ولم تكن لما رفع به أبو ذر عقيرته جدة ليس لها سلف من العهد النبوي، فلم يهتف إلا بما تعلمه من الكتاب والسنة، وقد أخذه من الصادع الكريم من فلق فيه، ولم يكن صلى الله عليه وآله يسلب ثروة أحد من أصحابه وكان فيهم تجار وملاك ذوو يسار، ولم يأخذ منهم زيادة على ما عليهم من الحقوق الإلهية، وعلى حذوه حذا أبو ذر في الدعوة والتبليغ.
كان صلى الله عليه وآله أخبره بما يجري عليه من البلاء والعناء وما يصنع به من طرده من الحواضر الإسلامية: مكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة. ووصفه عند ذلك بالصلاح وأمره بالصبر وأن ما يصيبه في الله، فقال أبو ذر: مرحبا بأمر الله. فصلاح أبي ذر يمنعه عن الأمر بخلاف السنة بما يخل نظام المجتمع، وكون بلاءه في الله يأبى أن يكون ما جر إليه ذلك البلاء غير مشروع.
وإن كان ذلك خلاف الصالح العام ولم تكن فيه مرضاة الله ورسوله لوجب عليه صلى الله عليه وآله أن ينهاه عما سينوء به من الإنكار وهو يعلم أن تلك الدعوة تجر عليه الأذى والبلاء الفادح، وتشوه سمعة خليفة المسلمين، وتسود صحيفة تاريخه، وتبقى وصمة عليه مع الأبد.
وما كانت الشريعة السمحاء تأتي بذلك الحكم الشاق الذي اتهم به أبو ذر، ولم يكن قط يقصده وهو شبيه عيسى في أمة محمد صلى الله عليه وآله زهدا ونسكا وبرا وهديا وصدقا وجدا وخلقا.
هكذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله غير أن عثمان قال لما غضب عليه: أشيروا علي
____________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 164 من طريق عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال: أوصاني خليلي بسبع: بحب المساكين والدنو منهم. وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي. وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا. وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت. وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا. وأمرني أن لا أخاف لومة لائم. وأمرني أن أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله. فإنهن من كنز تحت العرش.
لاها الله هذا أدب يخص بالخليفة. وأعجب من هذا جواب عثمان لمولانا أمير المؤمنين لما دافع عن أبي ذر بقوله: أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون. أجابه بجواب غليظ أخفاه الواقدي وما أحب أن يذكره ونحن وإن وقفنا عليه من طريق آخر لكن ننزه الكتاب عن ذكره.
وقد تجهم عثمان مرة أخرى إمام المؤمنين عليه السلام بكلام فظ لما شيع هو و ولداه السبطان أبا ذر في سبيله إلى المنفى ومروان يراقبه وقد مر تفصيله ص 294، 297 وفيه قوله لعلي عليه السلام: ما أنت بأفضل عندي من مروان.
إن من هوان الدنيا على الله أن يقع التفاضل بين علي ومروان الوزغ ابن الوزغ اللعين ابن اللعين، أنا لا أدري هل كان الخليفة في معزل عن النصوص النبوية في مروان؟
أو لم يكن مروان ونزعاته الفاسدة بمرأى منه ومسمع؟ أو القرابة والرحم بعثته إلى الاغضاء عنها فرأى ابن الحكم عدلا لمن طهره الجليل ورآه نفس النبي الأعظم في الذكر الحكيم. كبرت كلمة تخرج من أفواهم..
جناية التاريخ
ما أكثر جناية التاريخ على ذوي الفضل والأحساب الذين تستفيد الأمة من تاريخ حياتهم، ورائم أخلاقهم وآثار مآثرهم، ونفسياتهم الكاملة، ومعاقد أقوالهم وبوالغ عظاتهم، ودرر حكمهم، وموارد إقدامهم وإحجامهم.
تجد التاريخ هنا يسرع السير فينسي ذكرهم، ويغمط فضلهم، أو يأتي بمجمل من القول في صورة مصغرة، أو يحور الكلام ومزيجه الخبر المائن أو رواية شائنة، كل ذلك تأييدا لمبدأ، وأخذا بناصر نزعة، وسترا على أقوام آخرين تمس الحقيقة الراهنة بهم وبكرامتهم، وتبعا لأهواء وشهوات من ساسة الوقت أو زعماء الزمن.
