وأما ما جاء به الرازي من حديث الزلزلة فلم يوجد في حوادث عهد عمر لا مسندا ولا مرسلا، ولم يذكره قط مؤرخ ضليع، ولم يخرجه الحفاظ حتى ينظر في إسناده.
وقوله: وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك، فكر أمة مكذوبة يكذبها التاريخ، وقد وقعت الزلزلة بعد ذلك غير مرة فقد وقعت زلزلة عظيمة بالحجاز سنة 515 فتضعضع بسببها الركن اليماني وتهدم بعضه وتهدم بها شئ من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله كما ذكره ابن كثير في تاريخه 12: 188.
وحدثت بالمدينة زلزلة عظيمة ليلا واستمرت أياما وكانت تزلزل كل يوم و ليلة قدر عشر نوبات وذلك سنة 654 وقصتها طويلة توجد في تاريخ ابن كثير 13: 188، 190، 191، 192.
واعطف على ما قاله الرازي قول السكتواري من إنها أول زلزلة كانت في الاسلام سنة عشرين من الهجرة. فقد وقعت سنة ست من الهجرة الشريفة كما في تاريخ الخميس 1: 565 فقال النبي صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل يستعتبكم فاعتبوه.
وأما حديث قول عمر: يا سارية الجبل الجبل. فقال السيد محمد بن درويش الحوت في أسنى المطالب ص 265: هو من كلام عمر قاله على المنبر حين كشف له عن سارية وهو بنهاوند من أرض فارس، روى قصته الواحدي والبيهقي بسند ضعيف وهم في المناقب يتوسعون. ا ه.
كنا نرى السيد ابن الحوت غير منصف في حكمه على الحديث بالضعف وإنه كان حقا عليه الحكم بالوضع إلى أن أوقفنا السير على تصحيح ابن بدران (المتوفى 1346) إياه فيما علق عليه في تاريخ ابن عساكر 6 ص 46 بعد ذكر الحديث من طريق سيف بن عمر، فوجدنا ابن الحوت عندئذ إنه جاء بإحدى بنات طبق في حكمه ذلك، ما أجرأ ابن بدران على هذا التمويه والدجل؟ أليست بين يديه أقوال أعلام قومه حول سيف بن عمر؟ أم ليسوا أولئك الحفاظ رجال الجرح والتعديل في كل إسناد؟ قال ابن حبان: كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاثبات. وقال: قالوا: إنه كان يضع الحديث واتهم
قال البرقاني عن الدارقطني: متروك. وقال ابن معين: ضعيف الحديث فليس خير منه.
وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود: ليس بشئ وقال النسائي: ضعيف. وقال السيوطي: وضاع: وذكر حديثا من طريق السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال: موضوع، فيه ضعفاء أشدهم سيف.
راجع ميزان الاعتدال 1: 438، تهذيب التهذيب 4: 295، اللئالي المصنوعة 1: 157، 199، 429.
وأما احتراق القرية بإباء الرجل عن تغيير اسمه فخرافة يأباها الشرع والعقل والمنطق، إن ما تقدم في الجزء السادس ص 308 - 315 ط 2 من آراء الخليفة الخاصة به - في الأسماء والكنى - ومن جرائها غير كنى رجال كناهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأسماء آخرين سماهم بها هو صلى الله عليه وآله بحجة داحضة من أن رسول الله صلى الله عليه وآله مات وغفر له ونحن لا ندري ما يفعل بنا - يستدعي ألا يمتثل في أمثال ذلك لا أن يعذب الله قرية آمنة مطمأنة لعدم إمتثال صاحبها بما يقوله الخليفة دون أمر مباح، وهو من الظلم الفاحش لما احترق فيها من أبرياء وتلفت من أموال، ولو وقفت بمطلع الأكمة من تلك القرية المضطرمة لبكيت على الرضع والبهائم بكاء الثكلى، نحاشي ربنا الحكيم العدل عن مثل ذلك، ونحاشي أعلام الأمة عن قبول هذه المخاريق المخزية.
قاتل الله الحب، ماذا يفعل ويفتعل ويختلق؟.
- 5 -
تسمية عمر بأمير المؤمنين
قال الواقدي: حدثنا أبو حمزة (1) يعقوب بن مجاهد عن محمد بن إبراهيم عن أبي عمر وقال: قلت لعائشة: من سمى عمر الفاروق أمير المؤمنين؟ قالت: النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أمير المؤمنين هو. ذكره ابن كثير في تاريخه 7: 137.
