وأما كثرة الناس في المدينة نفسها لو تم كونها مصححا للزيادة في النداء فإنما يصحح تكثير المؤذنين في أنحاء البلد في وقت واحد لا الأذان بعد الإقامة الفاصل بينهما وبين الصلاة، وقد ثبت في السنة خلافه في الترتيب، وأحدوثة الخليفة إنما هي الزيادة في النداء بعد الإقامة لا إكثار المؤذنين كما نبه إليه التركماني في شرح السنن الكبرى للبيهقي 1: 429، ولذلك عابه عليه الصحابة، وحسبوه بدعة، ولا يخص تعدد المؤذنين بأيام عثمان فحسب، وقد كان في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله يؤذن بلال وابن أم مكتوم، واتخذ عثمان أربعة للحاجة إليها حين كثر الناس كما في شرح الآبي على صحيح مسلم 2: 136، ولا أجد خلافا في جواز تعدد المؤذنين، بل رتبوا عليه أحكاما مثل قولهم هل الحكاية المستحبة أو الواجبة كما قيل تتعدد بتعدد المؤذنين أم لا؟ وقولهم: إذا أذن المؤذن الأول، هل للإمام أن يبطئ بالصلاة ليفرغ من بعده؟ أو له أن يخرج ويقطع من بعده أذانه؟ وقولهم: إذا تعدد المؤذنون لهم أن يؤذن واحد بعد واحد، أو يؤذن كلهم في أول الوقت؟ وقال الشافعي في كتاب الأم 1: 72: إن كان مسجدا كبيرا له مؤذنون عدد فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد.
وظاهر ما مر في الصحيح من إنه زاد النداء الثالث هو إحداث الأذان بعد الأذان والإقامة لا الأذان قبلهما كما يأتي عن الطبراني، ويومي إليه قول بعض شراح الحديث من أن النداء الثالث ثالث باعتبار الشرعية لكونه مزيدا على الأذان بين يدي الإمام وعلى الإقامة للصلاة (1)، نعم: قال ابن حجر في فتح الباري 2: 315: تواردت الشراح على إن معنى قوله " الأذان الثالث " إن الأولين الأذان والإقامة، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثا يستدعي سبق اثنين قبله. وقال العيني في عمدته 2: 290: إنما أطلق الأذان على الإقامة لأنها إعلام كالآذان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: بين كل أذانين صلاة لمن
____________
(1) شرح الترمذي في هامشه 2: 68.
وعلى تقدير إيجاب كثرة الناس الزيادة في النداء يلزم كما قلنا أن يكون الأذان الزايد في أطراف البلد وأقاصيه عن المسجد ليبلغ من لا يبلغه أذان المسجد الذي كان يؤذن به على باب المسجد على العهد النبوي ودور الشيخين، كما ورد في سنن أبي داود 1: 171، لا في الزوراء التي هي دار بقرب المسجد كما في القاموس، وتاج العروس، سواء كانت هي دار عثمان بن عفان التي ذكرها الحموي في المعجم 4: 412، وقال الطبراني: فأمر عثمان بالنداء الأول على دار له يقال لها: الزوراء فكان يؤذن له عليها (2) أو موضع عند سوق المدينة بقرب المسجد كما ذكره الحموي أيضا، أو حجر كبير عند باب المسجد على ما جزم به ابن بطال كما في فتح الباري 2: 315، وعمدة القاري 3: 291. فالنداء في الزوراء على كل حال كالنداء في باب المسجد في مدى الصوت ومبلغ الخبر، فأي جدوى في هذه الزيادة المخالفة للسنة؟
ثم إن كثرة الناس على فرضها في المدينة هل حصلت فجائية في السابعة من خلافة عثمان؟ أو أن الجمعية كانت إلى التكثر منذ عادت عاصمة الخلافة الإسلامية؟ فما ذلك الحد الذي أوجب مخالفة السنة؟ أو ابتداع نداء ثالث؟ وهل هذه السنة المبتدعة يجري ملاكها في العواصم والأوساط الكبيرة التي تحتوي أضعاف ما كان بالمدينة من الناس فيكرر فيها الأذان عشرات أو مئات؟ سل الخليفة وأنصاره المبررين لعمله.