فمن هذه النواحي كلها أغفل التاريخ عن التبسط في حياة أبي ذر الماثلة بالفضائل والفواضل الشاخصة بالعبقرية والكمال، التي يجب أن تتخذ قدوة في السلوك و التهذيب، وأن تكون للأمة بها أسوة وقدوة في التقوى والمبدأ.
البلاذري
فتجد البلاذري يذكر حديث إخراج أبي ذر إلى الربذة من عدة طرق بصورة مرت في صفحة 292 ويروي قول أبي ذر لحوشب الفزاري " وأبو ذر هو الذي ما أظلت الخضراء. الخ ". أخرجت كارها. ثم عقبه بأكذوبة سعيد بن المسيب " الذي كان من مناوي العترة الطاهرة وشيعتهم " من إنكار إخراج عثمان إياه، وإنه خرج إليها راغبا في سكناها.
ولا يعلم المغفل إن في ذلك تكذيبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر أبا ذر بأنه يخرج من المدينة كما مر ص 316 بطرق صحيحة. وتكذيبا لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال لعثمان بعد وفاة أبي ذر في المنفى وقد صمم عثمان أن يتبع ذلك بنفي عمار:
يا عثمان! إتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسيير (1) وتكذيبا
____________
(1) سيوافيك الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى.
وتكذيبا لعثمان الذي روى عنه البلاذري أيضا إنه لما انهى إليه نعي أبي ذر قال: رحمه الله. فقال عمار: نعم فرحمه الله من كل أنفسنا فقال عثمان: يا عاض أير أبيه أتراني ندمت على تسييره " يأتي تمام الحديث في مواقف عمار ".
وتكذيبا لما رواه البلاذري أيضا عن كميل بن زياد النخعي في حديث أسلفناه ص 294 وتكذيبا، وتكذيبا.
ولا يعلم المسكين إن تلك الحادثة الفجيعة المتعلقة بعظيم من عظماء الصحابة كأبي ذر وقد كثر حوله الحوار أو الأخذ والرد وتوفرت النقمة والنقد حتى عدت من عظائم الحوادث، وسار بحديثها الركبان، وتذمر لها المؤمنون، وشمت فيها من شمت، و نقم بها على الخليفة، وكان مما استتبعها: إن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب لنا راية؟ يعني نقاتله. فقال:
لا، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب سمعت وأطعت (1).
وقال ابن بطال كما في عمدة القاري للعيني 4: 291: إنما كتب معاوية يشكو أبا ذر لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له وكان في جيشه ميل إلي أبي ذر فأقدمه عثمان خشية الفتنة لأنه كان رجلا لا يخاف في الله لومة لائم.
فما كنت يومئذ تمر بحاضرة من الحواضر الإسلامية إلا وتجد توغلا من أهلها في هذا الحديث، وتغلغلا بين أرجائها من جراء ذلك الحادث الجلل.
إن حادثة كمثلها لا تستر بإنكار مثل ابن المسيب المنبعث عن الولاء الأموي لكنه شاء أن يقول فقال، ذاهلا عن إنه لا يقبل منه ذو مسكة أن يترك مثل أبي ذر دارا هجرته ومهجر شرفه ويعرض عن جوار نبيه ويختار الربذة منزلا له ولأهله مع جدبها وقفرها، ولو كانت له خيرة في الأمر، فما تلك المدامع الجارية من لوعة المصاب وغصة الاكتئاب؟
وما تلكم النفثات الملفوظة منه ومن مشيعيه في ذلك الوادي الوعر لما حان التوديع وآن الفرقان بين الأحبة؟.
____________
(1) طبقات ابن سعد 3: 212.
ابن جرير الطبري
وإنك تجد الطبري في التاريخ لما بلغ إلى تاريخ أبي ذر يقول: في هذه السنة أعني سنة 30 كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب إشخاصه إياه منها إليها أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها، فأما العاذرون معاوية في ذلك فإنهم ذكروا في ذلك قصة. ا ه.