قال الأميني: كان أبو حزرة قاصا يقص فراقه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله
____________
(1) كذا في تاريخ ابن كثير والصحيح: حزرة. بفتح المهملتين بينهما معجمة ساكنة.
أخرج الحاكم من طريق ابن شهاب قال: إن عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر ابن سليمان بن أبي خيثمة لأي شئ كان يكتب من خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟ ثم كان عمر يكتب أولا من خليفة أبي بكر، فمن أول من كتب من أمير المؤمنين؟ فقال: حدثني الشفاء وكانت من المهاجرات الأول: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عامل العراق بأن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق و أهله فبعث عامل العراق بلبيد بن ربيعة وعدي ابن حاتم فلما قدما المدينة أناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثم دخلا المسجد فإذا هما بعمر وبن العاص فقالا: استأذن لنا يا عمرو! على أمير المؤمنين، فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، هو الأمير ونحن المؤمنون، فوثب عمرو فدخل على أمير المؤمنين. فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين!. فقال عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا بن العاص، ربي يعلم لتخرجن مما قلت. قال: إن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثم دخلا علي فقالا لي: استأذن لنا يا عمرو! على أمير المؤمنين فهما والله أصابا اسمك، نحن المؤمنون وأنت أميرنا، قال: فمضى به الكتاب من يومئذ.
أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: صحيح. وقال السيوطي في شرح شواهد المغني ص 57: روينا بسند صحيح إن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم هما اللذان سميا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين حين قدما عليه من العراق. وذكر القصة في تاريخ الخلفاء ص 94.
وأخرج الطبري في تاريخه 5: 22 بالإسناد عن حسان الكوفي قال: لما ولى عمر قيل: يا خليفة خليفة رسول الله، فقال عمر رضي الله عنه: هذا أمر يطول كل ما جاء خليفة قالوا: يا خليفة خليفة خليفة رسول الله، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم فسمي أمير المؤمنين.
وقال ابن خلدون في مقدمة تاريخه ص 227: اتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به، يقال: إن أول
وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا: أصبت والله اسمه إنه والله أمير المؤمنين حقا، فدعوه بذلك وذهب لقبا له في الناس، وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلا سائر دولة بني أمية. ا ه.
فصريح هذه النقول أن عمر نفسه ما كانت له سابقة علم بهذا اللقب لا عن رسول الله صلى الله عليه وآله ولا عن غيره، ولذلك استغربه وقال: ربي يعلم لتخرجن مما قلت. ولا كان عمر بن العاصي يعلم ذلك ولذلك نسب الإصابة بالتسمية إلى الرجلين ونحت لها من عنده ما يبررها. ولا كانت عند الرجلين - اللذين صح كما مر أنهما هما اللذان سمياه - أثارة من علم بما جاء به ابن كثير وإنما هو شئ جرى على لسانهما، ثم اعطف نظرة ثانية على كلمة ابن خلدون المقررة للخلاف في أول من سماه بأمير المؤمنين ولم يذكر فيه قولا بأن الرسول صلى الله عليه وآله هو الذي سماه، وصريح رواية الطبري إن عمر هو الذي رأى هذه التسمية.
نعم: إن الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين هو مولانا علي عليه السلام، أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 63 بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس! اسكب لي وضوءا. ثم قام فصلى ركعتين. ثم قال: يا أنس! أول من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين، قال أنس: قلت: أللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته إذ جاء علي فقال: من هذا يا أنس؟ فقلت: علي، فقام مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه، ويمسح عرق علي بوجهه. قال علي: يا رسول الله! لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعت بي من قبل؟
قال: وما يمنعني وأنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي
وأخرج ابن مردويه من طريق ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فغدا عليه علي بن أبي طا لب كرم الله وجهه بالغداة أن لا يسبقه إليه أحد فدخل فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في صحن البيت فإذا رأسه في حجر دحية بن خليفة الكلبي فقال: السلام عليك، كيف أصبح رسول الله؟ قال: بخير يا أخا رسول الله! فقال علي: جزاك الله عنا خيرا أهل البيت
وأخرج الحافظ أبو العلا الحسن بن أحمد العطار من طريق ابن عباس في حديث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أم سلمة! اشهدي واسمعي هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. الحديث مر بتمامه في الجزء السادس ص 80 ط 2.
