هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين إن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه، يعطى المحروم، ويؤمن الخائف، ويرد المنفي، ولا تجمر (1) البعوث، ويوفر الفئ، وعلي بن أبي طالب ضمين المؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء في هذا الكتاب.
شهد الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله؟ وسعد بن مالك بن أبي وقاص، و عبد الله بن عمرو، وزيد بن ثابت، وسهل بن خنيف، وأبو أيوب خالد بن زيد.
وكتب في ذي العقدة سنة خمس وثلاثين. فأخذ كل قوم كتابا فانصرفوا.
وقال علي بن أبي طالب لعثمان: أخرج فتكلم كلاما يسمعه الناس ويحملونه عنك وأشهد الله ما في قلبك، فإن البلاد قد تمخضت عليك، ولا تأمن أن يأتي ركب آخر من الكوفة أو من البصرة أو من مصر فتقول: يا علي اركب إليهم. فإن لم أفعل قلت: قطع رحمي، واستخف بحقي، فخرج عثمان فخطب الناس فأقر بما فعل واستغفر الله منه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من زل فلينب. فأنا أول من اتعظ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليردوني برأيهم، فوالله لو ردني إلى الحق عبد لاتبعته وما عن الله مذهب إلا إليه، فسر الناس بخطبته واجتمعوا إلى بابه مبتهجين بما كان منه
____________
(1) تجمر الجيش: تحبس في أرض العدو ولم يقفل.
وقالت له امرأته نائلة بنت الفرافصة: قد سمعت قول علي بن أبي طالب في مروان وقد أخبرك أنه غير عائد إليك، وقد أطعت مروان ولا قدر له عند الناس ولا هيبة، فبعث إلى علي فلم يأته.
وأخرج ابن سعد من طريق أبي عون قال: سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ذكر مروان فقال: قبحه الله خرج عثمان على الناس فأعطاهم الرضى وبكى على المنبر حتى استهلت دموعه، فلم يزل مروان يفتله في الذروة والغارب (1) حتى لفته عن رأيه، قال: وجئت إلى علي فأجده بين القبر والمنبر ومعه عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وهما يقولون: صنع مروان بالناس؟ قلت: نعم (2).
صورة أخرى من توبة الخليفة
أخرج الطبري من طريق علي بن عمر بن أبيه قال: إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له: تكلم كلاما يسمعه الناس منك، ويشهدون عليه ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والانابة، فإن البلاد قد تمخضت عليك فلا آمن ركبا آخرين يقدمون من الكوفة فتقول: يا علي إركب إليهم. ولا أقدر أن أركب إليهم ولا أسمع عذرا.
ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول: يا علي إركب إليهم. فإن لم أفعل أيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك. قال: فخرج عثمان وخطب الخطبة التي نزع فيها و أعطى الناس من نفسه التوبة فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
أما بعد: أيها الناس فوالله ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله، وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه، ولكني منتني نفسي وكذبتني، وضل عني رشدي، ولقد سمعت رسول
____________
(1) لم يزل يفتل في الذروة والغارب. مثل في المخادعة. أي يدور من وراء خديعته.
(2) وأخرج الطبري حديث ابن عون هذا وتبعه ابن الأثير وسيوافيك لفظه، وأوعز إليه الدميري في حياة الحيوان 1: 53.
قال: فرق الناس له يومئذ وبكى من بكى منهم وقام إليه سعيد بن يزيد فقال: يا أمير المؤمنين! ليس بواصل لك من ليس معك، الله الله في نفسك، فاتمم على ما قلت فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيدا (2) ونفرا من بني أمية ولم يكونوا شهدوا الخطبة فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين! أتكلم أم أصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان الكلبية: لا بل اصمت فإنهم والله قاتلوه ومؤتموه، إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها. فأقبل عليها مروان فقال: ما أنت وذاك؟ فوالله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ. فقالت له: مهلا يا مروان! عن ذكر الآباء تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه، وأن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه، أما والله لولا أنه عمه و وأنه يناله غمه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه. قال: فأعرض عنها مروان ثم قال: يا أمير المؤمنين! أتكلم أم أصمت؟ قال: بل تكلم. فقال مروان: بأبي أنت وأمي والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممنع منيع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها لكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطبيين، وخلف السيل الزبى، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل، والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها، وإنك إن شئت تقربت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس. فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلمهم فإني أستحي أن أكلمهم، قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم؟ كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ بأذن صاحبه إلا من أريد (3) جئتم
____________
(1) كذا في تاريخ الطبري والصحيح ما مر في رواية البلاذري: من زل فلينب.
