على أن أقصى مدة الحمل محل خلاف بين الفقهاء، ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنه عامان، ومذهب الشافعي أنه أربعة أعوام، وأختار ابن القاسم أن أكثره خمسة أعوام (1) وروى أشهب عن مالك سبعة أعوام على ما روى: إن امرأة ابن عجلان ولدت ولدا مرة لسبعة أعوام (2)
ولعل أبناء عجلان آخرين في أرجاء العالم لا يرفع أمر حلائلهم إلى مالك والشافعي وقد ولدن أولادا لثمانية أو تسعة أو عشرة أعوام، دع العقل والطبيعة والبرهنة تستحيل ذلك كله، ما هي وما قيمتها تجاه ما جاءت به امرأة عجلان وحكم به مالك؟ أو وجاه ما أتت به أم الإمام الشافعي فأفتى به.
نقل ابن رشد في سبب التقدير بأربعة أعوام عللا غير هذا وإن رد ها وفندها، منها إنها المدة التي تبلغها المكاتبة في بلد الاسلام مسيرا ورجوعا، ومنها: إنه جهل إلى أي جهة سار من الأربع جهات، فلكل جهة تربص سنة فهي أربع سنين. هذا مبلغ علمهم بفلسفة آراء جاء بها عمر وعثمان فأين يقع هو من حكم ما صدع به النبي الأقدس؟.
ثم يخبرني هذا المتفقه عن هذه العدة التي أثبتها الخليفتان لماذا هي؟ فإن كانت عدة الوفاة؟ فإنها غير جازمة بها، ولا تثبت بمجرد مرور أربع سنين أو أكثر وفي رواية عن عمر كما سمعت إنه قضى في المفقود تربص امرأته أربع سنين ثم يطلقها ولي روجها ثم تربص بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا ثم تزوج (3). فعلى هذا إنها عدة الطلاق فيجب أن تكون ثلاثة قروء، فما هذا أربعة أشهر وعشرا؟ وعلى فرض ثبوت هذه العدة ولو بعد الطلاق من باب الأخذ بالحائطة فما علاقة الزوج بها؟ حتى إنه إذا جاء
____________
(1) في الفقه على المذاهب الأربعة 4: 535: إنه خمس سنين على الراجح.
(2) راجع مقدمات المدونة الكبرى للقاضي ابن رشد 2: 102.
(3) سنن البيهقي 7: 445.
ثم ما وجه أخذ الصداق من الزوج الثاني عند اختيار الأول الصداق ولم يأت بمأثم وإنما تزوج بامرأة أباحها له الشريعة.
وأعجب من كل هذه أن هذه الروايات بمشهد من الفقهاء كلهم ولم يفت بمقتضاها أئمة المذاهب في باب الخيار، قال مالك في الموطأ 2: 28: إن تزوجت بعد انقضاء عدتها فدخل بها زوجها أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأول إليها. و قال: وذلك الأمر عندنا، وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوج فهو أحق بها.
وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: لا تحل امرأة المفقود حتى يصح موته.
قاله القاضي ابن رشد في بداية المجتهد 2: 52 فقال: وقولهم مروي عن علي وابن مسعود.
وقال الحنفية: يشترط لوجوب النفقة على الزوج شروط: أحدها أن يكون العقد صحيحا فلو عقد عليها عقدا فاسدا أو باطلا وأنفق عليها ثم ظهر فساد العقد أو بطلانه فإن له الحق في الرجوع عليها بما أنفقه.
ومن ذلك ما إذا غاب عنها زوجها فتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم حضر زوجها الغائب فإن نكاحها الثاني يكون فاسدا، ويفرق القاضي بينهما، وتجب عليها العدة بالوطئ الفاسد، ولا نفقة لها على الزوج الأول ولا على الزوج الثاني (2).
