وإن فاطمة أرادت حله حين نزلت توبته فقال: قد أقسمت ألا يحلني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن فاطمة مضغة مني. فصلى الله عليه وعلى فاطمة، فهذا حديث يدل على أن من سبها فقد كفر، ومن صلى عليها فقد صلى على أبيها صلى الله عليه وسلم.
29 - ابن أبي الحديد المعتزلي المتوفى 586 في شرح النهج 2 ص 458.
30 - أبو الفرج ابن الجوزي المتوفى 597 في صفة الصفوة 2: 5.
31 - الحافظ أبو الحسن بن الأثير الجزري المتوفى 630 في أسد الغابة 5 ص 521.