(2) هو سعيد بن العاص.
(3) كذا في تاريخ الطبري وفي الكامل: شاهت الوجوه إلى من أريد.
فلما خرج علي دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته فقالت: أتكلم أو أسكت؟
فقال: تكلمي. فقالت: قد سمعت قول علي لك وإنه ليس يعاودك؟ وقد أطعت مروان يقودك حيت شاء قال: فما أصنع؟ قالت: تتقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكان مروان، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى. قال: فأرسل عثمان إلى علي فأبي أن يأتيه، وقال: قد أعلمته: أني لست بعائد. فبلغ مروان مقالة نائلة فيه فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه فقال: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلم. فقال: إن بنت الفرافصة. فقال عثمان: لا تذكرنها بحرف فأسوء لك وجهك فهي والله أنصح لي منك. فكف مروان (2)
صورة أخرى من التوبة
من طريق أبي عون قال: سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد بن يغوث يذكر مروان بن الحكم قال: قبح الله مروان، خرج عثمان إلى الناس فأعطاهم الرضا وبكى على المنبر وبكى الناس حتى إلى لحية عثمان مخضلة من الدموع وهو يقول: أللهم إني أتوب إليك، أللهم إني أتوب إليك، أللهم إني أتوب إليك، والله لئن ردني الحق إلى
____________
(1) في لفظ البلاذري: إلا بإفساد دينك، وخديعتك عن عقلك. وفي لفظ ابن كثير:
إلا بتحويلك عن دينك وعقلك، وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به.
(2) الأنساب للبلاذري 5: 64، 65، تاريخ طبري 5: 111، الكامل لابن الأثير 3: 68، تاريخ ابن كثير 7: 172، شرح ابن أبي الحديد 1، 163، 164، تاريخ ابن خلدون 2: 396، 397.
قال: فلما دخل أمر بالباب ففتح ودخل بيته ودخل عليه مروان فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى فتله عن رأيه وأزاله عما كان يريد، فلقد مكث عثمان ثلاثة أيام ما خرج استحياء من الناس، وخرج مروان إلى الناس فقال: شاهت الوجوه إلا من أريد ارجعوا إلى منازلكم، فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحد منكم يرسل إليه وإلا قر في بيته. قال عبد الرحمن: فجئت إلى علي فأجده بين القبر والمنبر وأجد عنده عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وهما يقولان: صنع مروان بالناس وصنع، قال: فأقبل علي علي فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قلت: نعم. قال: أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قلت نعم. قال علي: عياذ الله يا للمسلمين، إني إن قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيقة له يسوقه حيث شاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الرحمن بن الأسود: فلم يزل حتى جاء رسول عثمان إئتني فقال علي بصوت مرتفع عال مغضب: قل له: ما أنا بداخل عليك ولا عائد. قال: فانصرف الرسول فلقيت عثمان بعد ذلك بليلتين جائيا فسألت ناتلا غلامه من أين جاء أمير المؤمنين؟ فقال: كان عند علي، فقال عبد الرحمن بن الأسود فغدوت فجلست مع علي عليه السلام فقال لي: جاءني عثمان بارحة فجعل يقول: إني غير عائد وإني فاعل، قال: فقلت له. بعد ما تكلمت به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، وخرج مروان إلى الناس فشتمهم على بابك ويؤذيهم؟ قال: فرجع وهو يقول: قطعت رحمي وخذلني و جرأت الناس علي فقلت: والله إني لأذب الناس عنك، ولكني كلما جئتك بهنة أظنها لك رضى جاء بأخرى فسمعت قول مروان علي واستدخلت مروان. قال: ثم انصرف إلى بيته أزل أرى عليا منكبا عنه لا يفعل ما كان يفعل. (1)
عهد آخر بعد حنث الأول
أخرج الطبري من طريق عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كتب أهل المدينة إلى
____________
(1) تاريخ الطبري 5: 112، الكامل لابن الأثير 3: 96.
سياسة ضئيلة
لما تكلم علي مع المصريين ورجعهم إلى بلادهم ورجع هو إلى المدينة دخل على عثمان وأخبره أنهم قد رجعوا فمكث عثمان ذلك اليوم حتى إذا كان الغد جاءه مروان فقال له: تكلم واعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا، وأن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا فإن خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه. فأبى عثمان أن يخرج. فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما عنه رجعوا إلى بلادهم.
فناداه الناس من كل ناحية: اتق الله يا عثمان! وتب إلى الله. وكان أولهم عمرو ابن العاصي. قال: إتق الله يا عثمان! فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب إلى الله نتب. إلى آخر ما مر في هذا الجزء صفحة 137.
