ومن كتاب لمسور بن مخرمة، (2) إلى معاوية: إنك أخطأت خطأ عظيما، وأخطأت مواضع النصرة، وتناولتها من مكان بعيد، وما أنت والخلافة يا معاوية؟ وأنت طليق وأبوك من الأحزاب؟ فكف عنا فليس لك قبلنا ولي ولا نصير (3).
وفي مناظرة لسعنة بن عريض الصحابي مع معاوية: منعت ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلافة، وما أنت وهي وأنت طليق بن طليق؟ يأتي تمام الحديث إنشاء الله تعالى.
وعاتب عبد الرحمن بن غنم الأشعري الصحابي (4) أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذا انصرفا من عند علي رضي الله عنه رسولين لمعاوية وكان مما قال لهما: عجبا منكما كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوان عليا إلى أن يجعلها شورى؟ وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق، وإن من رضيه خير ممن كرهه، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه، وأي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة؟ وهو وأبوه من رؤس الأحزاب. فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه (5).
ومن كلام لصعصعة بن صوحان يخاطب به معاوية: إنما أنت طليق به طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وآله فأنى تصح الخلافة لطليق؟! (6).
فأين يقع عندئذ معاوية الطليق ابن الطليق من الخلافة؟ وأي قيمة في سوق الاعتبار لرأي ابن عمر؟ وما الذي يبرر بيعته إياه إن لم يبررها عداء سيد العترة؟
____________
(1) شرح ابن أبي الحديد 1: 195.
(2) نسب هذا الكتاب في كتاب صفين ص 70 إلى عبد الله بن عمر وهو وهم، والأبيات التي كتبها رجل من الأنصار مع الكتاب تكذب تلك النسبة. فراجع.
(3) الإمامة والسياسة 1: 75، وفي ط 85.
(4) قال أبو عمر في الاستيعاب: كان من أفقه أهل الشام، وهو الذي فقه عامة التابعين بالشام وكانت له جلالة وقدر.
(5) الاستيعاب ترجمة عبد الرحمن ج 2: 402، أسد الغابة 3: 318.
(6) مروج الذهب 1: 78، يأتي تمام الكلام في هذا الجزء إنشاء الله تعالى.
أي إجماع على بيعة يزيد؟
ثم أي إجماع صحيح من رجال الدين صحح لابن عمر بيعة يزيد الممجوج عند الصحابة والتابعين، المنبوذ لدى صلحاء الأمة، المعروف بالخلاعة والمجون والخمور والفجور على حد قول شاعر القضاة الأستاذ بولس سلامة في ملحمة الغدير ص 217:
والأمة مجمعة على شرطية العدالة في الإمامة، قال القرطبي في تفسيره 1: 231:
الحادي عشر - من شروط الإمامة - أن يكون عدلا لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم لقوله عليه السلام:
أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون. وفي التنزيل في وصف طالوت: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم. فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوة.
وقال في صفحة 232: الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور:
إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض فيها، فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له وكذلك هذا مثله. هـ
أجل: المائة ألف المقبوضة من معاوية لتلك البيعة الغاشمة (1) جعلت الفرقة لابن عمر إجماعا، والاختلاف إصفاقا، كما فعلت مثله عند غير ابن عمر من سماسرة النهمة
____________
(1) راجع أنساب الأشراف للبلاذري 5: 31.
لكن الرجل لم يتأثر بكل هذه ولم يرها خلافا، ونبذ وصية نبيه الكريم وراء ظهره ولم يعبأ بقوله صلى الله عليه وآله إن ابني هذا - يعني الحسين - يقتل بأرض يقال لها:
كربلا. فمن شهد ذلك منكم فلينصره (1) نعم: نصر ذلك المظلوم قرة عين رسول صلى الله عليه وآله بتقرير بيعة يزيد. وحسبانها بيعة صحيحة، كان ينهى عن نكثها عند مرتجع الوفد المدني من الشام وقد شاهدوا منه البوائق والموبقات معتقدين خروجه عن حدود الاسلام قائلين: إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الحراب والفتيان، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه. فتابعهم الناس (2) وقال ابن فليح: إن أبا عمرو بن حفص وفد على يزيد فأكرمه وأحسن جائزته، فلما قدم المدينة قام إلى جنب المنبر وكان مرضيا صالحا فقال: ألم أحب؟ ألم أكرم؟ والله لرأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة سكرا. فأجمع الناس على خلعه بالمدينة (3).