قال الشافعي في كتاب " الأم " 5: 221: لم أعلم مخالفا في أن الرجل أو المرأة لو غابا أو أحدهما برا أو بحرا علم مغيبهما أو لم يعلم فماتا أو أحدهما فلم يسمع لهما بخبر
____________
(1) مقدمات المدونة الكبرى 2: 104.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة 3: 565.
قال: وينفق عليها من مال زوجها المفقود من حين يفقد حتى يعلم يقين موته، وإن أجلها حاكم أربع سنين أنفق عليها فيها وكذلك في الأربعة الأشهر والعشر من مال زوجها، فإذا نكحت لم ينفق عليها من مال الزوج المفقود لأنها مانعة له نفسها، وكذلك لا ينفق عليها وهي في عدة منه لو طلقها أو مات عنها ولو بعد ذلك، ولم أمنعها النفقة من قبل إنها زوجة الآخر، ولا إن عليها منه عدة، ولا إن بينهما ميراثا، ولا إنه يلزمها طلاقه، ولا شئ من الأحكام بين الزوجين إلا لحوق الولد به إن أصابها وإنما
ولو حكم لها حاكم بأن تزوج فتزوجت فسخ نكاحها وإن لم يدخل بها فلا مهر لها، وإن دخل بها فأصابها فلها مهر مثلها لا ما سمي لها وفسخ النكاح وإن لم يفسخ حتى مات أو ماتت فلا ميراث لها منه ولا له منها.
قال: ومتى طلقها الأول وقع عليها طلاقه، ولو طلقها زوجها الأول أو مات عنها وهي عند الزوج الآخر كانت عند غير زوج فكانت عليها عدة الوفاة والطلاق ولها الميراث في الوفاة والسكنى في العدة في الطلاق وفيمن رآه لها بالوفاة، ولو مات الزوج الآخر لم ترثه وكذلك لا يرثها لو ماتت. الخ.
فأنت بعد هذه كلها جد عليم بأنه لو كان على ما أفتى به الخليفتان مسحة من أصول الحكم والفتيا لما عدل عنه هؤلاء الأئمة، ولما خالفهما قبلهم مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، ولما قال عليه السلام في امرأة المفقود إذا قدم وقد تزوجت امرأته: هي امرأته إن شاء طلق وإن شاء أمسك ولا تخير.
ولما قال عليه السلام: إذا فقدت المرأة زوجها لم تتزوج حتى تعلم أمره.
ولما قال عليه السلام: إنها لا تتزوج.
ولما قال عليه السلام: ليس الذي قال عمر رضي الله عنه بشئ، هي امرأة الغائب حتى يأتيها يقين موته أو طلاقها، ولها الصداق من هذا بما استحل من فرجها ونكاحه باطل
ولما قال عليه السلام: هي امرأة الأول دخل بها الآخر أو لم يدخل بها.
ولما قال عليه السلام: امرأة ابتليت فلتصبر لا تنكح حتى يأتيها يقين موته. (1) قال
____________
(1) كتاب الأم للشافعي 5: 223، البيهقي 7: 4 44، 446، مقدمات المدونة الكبرى 2: 103.
وأمير المؤمنين كما تعلم أفقه الصحابة على الإطلاق، وأعلم الأمة بأسرها، وباب مدينة العلم النبوي، ووارث علم النبي الأقدس على ما جاء عنه صلى الله عليه وآله، فليتهما رجعا إليه صلوات الله عليه في حكم المسألة ولم يستبدا بالرأي المجرد كما استعلماه في كثير مما أربكهما من المشكلات، وأنى لهما باقتحام المعضلات وهما هما؟ وأي رأي هذا ضربت عنه الأمة صفحا؟ وكم له من نظير؟ وكيف أوصى النبي الأعظم باتباع أناس هذه مقاييس آرائهم في دين الله، وهذا مبلغهم من العلم، بقوله فيهم: عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها؟ (1) خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق (سورة ص: 22)
- 19 -
الخليفة يأخذ حكم الله من أبي
أخرج البيهقي في السنن الكبرى،: 417 بالإسناد عن أبي عبيد قال: أرسل عثمان رضي الله عنه إلى أبي يسأل عن رجل طلق امرأته ثم راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة. قال أبي: إني أرى إنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، وتحل لها الصلاة. قال: لا أعلم عثمان رضي الله عنه إلا أخذ بذلك.