قصة الحصار الثاني (2)
أخرج البلاذري من طريق أبي مخنف قال: لمّا شخص المصريّون بعد الكتاب
____________
(1) تاريخ الطبري 5: 116، الكامل لابن الأثير 3: 71، 72، شرح ابن أبي الحديد: 1: 166.
(2) مصادرها: الأنساب 5: 26 - 69، 95 الإمامة والسياسة 1: 33 - 37، المعارف لابن قتيبة ص 84، العقد الفريد 2: 263، تاريخ الطبري 5، 119، 120، الرياض النضرة 2: 123، 125، الكامل لا بن الأثير 3: 70، 71، شرح ابن أبي الحديد 1: 165، 166 تاريخ ابن خلدون 2: 397، تاريخ ابن كثير 7: 173، 174، 186، 189، حياة الحيوان للدميري 1: 53، الصواعق ص 69، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 106، 107، السيرة الحلبية 2: 84، 86، 87، تاريخ الخميس 2: 259، واللفظ للبلاذري والطبري.
أما بعد: فإذا قدم عليك عمرو بن بديل فاضرب عنقه، واقطع يدي ابن عديس و كنانة، وعروة، ثم دعهم يتشحطون في دمائهم حتى يموتوا، ثم أوثقهم على جذوع نخل.
فيقال: إن مروان كتب الكتاب بغير علم عثمان، فلما عرفوا ما في الكتاب، قالوا: عثمان محل، ثم رجعوا عودهم على بدئهم حتى دخلوا المدينة فلقوا عليا بالكتاب وكان خاتمه من رصاص، فدخل به علي على عثمان فحلف بالله ما هو كتابه ولا يعرفه وقال: أما الخط فخط كاتبي، وأما الخاتم فعلى خاتمي، قال علي فمن تتهم؟ قال: أتهمك وأتهم كاتبي. فخرج علي مغضبا وهو يقول: بل هو أمرك. قال أبو مخنف: وكان خاتم عثمان بدء عند حمران بن أبان ثم أخذه مروان حين شخص حمران إلى البصرة فكان معه.
وفي لفظ جهيم الفهري قال: أنا حاضر أمر عثمان فذكر كلاما في أمر عمار. فانصرف القوم راضين ثم وجدوا كتابا إلى عامله على مصر أن يضرب أعناق رؤساء المصريين، فرجعوا ودفعوا الكتاب إلى علي فأتاه به فحلف له أنه لم يكتبه ولم يعلم به.
فقال له علي: فمن تتهم فيه؟ فقال: أتهم كاتبي وأتهمك يا علي! لأنك مطاع عند القوم ولم تردهم عني.
وجاء المصريون إلى دار عثمان فأحدقوا بها وقالوا لعثمان وقد أشرف عليهم: يا عثمان! أهذا كتابك؟ فجحد وحلف فقالوا: هذا شر، يكتب عنك بما لا تعلمه، ما مثلك
____________
(1) أيلة بالفتح: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام. وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام.
قال: وكتب عثمان حين حصروه كتابا قرأه ابن الزبير على الناس يقول فيه: والله ما كتبت الكتاب ولا أمرت به ولا علمت بقصته وأنتم معتبون من كل ما ساءكم، فأمروا على مصركم من أحببتم، وهذه مفاتيح بيت مالكم فادفعوا إلى من شئتم فقالوا: قد اتهمناك بالكتاب فاعتزلنا.
وأخرج ابن سعد من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري قال: إن عثمان وجه إلى المصريين لما أقبلوا يريدونه محمد بن مسلمة في خمسين من الأنصار أنا فيهم فأعطاهم الرضى وانصرفوا فلما كانوا ببعض الطريق رأوا جملا عليه ميسم الصدقة فأخذوه فإذا غلام لعثمان ففتشوه فإذا معه قصبة من رصاص في جوف إداوة فيها كتاب إلى عامل مصر: أن أفعل بفلان كذا، وبفلان كذا، فرجع القوم إلى المدينة فأرسل إليهم عثمان محمد بن مسلمة فلم يرجعوا وحصروه.