وكان مسور بن مخرمة الصحابي ممن وفد إلى يزيد، فلما قدم شهد عليه بالفسق وشرب الخمر فكتب إلى يزيد بذلك فكتب إلى عامله يأمره أن يضرب مسورا الحد فقال أبو حرة:
قد جبههم ابن عمر بما جاء هو عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما فصلناه في الجزء السابع
____________
(1) الإصابة 2: 68.
(2) تاريخ الطبري 7: 4، أنساب البلاذري 5: 31، فتح الباري 13: 59. يأتي الحديث على تفصيله في هذا الجزء.
(3) تاريخ ابن عساكر 7: 280.
(4) أنساب الأشراف للبلاذري 5: 31.
وتمسك في تقرير تلك البيعة الملعونة بما عزاه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قول:
إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان. جهلا منه بأساليب الكلام لما هو المعلوم من أن مصداق هذا الكلي هو الفرد المتأهل للبيعة الدينية بيع الله ورسوله، لا من هو بمنتأى عن الله سبحانه، وبمجنب عن رسوله، كيزيد الطاغية أو والده الباغي.
ومهما ننس من شئ فإنا لا ننسى مبدء البيعة ليزيد على عهد ابن آكلة الأكباد بين صفيحة مسلولة ومنيحة مفاضة، أقعدت هاتيك من نفى جدارة الخلافة عن يزيد، وأثارت هذه سماسرة الشهوات، فبايعوا بين صدور واغرة، وأفئدة لا ترى ما تأتي به من البيعة إلا هزوا.
وفي لهوات الفضاء وأطراف المفاوز كل فار بدينه متعوذين من معرة هذه البيعة الغاشمة، وكان عبد الله نفسه ممن تأبى عن البيعة (1) لأول وهلة من قبل أن يتذوق طعم هاتيك الرضيخة، - مائة ألف - وكان يقول: إن هذه الخلافة ليست بهرقلية ولا قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء على الآباء (2) وبعد أن تذوقه كان لم يزل بين اثنتين: فضيحة العدول عن رأيه في يزيد، ومغبة التمرد عليه، لا سيما بعد أخذ المنحة، فلم يبرح مصانعا حتى بايعه بعد أبيه، ولما جاءت بيعته قال: إن كان خيرا رضينا، وإن كان بلاء صبرنا (3) ونحت لذلك التريث حجة تافهة من أن المانع عن البيعة كان هو وجود أبيه.
وكان ليزيد أن يناقشه الحساب بأن أباه لم يكن يأخذ البيعة له في عرض بيعته، وإنما أخذها طولية لما بعده، لكنه لم يناقشه لحصول الغاية.
____________
(1) الإمامة والسياسة 1: 143، تاريخ الطبري 6: 170، تاريخ ابن كثير 8: 79، لسان الميزان 6: 293.
(2) الإمامة والسياسة 1: 143.
(3) لسان الميزان 6: 294.
فاتبع ابن عمر في بيعة يزيد إجماع أولئك الأوباش سفلة الأعراب وبقية الأحزاب ولم يعبأ بإجماع رجال الحل والعقد من أبناء المهاجرين والأنصار، وخيرة الخلف للسلف
____________
(1) أنساب البلاذري 5: 42، الاستيعاب 1: 258، تاريخ ابن كثير 8: 221، الإصابة 3: 473، وفاء الوفاء 1: 93.
(2) الروض الأنف 5: 185.
(3) لسان الميزان 6: 294.
(4) تاريخ ابن كثير 8: 221، الإتحاف ص 22، وفاء الوفاء 1: 88.
(5) أنساب الأشراف للبلاذري 5: ص 42.