وأخرج الطبراني في معجمه من طريق عبد الله بن عليم الجهني مرفوعا: إن الله عزو جل أوحى إلي في علي ثلاثة أشياء ليلة أسرى بي إنه سيد المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.
وتعضد هذه الأحاديث وتؤكدها عدة أحاديث منها ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء من طريق ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله آية فيها يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي رأسها وأميرها.
وفي لفظ الطبراني وابن أبي حاتم: إلا وعلي أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان وما ذكر عليا إلا بخير (1).
ومنها ما أخرجه الخطيب والحاكم وصححه من طريق جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وهو آخذ بيد علي يقول: هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله (2).
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 115، ونور الأبصار ص 80، وأخرجه شيخ الاسلام الحموي من طريق عبد الرحمن بن سهمان في فرائد السمطين، وذكره ابن حجر في الصواعق نقلا عن الحاكم وحرفه
____________
(1) راجع حلية الأولياء 1: 64، الرياض النضرة 2: 206، كفاية الكنجي ص 54، تذكرة السبط ص 8، درر السمطين لجمال الدين الزرندي، الصواعق لابن حجر ص 76، كنز العمال 6: 291، تاريخ الخلفاء ص 115.
(2) تاريخ الخطيب البغدادي 2: 377، ج: 219، مستدرك الحاكم 3: 129.
ومنها ما أخرجه ابن عدي في كامله من طريق علي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: علي يعسوب (1) المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين، وفي رواية: يعسوب الظلمة، وفي رواية يعسوب الكفار. ذكره الدميري في حياة الحيوان 2: 412، وابن حجر في الصواعق ص 75، وقال الدميري: ومن هنا قيل لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: أمير النحل.
ومنها قول علي: أنا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكفار، وفي لفظ: المنافقين، وفي لفظ: الفجار. نهج البلاغة 2، 211، تاج العروس 1: 381.
هذه هي الحقيقة الراهنة لكن القوم نحتوا تجاهها بقضاء من الغلو في الفضائل ما عرفته من رواية القصاص أبي حزرة.
- 6 -
عمر لا يحب الباطل
أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء 2: 46 من طريق الأسود بن سريع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:
قد حمدت ربي بمحامد ومدح وإياك. فقال: إن ربك عز وجل يحب الحمد. فجعلت أنشده، فاستأذن رجل طويل أصلع فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اسكت فدخل فتكلم ساعة ثم خرج فأنشدته ثم جاء فسكتني النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم ثم خرج، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا فقلت: يا رسول الله! من هذا الذي أسكتني له؟ فقال:
هذا عمر، رجل لا يحب الباطل.
ومن طريق آخر عن الأسود التميمي قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أنشده فدخل رجل أقنى (2) فقال لي: أمسك. فلما خرج قال: هات. فجعلت أنشده فلم ألبث أن عاد فقال لي: أمسك. فلما خرج قال: هات. فقلت: من هذا يا نبي الله الذي إذا دخل قلت: أمسك، وإذا خرج قلت: هات؟ قال: هذا عمر بن الخطاب وليس من الباطل في شئ.
ومن طريق آخر عن الأسود قال: كنت أنشده صلى الله عليه وسلم ولا أعرف أصحابه حتى
____________
(1) يعسوب: الأمير. الرئيس.
(2) قنى الانف وأقنى: ارتفع وسط قصبته وضاق منخراه.
قال الأميني: هل علمت رواة السوء بالذي تلوكه بين أشداقها؟ أم درت فتعمدت؟
أم أن حب عمر والمغالاة في فضائله أعمياهم عن تبعات هذا القول الشائن؟ إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
يقول القائل: إن ما أراد إنشاده محامد ومدح لله ولرسوله فيجيزه رسول الله صلى الله عليه وآله ويقول: إن ربك عز وجل يحب الحمد. فأي باطل في هذا حتى يبغضه عمر؟
ولو كان باطلا؟ لمنعه رسول الله صلى الله عليه وآله قبل عمر، وأي نبي هذا يتقي رجلا من أمته ولا يتقي الله؟ وكيف خشي الرجل أن يسحبه عمر برجله إلى البقيع ولم يخش رسول الله صلى الله عليه وآله أن يفعل به ذلك أو يأمر فيفعل به؟ أو أن عمر ما كان يميز بين الحق و الباطل فيحسب أن كل ما ينشد من الباطل، فيجاريه النبي صلى الله عليه وآله على مزعمة؟ فهل علم الراوي أو المؤلف بهذه المفاسد، أولا؟.