على أن كثرة الناس في المدينة إن كانت هي الموجبة للنداء الثالث فلماذا أخذ فعل الخليفة أهل البلاد جمعاء وعمل به؟ ولم يكن فيها التكثر، وكان على الخليفة أن ينهاهم عنه وينوه بأن الزيادة على الأذان المشروع تخص بالمدينة فحسب، أو يؤخذ بحكمها في كل بلدة كثر الناس بها.
نعم: فتح الخليفة باب الجرأة على الله فجاء بعده معاوية ومروان وزياد والحجاج ولعبوا بدين الله على حسب ميولهم وشهواتهم والبادي أظلم.
____________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 2: 8.
(2) فتح الباري لابن حجر 2: 315، عمدة القاري 3: 291.
- 5 -
توسيع الخليفة المسجد الحرام
قال الطبري في تاريخه ج 5: 47 في حوادث سنة 26 الهجرية: وفيها زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه وابتاع من قوم وأبى آخرون فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال فصاحوا بعثمان فأمر بهم الحبس وقال: أتدرون ما جرأكم علي؟ ما جرأكم علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به. ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد ابن أسيد فأخرجوا. وذكره هكذا اليعقوبي في تاريخه 2: 142، وابن الأثير في الكامل 3 ص 36.
وأخرج البلاذري في الأنساب 5: 38 من طريق مالك عن الزهري قال: وسع عثمان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأنفق عليه من ماله عشرة آلاف درهم فقال الناس: يوسع مسجد رسول الله ويغير سنته.
قال الأميني: كأن الخليفة لم يكن يرى لليد ناموسا مطردا في الاسلام ولا للملك والمالكية قيمة ولا كرامة في الشريعة المقدسة، وكأنه لم يقرع سمعه قول نبي العظمة صلى الله عليه وآله: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (1) م وفي لفظ الجصاص في أحكام القرآن 1: 175: إلا بطيب نفسه. وفي الشفاء للقاضي عياض، و نيل الأوطار 4: 182: إلا بطيبة من نفسه. وفي صحيح ابن حبان: لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه ]. (2) وإن من العجب العجاب إن الخليفة نفسه أدرك عهد عمر وزيادته في المسجد، وشاهد محاكمة العباس بن عبد المطلب وإباءه عن إعطاء داره، ورواية أبي بن كعب وأبي ذر الغفاري وغيرهما حديث بناء بيت المقدس عن داود عليه السلام، وقد خصمه العباس بذلك، وثبتت عند عمر السنة الشريفة فخضع لها، كما مر تفصيله في الجزء السادس ص 262 - 266 ط 2 غير إن الرجل لم يكترث لذلك كله ويخالف تلك السنة الثابتة،
____________
(1) ذكره بهذا اللفظ الحافظ ابن أبي جمرة الأزدي في بهجة النفوس 2: 134، و ج 4:
111.
(2) البحر الزاخر 1: 218.
- 6 -
رأي الخليفة في متعة الحج
أخرج البخاري في الصحيح بالإسناد عن مروان بن الحكم قال: سمعت عثمان وعلي رضي الله عنهما بين مكة والمدينة وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا قال: لبيك عمرة وحجة معا قال: فقال عثمان:
تراني أنهى الناس عن شئ وتفعله أنت؟ قال: لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس.
وفي لفظ أحمد: كنا نسير مع عثمان رضي الله عنه فإذا رجل يلبي بهما جمعا قال عثمان رضي الله عنه: من هذا؟ فقالوا: علي. فقال: ألم تعلم أني قد نهيت عن هذا؟ قال بلى. ولكن لم أكن لأدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك.
وأخرج الشيخان بالإسناد عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة فقال له علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ قال: دعنا منك، قال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى ذلك علي أهل بهما جمعا.
وأخرج مسلم من طريق عبد الله بن شقيق قال: كان عثمان رضي الله عنه ينهى عن المتعة وكان علي رضي الله عنه يأمر بها، فقال عثمان لعلي كلمة، ثم قال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجل ولكنا كنا خائفين.
راجع صحيح البخاري 3: 69، 71، صحيح مسلم 1: 349، مسند أحمد 1: 61، 95 سنن النسائي 5: 148، 152، سنن البيهقي 4: 352، ج 5: 22، مستدرك الحاكم 1: 472، تيسير الوصول 1: 282.