ألا تعجب من ابن عمر وهو يرى يزيد الكفر والالحاد وأباه الغاشم الظلوم ومن يتلوهما في الفسوق صلحاء لا يوجد مثلهم؟ أخرج ابن عساكر من عدة طرق كما قاله الذهبي وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 140 عن ابن عمر إنه قال: أبو بكر الصديق أصبتم إسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم إسمه، ابن عفان ذو النورين قتل مظلوما يؤتى كفلين من الرحمة، ومعاوية وابنه ملكا الأرض المقدسة، والسفاح وسلام ومنصور وجابر والمهدي والأمين وأمير العصب كلهم من بني كعب بن لوي، كلهم صالح لا يوجد مثله.
وفي لفظ: يكون على هذه الأمة اثنا عشر خليفة أبو بكر الصديق أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، عثمان بن عفان ذو النورين قتل مظلوما أوتي كفلين من الرحمة، ملك الأرض المقدسة، معاوية وابنه، ثم يكون السفاح ومنصور وجابر والأمين وسلام (1) وأمير العصب لا يرى مثله ولا يدرى مثله، كلهم من بني كعب ابن لوي فيهم رجل من قحطان، منهم من لا يكون ملكه إلا يومين، منهم من يقال له لتبايعنا أو لنقتلنك فإن لم يبايعهم قتلوه [كنز العمال 6: 67] ومن جراء هذا الرأي الباطل قتل الصحابي بن الصحابي محمد بن أبي الجهم لما شهد على يزيد بشرب الخمر كما في الإصابة 3: 73 4.
____________
(1) سقط من هذا اللفظ " المهدي " وهو ثاني عشرهم.
أخبار ابن عمر ونوادره
هذه عقلية ابن عمر في باب الخلافة، فما قيمة رأيه وقوله واختياره فيها وفي غيرها، وله أخبار تنم عن ضئولة رأيه وسخافة فكرته، وأخبار تدل على مناوئته أمير المؤمنين عليه السلام وانحيازه عنه، وتحيزه إلى الفئة الأموية الباغية، فلا حجة فيما يرتأيه في أي من الفئتين. ومن نماذج الفريق الأول من أخباره قوله: ما اعطي أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجماع ما أعطيت أنا (1) وهو يعطينا أنه رجل شهوي لا صلة له بغيرها ومن ضعف رأيه أنه حسب رسول الله صلى الله عليه وآله مثله بل أربى منه في الجماع، جهلا منه بأن ملكات صاحب الرسالة وقواه كلها كانت متعادلة ثابتة على نقطة المركز قد تساوت إليها خطوط الدائرة، فإذا آن له صلى الله عليه وآله وسلم أن يفخر فخر بجميعها على حد واحد لا كابن عمر شهوة قوية مهلكة، وعقلية ضعيفة يباهي بالجماع وقد ترك غيره، وهي التي كانت تحذر أباه من أن يأذن له بالجهاد حين استأذنه له فقال: أي بني أني أخاف عليك الزنا (2) فما قيمة رجل في مستوى الدين، وهو يمنع عن مواقف الجهاد حذرا من معرة شهوته الغلبة، وسقطات شغبه وشبقه؟!.
نعم: كان لابن عمر أن يشبه نفسه بأبيه - ومن يشابه أبه فما ظلم - إذ له كلمة قيمة في النكاح تعرب عن قوة شهوته قال محمد بن سيرين قال عمر بن الخطاب: ما بقي في شئ من أمر الجاهلية إلا أني لست أبالي أي الناس نكحت وأيهم أنكحت.
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 3: 208، ورواه عبد الرزاق كما في كنز العمال 8: 297.
ومن جراء تلك النزعة الجاهلية التي كانت قد بقيت فيه قحم في مآثم سجلها له التاريخ، جاء عنه أنه أتى جارية له فقالت: إني حائض فوقع بها فوجدها حائضا فأتى النبي صلى الله عليه وآله فذكر له ذلك، فقال: يغفر الله لك يا أبا حفص! تصدق بنصف دينار (3)
____________
(1) نوادر الأصول للحكيم الترمذي ص 212.
(2) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 115، وفي طبع ص 138.