- 7 -
الملائكة تكلم عمر بن الخطاب
أخرج البخاري في كتاب المناقب باب مناقب عمر عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر.
وأخرج في الصحيح بعد حديث غار عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب أسلفنا ألفاظ هذه الرواية في الجزء الخامس 42 - 46 ط 2، ومر هناك عن القسطلاني قوله: ليس قوله " فإن يكن " للترديد للتأكيد بل كقولك: إن يكن لي صديق ففلان إذ المراد إختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء. الخ.
قال الأميني: أنا لست أدري ما الغاية في حديث الملائكة مع عمر؟ أهي محض
- 8 -
قرطاس في كفن عمر
إن الحسن والحسين دخلا على عمر بن الخطاب وهو مشغول ثم انتبه لهما فقام فقبلهما و وهب لكل واحد منهما ألفا فرجعا فأخبرا أباهما فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عمر نور الاسلام في الدنيا وسراج أهل الجنة في الجنة. فرجعا إلى عمر فحدثاه فاستدعي دواة وقرطاسا وكتب: حدثني سيدا شباب أهل الجنة عن أبيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال كذا وكذا، فأوصى أن يجعل في كفنه ففعل ذلك فأصبحوا وإذا القرطاس على القبر وفيه: صدق الحسن والحسين وصدق رسول الله.
قال الأميني: بلغ هذه القصة الخيالية من الخرافة حدا ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات كما في تحذير الخواص للسيوطي صفحة 53 فقال: والعجب من هذا الذي بلغت به الوقاحة إلى أن يصنف مثل هذا وما كفاه حتى عرضه على أكابر الفقهاء فكتبوا عليه تصويب هذا التصنيف. ا ه.
قاتل الله الغلو في الفضائل فإنه شوه سمعة أكابر الفقهاء، كما سود صحيفة التاريخ، وقبح وجه التأليف.
- 9 -
لسان عمر وقلبه
أخرج إمام الحنابلة أحمد في المسند 2: 401 عن نوح بن ميمون عن عبد الله بن عمر العمري عن جهم بن أبي الجهم عن مسور بن المخرمة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه.
قال الأميني: أما قلب الرجل فلا صلة لنا به لأن ما فيه من السرائر لا يعلمه إلا الله، نعم ربما ينم عنه ما جرى على لسانه، وإن شئت فسائل الإمام أحمد أكان الحق على لسان عمر لما جابه رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله الفظ حين أراد الكتف والدواة ليكتب للمسلمين كتابا لا يضلون بعده؟ فحال بينه وبين ما أراده من هداية الأمة، و مهما كانت الكلمة القارصة فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منزه عنها في كل حين فلا يغلبه الوجع، ولا يهجر من شدة ما به، ولا سيما وهو في صدد تبليغ ما به من الهداية والصون عن الضلال، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وانتظر لهذه الجملة بحثا ضافيا إنشاء الله تعالى.
أم كان الحق على لسانه في المائة موردا التي أخطأ فيها جمعاء؟ وقد فصلناها تفصيلا في نوادر الأثر من الجزء السادس، وقد اتخذناها مقياسا لمعرفة حال هذه الرواية وأمثالها مما نسجته يد الغلو في الفضائل.
أضف إلى هذا ما في سنده من الضعف فإن فيه: نوح بن ميمون. قال ابن حبان: ربما أخطأ (1) وفيه: عبد الله بن عمر العمري. قال أبو زرعة عن أحمد إمام الحنابلة: إنه كان يزيد في الأسانيد ويخالف. وقال علي بن المديني: ضعيف. وقال يحيى بن سعيد: لا يحدث عنه.
وقال يعقوب بن شيبة: في حديثه اضطراب. وقال صالح جزرة: لين مختلط الحديث وقال النسائي: ضعيف الحديث. وقال ابن سعد: كثير الحديث يستضعف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط فاستحق الترك. وقال البخاري في التاريخ: كان يحيى بن سعيد
____________
(1) تهذيب التهذيب 10: 489.