لماذا ترك الطبري تلكم الأمور الكثيرة ولم يذكر منها إلا قصة العاذرين؟
التي افتعلوها معذرة لمعاوية وتبريرا لعمل الخليفة، وأما الحقائق الراهنة التي كانت تمس كرامة الرجلين، وكانت حديث أمة محمد وقتئذ وهلم جرا من ذلك اليوم حتى عصرنا الحاضر فكره إيرادها، وحسب إنها تبقى مستورة إن لم يلهج هو بها، وقد ذهب عليه إن في فجوات الدهر، وثنايا التاريخ، وغضون كتب الحديث منها بقايا كافية لمن تروقه معرفة نفسيات مناوي أبي ذر، وتحقق أعلام النبوة التي جاء بها النبي الأعظم في قصة أبي ذر من المغيبات.
ثم ذكر القصة بصورة مكذوبة مختلقة لا يصح شئ منها، وكل جملة منها يكذبه التاريخ الصحيح أو الحديث المتسالم على صحته، وكفاها وهنا ما في سندها من الغمز وإليك رجاله
1 - السري. مر الكلام فيه في هذا الجزء ص 140 وإنه مشترك بين اثنين عرفا بالكذب والوضع.
2 - شعيب بن إبراهيم الأسيدي الكوفي، أسلفنا صفحة 140 من هذا الجزء قول الحافظين: ابن عدي والذهبي فيه وإنه مجهول لا يعرف.
3 - سيف بن عمر التيمي الكوفي، ذكرنا في صفحة 84 من هذا الجزء أقوال الحفاظ وأئمة الجرح والتعديل حول الرجل وإنه ضعيف، متروك، ساقط، وضاع، عامة حديثه منكر، يروي الموضوعات عن الاثبات، كان يضع الحديث، واتهم بالزندقة.
4 - عطية بن سعد العوفي الكوفي. للقوم فيه آراء متضاربة بين توثيق وتضعيف وقال الساجي: ليس بحجة وكان يقدم عليا على الكل. وقال ابن سعد: كتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يعرضه على سب علي فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته فاستدعاه فأبى أن يسب فأمضى حكم الحجاج فيه (1) وذكر ابن كثير في تفسيره 1: 501 عن صحيح الترمذي من طريق عطية في علي مرفوعا: لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. فقال: ضعيف لا يثبت فإن سالما متروك وشيخه عطية ضعيف. ا ه. وكون الرجل في الاسناد آية كذب الرواية إذ الشيعي الجلد كالعوي لا يروي حديث الخرافة.
5 - يزيد الفقعسي. لا أعرفه ولا أجد له ذكرا في كتب التراجم.
فانظر إلى أمانة الطبري على ودايع التاريخ فإنه يصفح عن ذلك الكثير الثابت الصحيح ويقتصر على هذه المكاتبة المكذوبة المفتعلة. حيا الله الأمانة.
نظرة قيمة في تاريخ الطبري
شوه الطبري تاريخه بمكاتبات السري الكذاب الوضاع، عن شعيب المجهول الذي لا يعرف، عن سيف الوضاع، المتروك، الساقط، المتهم بالزندقة، وقد جاءت في صفحاته بهذا الاسناد المشوه 701 رواية وضعت للتمويه على الحقايق الراهنة في الحوادث الواقعة من سنة 11 إلى 37 عهد الخلفاء الثلاثة فحسب، ولا يوجد شئ من هذا الطريق الوعر في أجزاء الكتاب كلها غير حديث واحد ذكره في السنة العاشرة، وإنما بدا برواية تلكم الموضوعات من عام وفاة النبي الأقدس، وبثها في الجزء الثالث والرابع والخامس، وانتهت بانتهاء خامس الأجزاء.
ذكر في الجزء الثالث من ص 210 في حوادث سنة 11 | 57 حديثا | |
أخرج في الجزء الرابع في حوادث السنة الثانية عشر | 427 حديثا | |
أورد في الجزء الخامس في حوادث السنة ال 23 - 37 | 207 حديثا | |
المجموع | 701 حديثا |
____________
(1) تهذيب لابن حجر 7: 226.
ولست أدري إن السري، وسيف بن عمر هل كان علمهما بالتاريخ مقصورا على حوادث تلكم الأعوام المحدودة فقط؟ ومن حوادثها على ما يرجع إلى المذهب فحسب لا مطلقا؟ أو كانت موضوعاتهما تنحصر بالحوادث الخاصة المذهبية الواقعة في الأيام الخالية من السنين المعلومة؟ لكونها الحجر الأساسي في المبادئ والآراء والمعتقدات، وقد أرادوا خلط التاريخ الصحيح وتعكير صفوه بتلكم المفتعلات تزلفا إلى أناس، واختذالا عن آخرين، ومن أمعن النظر في هذه الروايات يجدها نسيج يد واحدة، ووليد نفس واحد، ولا أحسب إن هذه كلها تخفى على مثل الطبري، غير إن الحب يعمي ويصم.
وقد سودت هاتيك المخاريق المختلفة صحائف تاريخ ابن عساكر، وكامل ابن الأثير، وبداية ابن كثير، وتاريخ ابن خلدون، وتاريخ أبي الفدا إلى كتب أناس آخرين اقتفوا أثر الطبري على العمى، وحسبوا أن ما لفقه هو في التاريخ أصل متبع لا غمز فيه، مع إن علماء الرجال لم يختلفوا في تزييف أي حديث يوجد فيه أحد من رجال هذا السند فكيف إذا اجتمعوا في إسناد رواية.
والتآليف المتأخرة اليوم المشحونة بالتافهات التي هي من ولائد الأهواء و الشهوات كلها متخذة من هذه السفاسف التي عرفت حالها وسنوقفك على نماذج منها في الجزء التاسع إنشاء الله تعالى.
ابن الأثير الجزري
وأنت ترى ابن الأثير في الكامل الناقص تبعا للطبري في الذكر والاهمال كما هو كذلك في كل ما توافقا عليه من التاريخ لكنه زاد ضغثا على أبالة فقال: وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة
إن الذي لم يصحح الرجل نقله صححه آخرون فنقلوه قبله وبعده فلم ينل المسكين مبتغاه، وكان قد حسب أن الحقائق الثابتة تخفى عن أعين الناس إن سترها هو بذيل أمانته، وقد ذهب عليه إن أهل النصفة من المؤلفين ورواد الحقايق من الرواة سوف لا يدعون صغيرة ولا كبيرة إلا ويحصونها على الأمة، وإن مدونة التاريخ ليست قصرا على كتابه.
هب إنه ستر التاريخ بالاهمال لكنه ماذا يصنع بالمحدثين؟ الذين أثبتوا حديث إخراجه من المدينة وطرده عن مكة والشام في باب الفتن وفي باب أعلام النبوة (1) أولا يبهظ ذلك أبا ذر وزملائه من رجالات أهل البيت عليهم السلام ومن يرى رأيه من صلحاء الأمة، ولا سيما إن سابقة الطرد من عاصمة النبوة لم تكن إلا لمثل الحكم " عم الخليفة " وابنه وعائلته زبانية العيث والفساد تنزيها للعاصمة عن معرتهم، وتطهيرا لها عن لوث بقائهم فيها، أفهل يساوي أبو ذر ذلك العظيم عند الله ورسوله شبيه عيسى بن مريم في أمة محمد صلى الله عليه وآله الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق منه، وقد أمر الله سبحانه رسوله بحبه، وهو من الثلاثة الذين تشتاق إليهم الجنة، والثلاثة الذين يحبهم الله تعالى.
أفهل يساوي من هو هذا بالطريد اللعين، فيشوه ذكره بهذه التسوية، ويشهر بين الملأ موصوما بذلك، ويمنع الناس عن التقرب إليه، وينادي عليه بذل الاستخفاف، ويحرم الناس عن علومه الجمة التي هو وعائها، ولعمر الحق، وشرف الاسلام، ومجد الانسانية، وقداسة أبي ذر، إن النشر بالمناشير، والقرض بالمقاريض أهون على الديني الغيور من بعض هاتيك الشنايع.
ثم إن تأديب الخليفة للرعية إنما يقع على من فقد الآداب الدينية وطوحت به طوائح الجهل إلى مساقط الضعة. وأما مثل أبي ذر الذي أطراه رسول الله صلى الله عليه وآله
____________
(1) راجع ص 328324.
نعم: يجب أن يكون أبو ذر هو المؤدب للناس لما حمله من علم النبوة وأحكام الدين وحكمه، والنفسيات الكريمة، والملكات الفاضلة التي تركته شبيها بعيسى بن مريم في أمة محمد صلى الله عليه وآله.
ما بال الخليفة يتحرى تأديب أبي ذر وهو هذا، ويبهظه تأديب الوليد بن عقبة السكير على شرب الخمر واللعب بالصلاة المفروضة؟.
ويبهظه تأديب عبيد الله بن عمر على قتل النفوس المحترمة.
ويبهظه تأديب مروان وهو يتهمه بالكتاب المزور عليه.
ويبهظه تأديب الوقاح المستهتر المغيرة بن الأخنس وهو يقول له: أنا أكفيك علي بن أبي طالب. فأجابه الإمام بقوله: يا ابن اللعين الأبتر والشرة التي لا أصل لها ولا فرع أنت تكفيني؟ فوالله ما أعز الله من أنت ناصره الخ (2).
ما بال الخليفة يطرد أبا ذر ويردفه بصلحاء آخرين ويرى الإمام الطاهر أمير المؤمنين أحق بالنفي منهم (3) ويأوي طريد رسول الله الحكم وابنه ويرفدهما وهما هما؟.
ما بال الخليفة يخول مروان مهمات المجتمع؟ ويلقي إليه مقاليد الصالح العام؟
ولم يصخ إلى قول صالح الأمة مولانا أمير المؤمنين له: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك، يأتي تمام الحديث في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.
____________
(1) راجع ما مر في هذا الجزء صفحة 300.
(2) نهج البلاغة 1: 253.
(3) سيوافيك حديثه في مواقف عمار إن شاء الله تعالى.
كان من صالح الخليفة أن يدني إليه أبا ذر فيستفيد بعلمه وخلقه ونسكه وأمانته وثقته وتقواه وزهده لكنه لم يفعل، وماذا كان يجديه لو فعل؟ وحوله الأمويون وهو المتفاني في حبهم وهم لا يرون ذلك الرأي السديد لأنه على طرف النقيض مما حملوه من النهمة والشره، واكتناز الذهب والفضة، والسير مع الهوى والشهوات، وهم المسيطرون على رأي الخليفة وأبو سفيان يقول: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة. أو يقول لعثمان:
صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار. " راجع ص 285 ".
وعثمان وإن زبره تلك الساعة لكنه لم يعد رأيه في بني أمية المتلاعبين بالدين لعبهم بالاكر، ولا أدري هل تهجس في تأديب أبي سفيان على ذلك القول الإلحادي الشائن كما تهجس وفعل في أبي ذر البر التقي، ومن يماثله من الصلحاء الأتقياء؟.
لقد فات ابن الأثير كل هذا فاعتذر عن الرجل بأن الخليفة يؤدب رعيته.
عماد الدين ابن كثير
جاء ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية 7: 155 فبنى على أساس ما علاه من قبله في حذف ما كان هنالك من هنات وزاد في الطنبور نغمات قال: كان أبو ذر ينكر على من يقتني مالا من الأغنياء ويمنع أن يدخر فوق القوت ويوجب أن يتصدق بالفضل ويتأول قول الله سبحانه وتعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع فبعث يشكوه إلى عثمان
____________
(1) تاريخ الطبري 5: 112، الكامل لابن الأثير 3 69.
وقال في ص 165 عند ذكر وفاته: جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها ما رواه الأعمش عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عبد الله ابن عمرو إن رسول الله قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر. وفيه ضعف. ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحاب فحضروا موته وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل: قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله. أ ه.
هذا كل ما في عيبة ابن كثير من المخاريق في المقام. وفيه مواقع للنظر:
1 - إتهامه أبا ذر بأنه كان ينكر اقتناء المال على الأغنياء. الخ. هذه النظرية قديما ما عزوه إلى الصحابي العظيم إختلاقا عليه وزورا، وقد تحولت في الأدوار الأخيرة بصورة مشوهة أخرى من نسبة الاشتراكية إليه وسنفصل القول عنها تفصيلا إنشاء الله تعالى.
2 - إنه حسب نزوله الشام وهبوطه الربذة بخيرة منه بعد ما أوعز إلى أن عثمان أمره بالمقام بالربذة، أما حديث الربذة فقد أوقفناك آنفا على أنه كان منفيا إليها، و أخرج من مدينة الرسول بصورة منكرة، ووقع هنالك ما وقع بين علي عليه السلام ومروان، وبينه وبين عثمان، وبين عثمان وبين عمار، واعتراف عثمان بتسييره، وتسجيل علي أمير المؤمنين عليه ذلك، وسماع غير واحد من أبي ذر الصادق نفسه حديثه، وإن عثمان
3 - وأما حديث بلوغ البناء السلع فإفك مفترى على أم ذر وقد جاء في مستدرك الحاكم 3: 344، وذكره البلاذري كما مر في ص 293 ورآه سبب خروج أبي ذر إلى الشام بإذن عثمان لا سبب خروجه إلى الربذة كما في حديث الطبري.
على إن ابن كثير أخذه من الطبري في التاريخ وجل ما عنده إنما هو ملخص ما فيه مع التصرف فيه على ما يروقه، وإسناد الرواية في التاريخ رجاله بين كذاب وضاع وبين مجهول لا يعرف إلى ضعيف متهم بالزندقة كما أسلفناه في ص 84، 140، 141 327 وهم:
1 - السري 2 - شعيب 3 - سيف 4 - عطية 5 - يزيد الفقعسي.
وحديث يكون في إسناده أحد من هؤلاء لا يعول عليه، وعلى فرض اعتباره فإنه لا يقاوم الصحاح المعارضة له الدالة على إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه يخرج ويطرد من مكة والمدينة والشام: راجع ص 316 319 وهي معتضدة بما مر عن أبي ذر وعثمان وغيرهما في تسيير عثمان إياه، أضف إليها الأعذار الباردة الواردة عن أعلام القوم في تبرير عثمان عن هذا الوزر الشائن.
4 - وأما ما ذكره من أمر عثمان أبا ذر أن يتعاهد المدينة حتى لا يرتد أعرابيا فإنه من جملة تلك الرواية المكذوبة التي تشمل على حديث السلع، وقد مر من طريق البلاذري بإسناد صحيح في ص 294 قول أبي ذر: ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا.
على إنه لم يذكر أحد إن أبا ذر قدم المدينة خلال أيام نفيه من سنة ثلاثين إلى وفاته سنة اثنتين وثلاثين حتى يكون ممتثلا لأمر عثمان بالتعاهد.
5 - ما ذكره من إنه جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها. الخ.
إن شنشنة الرجل في الفضائل إنه إذا قدم لسرد تاريخ من يهواه من الأمويين ومن انضوى إليهم من رواد النهم جاء بأشياء كثيرة وسرد التافه الموضوع في صورة الصحاح من غير تعرض لإسنادها أو تعقيب لمضامينها، ولا يمل من تسطيرها وإن
وإسناد أحمد من طريق أبي الدرداء في مسنده 5: 197 صحيح رجاله كلهم ثقات.
وإسناد الحاكم من طريق أبي ذر صححه هو وأقره الذهبي كما في " المستدرك " 3: 342.
وإسناد الحاكم من طريق علي عليه السلام وأبي ذر أيضا صححه هو وأقره الذهبي كما في " المستدرك " 4: 480.
وأما إسناد ما أخرجه ابن كثير من طريق ابن عمرو فقال الذهبي فيما نقله عنه المناوي في شرح الجامع الصغير: سنده جيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد وثقوا وفي بعضهم خلاف. وحسنه السيوطي في الجامع الصغير. فأين الضعف المزعوم؟
ولا يهمنا التعرض لبقية ما رمى القول فيه على عواهنه فإنها مأخوذة من الطبري مع عدم الاجادة في الأخذ، لعله أراد إصلاح ما في روايته من التهافت فزاد عوارا على عواره، وروايته هي من جملة أساطير أوقفناك على وضعها ص327.
والممعن في كتب المحدثين يعلم أن هذه الجنايات التي أوعزنا إلى بعضها لم تعد كتب الحديث فتجدها تثبت ما من حقه الحذف، وتحذف ما يجب أن يذكر، ونكل عرفان ذلك إلى سعة باعك أيها القارئ الكريم!؟
نظرية أبي ذر في الأموال
وافى سيدنا أبو ذر كغيره من قرناءه المقتصين أثر الكتاب والسنة يبغي صالح قومه ونجاح أمته، يبغي بهم أن لا يتخلفوا عنهما قيد ذرة، يريد أن ينفي عن الناس البخل الذميم، وأن تكون لضعفاء الأمة لماظة من منائح الأغنياء، وأن لا يمنعوا حقوقهم التي افترضها الله لهم، وكان نكيره الشديد متوجها إلى مغتصبي أموال الفقراء، والى أهل الأثرة الذين كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضة منضدة في دورهم، و كانت سبائك التبر تقسم بكسرها بالفؤوس، من دون أن تخرج منها الحقوق المفروضة من أخماس وزكوات، ومن غير إغاثة للملهوفين الذين كان قوتهم السغب، وريهم الظمأ وراحتهم النكد، وعند القوم أموال لهم متكدسة لا تنتفع بها العفاة، ولا يستفيد من نماءها المجتمع، ولا يصرف شئ منها في الصالح العام، وقد شاء الله سبحانه للذهب والفضة أن تتداول بهما الأيدي، ويتقلبا في وجوه الحرف والمهن والصنايع، فتنتجع العامة بهما فأربابهما بالأرباح، والضعفاء بالأجور، والبلاد بالعمران، والأراضي بالإحياء والمعالم والمعارف بالدعاية والنشر، والملأ العلمي بالجوامع والكليات والكتب و الصحف، والمضطرون بحقوقهما الإلهية واستحكامات تقتضيها الظروف، حتى تكون الأمة سعيدة بما يتسنى لها من تلكم الجهات من السعي وراء مناجحها، ولذلك حرم المولى سبحانه اتخاذ الأواني من الذهب والفضة لئلا يبقيا جامدين يعدوهما أعظم الفوائد وأكثرها المرقومة فيهما المترقبة منهما من الوجوه التي ذكرناها.
كان نكير سيدنا أبي ذر موجها إلى أمثال من ذكرناهم كمعاوية الذي كان يرفع أبو ذر عقيرته على بابه كل يوم ويتلو قوله تعالى: الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. وكان يرى الأموال تجبى إليه فيقول: جاءت القطار تحمل النار.
وكمروان الذي كان إحدى منايح عثمان له خمس افريقية وهو خمسمائة ألف دينار.
وكزيد بن ثابت المخلف من الذهب والفضة غير الأموال المكردسة والضياع العامرة ما كان يكسر عند تقسيمه بالفؤوس.
وكطلحة التارك بعده مائة بهارا في كل بهار ثلاث قناطر ذهب، والبهار جلد ثور وهذه هي التي قال عثمان فيها: ويلي على ابن الحضرمية (يعني طلحة) أعطيته كذا وكذا بهار ذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي (1) أو طلحة التارك مائة جمل ذهبا كما مر عن ابن الجوزي.
وأمثال هؤلاء البخلاء على المجتمع الديني، وهو يرى إن خليفة الوقت يأتيه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فيقسمها بين نسائه وبناته من دون أي اكتراث لمخالفة السنة الشريفة، وهو يعلم الكمية المدخرة من النقود التي نهبت يوم الدار. زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من المذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عند حسن المآب (2).
فما ظنك بالرجل الديني الواقف على كل هذه الكنوز من كثب؟ وهو يعلم بواسع ما وعاه من رسول الله صلى الله عليه وآله من المغيبات، ومما يشاهده من نفسيات القوم، إن تلكم الأموال المكتنزة سوف يصرف أكثرها في الدعوة إلى الباطل، وفي تجهيز العساكر من ناكثي بيعة الإمام الطاهر والخارجين عليه والمزحزحين حليلة المصطفى عن خدرها عن عقر داره صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أجور الوضاعين للأحاديث في فضائل بني أمية والوقيعة في رجالات أهل البيت عليهم السلام، وفي محر في الكلم عن مواضعه، وفي منائح لاعني مولانا أمير المؤمنين وقاتلي الصلحاء الأبرياء من موالي العترة الطاهرة، ويصرف شئ كثير منها في الخمور والفجور، إلى غير ذلك من وجوه الشر.
ما ظنك بالرجل؟ وفي أذنه نداء الصادع الكريم: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين
____________
(1) شرح ابن أبي الحديد 2: 404.
(2) سورة آل عمران: 14.