(3) المحلى لابن حزم 2: 188، سنن البيهقي 1: 316، كنز العمال 8: 305 نقلا عن ابن ماجة واللفظ له.
فقال: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر! فنزلت: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن. الآية (1).
وأخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى عن علي بن زيد: إن عاتكة بنت زيد كانت تحت عبد الله بن أبي بكر فمات عنها واشترط عليها ألا تزوج بعده فتبتلت فجعلت لا تتزوج وجعل الرجال يخطبونها وجعلت تأبى فقال عمر لوليها: اذكرني لها فذكره لها فأبت على عمر أيضا فقال عمر: زوجنيها، فزوجه إياها، فأتاها عمر فدخل عليها فعاركها حتى غلبها على نفسها فنكحها فلما فرغ قال: اف اف اف افف بها، ثم خرج من عندها وترك لا يأتيها، فأرسلت إليه مولاة لها أن تعال فإني سأتهيأ لك (2).
أيصح عن رجل هذا شأنه ما عزاه إليه الزمخشري في ربيع الأبرار ب 68 من قوله: إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله نسمة تسبحه وتذكره؟!
* (ومنها) *: عن الهيثم عن ابن عمر أتاه رجل فقال: إني نذرت أن أقوم على حراء عريانا يوما إلى الليل. فقال: أوف بنذرك. ثم أتى ابن عباس فقال له: أو لست تصلي؟
قال له: أجل قال: أفعريانا تصلي؟ قال: لا. قال: أو ليس حنثت؟ إنما أراد الشيطان أن يسخر بك ويضحك منك هو وجنوده، إذهب فاعتكف يوما وكفر عن يمينك. فأقبل الرجل حتى وقف على ابن عمر فأخبره بقول ابن عباس فقال: ومن يقدر منا على ما يستنبط ابن عباس؟ (3)
ها هنا يوقفنا السير على مبلغ الرجل من العلم بالأحكام، أي فقيه هذا لا يعرف حكم النذر وأنه لا بد فيه من الرجحان في المنذور، وأن نذر التافهات وما ينكره العقل لا ينعقد قط؟ وهل مثل هذا يعد من المعضلات حتى لا يقدر على عرفانه غير ابن عباس؟.
____________
(1) تفسير الطبري 2: 96، تفسير ابن كثير 1: 220، تفسير القرطبي 2: 294، و تفاسير أخرى.
(2) طبقات ابن سعد، كنز العمال 7: 100، منتخب الكنز هامش مسند أحمد 5: 279.
(3) كتاب الآثار ص 168 متنا وتعليقا.
ولذلك لم يره أبوه أهلا للخلافة بعد ما كبر وبلغ منتهى الكهولة لما قال له رجل استخلف عبد الله بن عمر. قال عمر: قاتلك الله والله ما أردت الله بها أستخلف من لم يحسن أن يطلق امرأته؟ (2) وكأن عمر كان يجد ابنه يوم وفاته على جهله ذاك حين طلق امرأته وهو شاب عض أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلا فكل من الخلفاء بالانتخاب الدستوري لم يكن عالما بالأحكام من أول يومه إن غضضنا الطرف عن يوم تسنمه عرش الخلافة وإلى أن أودع مقره الأخير وعمر نفسه كان في المسألة نفسها لدة ولده لم يك يعلم حكم ذلك الطلاق حتى سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق (3) فالمانع عن الاستخلاف هو الجهل الحاضر وهذا من سوء حظ ابن عمر يخص به ولا يعدوه.
وإني لست أدري أي مرتبة رابية من الجهل كان يحوزها ابن عمر حتى عرفه منه والده الذي يمتاز في المجتمع الديني بنوادر الأثر (4)؟ فمن رآه عمر جاهلا لا يقدر مبلغه من الجهل.