قال الأميني: لقد فصلنا القول في هذه المسألة في نوادر الأثر من الجزء السادس ص 198 130 و 213 220 ط 2 تفصيلا وذكرنا هنالك أحاديث جمة إن متعة الحج
نعم: شهد عثمان كل ذلك لكنه لم يكترث لشئ منها، وطفق يقتص أثر من قبله، وكان حقا عليه أن يتبع كتاب الله وسنة نبيه والحق أحق أن يتبع، ولم يقنعه كل ذلك حتى أخذ يعاتب أمير المؤمنين عليا عليه السلام الذي هو نفس الرسول، وباب مدينة علمه، وأقضى أمته وأعلمها على عدم موافقته له في رأيه المجرد الشاذ عن حكم الله، حتى وقع الحوار بينهما في عسفان وفي الجحفة وأمير المؤمنين عليه السلام متمتع بالحج، وكاد من جراء ذلك يقتل علي سلام الله عليه كما مر حديثه في الجزء السادس ص 205 ط 1 و 219 ط 2.
ونحن لا ندري مغزى جواب الرجل لمولانا علي عليه السلام لما قاله: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله. من قوله: أجل ولكنا كنا خائفين. أي خوف كان في سنة حجة التمتع مع رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وهي الحجة الوداع والنبي الأقدس كان معه مائة ألف أو يزيدون، وأنت تجد أعلام الأمة غير عارفين بهذا العذر التافه المختلق أيضا وقال إمام الحنابلة أحمد في المسند بعد ذكر الحديث: قال شعبة لقتادة: ما كان خوفهم قال: لا أدري.
____________
(1) البيتان للفقيه أبي زيد على الزبيدي المتوفى 813 ذكرهما صاحب شذرات الذهب 7: 203.
أليس من الغلو الممقوت الفاحش عندئذ ما جاء به البلاذري في الأنساب 5: 4 من قول ابن سيرين: كان عثمان أعلمهم بالمناسك وبعده ابن عمر.
إن كان أعلم الأمة هذه سيرته وهذا حديثه؟ فعلى الاسلام السلام.
- 7 -
تعطيل الخليفة القصاص
أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب إن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: لما قتل عمر إني مررت بالهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم نجى فلما رأوني ثاروا فسقط من بيتهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه فانظروا إلى الخنجر الذي قتل به عمر فإذا هو الذي وصفه فانطلق عبيد الله بن عمر فأخذ سيفه حتى سمع ذلك من عبد الرحمن فأتى الهرمزان فقتله وقتل جفينة بنت أبي لؤلؤة صغيرة وأراد قتل كل سبي بالمدينة فمنعوه، فلما استخلف عثمان قال له عمرو بن العاص: إن هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان فذهب دم الهرمزان هدرا.
وأخرجه الطبري في تاريخه 5: 42 بتغيير يسير والمحب الطبري في الرياض 2.
150، وذكره ابن حجر في الإصابة 3: 619 وصححه باللفظ المذكور.
وذكر البلاذري في الأنساب 5: 24 عن المدائني عن غياث بن إبراهيم: إن عثمان صعد المنبر فقال: أيها الناس إنا لم نكن خطباء وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله، وقد كان من قضاء الله إن عبيد الله بن عمر أصاب الهرمزان وكان الهرمزان من المسلمين (1) ولا وارث له إلا المسلمون عامة وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون؟ قالوا:
نعم. فقال علي: أقد الفاسق فإنه أتى عظيما قتل مسلما بلا ذنب. وقال لعبيد الله: يا فاسق! لئن ظفرت بك يوما لأقتلنك بالهرمزان.
وقال اليعقوبي في تاريخه 2: 141 أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان
____________
(1) أسلم على يد عمر وفرض له في الفين كما في الإصابة وغيرها.
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 8: 61 بإسناد عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال: لما طعن عمر رضي الله عنه وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله فقيل لعمر: إن عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان. قال ولم قتله؟ قال: إنه قتل أبي. قيل: وكيف ذلك؟
قال: رأيته قبل ذلك مستخليا بأبي لؤلؤة وهو أمره بقتل أبي. وقال عمر: ما أدري ما هذا انظروا إذا أنا مت فاسألوا عبيد الله البينة على الهرمزان، هو قتلني؟ فإن أقام البينة فدمه بدمي، وإن لم يقم البينة فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان.