صورة أخرى
عن سعيد بن المسيب قال: إن عثمان لما ولي كره ولايته نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتى عشرة سنة، وكان كثيرا ما يولي بني أمية ممن لم يكن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة، وكان يجيئ من أمرائه ما يكره أصحاب محمد، فكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلما كان في الحجج الآخرة استأثر ببني عمه فولاهم وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه، وقد كانت من عثمان قبل هنات إلى عبد الله ابن مسعود وأبي ذر عمار بن ياسر، فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار و أحلافها من غضب لأبي ذر ما فيها، وحنقت بنو مخزوم لحال عمار بن ياسر، فلما جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح، كتب إليه كتاب يتهدده فيه، فأبى أن ينزع عما نهاه
فجمع محمد من كان معه المهاجرين والأنصار وغيرهم ثم الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه: إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاحتل لقتلهم وأبطل كتاب محمد وقر على عملك حتى يأتيك رأيي، واحبس من يجئ إلي متظلما منك إن شاء الله، فلما قرأوا الكتاب فزعوا وغضبوا ورجعوا إلى المدينة وختم محمد بن أبي بكر الكتاب بخواتيم نفر ممن كان معه، ودفعه إلى رجل منهم وقدموا المدينة، فجمعوا عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و أخبروهم بقصة الغلام وأقرأوهم الكتاب، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر حنقا وغيظا، وقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمنازلهم ما منهم أحد إلا وهو مغتم لما في الكتاب.
وحاصر الناس عثمان وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم، وأعانه على
فحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء فأشرف على الناس فقال: أفيكم علي؟ فقالوا: لا. قال: أفيكم سعد؟ فقالوا: لا. فسكت، ثم قال ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصلت.
لفظ الواقدي
من طريق محمد بن مسلمة وقد أسلفنا صدره في ص 132، 133، وإليك بقيته: فوجدنا فيه هذا الكتاب فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس فاجلده مائة، واحلق رأسه ولحيته، وأطل حبسه حتى أتيك أمري، وعمرو بن الحمق، فافعل به مثل ذلك، وسودان بن حمران مثل ذلك، وعروة بن البياع الليثي مثل ذلك. قال: فقلت: وما يدريكم أن عثمان كتب بهذا؟ قالوا: فيقتات مروان على عثمان بهذا فهذا شر، فيخرج نفسه من هذا الأمر. ثم قالوا: انطلق معنا إليه فقد كلمنا عليا ووعدنا أن يكلمه إذا صلى الظهر وجئنا سعد بن أبي وقاص فقال: لا أدخل في أمركم، وجئنا سعيد
قال محمد بن مسلمة: فدخلوا يومئذ فما سلموا عليه بالخلافة فعرفت أنه الشر بعينه قالوا: سلام عليكم، فقلنا: وعليكم السلام قال: فتكلم القوم وقد قدموا في كلامهم ابن عديس، فذكر ما صنع ابن سعد بمصر وذكر تحاملا منه على المسلمين وأهل الذمة وذكر استئثارا منه في غنائم المسلمين، فإذا قيل له في ذلك قال: هذا كتاب أمير المؤمنين إلي، ثم ذكروا أشياء مما أحدث بالمدينة وما خالف به صاحبيه قال: فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلا دمك أو تنزع، فردنا علي ومحمد بن مسلمة و ضمن لنا محمد النزوع عن كل ما تكلمنا منه، ثم أقبلوا على محمد بن مسلمة قالوا: هل قلت ذاك لنا؟ قال محمد: فقلت: نعم، ثم رجعنا إلى بلادنا نستظهر بالله عز وجل عليك ويكون حجة لنا بعد حجة، حتى إذا كنا بالبويب (1) أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد تأمره فيه بجلد ظهورنا، والمثل بنا في أشعارنا، وطول الحبس لنا، وهذا كتابك، قال: فحمد الله عثمان أثنى عليه ثم قال: والله ما كتبت ولا أمرت ولا شورت ولا علمت قال: فقلت وعلي جميعا: قد صدق. قال: فاستراح إليها عثمان فقال المصريون: فمن كتبه؟ قال: لا أدري. قال: أفيجترأ عليك فيبعث غلامك وجمل من صدقات المسلمين، وينقش على خاتمك، ويكتب إلى عاملك بهذه الأمور
____________
(1) البويب: مدخل أهل الحجاز بمصر.
وأخرج الطبري من طريق عبد الرحمن بن يسار: أن الذي كان معه هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر أبو الأعور السلمي (1) وهو الذي كان يدعو عليه أمير المؤمنين عليه السلام في قنوته مع أناس كما مر حديثه في ج 2: 32 1 ط 2، وذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1: 165.
وأخرج من طريق عثمان بن محمد الأخنسي قال: كان حصر عثمان قبل قدوم أهل مصر فقدم أهل مصر يوم الجمعة وقتلوه في الجمعة الأخرى. تاريخ الطبري 5: 132.
