أراد القوم التفصي عن هذه المشكلات فكونوا ما يستتبع مشكلة بعد مشكلة و هي: إن الخليفة هل قال ما قاله بعهد من النبي صلى الله عليه وآله أو إنه أحاط علما بالمغيب؟ أما الثاني فلا أحسب أحدا يدعي له ذلك بعد ما أحطنا خبرا بكل ما قيل في فضائله، وبعد ما أوقفناك على مبلغ علمه في المشهودات، فأين هو عن الغيوب؟
وأما الأول فلو كان ذلك لما كان لترديده بين الدفن في الحجرة إن فتح الباب وسقط القفل، وبين الذهاب به إلى البقيع إن لم يكن ذلك، فإن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله لا بد أن يكون، فلا ترديد فيه.
نعم: من المحتمل أنه صلى الله عليه وآله لم يعهد ذلك لنفس أبي بكر وإنما رواه عنه من لا يثق به الخليفة ولذلك نوه بما قال بالترديد، أو أن الرواية لا صحة لها، ولذلك لا تنتشر في الصحاح والمسانيد إلى عهد الحافظ ابن عساكر، وهي على فرض صحتها مكرمة عظمي وقعت بمشهد الصحابة ومزدحم المهاجرين والأنصار يوم شيعوه إلى مقره الأخير، وكان يجب والحالة هذه أن يتواصل الهتاف بها، وبذلك الهتاف المسموع من القبر الشريف منذ ذلك العهد إلى منصرم الدهر، ولم يكن يوم ذاك في الأبصار غشاوة، ولا في الآذان وقر، ولا في الألسنة بكم، لكنه ويا للأسف لم ينبس أحد عنها ببنت شفة، وما ذلك إلا لأن المكرمة لم تقع، والقفل ما سقط، والباب ما انفتح، والهتاف لم يكن، وادخلوا الحبيب إلى الحبيب، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق مهزأة نشأت من الغلو في الفضائل تنبأ عن روح التصوف في مختلق الرواية. نعم:
م - هذه الكرامة المنحوتة المنحولة ذكرها الرازي ومن بعده مرسلين إياها إرسال المسلم، محتجين بها عداد فضائل أبي بكر، غير مكترثين لما في إسنادها من العلل أو جاهلين بها، وإنما أخرجها ابن عساكر من طريق أبي طاهر موسى بن محمد بن عطاء المقدسي عن عبد الجليل المدني عن حبة العرني فقال: هذا منكر، وأبو الطاهر كذاب، وعبد الجليل مجهول، وفي لسان الميزان 3: 391: خبر باطل. ا ه
- 8 -
جبريل يسجد مهابة من أبي بكر
حدث عالم الأمة الشيخ يوسف الفيشي المالكي قال: كان جبريل إذا قدم أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحادثه يقوم إجلالا للصديق دون غيره، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال جبريل: أبو بكر له علي مشيخة في الأزل، وما ذاك إلا إن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم حدثتني نفسي بما طرد به إبليس فحين قال الله تعالى: اسجدوا. رأيت قبة عظيمة عليها مكتوب أبو بكر أبو بكر. مرارا وهو يقول. اسجد. فسجدت من هيبة أبي بكر فكان ما كان.
ذكره العبيدي المالكي في عمدة التحقيق هامش روض الرياحين ص 111 فقال:
وحدثني أيضا شيخنا الأستاذ محمد زين العابدين البكري بما يقارب ما قاله الفيشي و سمعتها من غالب مشايخنا بالأزهر.
قال الأميني: عجبا لهؤلاء القوم لم يسلم منهم حتى أمين الله على وحيه - جبرائيل - المعصوم من الزلل من أول يومه فجعلوه في عداد إبليس اللعين الطريد لو لا أن أبا بكر تدارك أمره.
عجبا لهذا الملك المزعوم يأتمنه المولى سبحانه ثم يرتاب في أمره، ولا يصلح ذلك الشنار القول بأنه إنما أئتمنه بعد زلته تلك، فإنه سبحانه لا يأتمن من يمكن في حديث نفسه الكفر، فلعل تلك الخاطرة دبت فيه ولم يحصل من يسدده فتعود هاجسته كفرا صريحا.