فلما ولي عثمان رضي الله عنه قيل له: ألا تمضي وصية عمر رضي الله عنه في عبيد الله؟ قال: ومن ولي الهرمزان؟
قالوا: أنت يا أمير المؤمنين! فقال: قد عفوت عن عبيد الله بن عمر.
وفي طبقات ابن سعد 5: 8 10 ط ليدن: انطلق عبيد الله فقتل ابنة أبي لؤلؤة وكانت تدعي الاسلام، وأراد عبيد الله ألا يترك سبيا بالمدينة يومئذ إلا قتله فاجتمع المهاجرون الأولون فأعظموا ما صنع عبيد الله من قبل هؤلاء واشتدوا عليه وزجروه عن السبي فقال: والله لأقتلنهم وغيرهم. يعرض ببعض المهاجرين، فلم يزل عمرو ابن العاص يرفق به حتى دفع إليه سيفه فأتاه سعد فأخذ كل واحد منهما برأس صاحبه يتناصيان، حتى حجز بينهما الناس، فأقبل عثمان وذلك في الثلاثة الأيام الشورى قبل أن يبايع له، حتى أخذ برأس عبيد الله بن عمر وأخذ عبيد الله برأسه ثم حجز بينهما وأظلمت الأرض يومئذ على الناس، فعظم ذلك في صدور الناس وأشفقوا أن تكون عقوبة حين قتل عبيد الله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة.
وعن أبي وجزة عن أبيه قال: رأيت عبيد الله يومئذ وإنه ليناصي عثمان وإن عثمان ليقول: قاتلك الله قتلت رجلا يصلي وصبية صغيرة، وآخر من ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن عمران بن مناح قال جعل سعد بن أبي وقاص يناصي عبيد الله بن عمر حيث قتل الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة، وجعل سعد يقول وهو يناصيه:
فقال عبيد الله:
فجاء عمرو بن العاص فلم يزل يكلم عبيد الله، ويرفق به حتى أخذ سيفه منه، وحبس في السجن حتى أطلقه عثمان حين ولي.
عن محمود بن لبيد: كنت أحسب إن عثمان إن ولي سيقتل عبيد الله لما كنت أراه صنع به، كان هو وسعد أشد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
وعن المطلب بن عبد الله قال: قال علي لعبيد الله بن عمر: ما ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها؟ قال: فكان رأي علي حين استشاره عثمان ورأي الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله، لكن عمرو بن العاص كلم عثمان حتى تركه، فكان علي يقول: لو قدرت على عبيد الله بن عمر ولي سلطان لاقتصصت منه.
وعن الزهري: لما استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار فقال: أشيروا علي في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق. فاجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله وقال: جل الناس: أبعد الله الهرمزان وجفينة يريدون يتبعون عبيد الله أباه. فكثر ذلك القول، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين!
إن هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك سلطان على الناس فاعرض عنه، فتفرق الناس عن كلام عمرو بن العاص.
وعن ابن جريج: إن عثمان استشار المسلمين فاجمعوا على ديتها، ولا يقتل بهما عبيد الله بن عمر، وكانا قد أسلما، وفرض لهما عمر، وكان علي بن أبي طالب لما بويع له أراد قتل عبيد الله بن عمر، فهرب منه إلى معاوية بن أبي سفيان، فلم يزل معه فقتل بصفين (2).
____________
(1) الشعر لكلاب بن علاط أخي الحجاج بن علاط.
(2) حذفنا أسانيد هذه الأحاديث روما للاختصار وهي كلها مستندة.
فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين! إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك، قال عثمان: أنا وليهم وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي، قال: وكان رجل من الأنصار يقال له: زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر قال:
قال: فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه قال: فأنشأ زياد يقول في عثمان:
فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه وشذ به. وذكره ابن الأثير في الكامل 5: 31.
قال الأميني: الذي يعطيه الأخذ بمجامع هذه النقول أن الخليفة لم يقد عبيد الله قاتل الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة الصغيرة، مع إصرار غير واحد من الصحابة
____________
(1) أروى بنت كريز أم عثمان كما مر في 120.
وهل يشترط ناموس الاسلام للخليفة في إجرائه حدود الله وقوع الحوادث عند سلطانه؟ حتى يصاخ إلى ما جاء به ابن النابغة، وإن صحت الأحلام؟ فاستيهاب الخليفة لماذا؟ وهب إن خليفة الوقت له أن يهب أو يستوهب المسلمين حيث لا يوجد ولي للمقتول، ولكن هل له إلغاء الحكم النافذ من الخليفة قبله؟ وهل للمسلمين الذين استوهبهم فوهبوا ما لا يملكون رد ذلك الحكم البات؟ وعلى تقدير أن يكون لهم ذلك فهل هبة أفراد منهم وافية لسقوط القصاص، أو يجب أن يوافقهم عليها عامة المسلمين؟
وأنت ترى إن في المسلمين من ينقم ذلك الاسقاط وينقد من فعله، حتى إن عثمان لما رأى المسلمين إنهم قد أبوا إلا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة وأقطعه بها دارا وأرضا، وهي التي يقال لها: كويفة ابن عمر، فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه وكثر كلامهم فيه. (1)
وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو سيد الأمة وأعلمها بالحدود والأحكام يكاشف عبيد الله ويهدده بالقتل على جريمته متى ظفر به، ولما ولي الأمر تطلبه ليقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، وقتل بصفين، كما في " الكامل " لابن الأثير 3: 32، وفي " الاستيعاب " لابن عبد البر: إنه قتل الهرمزان بعد أن أسلم وعفا عنه عثمان، فلما ولي علي خشي على نفسه فهرب إلى معاوية فقتل بصفين، وفي مروج الذهب 2: 24: إن عليا ضربه فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفه حشوة جوفه، وإن
____________
(1) راجع ما مر في ص 133، ومعجم البلدان 7: 307.
هذه كلها تنم عن إن أمير المؤمنين عليه السلام كان مستمرا على عدم العفو عنه، و إنه لم يكن هناك حكم نافذ بالعفو يتبع، وإلا لما طلبه ولا تحرى قتله، وقد ذكره بذلك يوم صفين لما برز عبيد الله أمام الناس فناداه علي: ويحك يا ابن عمر!
علام تقاتلني؟ والله لو كان أبوك حيا ما قاتلني. قال: أطلب بدم عثمان. قال أنت تطلب بدم عثمان، والله يطلبك بدم الهرمزان، وأمر على الأشتر النخعي بالخروج إليه. (1)
إلى هنا انقطع المعاذير في إبقاء عبيد الله والعفو عنه، لكن قاضي القضاة اطلع رأسه من ممكن التمويه، فعزى إلى شيخه أبي علي أنه قال (2): إنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين، لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله فيقال: قتلوا إمامهم، و قتلوا ولده، ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة. ا ه.
أولا تسائل هذا الرجل؟ عن أي شماتة تتوجه إلى المسلمين في تنفيذهم حكم شرعهم وإجرائهم قضاء الخليفة الماضي في ابنه الفاسق قاتل الأبرياء، وإنهم لم تأخذهم عليه رأفة في دين الله لتعديه حدوده سبحانه ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون، ولم يكترثوا لأنه في الأمس أصيب بقتل أبيه واليوم يقتل هو فتشتبك المصيبتان على أهله، هذا هو الفخر المرموق إليه في باب الأديان لأنه منبعث عن صلابة في إيمان، و نفوذ في البصيرة، وتنمر في ذات الله، وتحفظ على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله؟ و أخذ بمجاميع الدين الحنيف، فأي أمة هي هكذا لا تنعقد عليها جمل الثناء ولا تفد إليها ألفاظ المدح والاطراء؟ وإنما الشماتة في التهاون بالأحكام، وإضاعة الحدود بالتافهات، واتباع الهوى والشهوات، لكن الشيخ أبا علي راقه أن يكون له حظا من الدفاع فدافع.
ثم إن ما ارتكبه الخليفة خلق لمن يحتذي مثاله مشكلة ارتبكوا في التأول في
____________
(1) مروج الذهب 2: 12.
(2) راجع شرح ابن أبي الحديد 1: 242.
وثان يحسب إنه استعفى المسلمين مع ذلك وأجابوه إلى طلبته وهم أولياء المقتول إذ لا ولي له. ونحن لا ندري أنهم هل فحصوا عن وليه في بلاد فارس؟ والرجل فارسي هو وأهله، أو إنهم اكتفوا بالحكم بالعدم؟ لأنهم لم يشاهدوه بالمدينة، وهو غريب فيها ليس له أهل ولا ذووا قرابة، أو أنهم حكموا بذلك من تلقاء أنفسهم؟ وما كان يضرهم لو أرجعوا الأمر إلى أولياءه في بلاده فيؤمنوهم حتى يأتوا إلى صاحب ترتهم فيقتصوا منه أو يعفوا عنه؟.
ثم متى أجاب المسلمون إلى طلبة عثمان؟ وسيدهم يقول: أقد الفاسق فإنه أتى عظيما. وقد حكم خليفة الوقت قبله بالقصاص منه، ولم يكن في مجتمع الاسلام من يدافع عنه ويعفو إلا ابن النابغة، وقد مر عن ابن سعد قول الزهري من إنه أجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله.
وثالث يتفلسف بما سمعته عن الشيخ أبي علي، وهل يتفلسف بتلك الشماتة والوصمة والمسبة على بني أمية في قتلهم من العترة الطاهرة والدا وما ولد وذبحهم في يوم واحد منهم رضيعا ويافعا وكهلا وشيخا سيد شباب أهل الجنة؟.
وهناك من يصوغ لهرمزان وليا يسميه " القماذبان " ويحسب إنه عفى بإلحاح من المسلمين أخرج الطبري في تاريخه 5: 43 عن السري وقد كتب إليه شعيب عن سيف بن عمر عن أبي منصور قال سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه قال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه و قال: ما تصنع في هذه البلاد؟ فقال: أبس به. فرآه رجل فلما أصيب عمر قال: رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني
____________
(1) بدايع الصنايع لملك العلماء الحنفي 7: 245.
ولو كان هذا الولي المزعوم موجودا عند ذاك فما معنى قول عثمان في الصحيح المذكور على صهوة المنبر: لا وارث له إلا المسلمون عامة وأنا إمامكم؟ وما قوله الآخر في حديث الطبري نفسه: أنا وليهم وقد جعلته دية واحتملتها في مالي؟ ولو كان يعلم بمكان هذا الوارث فلم حول القصاصا إلى الدية قبل مراجعته؟ ثم لما حوله فلم لم يدفع الدية إليه واحتملها في ماله؟ ثم أين صارت الدية وما فعل بها؟ أنا لا أدري.
ولو كان المسلمون يعترفون بوجود القماذبان وما في الأرض أحد إلا معه وهو الذي عفى عن قاتل أبيه فما معنى قول الخليفة: وقد عفوت، أفتعفون؟ وقوله في حديث البيهقي: قد عفوت عن عبيد الله بن عمر؟ وما معنى استيهاب خليفة المسلمين وولي المقتول حي يرزق؟ وما معنى مبادرة المسلمين إلى موافقته في العفو والهبة؟ وما معنى تشديد مولانا أمير المؤمنين في النكير على من تماهل في القصاص؟ وما معنى قوله عليه السلام لعبيد الله يا فاسق! لئن ظفرت بك يوما لأقتلنك بالهرمزان؟ وما معنى تطلبه لعبيد الله ليقتله أبان خلافته؟ وما معنى هربه من المدينة إلى الشام خوفا من أمير المؤمنين؟ وما معنى قول عمرو بن العاصي لعثمان: إن هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان؟ وما معنى قول سعيد بن المسيب: فذهب دم الهرمزان هدرا؟ وما معنى قول لبيد بن زياد وهو يخاطب عثمان. أتعفو إذ عفوت بغير حق. الخ؟. وما معنى ما رواه ملك العلماء الحنفي في بدائع الصنائع 7: 245 وجعله مدرك الفتوى في الشريعة؟ قال: روي إنه لما قتل سيدنا عمر رضي الله عنه خرج الهرمزان والخنجر في يده فظن عبيد الله إن هذا هو الذي قتل سيدنا عمر رضي الله عنه فقتله فرفع ذلك إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه فقال سيدنا علي رضي الله عنه لسيدنا عثمان: اقتل عبيد الله. فامتنع سيدنا عثمان رضي الله عنه و قال: كيف أقتل رجلا قتل أبوه أمس؟ لا أفعل، ولكن هذا رجل من أهل الأرض و أنا وليه أعفو عنه وأودي ديته.
ولبعض ما ذكر زيفه ابن الأثير في الكامل 3: 32 فقال: الأول أصح في إطلاق عبيد الله لأن عليا لما ولي الخلافة أراد قتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرض له علي. ا ه.
وقبل هذه كلها ما في إسناد الرواية من الغمز والعلة، كتبها إلى الطبري السري ابن يحيى الذي لا يوجد بهذه النسبة له ذكر قط، غير إن النسائي أورد عنه حديثا لسيف بن عمر فقال: لعل البلاء من السري (1) وابن حجر يراه السري بن إسماعيل الهمداني الكوفي الذي كذبه يحيى بن سعيد وضعفه غير واحد من الحفاظ، ونحن نراه السري بن عاصم الهمداني نزيل بغداد المتوفى 258، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطرا من حياته يربو على ثلاثين سنة، كذبه ابن خراش، ووهاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات لا يحل الاحتجاج به، وقال النقاش في حديث: وضعه السري (2) فهو مشترك بين كذابين لا يهمنا تعيين أحدهما.
والتسمية بابن يحيى محمولة على النسبة إلى أحد أجداده كما ذكره ابن حجر في تسميته بابن سهل (3) هذا إن لم تكن تدليسا، ولا يحسب القارئ إنه السري بن يحيى الثقة لقدم زمانه وقد توفي سنة 167 (4) قبل ولادة الطبري الراوي عنه المولود سنة 224 بسبع وخمسين سنة.
وفي الاسناد شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول، قال ابن عدي: ليس بالمعروف وقال الذهبي: راوية كتب سيف عنه فيه جهالة (5).
وفيه سيف بن عمر التميمي راوي الموضوعات، المتروك، الساقط، المتسالم على
____________
(1) تهذيب التهذيب 3: 460.
(2) تاريخ الخطيب 9: 193، ميزان الاعتدال 1: 380، لسان الميزان 3: 13، وما مر في ج 5: 231 ط 2.
(3) لسان الميزان 3: 13.
(4) تهذيب التهذيب 3: 461.
(5) ميزان الاعتدال 1: 448، لسان الميزان 3: 145.
* (عذر مفتعل) *
إن المحب الطبري أعماه الحب وأصمه فجاء بعذر مفتعل غير ما ذكر قال في رياض النضرة 2: 150: عنه جوابان: الأول إن الهرمزان شارك أبا لؤلؤة في ذلك وملأه، وإن كان المباشر أبو لؤلؤة وحده لكن المعين على قتل الإمام العادل يباح قتله عند جماعة من الأئمة، وقد أوجب كثير عن الفقهاء القود على الآمر والمأمور وبهذا اعتذر عبيد الله بن عمر وقال: إن عبد الرحمن بن أبي بكر أخبره إنه رأى أبا لؤلؤة و الهرمزان وجفينة يدخلون في مكان ويتشاورون وبينهم خنجر له رأسان مقبضه في وسطه فقتل عمر في صبيحة تلك فاستدعى عثمان عبد الرحمن فسأله عن ذلك فقال: انظروا إلى السكين فإن كانت ذات طرفين فلا أرى القوم إلا وقد اجتمعوا على قتله. فنظروا إليها فوجدوها كما وصف عبد الرحمن، فلذلك ترك عثمان قتل عبيد الله بن عمر لرؤيته عدم وجود القود لذلك، أو لتردده فيه فلم ير الوجوب للشك.
والجواب الثاني: إن عثمان خاف من قتله ثوران فتنة عظيمة لأنه كان بنو تيم وبنو عدي مانعون من قتله، ودافعون عنه، وكان بنو أمية أيضا جانحون إليه، حتى قال له عمرو بن العاص: قتل أمير المؤمنين عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟ لا والله لا يكون هذا أبدا، ومال في بني جمح، فلما رأى عثمان ذلك اغتنم تسكين الفتنة وقال: أمره إلي وسأرضي أهل الهرمزان منه.
قال الأميني: إن إثبات مشاركة هرمزان أبا لؤلؤة في قتل الخليفة على سبيل البت
لمحض ما قاله عبد الرحمن بن أبو بكر من إنه رآهما متناجيين وعند أبي لؤلؤة خنجر
له رأسان دونه خرط القتاد، فإن من المحتمل إنهما كانا يتشاوران في أمر آخر بينهما،
أو أن أبا لؤلؤة استشاره فيما يريد أن يرتكب فنهاه عنه الهرمزان، لكنه لم يصغ
إلى قيله فوقع القتل غدا، إلى أمثال هذين من المحتملات، فكيف يلزم الهرمزان