- 10 -
رؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله في علم عمر
أخرج البخاري في صحيحه 5: 255 في مناقب عمر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينا أنا نائم شربت يعني اللبن حتى أنظر إلى الري يجري في ظفري أو في أظفاري ثم ناولت عمر. فقالوا: فما أولته؟ قال العلم.
وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ص 119، والبغوي في المصابيح 2: 270، وابن عبد البر في الاستيعاب 2: 429، والمحب الطبري في الرياض 2: 8. وفي لفظهم: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى رأيت الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر.
قال الحافظ ابن أبي الجمرة الأزدي الأندلسي في بهجة النفوس 4: 244 عند شرحه الحديث: فانظر بنظرك إلى الذي شرب فضله عليه السلام كيف كان قوة علمه؟ الذي لم يقدر أحد من الخلفاء يماثله، فكيف؟ بغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وكيف؟ ممن بعد الصحابة. إلى آخر ما جاء به من التافهات.
قال الأميني: إن طبع الحال يستدعي أن تكون هذه الرؤيا بعد إسلام عمر وبعد مضي سنين من البعثة، وهل كان صلى الله عليه وآله طيلة هذه المدة خلوا من العلم؟ وهو في دور الرسالة، أو كان في علمه إعواز أكمله هذا اللبن الساري ريه في ظفره أو أظفاره؟ أو كان فيها إعلام بمبلغ علم عمر فحسب، وكناية عن إنه من مستقي الوحي؟ فهل تخفى على من هو هذا شأنه جلية المسائل فضلا عن معضلاتها؟ وهل يسعه أن يعتذر في الجهل بكتاب الله بقوله: ألهاني عنه الصفق بالاسواق؟.
وهلا تأثرت نفس الرجل بالعلم لما شرب من منهل علم النبي العظيم؟ فما معنى قوله: كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال؟ وأمثاله (2) وما الوجه في أخطاءه
____________
(1) تهذيب التهذيب 5: 7 32.
(2) راجع ما مر في الجزء السادس ص 338 ط 2.
ولقد تلطف المولى سبحانه على الأمة المرحومة إنه ولي أمرها بعد شرب تلك الكاس. وأنا لا أدري لو كان وليه قبل ذلك ماذا كان يصدر من ولائد الجهل؟ وأي حد كانت تبلغ نوادر الأثر في علمه؟
وليت مصطنع هذه المهزأة اصطنعها على وجه ينطبق حكمها على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى الخليفة، لكنه لا ينطبق على أي منهما كما بيناه، غير أن وظيفة الماين أن يأتي بأساطيره على كل حال، وإنما العتب على البخاري الذي يعتبرها ويدرجها في الصحيح غلوا منه في الفضائل، وأشد منه وأعظم على أمثال ابن أبي جمرة الأزدي من الذين يموهون الحقايق بزخرف القول على أغرار الأمة، ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم.
- 11 -
عمر وفرق الشيطان منه
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده ج 5: 89، وفي كتاب المناقب باب مناقب عمر 5: 256 عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله! قال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر: فأنت يا رسول الله! كنت أحق أن يهبن، ثم قال " عمر " أي عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما لقيك الشطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك.
قال الأميني: ما أوقح هذا الراوي الذي ساق هذا الحديث في عداد الفضائل وهو بعده عند سياق السفاسف أولى، حسب أولا أن النساء كن لم يهبن رسول الله صلى الله عليه وآله وهبن عمر، فعلى هذا نسائله: أكن هذه النسوة نساؤه صلى الله عليه وآله؟ كما ذكره شراح الحديث (1) ستر العوار الرواية، أم كن أجنبيات عنه صلى الله عليه وآله؟ وعلى الأول فلا وجه
____________
(1) راجع إرشاد الساري 5: 290.
وعلى الثاني وهو الذي يعطيه سياق الحديث كقوله: وعنده نساء من قريش. و قوله صلى الله عليه وآله: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي. الخ. وقول عمر: فأنت يا رسول الله كنت. الخ. وقوله: يا عدوات أنفسهن. الخ. فكل هذه لا يلتئم مع كونهن نساؤه لتنكير النساء في الأول، وظهور قوله: كن عندي في أن حضورهن لديه من ولائد الاتفاق لا أنهن نساؤه الكائنات معه أطراف الليل وآناء النهار، وقلنا أيضا: إنه لا وجه للهيبة مع كونهن أزواجه، ولا هن على ذلك عدوات أنفسهن، فإن إبداء الزينة والجمال للزوجة عبادة لا معصية، فجلوسهن وهن أجنبيات عند رسول الله صلى الله عليه وآله سافرات على هذا الوجه إما لأنه صلى الله عليه وآله لم يحرم السفور، وإما لأنه حرمه ونسيه، أو أنه صلى الله عليه وآله تسامح في النهي عنه، أو أنه هابهن وإن لم يهبن، وكان مع ذلك يروقه أن ينتهين عما هن عليه، ولذلك استبشر لما بادرن الحجاب وأثنى على عمر، ولازم هذا أن يكون عمر أفقه من رسول الله صلى الله عليه وآله، أو أثبت منه على المبدأ، أو أخشن منه في ذات الله، أو أقوى منه نفسا. أعوذ بالله من التقول بلا تعقل.
وأما ما عزي إليه صلى الله عليه وآله ثانيا من قوله: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا غير فجك، فما بالشيطان يهاب الخليفة فيسلك فجا غير فجه ولا تروعه عظمة النبي صلى الله عليه وآله ولا قوة إيمانه؟ فيسلك في فجه فلا يدعه أن ينهى عن المنكر، و يحدو بصواحب المنكر إلى أن يتظاهرون به أمامه. بل الشيطان لعنه الله يعرض له صلى الله عليه وآله ليقطع عليه صلاته وإن رجع عنه خائبا كما أخرجه البخاري في صحيحه ج 1 ص 143 في كتاب الصلاة باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة. ومسلم في صحيحه ج 1 ص 204 باب جواز لعن الشيطان في الصلاة، أخرجا بالإسناد عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله صلاة فقال: إن الشيطان عرض لي فشد علي بقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه فذعته (1) الحديث.
هب إن اللعين في هذه المرة لم يصب من رسول الله صلى الله عليه وآله لكنه تجرأ على مقامه
____________
(1) فذعته: فخنقته والذعت والدعت بالمهملة والمعجمة: الدفع العنيف.
كيف يجرأ اللعين على رسول الله حتى في حال صلاته؟ ولم يتجرأ قط على عمر لأن يسلك فجا غير فجه. وجاء فيما أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان عن بريدة إن الشيطان ليفرق منك يا عمر! (2) وفيما أخرجه الطبراني وابن مندة وأبو نعيم عن سديسة مولاة حفصة عن حفصة بنت عمر مرفوعا: إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه (3).
إني وإن لا يروقني خدش العواطف بذكر مواقف الرجل التي لم يكن العامل الوحيد فيها إلا الشيطان، غير إني لست أدري هل الشيطان كان يفرق ويفر منه، و يخر على وجهه، ويسلك فجا غير فجه أيضا منذ أسلم إلى سنة الفتح الثامن من الهجرة النبوية؟ إلى نزول آية " فهل أنتم منتهون " إلى يوم قول الرجل: انتهينا انتهينا؟ إلى يوم النادي في دار أبي طلحة الأنصاري؟ فعلى الباحث الوقوف على ما أسلفناه في الجزء السادس ص 251 - 261، وفي الجزء السابع ص 95 - 102 ط 2.
ثم أين كانت تلك البسالة من رسول الله - الحاجزة بين الشيطان الرجيم وبين صلاته صلى الله عليه وآله لما عرض له وشد عليه - يوم كانت عنده نساء قريش فتخنقه وتردع النسوة؟
فبهذه كلها تعلم مقدار هده الرواية ومقيلها من الصدق، ومبلغ صحيح البخاري من الاعتبار، وتعرف ما يفعله الغلو في الفضائل والحب المعمي والمصم.
أضف إلى هذه المخاريق ما أسلفناه في الجزء الخامس في سلسلة الموضوعات مما وضعته يد الغلو في فضائل عمر.
____________
(1) صحيح البخاري 1: 78 كتاب الأذان. صحيح مسلم ج 1: 153 باب فضل الأذان.
(2) فيض القدير 2: 359.
(3) الإصابة 4: 226، فيض القدير 2: 352