عجبا لهذا الملك المقرب تروعه هيبة أبي بكر ولا تأخذه هيبة الإله العظيم فيطيع أبا بكر وهو يهم أن يطيع الله في أمره بالسجدة، وأي سجدة هذه وما قيمتها من مثل
ثم أين كانت قبة أبي بكر من مستوى عالم الملكوت؟ ومن الاحرى أن تضرب هنالك قبة نبي العظمة حتى يسدد فيها من شارف الزلة لا قبة إنسان من الممكن أن تكتنفه المئاثم، وتموت بضعة المصطفى وهي واجدة عليه.
ومن أين علم أبو بكر بهاجسة جبرئيل وحديث نفسه؟ أو هل كان يعلم الغيب؟
أو أوحي إليه بواسطة غير أمين الوحي؟ لك الحكم في هذه كلها أيها القارئ الكريم.
ثم العجب من مشايخ الأزهر الذين أخبتوا إلى هذه الخزاية فأثبتوها في الكتب ولهجوا بها في الأندية، وخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى فنشروها في الملأ العلمي وشوهوا بها صفحة التاريخ وسمعة الاسلام المقدس، نعم:
أرادوا نحت فضيلة للخليفة فأعماهم الغلو في الفضائل فنحتوها رذيلة لجبرئيل الأمين، كل ذلك لأنهم افتعلوها من غير بصيرة في الدين، أو روية شاعرة في المبادئ الإسلامية.
وأحسب أن من اختلق هذه الرواية أراد إثباتها تجاه ما يروى لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام من تسديده لجبرئيل يوم خاطبه الله سبحانه: من أنا ومن أنت؟ فتروى قليلا وقد أخذته هيبة الجليل سبحانه حتى أدركته نورانية مولانا الإمام عليه السلام، فعلمه أن يقول: أنت الجليل وأنا عبدك جبرئيل. وقد نظم ذلك الشاعر المبدع الشيخ صالح التميمي من قصيدة له في مدح مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وخمسها الشاعر المفلق عبد الباقي أفندي العمري كما في ديوانه ص 126 وفي ديوان صاحب الأصل ص 4 قالا:
____________
(1) يعني الاهتداء إلى ذلك الجواب الحسن الجميل.
وليست هذه كقصة أبي بكر، فليس فيها أن جبريل نوى ما نواه إبليس من المروق عن أمره سبحانه، ولا فيها أن أمير المؤمنين أنبأ عن مغيب، ولا أن هيبته غلبت هيبة الله العظيم ولا أن جبريل سجد من هيبته، ولا أن له هنا لك قبة عظيمة مكتوب عليها: علي علي، ولا أنه هتف مخاطبا: لجبرئيل بقوله: اسجد. و روعه بذلك ليست فيها هذه كلها لأن الشيعة في المنتأى عن الغلو في الفضائل.
- 9 -
قصة فيها كرامة لأبي بكر
أخبر أبو العباس ابن عبد الواحد عن الشيخ الصالح عمر بن الزغبي قال: كنت مجاورا بالمدينة المشرفة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام فخرجت يوم عاشوراء الذي تجتمع فيه الإمامية في قبة العباس وقد اجتمعوا في القبة قال: فوقفت أنا على باب القبة وقلت: أريد في محبة أبي بكر شيئا. فخرج إلي شيخ منهم وقال: اجلس حتى نفرغ ونعطيك، فجلست حتى فرغوا ثم خرج ذلك الرجل وأخذ بيدي ومضى بي إلى داره وأدخلني الدار وأغلق ورائي الباب وسلط علي عبدين فكتفاني وأوجعاني ضربا، ثم أمرهما بقطع لساني فقطعاه، ثم أمرهما فحلا كتافي وقال: اخرج إلى الذي طلبت في محبته ليرد إليك لسانك. قال: فخرجت من عنده إلى الحجرة الشريفة النبوية وأنا أبكي من شدة الوجع والألم فقلت في نفسي: يا رسول الله! قد تعلم ما أصابني في محبة أبي بكر فإن كان صاحبك حقا؟ فأحب أن يرجع إلي لساني وبت في الحجرة قلقا من شدة الألم فأخذتني سنة من النوم فنمت فرأيت في منامي أن لساني قد عاد إلى حاله كما كان فاستيقظت فوجدته في في صحيحا كما كان وأنا أتكلم فقلت: الحمد لله الذي رد علي لساني وازددت محبة في أبي بكر رضي الله عنه، فلما كان العام الثاني في يوم عاشوراء اجتمعوا على عادتهم فخرجت إلى باب القبة وقلت: أريد في محبة أبي بكر دينارا، فقام إلي شاب عن الحاضرين وقال لي: اجلس حتى نفرغ. فجلست فلما
مصباح الظلام للجرداني ص 23 من الطبعة الرابعة المصرية المطبوعة بمطبعة الرحمانية بمصر سنة 1347 ه، ونزهة المجالس للصفوري 2 ص 195.