الخليفة تواب عواد
أخرج الطبري من طريق سفيان بن أبي العوجاء قال: قدم المصريون القدمة الأولى فكلم عثمان محمد بن مسلمة فخرج في خمسين راكبا من الأنصار فأتوهم بذي خشب فردهم ورجع القوم حتى إذا كانوا بالبويب وجدوا غلاما لعثمان معه كتاب إلى عبد الله بن سعد فكروا وانتهوا إلى المدينة وقد تخلف بها من الناس الأشتر و حكيم بن جبلة فأتوا بالكتاب فأنكر عثمان أن يكون كتبه وقال: هذا مفتعل. قالوا: فالكتاب كتاب كاتبك؟ قال: أجل، ولكنه كتبه بغير أمري قالوا: فإن الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك؟ قال: أجل، ولكنه خرج بغير إذني. قالوا: فالجمل جملك قال: أجل، ولكنه أخذ بغير علمي. قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها، وإن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك، لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل الأمر دونه لضعفه وغفلته، وقالوا له: إنك ضربت رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحق عند ما يستنكرون
____________
(1) تاريخ الطبري 5: 115:
فرغتم من جميع ما تريدون؟ قالوا: نعم، قال:
الحمد لله وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فإنكم لم تعدلوا في المنطق ولم تنصفوا في القضاء أما قولكم: تخلع نفسك. فلا أنزع قميصا قمصنيه الله عزوجل وأكرمني به وخصني به على غيري ولكني أتوب وأنزع ولا أعود لشئ عابه المسلمون، فإني والله الفقير إلى الله الخائف منه.
قالوا: إن هذا لو كان أول حدث أحدثته ثم تبت منه ولم نقم عليه لكان علينا أن نقبل منك، وأن ننصرف عنك ولكنه: قد كان منك من الأحداث قبل هذا ما قد علمت ولقد انصرفنا عنك في المرة الأولى وما نخشى أن تكتب فينا ولا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك، وكيف نقبل توبتك؟ وقد بلونا منك أنك لا تعطي من نفسك التوبة من ذنب إلا عدت إليه، فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك، فإن حال من معك
فقال عثمان: أما أن أتبرأ من الإمارة فإن تصلبوني أحب إلي من أن أتبرأ من أمر الله عز وجل وخلافته وأما قولكم: تقاتلون من قاتل دوني. فإني لا آمر أحدا بقتالكم (1) فمن قاتل دوني فإنما قتل بغير أمري، ولعمري لو كنت أريد قتالكم لقد كنت كتبت إلى الأجناد (2) فقادوا الجنود وبعثوا الرجال أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق، فالله الله في أنفسكم فابقوا عليها إن لم تبقوا علي: فإنكم مجتلبون بهذا الأمر إن قتلتموني دما. قال: ثم انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب وأرسل إلى محمد بن مسلمة فكلمه أن يردهم فقال: والله لا أكذب الله في سنة مرتين. تاريخ الطبري 5: 120، 121.
نظرة في أحاديث الحصارين
أول ما يقع عليه النظر من هذه الأحاديث المجهزين على عثمان هم المهاجرون والأنصار من الصحابة ولم يشذ عنهم إلا أربعة أسلفنا ذكر في صفحة 195 وهم الذين أصفقوا مع أهل مصر والكوفة والبصرة على مقت الخليفة وقتله بعد أن أعيتهم الحيل وأعوزهم السعي في استتابته، وإكفائه من الأحداث، ونزوعه عما هو عليه من الجرائم وإن في المقبلين من تلكم البلاد من عظماء الصحابة، ومن رجال الفضيلة والفقه والتقى من التابعين جماعات لا يستهان بعدتهم، ولا يغمز في دينهم، وهم رؤساء هاتيك الجماهير والمؤلبين لهم على عثمان، فمن الكوفيين:
1 - زيد الخير، له إدراك أثنى عليه النبي الأعظم، وأنه من الخيار الأبرار.
2 - مالك بن الحارث الأشتر، له إدراك، أوقفناك على عظمته وفضله وموقفه من الإيمان، ومبلغه من الثقة والصلاح.
3 - كعب بن عبدة النهدي، وقد سمعت عن البلاذري أنه كان ناسكا.
____________
(1) لم يكن معه هناك غير بني أبيه حتى يأمر أحدا بالقتال وهم ليسوا هناك وقد تحصنوا يوم قتله بكندوج أم حبيبة كما يأتيك حديثه.
(2) كان يتأهب للقتال، ويستعد بالسلاح، ويكتب إلى الأجناد، ويجلب إلى المدينة الجنود
المجندة من الشام، وغيرها، غير أنه كان يغفل الناس بكلماته هذه وسنوافيك كتبه.