قال الأميني: صريح الرواية إن الخليفة كان جاهلا بهذا الحكم حتى تعلمه من أبي؟ وأخذ بفتياه، ولا شك إن الذي علمه هو خير منه، فهلا ترك المقام له أو لمن هو فوقه؟ وفوق كل ذي علم عليم، ولو ترك الأمر لمن لا يسأل غيره في أي من مسائل الشريعة لدخل مدينة العلم من بابها.
وحسبك في مبلغ علم الخليفة قول العيني في عمدة القاري 2: 733: إن عمر كان أعلم وأفقه من عثمان. وقد أوقفناك على علم عمر في الجزء السادس وذكرنا نوادر الأثر في علمه، فانظر ماذا ترى؟.
- 20 -
الخليفة يأخذ السنة من امرأة
أخرج الإمامان: الشافعي ومالك وغيرهما بالإسناد عن فريعة بنت مالك بن سنان
____________
(1) أسلفنا الحديث في الجزء السادس ص 330 ط 2 وبينا المعنى الصحيح المراد منه.
قال الشافعي في (الرسالة): وعثمان في إمامته وفضله وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.
قال في اختلاف الحديث: أخبرت الفريعة بنت مالك عثمان بن عفان إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تمكث بيتها وهي متوفى عنها حتى يبلغ الكتاب أجله فأتبعه وقضى به.
قال ابن القيم في زاد المعاد: حديث صحيح مشهور في الحجاز والعراق وأدخله مالك في موطأه، واحتج به وبنى عليه مذهبه، ثم ذكر تضعيف ابن حزم إياه وفنده وقال: ما قاله أبو محمد فغير صحيح. وذكر قول ابن عبد البر في شهرته، وإنه معروف عند علماء الحجاز والعراق.
راجع الرسالة للشافعي ص 116، كتاب الأم له 5: 208، اختلاف الحديث له : هامش كتابه الأم 7: 22، موطأ مالك 2: 36، سنن أبي داود 1: 362، سنن البيهقي 7: 434، أحكام القرآن للجصاص 1: 496، زاد المعاد 2: 404، الإصابة 4: 386، نيل الأوطار 7: 100 فقال: رواه الخمسة وصححه الترمذي ولم يذكر النسائي و ابن ماجة إرسال عثمان.
قال الأميني: هذه كسابقتها تكشف عن قصور علم الخليفة عما توصلت إليه المرأة المذكورة، وهاهنا نعيد ما قلناه هنالك، فارجع البصر كرتين، وأعجب من خليفة يأخذ معالم دينه من نساء أمته وهو المرجع الوحيد للأمة جمعا، يومئذ في كل ما جاء به الاسلام المقدس كتابا وسنة، وبه سد فراغ النبي الأعظم، وعليه يعول في مشكلات الأحكام وعويصات المسائل فضلا عن مثل هذه المسألة البسيطة.
- 21 -
رأي الخليفة في الاحرام قبل الميقات
أخرج البيهقي في السنن الكبرى 5: 31 بالإسناد عن داود بن أبي هند إن عبد الله (1) بن عامر بن كريز حين فتح خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي محرما فأحرم من نيسابور فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع قال: ليتك تضبط من الوقت الذي يحرم منه الناس.
لفظ آخر من طريق محمد بن إسحاق قال: خرج عبد الله بن عامر من نيسابور معتمرا قد أحرم منها، وخلف على خراسان الأحنف بن قيس، فلما قضى عمرته أتى عثمان ابن عفان رضي الله عنه وذلك في السنة التي قتل فيها عثمان رضي الله عنه فقال له عثمان رضي الله عنه: لقد غررت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور.