قال الأميني: ما أحوج القوم إلى اختلاق هذه الأساطير المشمرجة وهي لا يصدقها أي قار وباد مهما يقرها قصاص في أذنيه ولا يصير بها الأمر إلى قراره مهما حبكت نسقه يد الإفك وأبدعت في نسجه مهرة الافتعال.
أنى يصدق ذو مسكة بأن رجلا شهيرا يعد من علية قوم ومن أكابر أمة تمسخ ويربط في داره وهو بعد مجهول لا يعرف اسمه، ولا ينبئ عنه خبير، و يسع لخلفه إخفاء أمره بدعوى موته، ولم يسأل أهله عن تجهيزه وتشييعه ودفنه ومقبره وسبب موته، وتتأتى لولده الغشية عليها عن أعين الناس وأسماعهم كأن في آذانهم صمما وفي أبصارهم عمى.
ولماذا أخذه ابن الجاني - الذي لم يخلق بعد لا هو ولا أبوه ضيفه إلى والده
وأنى يصدق بأن رجلا قطع لسانه دون مبدئه وحبه لخليفته قد استخفى قصته، وما أشاع بها، وما صاح وما باح بمظلمته، وما أبان أمره عند قومه، وما أفاض عن شأنه بكلمة، ولا يمم قاضيا ولا حاكما ولا الدوائر الحكومية الصالحة للنظر في مظلمته من عدلية أو دائرة شرطة، وعقيرته مرفوعة من شدة الألم، ولم يزل القوم يتربص الدوائر على الشيعة، ويختلق عليهم طامات كهذه.
وأنى يصدق أنه لما خرج من دار من جنى عليه وهو مقصوص اللسان وقد ملأ فمه دمه، ولاذ بالحجرة الشريفة باكيا قلقا من شدة الألم، ما باه له أي أحد، وما عرفت مع هذه كلها من أمره قذ عملة، ولا تنبه لأمره سدنة الحضرة الشريفة؟
وما بال الرجل لم يمط الستر في وقته عن جناية عدو خليفته، ولم يفش سره، ولم يعلن كرامة الصديق، ولم يفضح عدوه، ولم يعرب عن هذه المكرمة الغالية، ولم يقرط الآذان بسماعها، وينبس أمره ولم ينبشه، كأن لسانه بعد مقطوع، وأنه لم يجده في فيه صحيحا؟ أو رضي بأن يفشفش (1) بعده أعلام قومه؟
وإن تعجب فعجب عود هذا الشحاذ الجرئ إلى سؤاله مرة ثانية في سنته القابلة بعد أن رأى ما رأى قبل أن أعوم، ووقوفه في ذلك الموقف الخطر في قبة العباس يوم عاشوراء، ومضيه من دون أي تحاش إلى تلك الدار التي وقعت فيها واقعته الخطرة الهائلة، ودخوله فيها رابطا جأشه، وإلقاءه نفسه إلى التهلكة، ولم يكن يعرف شيئا من قصة الشيعي ومسخه، ولا من حنو الشاب وعطفه، وقد قال الله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
ولعله كان في هذه كلها على ثقة وطمأنينة من أنه قط لا يبقى بلا لسان، وأن لسانه مهما قطع يرد إليه كما كان من بركة الخليفة، وهو في حسبانه هذا وقدومه إلى المهالك مجتهد وله أجره وإن أخطأ كاجتهاد سلفه.