ومما يدلنا على فقه الرجل، أو على مبلغه من إتباع الهوى وإحياء البدع، أو على نبذه سنة الله ورسوله وراء ظهره، إتمامه الصلاة في السفر أربعا مع الإمام، وإعادته إياها في منزله قصرا كما في موطأ مالك 1: 126 تقريرا للبدعة التي أحدثها عثمان في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واتبعه في أحدوثته رجال الشره والتره وحملة النزعات الأموية كابن عمر، وأبناء البيت الأموي كما فصلناه في الجزء الثامن ص 116. وأخرج أحمد في
____________
(1) صحيح البخاري 8: 76، صحيح مسلم 4: 179 - 183، مسند أحمد 2: 51، 61، 64، 74، 80، 128، 145.
(2) تاريخ الطبري 5: 34، كامل ابن الأثير 3: 27، الصواعق ص 62، فتح الباري 7:
54 وصححه.
(3) صحيح مسلم 4: 179.
(4) ذكرنا جملة منها في الجزء السادس ص 83 - 325 ط 2.
ومن نوادر فقهه ما أخرجه أبو داود في سننه 1: 289 من طريق سالم: إن عبد الله بن عمر كان يصنع يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد:
إن عائشة حدثتها: إن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قد كان رخص للنساء في الخفين فترك ذلك.
وأخرجه إمام الشافعية في كتابه " الأم، إن ابن عمر كان يفتي النساء إذا أحرمن أن يقطعن الخفين حتى أخبرته صفية عن عائشة أنها تفتي النساء أن لا يقطعن، فانتهى عنه.
وأخرجه البيهقي في سننه 5: 52 باللفظين، وأخرجه أحمد في مسنده 2: 29 بلفظ أبي داود.
والأمة كما حكى الزركشي في الاجابة ص 118 مجمعة على أن المراد بالخطاب المذكور في اللباس الرجال دون النساء وأنه لا بأس بلباس المخيط والخفاف للنساء.
* (ومنها) *: ما أخرجه الشيخان من أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من خلافة معاوية حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر بعد و كان إذا سئل عنها بعد قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. (1)
وفي التعليق على صحيح مسلم (2): قوله " وصدرا من خلافة معاوية " قد أغرب في وصف معاوية بالخلافة بعد ما وصف الخلفاء الثلاثة بالإمارة، وأسقط رابعهم من البين مع أن الخلافة الكاملة خصيصتهم، وعبارة البخاري: إن ابن عمر رضي الله عنه كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية وكان معاوية كما ذكره القسطلاني في باب صوم عاشوراء يقول: أنا أول الملوك. وقال المناوي في شرح حديث الجامع الصغير (الخلافة بالمدينة والملك بالشام) وهذا من معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم فقد كان كما أخبر، وقال في شرح حديثه (الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة): قالوا:
لم يكن في الثلاثين إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن (ثم ملك بعد ذلك) لأن اسم الخلافة
____________
(1) صحيح البخاري 4: 47، صحيح مسلم 5: 21، سنن النسائي 7: 46، 47، مسند أحمد 2: 6، سنن ابن ماجة 2: 87، سنن أبي داود 2: 91، سنن البيهقي 6: 130 واللفظ لمسلم.
(2) راجع صحيح مسلم 5: 22 من طبع محمد على صبيح وأولاده.
ولابن حجر حول الحديث كلمة أسلفناها في ص 24 من هذا الجزء.
قال الأميني: ألا تعجب من ابن خليفة شب ونمى وترعرع وشاخ في عاصمة الدين، في محيط وحي الله، في دار النبوة والرسالة، في مدرسة الاسلام الكبرى، بين ناشئة الصحابة وفي حجور مشيختهم، بين أمة عالمة استقى العالم من نمير علمهم، واهتدى الخلائق بنور هداهم، وبقي هذا الانسان في ظلمة الجهل إلى أخريات أيام معاوية، وعاش خمسين سنة بإجارة محرمة، وشد بها عظمه ومخه، ونبت بها لحمه وجلده، حتى حداه إلى السنة رافع بن خديج الذي لم يكن من مشيخة الصحابة وقد استصغره رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر؟ وكانت السنة في المحاقلة والمخابرة تروى في لسان الصحابة، وفي بعض ألفاظه شدة ووعيد مثل قوله صلى الله عليه وآله في حديث جابر: من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله (1) وجاءت هذه السنة في الصحاح والمسانيد بأسانيد تنتهي إلى جابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن ثابت (2).