وقال ابن حزم في المحلى 7: 77: روينا من طريق عبد الرزاق نا؟ معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عامر من حيرب (2) فقدم عثمان بن عفان فلامه فقال له: غررت وهان عليك نسكك. وفي لفظ ابن حجر: غررت بنفسك.
فقال ابن حزم: قال أبو محمد (يعني نفسه): وعثمان لا يعيب عملا صالحا عنده ولا مباحا وإنما يعيب ما لا يجوز عنده لا سيما وقد بين إنه هوان بالنسك والهوان بالنسك لا يحل وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائر الحج.
وذكره ابن حجر في الإصابة 3: 61 وقال: أحرم ابن عامر من نيسابور شكرا لله تعالى وقدم على عثمان فلامه على تغريره بالنسك. فقال: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، ثم ذكر الحديث من طريق سعيد بن منصور وأبي بكر ابن أبي شيبة وفيه: أن ابن عامر أحرم من خراسان. فذكره من طريق محمد بن سيرين والبيهقي فقال: قال البيهقي: هو عن عثمان مشهور (3)
____________
(1) هو ابن خال عثمان بن عفان. كما في الإصابة راجع ج 3: 61.
(2) وفي نسخة: جيرب. ولم أجدهما في المعاجم.
(3) توجد كلمة البيهقي هذه في سننه الكبرى 5: 31.
قال الأميني: إن الذي ثبت في الاحرام بالحج أو العمرة إن هذه المواقيت حد للأقل من مدى الاحرام بمعنى إنه لا يعدوها الحاج وهو غير محرم، وأما الاحرام قبلها من أي البلاد شئ أو من دويرة أهل المحرم، فإن عقده باتخاذ ذلك المحل ميقاتا فلا شك إنه بدعة محرمة كتأخيره عن المواقيت، وأما إذا جئ به للاستزادة من العبادة عملا بإطلاقات الخير والبر، أو شكرا على نعمة، أو لنذر عقده المحرم فهو كالصلاة والصوم وبقية القرب للشكر أو بالنذر أو لمطلق البر، تشمله كل من أدلة هذه العناوين ولم يرد عنه نهي من الشارع الأقدس، وإنما المأثور عنه وعن أصحابه ما يلي:
1 - أخرج أئمة الحديث بإسناد صحيح من طريق الأخنسي عن أم حكيم عن أم سلمة مرفوعا: من أهل من المسجد الأقصى لعمرة أو بحجة غفر الله ما تقدم من ذنبه. قال الأخنسي: فركبت أم حكيم عند ذلك الحديث إلى بيت المقدس حتى أهلت منه بعمرة.
وفي لفظ أبي داود والبيهقي والبغوي: من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. أو: وجبت له الجنة.
وفي لفظ: ووجبت له الجنة.
وفي لفظ ابن ماجة: من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له.
وفي لفظ له أيضا: من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب. قالت: فخرجت أمي من بيت المقدس بعمرة.
وقال أبو داود بعد الحديث: يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكة.
راجع مسند أحمد 6: 299، سنن أبي داود 1: 275، سنن ابن ماجة 2: 235 سنن البيهقي 5: 30، مصابيح السنة للبغوي 1: 170، والترغيب والترهيب للمنذري 2: 61 ذكره بالألفاظ المذكورة وصححه من طريق ابن ماجة وقال: ورواه ابن حبان في صحيحه.
سنن البيهقي 5: 30، الدر المنثور 1: 208، نيل الأوطار 5: 26 قال: ثبت ذلك مرفوعا من حديث أبي هريرة.