____________
(1) فشفش: أفرط في الكذب، وانتحل ما لغيره
وتخرق بعض الثقات في تاريخ حلب شاهدا على هذه المخرقة فقال: لما مات ابن منير (4) خرج جماعة من شبان حلب يتفرجون فقال بعضهم لبعض: قد سمعنا أنه لا يموت أحد ممن كان يسب أبا بكر وعمر إلا ويمسخه الله تعالى في قبره خنزيرا ولا شك أن ابن منير كان يسبهما، فأجمعوا رأيهم على المضي إلى قبره، فمضوا ونبشوه فوجدوا صورته خنزيرا ووجهه منحرفا عن جهة القبلة إلى جهة الشمال، فأخرجوا على قبره ليشاهده الناس ثم بدا لهم أن يحرقوه فأحرقوه بالنار وأعادوه في قبره وردوا عليه التراب وانصرفوا، وذكره العلامة الجرداني في مصباح الظلام المؤلف سنة 1301 والمطبوع بمصر سنة 1347 وقرظه جمع من الأعلام ألا وهم كما في آخر الكتاب: العالم العفيف السيد محمود أنسي الشافعي الدمياطي، والعلامة الشيخ محمد جودة، والعلامة الأوحد الشيخ محمد الحمامصي، وحضرة الفاضل اللبيب الشيخ عطية محمود قطارية، والعالم العامل الشيخ محمد القاضي، وحضرة الشاعر اللبيب محمد أفندي نجل العلامة الشيخ محمد النشار.
ليست هذه النفثات إلا كتيت (5) الإحن، ونغران (6) الشحناء. وإن شئت قلت:
____________
(1) يقال فلان قموص الحنجرة: أي كذاب.
(2) افتجر في الكلام: أي اختلقه وذكره من غير أن يسمعه من أحد.
(3) أفجس: افتخر بالباطل.
(4) أحد شعراء الغدير مرت ترجمته في الجزء الرابع ص 279 - 289 ط 2 مات في دمشق ثم نقل إلى حلب فدفن بها.
(5) الكتيت: صوت غليان القدر والنبيذ ونحوهما.
(6) نغر الرجل على فلان نغرا ونغرانا: غلا جوفه عليه غضبا.
كأن هؤلاء يحدثون عن أمة بائدة لم يبق لها الملوان من يشاهده أحد من الأجيال الحاضرة، أو ليست الشيعة هؤلاء الذين هم مبثوثون في أرجاء العالم وأجواء الأمم، يشاهدهم كل ذي بصر وبصيرة أحياء وأمواتا؟ فمن ذا الذي شهد أحدهم أنه انقلب عند موته خنزيرا غير أولئك الشبان الموهومين الذين شاهدوا ابن منير في قبره؟
وهل الشيخ عليا المالكي هو وجد أحدا من الشيعة كما وصفه؟ أو روي له ذلك الإفك فوثق به كما وثق العبيدي؟ وهل كان يمكنه أن يقف على الموتى جميعا أو أكثرهم وليس هو بمغسل الموتى أو من حفاري القبور ولا من نباشيها؟
على أن التشيع ليس من ولائد تلكم العصور وإنما بدء به منذ العهد النبوي، فهل كان السلف الشيعي من الصحابة والتابعين يموتون كذلك وكان فيهم من يعرف بالتشيع كأبي ذر وسلمان وعمار والمقداد وأبي الطفيل؟ فهل يسحب هذا الرجل ذيل مزعمته إلى ساحة أولئك الأعاظم؟ قطعت جهيزة قول كل خطيب (1).
- 10 -
أبو بكر شيخ يعرف. والنبي شاب لا يعرف
عن أنس بن مالك قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأبو بكر شيخ يعرف والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف فيلقى الرجل أبا بكر (2) فيقول: يا أبا بكر! من هذا الذي بين يديك؟ فيقول: يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه يهديه الطريق وإنما يعني سبيل الخير.
____________
(1) مثل يضرب لمن يقطع على الناس ماهم فيه بحماقة يأتي بها.