وليت ابن عمر بعد ما علم الحظر فيما أشبع به طيلة حياته نهمته - وطبع الحال أنه كان يعلم بذلك ويرشد ويهدي أو يهلك ويغوي، وكان غيره يقتص أثره لأنه ابن فقيه الصحابة وخليفتهم الذي أوعزنا إلى موارد من فقهه وعلمه في نوادر الأثر في الجزء السادس - كان يسأل عن فقهاء الأمة أو عن خليفته معاوية عن حكم المال المأخوذ المأكول بالعقد الباطل.
أليس من الغلو الفاحش أو الجناية الكبيرة على المجتمع الديني أن يعد هذا الانسان من مراجع الأمة وفقهائها وأعلامها ومستقى علمها وممن يحتج بقوله و فعله؟ وهل كان هو يعرف من الفقه موضع قدمه؟ أنا لا أدري.
* (ومنها) *: ما أخرجه الدارقطني في سننه من طريق عروة عن عائشة أنه بلغها قول ابن عمر: في القبلة الوضوء. فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ثم
____________
(1) سنن البيهقي 6: 128.
(2) راجع سنن النسائي 3: 52، سنن البيهقي 6: 128 - 133.
* (ومنها) *: قوله في المتعة، والبكاء على الميت، وطواف الوداع على الحائض، والتطيب عند الاحرام. وستوافيك أخبارها.
ويعرب عن مبلغ الرجل من فقه الاسلام ما ذكره ابن حجر في فتح الباري 8: 209 من قوله: ثبت عن مروان أنه قال لما طلب الخلافة فذكر وآله ابن عمر فقال: ليس ابن عمر بأفقه مني ولكنه أسن مني وكانت له صحبة.
فما شأن امرء يكون مروان أفقه منه؟
ولعل نظرا إلى هذه وما يأتي من نوادر الرجل أو بوادره في الفقه ترى إبراهيم النخعي لما ذكر له ابن عمر وتطيبه عند الإحرام قال: ما تصنع بقوله؟ (1) وقال الشعبي: كان ابن عمر جيد الحديث ولم يكن جيد الفقه كما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 891 رقم التسلسل.
هذا رأي الشعبي وأما نحن فلا نفرق بين فقه الرجل وحديثه وكلاهما شرع سواء غير جيدان، بل حديثه أردى من فقهه، وردائة فقهه من ردائة حديثه، وكأن الشعبي لم يقف على شواهد سوء حفظه أو تحريفه الحديث فإليك نماذج منها:
1 - أخرج الطبراني من طريق موسى بن طلحة قال: بلغ عائشة أن ابن عمر يقول: إن موت الفجأة سخط على المؤمنين. فقالت: يغفر الله لابن عمر إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موت الفجاءة تخفيف على المؤمنين وسخط على الكافرين. الاجابة للزركشي ص 119.
2 - أخرج البخاري من طريق ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول فذكر ذلك لعائشة فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم حق.
وفي لفظ أحمد في مسنده 2: 31: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القليب يوم بدر فقال: يا فلان؟ يا فلان؟ هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ أما والله إنهم الآن ليسمعون كلامي. قال يحيى: فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن إنه وهم، إنما قال رسول
____________
(1) صحيح البخاري 3: 58، تيسير الوصول 1: 267.
3 - روى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ. قال أبو عبد الله: فتأول ناس في هذا الحديث وقالوا: العرش سريره الذي حمل عليه، واحتجوا بحديث رووه عن ابن عمر إنه تأوله، كذا حدثنا الجارود قال: حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر قال: ذكر يوما عنده حديث سعد: إن العرش يهتز بحب الله لقاء سعد قال ابن عمر: إن العرش ليس يهتز لموت أحد ولكنه سريره الذي حمل عليه. قال: فهذا مبلغ ابن عمر رحمه الله من علم ما القي إليه من ذلك، وفوق كل ذي علم عليم. إنتهى.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3: 606 ولفظه: قال ابن عمر: اهتز لحب لقاء الله العرش. يعني السرير قال: ورفع أبويه على العرش. تفسخت أعواده.
وأنت تعرف سخافة هذا التأويل مما أخرجه البخاري والحاكم في المستدرك من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اهتز عرش (1) الرحمن لموت سعد بن معاذ. فقال رجل لجابر: فإن البراء يقول: اهتز السرير. فقال إنه كان بين هذين الحيين الأوس والخزرج ضغائن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ (2). وأخرجه مسلم بلفظ: اهتز عرش الرحمن (3).
وفي فتح الباري 7: 98: قد جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ عن عشرة من الصحابة أو أكثر وثبت في الصحيحين فلا معنى لإنكاره.
4 - في كتاب " الانصاف " لشاه صاحب: روى ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فقضت عائشة عليه بأنه لم يأخذ الحديث على وجهه، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها فقال صلى الله عليه وسلم: إنهم يبكون عليها، وإنها تعذب في قبرها. وظن - ابن عمر - العذاب معلولا بالبكاء، وظن الحكم عاما على كل ميت.
____________
(1) فصل ابن حجر القول في معنى الحديث في فتح الباري 7: 97، 98.
(2) صحيح البخاري في المناقب ج 6: 3، مستدرك الحاكم 3: 207.
(3) صحيح مسلم 7: 150.
أسلفنا الحديث نقلا عن عدة صحاح ومسانيد في الجزء السادس ص 151 ط 1 وفصلنا هنالك القول حول المسألة.
5 - أخرج البخاري في كتاب الأذان من صحيحه ج 2: 6 عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم.
هذا الحديث مما استدركت به عائشة على ابن عمر وكانت تقول: غلط ابن عمر وصحيحه إن ابن مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، وبهذا جزم الوليد وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني من طريق منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرحمن.
وفي لفظ البيهقي في سننه 1: 382: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن مكتوم رجل أعمى فإذا أذن فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال. قالت: وكان بلال يبصر الفجر، وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر.
وقال ابن حجر: ادعى ابن عبد البر وجماعة من الأئمة بأنه مقلوب وأن الصواب حديث الباب - يعني لفظ البخاري - وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله: إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنكم، وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد. وأخرجه أحمد (1) وجاء عن عائشة أيضا: إنها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول: إنه غلط، أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي عن هشام عن أبيه عنها فذكر الحديث وزاد قالت عائشة: وكان بلال يبصر الفجر. قال: وكانت عائشة تقول:
____________
(1) في المسند 6: 186.
6 - أخرج أحمد في مسنده 2: 21 من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهر تسع وعشرون وصفق بيديه مرتين ثم صفق الثالثة وقبض إبهامه. فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن إنه وهم، إنما حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا فنزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول الله! إنك نزلت لتسع وعشرين فقال: إن الشهر يكون تسعا وعشرين. وفي ص 56: فقيل له فقال (صلى الله عليه وسلم): إن الشهر قد يكون تسعا وعشرين. ورواه أبو منصور البغدادي ولفظه: أخبرت عائشة رضي الله عنها بقول ابن عمر رضي الله عنه: إن الشهر تسع وعشرون فأنكرت ذلك عليه وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما هكذا قال رسول الله ولكن قال: إن الشهر قد يكون تسعا وعشرين (الاجابة للزركشي ص 120).
كان ابن عمر يعمل بوهمه هذا ويرى كل شهر تسعا وعشرين يوما وكان يقول: قال رسول الله: الشهر تسع وعشرون، وكان إذا كان ليلة تسع وعشرين وكان في السماء سحاب أو قتر أصبح صائما (1) 7 - أخرج الشيخان من جهة نافع قال: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تبع جنازة فله قيراط من الأجر. فقال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة فبعث إلى عائشة فسألها فصدقت أبا هريرة فقال ابن عمر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
وأخرج مسلم من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص إنه كان قاعدا عند عبد الله ابن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال: يا عبد الله بن عمر: ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تبعها حتى دفن كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد، فأرسل ابن عمر خبابا إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة. فضرب
____________