3 - أخرج الحفاظ من طريق علي أمير المؤمنين أنه قال في قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
أخرجه وكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه ص 34، وابن جرير في تفسيره 2: 120، والحاكم في المستدرك 2: 276، وصححه وأقره الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى 6: 30، والجصاص في أحكام القرآن 1: 337، 354، تفسير ابن جزي 1: 74، تفسير الرازي 2: 162 تفسير القرطبي 2: 343، تفسير ابن كثير 1: 230، الدر المنثور 1: 208، نيل الأوطار 5: 26.
4 - قال الجصاص في أحكام القرآن 1: 310: روي عن علي وعمر وسعيد بن جبير وطاوس قالوا: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وقال في ص 337: أما الاحرام بالعمرة قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه.
وروي عن الأسود بن يزيد قال: خرجنا عمارا، فلما انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال:
أحلقتم الشعث وقضيتم التفث؟ أما إن العمرة من مدركم. وإنما أراد أبو ذر: أن الأفضل إنشاء العمرة من أهلك، كما روي عن علي: تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وقال الرازي في تفسيره 2: 162: روي عن علي وابن مسعود: إن إتمامهما أن يحرم من دويرة أهله. وقال في ص 172: اشتهر عن أكابر الصحابة إنهم قالوا: من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله.
وقال القرطبي في تفسيره 2: 343 بعد ذكره حديث علي عليه السلام: وروي ذلك عن عمر وسعد بن أبي وقاص وفعله عمران بن حصين. ثم قال: أما ما روي عن علي وما فعله عمران بن حصين في الاحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبد الله
____________
(1) سورة البقرة: 195.
وقال ابن كثير في تفسيره 1: 230 بعد حديث علي عليه السلام: وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وسفيان الثوري.
5 - أخرج البيهقي في السنن الكبرى 5: 30 من طريق نافع عن ابن عمر: إنه أحرم من إيلياء عام حكم الحكمين.
وأخرج مالك في الموطأ 1: 242: إن ابن عمر أهل بحجة من إيلياء. وذكره ابن الديبع في تيسير الوصول 1: 264، وسيوافيك عن ابن المنذر في كلام أبي زرعة: إنه ثابت.
قال الشافعي في كتاب " الأم " 2: 118: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن ديناد عن طاوس قال: " ولم يسم عمرو القائل إلا إنا نراه ابن عباس " الرجل يهل من أهله ومن بعد ما يجاوز أين شاء ولا يجاوز الميقات إلا محرما. إلى أن قال: قلت: إنه لا يضيق عليه أن يبتدئ الاحرام قبل الميقات كمالا يضيق عليه لو أحرم من أهله، فلم يأت الميقات إلا وقد تقدم بإحرامه لأنه قد أتى بما أمر به من أن يكون محرما من الميقات. ا ه.
قال ملك العلماء في بدايع الصنايع 2: 164: كلما قدم الاحرام على المواقيت هو أفضل وروي عن أبي حنيفة: إن ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع منه الاحرام، وقال الشافعي: الاحرام من الميقات أفضل بناء على أصله أن الاحرام ركن فيكون من أفعال الحج، ولو كان كما زعم لما جاز تقديمه على الميقات لأن أفعال الحج لا يجوز تقديمها على أوقاتها (2) وتقديم الاحرام على الميقات جايز بالاجماع إذا كان في أشهر الحج، والخلاف في الأفضلية دون الجواز، ولنا قوله تعالى: وأتموا
____________
(1) إيلياء بالمد وتقصر: اسم مدينة بيت المقدس.
(2) لا صلة بين ركنية الاحرام وكونه من افعال الحج وبين عدم جواز تقديمه على المواقيت كما زعمه ملك العلماء، بل هو ركن يجوز تقديمه عليها لما مر من الأدلة.
وقال القرطبي في تفسيره 2: 345: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، وإنما منع من ذلك من رأى الاحرام عند الميقات أفضل كراهية أن يضيق المرأ على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلهم ألزمه الاحرام إذا فعل ذلك، لأنه زاد ولم ينقص.
وقال الحافظ أبو زرعة في طرح التثريب 5: 5 قد بينا إن معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريدا للنسك، أما الاحرام قبل الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور، ونقل غير واحد الإجماع عليه، بل ذهب طائفة من العلماء إلى ترجيح الاحرام من دويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو أحد قولي الشافعي، ورجحه من أصحابه القاضي أبو الطيب والروياني والغزالي والرافعي وهو مذهب أبي حنيفة، وروي عن عمر وعلي إنهما قالا في قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وقال ابن المنذر: ثبت إن ابن عمر أهل من إيلياء يعني بيت المقدس، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم. إنتهى. لكن الأصح عند النووي من قولي الشافعي: إن الاحرام من الميقات أفضل، ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحققين، وبه قال أحمد وإسحاق، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن ذلك فكره تقدم الاحرام على الميقات، وقال ابن المنذر: وروينا عن عمر إنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وكره الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومالك الاحرام من المكان البعيد. إنتهى.
وعن أبي حنيفة رواية أنه إن كان يملك نفسه عن الوقوع في محظور فالاحرام من دويرة أهله أفضل، وإلا فمن الميقات، وبه قال بعض الشافعية.
وشذ ابن حزم الظاهري فقال: إن أحرم قبل هذه المواقيت وهو يمر عليها فلا إحرام له أن ينوي إذا صار الميقات تجديد إحرام، وحكاه عن داود وأصحابه وهو قول مردود بالاجماع قبله على خلافه قاله النووي، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات فهو محرم، وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي وغيره. ا ه.
والامعان في هذه المأثورات من الأحاديث والكلم يعطي حصول الإجماع على جواز تقديم الاحرام على الميقات، وإن الخلاف في الأفضل من التقديم والاحرام من الميقات، لكن الخليفة لم يعطي النظر حقه، ولم يوف للاجتهاد نصيبه، أو أنه عزبت عنه السنة المأثورة، فطفق يلوم عبد الله بن عامر، أو أنه أحب أن يكون له في المسألة رأي خاص، وقد قال شمس الدين أبو عبد الله الذهبي:
وهلم معي واعطف النظرة فيما ذكرناه عن ابن حزم من أن عثمان لا يعيب عملا صالحا. الخ. فإنه غير مدعوم بالحجة غير حسن الظن بعثمان، وهذا يجري في أعمال المسلمين كافة ما لم يزع عنه وازع، وسيرة الرجل تأبي عن الظن الحسن به، وأما مسألتنا هذه فقد عرفنا فيها السنة الثابتة وإن نهي عثمان مخالف لها، وليس من الهين الفت في عضد السنة لتعظيم إنسان وتبرير عمله، فإن المتبع في كافة القرب ما ثبت من الشرع، ومن خالفه عيب عليه كائنا من كان.
وأما تشبثه بالهوان بالنسك فتافه جدا، وأي هوان بها في التأهب لها قبل ميقاتها بقربة مطلقة إن لم يكن تعظيما لشعائر الله، وإنما الهوان المحرم بالنسك إدخال الآراء فيها على الميول والشهوات، ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. " النمل 116 ".
- 22 -
لولا علي لهلك عثمان
أخرج الحافظ العاصمي في كتابه " زين الفتى في شرح سورة هل أتى " من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه: أن رجلا أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت فقال: إنكم تزعمون النار يعرض على هذا و إنه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحس منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلما أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن! فقال علي: ايتوني بزند وحجر. والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدح منهما النار، ثم قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ثم قال: ضع يدك على الزند. فوضعها عليه فقال: هل أحسست منهما حرارة النار فبهت الرجل فقال عثمان: لولا علي لهلك عثمان.
قال الأميني: نحن لا نرقب من عثمان وليد بيت أمية الحيطة بأمثال هذه العلوم التي هي من أسرار الكون، وقد تقاعست عنها معرفة من هو أرقي منه في العلم، فكيف به؟ وإنما تقلها عيبة العلوم الإلهية المتلقاة من المبدأ الأعلى منشئ الكون وملقي أسراره فيه، وهو الذي أفحم السائل هاهنا وفي كل معضلة أعوز القوم عرفانها.
وإنما كان المترقب من عثمان بعد ما تسنم عرش الخلافة الحيطة بما كان يسمعه ويراه ويفهم ويعقل من السنة المفاضة على أفراد الصحابة، لئلا يرتبك في موارد السؤال، فيرتكب العظائم ويفتي بخلاف الوارد، أو يرتأي رأيا عدت عنه المراشد لكن ويا للأسف..
- 23 -
رأي الخليفة في الجمع بين الأختين بالملك
أخرج مالك في الموطأ 2: 10 عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما
(لفظ آخر للبيهقي)
عن ابن شهاب قال أخبرني قبيصة بن ذؤيب: إن نيارا الأسلمي سأل رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأختين فيما ملكت اليمين فقال له: أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعل ذلك. قال: فخرج نيار من عند ذلك الرجل فلقيه رجل آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أفتاك به صاحبك الذي استفيته فأخبره فقال: إني أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطان عاقبتك عقوبة منكلة.
قال ملك العلماء في البدايع: وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: كل شئ حرمه الله تعالى من الحرائر حرمه الله تعالى من الإماء إلا الجمع في الوطئ بملك اليمين.
وقال الجصاص في أحكام القرآن: وروي عن عثمان وابن عباس إنهما أباحا ذلك وقالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية. وقال: روي عن عثمان الإباحة، وروي عنه أنه ذكر التحريم والتحليل وقال: لا آمر به ولا أنهى عنه. وهذا القول منه يدل على أنه كان ناظرا فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه فجائز أن يكون قال فيه بالإباحة ثم وقف فيه، وقطع علي فيه بالتحريم.
وقال الزمخشري: أما الجمع بينهما في ملك اليمين فعن عثمان وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية. فرجح علي التحريم وعثمان التحليل.
قال الرازي: عن عثمان أنه قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحليل أولى
قال ابن عبد البر في كتاب الاستذكار (1): إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
راجع السنن الكبرى للبيهقي 7: 164، أحكام القرآن للجصاص 2: 158، المحلى لابن حزم 9: 522، تفسير الزمخشري 1: 359، تفسير القرطبي 5: 117، بدايع الصنايع
____________
(1) في بيان حديث الموطأ المذكور في أول العنوان في قول قبيصة: فلقي رجلا.
قال الأميني: يقع البحث عن هذه المسألة في موردين الأول: في حكم الجمع بين الأختين بملك اليمين ووطأهما جميعا فهو محرم على المشهور بين الفقهاء كما قاله الرازي في تفسيره 3: 193.
وهو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك كما قاله ابن كثير في تفسيره 1: 472.
ولا يجوز الجمع عند عامة الصحابة كما في بدايع 2: 264.
كان فيه خلاف بين السلف ثم زال وحصل الإجماع على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين. واتفق فقهاء الأمصار عليه كما قاله الجصاص في أحكام القرآن 2: 158 وذهب كافة العلماء إلى عدم جوازه ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى خلافه (قول عثمان) لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ولا يجوز عليهم تحريف التأويل وممن قال ذلك من الصحابة عمر وعلي وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل. كذا قاله القرطبي في تفسيره 5: 116، 117.
وقال أبو عمر في الاستذكار: روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ولكن اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز والعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام والمغرب إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ظاهرا ما اجتمعنا عليه، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطئ كما لا يحل ذلك في النكاح. (1)
وحكيت الحرمة المتسالم عليها بين الأمة جمعاء عن علي وعمر والزبير وابن عباس وابن مسعود وعائشة وعمار وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وابن منبة وإسحاق
____________
(1) تفسير ابن كثير 1: 473، تفسير الشوكاني 1: 411.