(2) في الانتقال من بني عمرو. كذا قاله القسطلاني في إرشاد الساري 6 ص 214 وبنو عمرو ابن عوف هم من الأنصار النازلين بقباء كان قد نزل عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله في هجرته إلى المدينة كما يأتي تفصيله،
قالوا: يا أبا بكر! من هذ الذي تعظمه هذا الاعظام؟ قال: هذا يهديني الطريق وهو أعرف به مني.
م وفي رواية: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء أبي بكر ناقته. وفي التمهيد لابن عبد البر: إنه لما أتي براحلة أبي بكر سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنت اركب وأردفك أنا فإن الرجل أحق بصدر دابته.
فكان إذا قيل له: من هذا وراءك؟ قال: هذا يهديني السبيل ].
وفي لفظ: لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة تلقاه المسلمون فقام أبو بكر للناس، وجلس النبي صامتا، وأبو بكر شيخ والنبي شاب، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجئ أبا بكر فيعرفه بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرفه الناس عند ذلك.
صحيح البخاري باب هجرة النبي 6: 53، سيرة ابن هشام 2: 109، طبقات ابن سعد 1: 222، مسند أحمد 3: 287، معارف ابن قتيبة ص 75، الرياض النضرة 1: 78، 79، 80، المواهب اللدنية 1: 86، السيرة الحلبية 2: 46، 61.
قال الأميني: ما أنزل الدهر نبي الاسلام حتى قيل: إنه شاب لا يعرف. كأنه غلام نكرة اتخذه شيخ انتشر صوته كصيته بين الناس دليلا في مسيره يرتدفه تارة و يمشيه بين يديه أخرى ومهما سأل عنه قول: هذا يهديني الطريق وهو أعرف به مني، كأن نبي الاسلام صلى الله عليه وآله لم يكن ذلك الذي كان يعرض نفسه على القبائل في كل موسم فعرفوه على بكرة أبيهم من آمن منهم ومن لم يؤمن، خصوصا الأنصار المدنيون منهم وفيهم رجال الأوس والخزرج، وقد بايعوه عند العقبة الأولى مرة، وبايعه منهم مرة ثانية عند العقبة ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان.
وكأنه صلى الله عليه وآله لم يكن ذلك الذي أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة قبله، وكان بتلك الهجرة غلقت أبواب، وخلت دور أناس من السكنى، وهاجر أهلها رجالا ونساءا
وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن الذي إتخذ المدينة قاعدة ملكه، وعاصمة حكومته، ومعسكر نهضته، فبث فيها رجاله وخاصته من أهلها ومن المهاجرين فكانوا يرقبون مقدمه الشريف في كل حين حتى، إذا وافوه مقبلا عليهم استقبلوه بقضهم وقضيضهم وفيهم أهل البيعتين ومن تقدمه من المهاجرين وكلهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم، وإنه صلى الله عليه وآله مكث في قباء عند بني عمرو بن عوف أياما وليالي حتى أسس مسجده الشريف فيها، فعرفه كل من في قباء ممن لم يكن يعرفه قبل من رجال الأوس والخزرج، واتصل به كل من قدمها من المدينة فعرفوه جميعا، وقد صلى الجمعة في قباء وفي بطن الوادي وادي رانونا وائتم به من حضر المسلمين عامة.
وبقضاء من الطبيعة أن الناس عند التطلع إلى رؤيته صلى الله عليه وآله كان يومي إليه كل عارف، ويسأل عنه كل جاهل، ويتقدم المبايعون إلى التعرف به والتزلف إليه، فلا يبقى في المجتمع جاهل به حتى يسأل أبا بكر عنه في انتقاله من بني عمرو وبقوله: من هذا الغلام بين يديك يا أبا بكر؟!
فكأن القادم رجل عادي ما دوخ صيته الأقطار، ولم يره بشر من ذلك الجمع الحافل، ولم يحتفل به ذلك الاحتفال، ولا احتفى به تلك الحفاوة، وما صعدت ذوات الخدور على الاجاجير (1) وما هزجت الصبيان والولائد بقولهن.
وكأنه قدم في صورة منكرة بلا أي تقدمة إلى بلد لا يعرفه فيه أحد حتى خص السؤال عنه بأبي بكر فحسب.
ثم ما هذه التعمية في جواب أبي بكر بقوله: إنه يهديني السبيل يريد سبيل
____________
(1) جمع الإجار بكسر الأول وتشديد الجيم: السطح.
الخ (1)
على أن الحالة كانت تقتضي أن يسأل كل قادم إلى المدينة يوم ذاك عن شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وأوان نزوله بها لا عن الغلام بين أيدي أبي بكر.
والعجب أن الجهل برسول الله في مزعمة هذا الراوي! كان مستمرا بين مستقبليه " وكلهم نفوسهم نزاعة إلى عرفانه والتبرك برؤيته " حتى ظلله أبو بكر بردائه فعرفه الناس عند ذلك.
ومتى كان أبو بكر شيخا والنبي شابا وهو صلى الله عليه وآله أكبر منه بسنتين وعدة أشهر كما يأتي تفصيله إنشاء الله؟ وابن قتيبة أخذ هذا الحديث بظاهره فقال في المعارف ص 75:
هذا الحديث يدل على أن أبا بكر كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة، والمعروف عند أهل الأخبار ما حكيناه. ا ه. وحكي قبل هذا أن رسول الله صلى الله عليه وآله هو أكبر سنا من أبي بكر.
نعم: عرف شراح البخاري من المتأخرين موضع الغمز فأولوا كون أبي بكر شيخا بظهور الشيب في لحيته. وكون النبي شابا بسواد كريمته، والعارف بأساليب الكلام يعلم أنه تمحل محض، وأن المفهوم من تلك كما فهمه ابن قتيبة: كون أبي بكر شيخا ورسول الله شابا لا غير ذلك. وإلا فما معنى قولهم: ما هذا الغلام بين يديك؟ و:
من هذا الغلام بين يديك؟ ومن المعلوم أن الغلام لا يطلق على من عمر خمسون سنة تقريبا مهما اسود عارضه.
وعلى صحة هذا التأويل أين المأولون من صحيحة ابن عباس قال: قال أبو بكر:
____________
(1) تاريخ ابن كثير 3: 58، تأريخ ابن عساكر 6 ص 448.
فهذه الصحيحة تعرب عن أنه صلى الله عليه وآله كان قد بان فيه الشيب على خلاف الطبيعة، وأسرع فيه حتى أصبح مسئولا عنه وعما أثره فيه صلى الله عليه وآله فأين منها ذلك التأويل البارد؟
وربما يقال في حل مشكلة (يعرف ولا يعرف): إن أبا بكر كان تاجرا عرفه الناس في المدينة عند اختلافه إلى الشام، لكنه على فرض تسليم كونه تاجرا، وعلى تقدير تسليم سفره إلى الشام ودون إثباته خرط القتاد، مقابل بأن رسول الله صلى الله عليه وآله أيضا كان يحاول التجارة يستطرق المدينة إلى الشام، فلو كانت التجارة بمجردها تستدعي معرفة الناس بالتاجر فهو في النبي الأعظم أولى لأن شرفه المكتسب، وشهرته وبالأمانة، وعظمته في النفوس، وتحليه بالفضائل، وبروز عصمته وقداسته عند الناس من أول يومه، وشرفه الطائل في نسبه، أجلب لتوجه النفوس إليه، بخلاف التاجر الذي هو خلو من كل ذلك.
على أن التاجر متى هبط مصرا فعارفوه رجال معدودون ممن شاركوه في الحرفة، أو شارفوه في المعاملة، وهذا التعارف يخص بأناس تعد بالأنامل لا عامة الناس كما حسبوه، وأنى هذا من سفر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة وأبو بكر يوم ذاك يرضع من ثدي أمه، خرجت به صلى الله عليه وآله أم أيمن لما بلغ ست سنين من عمره إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزور به أخواله، فنزلت به في دار النابغة رجل من بني عدي بن النجار فأقامت به شهرا. ومما وقع في تلك السفرة:
قالت أم أيمن: أتاني رجلان من اليهود يوما نصف النهار بالمدينة فقالا:
أخرجي لنا أحمد. فأخرجته ونظرا إليه وقلباه مليا ثم قال أحدهما لصاحبه: هذا
____________
(1) أخرجه الحافظ الترمذي في جامعه، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلى، والطبراني، وابن أبي شيبة، والحاكم في المستدرك 2: 343 وصححه هو وأقره الذهبي، والقرطبي في تفسيره 7: 1. وأبو نصر في اللمع ص 280، وابن كثير في تفسيره 2: 435، والخازن في تفسيره 2: 335.
ولايضاح هذه الجمل من الحري أن نسرد كيفية هجرته صلى الله عليه وآله حتى تزيد بصيرة القارئ على موقع الإفك من هذه المجهلة المأثورة في الصحاح والمسانيد الصادرة عن الغلو في الفضائل عميا وصما. فأقول:
* (الأنصار في البيعتين) *
كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعرض نفسه على القبائل في المواسم إذا كان يدعوهم إلى الله ويخبرهم إنه نبي مرسل فعرض نفسه على كندة. وعلى بني عبد الله بطن من كلب. وعلى بني حنيفة. وعلى بني عامر بن صعصعة. وعلى قوم من بني عبد الأشهل.
فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وآله وإنجاز موعده له خرج صلى الله عليه وآله وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وفيهم:
أسعد بن زرارة أبو أمامة النجاري. وعوف بن الحرث بن عفراء. ورافع بن مالك. وقطبة بن عامر بن حديدة. وعقبة بن عامر بن نابي. وجابر بن عبد الله.
فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله ودعاهم إلى الله، وعرض عليهم الاسلام، وتلا عليهم القرآن فأجابوه فيما دعا إليهم ثم انصرفوا عنه صلى الله عليه وآله راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وآله ودعوهم إلى الاسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب. وهم:
____________
(1) دلائل النبوة لأبي نعيم 1: 50، صفة الصفوة لابن الجوزي 1: 20 تاريخ ابن كثير 2: 279 بهجة المحافل 1: 44.
وذكوان بن عبد قيس. وعبادة بن الصامت. ويزيد بن ثعلبة. والعباس بن عبادة.
وعقبة بن عامر. وقطبة بن عامر. وأبو الهيثم بن التيهان. وعويم بن ساعدة.
قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى: على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.
فلما انصرف القوم عنه صلى الله عليه وسلم بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يقرأهم القرآن، ويعلمهم الاسلام، ويفقههم في الدين، ويقيم فيهم الجمعة والجماعة، وكان مصعب يسمى بالمدينة: المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة أبي أمامة. النجاري وكان يصلي بهم الجمعة والجماعة فأقام عنده يدعوان الناس الاسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق. قال كعب: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد ساداتنا وشريف من أشرافنا أخذناه معنا، ثم دعوناه إلى الاسلام فأسلم وشهد معنا العقبة، و كان نقيبا، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة. وأسماء بنت عمرو أم منيع.
قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الاسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك عما نمنع منه أزرنا (1) فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلي
____________
(1) أزرنا: يعني نساءنا، والمرأة يكنى عنها بالإزار.
1 - أبو أمامة أسعد بن زرارة الخزرجي.
2 - سعد بن الربيع بن عمرو الخزرجي.
3 - عبد الله بن رواحة بن امرؤ القيس الخزرجي.
4 - رافع بن مالك بن العجلان الخزرجي.
5 - البراء بن معرور بن صخر الخزرجي.
6 - عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي.
7 - عبادة بن الصامت بن قبس الخزرجي.
8 - سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي.
9 - المنذر بن عمرو بن خنيس الخزرجي.
10 - أسيد بن حضير بن سماك الأوسي.
11 - سعد بن خيثمة بن الحرث الأوسي.
12 - رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر الأوسي. وقد يعد بمكانه أبو الهيثم ابن التهيان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي: يعني المسلمين. قالوا: نعم.
قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتل استلمتموه؟
فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا فإنا نأخذ على مصيبة الأموال قتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله! إن نحن وفينا؟
قال: الجنة. قالوا: أبسط يدك فبسط يده فبايعوه.
فقال له العباس بن عبادة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل