ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب | لدينا ولا يعبأ بقول الأباطل(1) |
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ربيع اليتامى عصمة للأرامل |
يطوف به(2) الهلاك من آل هاشم | فهم عنده في عصمة وفواضل |
إلى حيث قال:
كذبتم وبيت الله نسلم أحمدا | ولما نطاعن دونه ونقاتل(3) |
____________
(1) في الديوان وبعض المصادر:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب | لدينا ولا يعنى بقول الأباطل |
(2) في الديوان وبعض المصادر: يلوذ به.
(3) روي هذا البيت في المصادر باختلاف في بعض ألفاظه، منها:
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا | ولما نطاعن دونه و نناضل |
وفي النهاية: 125، واللسان 14: 73: يبزى، أي يقهر ويستذل ويغلب، وأراد: لا يبزى، فحذف (لا) من جواب القسم، والمراد أنه لا يقهر ولم نقاتل عنه وندافع.
ونسلمه حتى نصرع حوله | ونذهل عن أبنائنا والحلائل(1)(2) |
وفي هذه الأبيات أيضا بيان لمن تأملها في صحة ما ذكرناه من إخلاص أبي طالب رضي الله عنه، والولاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبذل غاية النصرة له، والشهادة بنبوته وتصديقه حسب ما ذكرناه.
وقد جاءت الأخبار متواترة لا يختلف فيها من أهل النقل اثنان، أن قريشا أمرت بعض السفهاء أن يلقي على ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلى(3) الناقة إذا ركع في صلاته، ففعلوا ذلك، وبلغ الحديث أبا طالب، فخرج مسخطا(4) ومعه عبيد له، فأمرهم أن يلقوا السلى عن ظهره صلى الله عليه وآله وسلم ويغسلوه، ثم أمرهم أن يأخذوه فيمروه على سبال(5) القوم، وهم إذ ذاك وجوه قريش، وحلف بالله أن لا يبرح حتى يفعلوا بهم ذاك، فما امتنع أحد منهم عن طاعته، وأذل جماعتهم بذلك وأخزاهم(6).
____________
(1) الحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة " المحاح - حلل - 4: 1673 ".
(2) إضافة إلى المصادر المتقدمة، راجع: صحيح البخاري 2: 75 السنن الكبرى 3: 352، دلائل النبوة للبيهقي: 6: 141، الخصائص الكبرى 1: 146 وص 208.
(3) السلى: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفا فيه " لسان العرب - سلا - 4: 396 ".
(4) خ ل: مغضبا.
(5) السبال: جمع السبلة، وهو الشارب " الصحاح - سبل - 5: 1724 ".
(6) الكافي 1: 373 / 30، تفسير القرطبي 6: 405.
وقد أجمع أهل السير أيضا ونقلة الأخبار أن أبا طالب رضي الله عنه لما فقد النبي صلى الله عليه وآله ليلة الاسراء، جمع ولده ومواليه، وسلم إلى كل رجل منهم مدية، وأمرهم أن يباكروا الكعبة، فيجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش ممن كان يجلس بفناء الكعبة، وهم يومئذ سادات أهل البطحاء، فإن أصبح ولم يعرف للنبي صلى الله عليه وآله خبرا أو سمع فيه سوءا، أومأ إليهم بقتل القوم، ففعلوا ذلك.
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد مع طلوع الشمس، فلما رآه أبو طالب قام إليه مستبشرا فقبل بين عينيه، وحمد الله عز وجل على سلامته، ثم قال: والله، يا ابن أخي، لو تأخرت عني لما تركت من هؤلاء عينا تطرف. وأومأ إلى الجماعة الجلوس بفناء الكعبة من سادات قريش ذلك.
ثم قال لولده ومواليه: أخرجوا أيديكم من تحت ثيابكم. فلما رأت قريش ذلك انزعجت له، ورجعت على أبي طالب بالعتب
____________
(1) في " أ ": ومنها شدة بدل (ودلالة على شدة).
ولم تزل قريش بعد ذلك خائفة من أبي طالب، مشفقة على أنفسها من أذى يلحق النبي صلى الله عليه وآله، وهذا هو النصر الحقيقي نابع عن صدق في الولاية، وبه ثبتت النبوة، وتمكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أداء الرسالة، ولولاه ما قامت الدعوة، ومن لم يعرف باعتباره إيمان صاحبه وعظم عناه في الدين، خرج من حد المكلفين.
على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل عزيزا ما كان أبو طالب حيا، ولم يزل به ممنوعا من الأذى، معصوما حتى توفاه الله تعالى، فنبت(2) به مكة، ولم تستقر له فيها دعوة، وأجمع القوم على الفتك به، حتى جاءه الوحي من ربه، فقال له جبرئيل عليه السلام: إن الله عز وجل يقرئك السلام، ويقول لك: اخرج عن مكة فقد مات ناصرك(4).
فخرج عليه السلام: هاربا مستخفيا بخروجه، وبيت أمير المؤمنين بدلا منه على فراشه، فبات موقيا له بنفسه، وسالكا بذلك منهاج أبيه رضي الله عنه في ولايته ونصرته، وبذل النفس دونه.
فكم بين من أسلم نفسه لنبيه، وشراها الله تعالى في طاعة نبيه صلى الله عليه وآله، وبين من حصل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمن وحرز، وهو لا
____________
(1) الطبقات الكبرى 1: 202، الحجة على الذاهب: 286.
(2) يقال: نبت بي تلك الأرض: أي لم أجد بها قرارا " لسان العرب - نبا - 15: 302 ".
(3) الحجة على الذاهب: 290 شرح نهج البلاغة 4: 70.
إن هذا لعجب في القياس وغفلة خصوم الحق عن فصل ما بين هذه الأمور حتى عموا فيها عن الصواب، وركبوا العصبية والعناد، لأعجب والله نسأل التوفيق.
ومما يؤيد ما ذكرناه من إيمان أبي طالب رضي الله تعالى عنه ويزيده بيانا، أنه لما قبض رحمه الله، آتى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فآذنه بموته فتوجع لذلك النبي صلى الله عليه وآله وقال: " امض يا علي، فتول غسله وتكفينه وتحنيطه، فإذا رفعته على سريره فأعلمني ".
ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، فلما رفعه على
____________
(1) الخور: الضعف " مجمع البحرين - خور - 3: 293 ".
(2) ضن بالشئ: بخل به " الصحاح - ضنن - 6: 2156 ".
ثم أقبل على الناس، فقال: " أما والله، لأشفعن لعمي شفاعة يعجب منها أهل الثقلين "(1).
وفي هذا الحديث دليلان على إيمان أبي طالب رضي الله عنه:
أحدهما:
أمر رسول الله عليا صلوات الله عليهما وآلهما بغسله وتكفينه دون الحاضرين من أولاده، إذ كان من حضره منهم سوى أمير المؤمنين إذ ذاك على الجاهلية، لأن جعفرا رحمه الله كان يومئذ ببلاد الحبشة، وكان عقيل وطالب حاضرين، وهما يومئذ على خلاف الاسلام، لا يسلم واحد منهما بعد، وأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام مؤمن بالله تعالى ورسوله، فخص المؤمن منهم بولاية أمره، وجعله أحق به منهما، لإيمانه ووفاقه إياه في دينه.
ولو كان أبو طالب رضي الله عنه مات على ما يزعم النواصب كافرا، كان عقيل وطالب أحق بتولية أمره من علي عليه الصلاة والسلام ولما جاز للمسلم من ولده القيام بأمره، لانقطاع العصمة بينهما.
وفي حكم رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه الصلاة والسلام به دونهما وأمره إياه بإجراء أحكام المسلمين عليه من الغسل والتطهير والتحنيط والتكفين والمواراة، شاهد صدق في إيمانه على ما بيناه.
والدليل الآخر:
دعاء النبي صلى الله عليه وآله [ له ](2) بالخيرات، ووعده
____________
(1) الحجة على الذاهب: 298، شرح نهج البلاغة 14: 77.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
وفي قوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه)(2).
وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ثبت أن أبا طالب رضي الله عنه مات مؤمنا، بدلالة فعله ومقاله، وفعل نبي الله صلى الله عليه وآله به ومقاله، حسبما شرحناه.
ويؤكد ذلك ما أجمع عليه أهل النقل من العامة والخاصة، ورواه أصحاب الحديث عن رجالهم الثقات من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل فقيل له: ما تقول في عمك أبي طالب، يا رسول الله، وترجو له؟ قال:
" أرجو له كل خير من ربي "(3).
فلولا أنه رحمة الله عليه مات على الإيمان لما جاز من رسول
____________
(1) سورة التوبة 9: 85.
(2) سورة التوبة 9: 115.
(3) الحجة على الذاهب: 94، شرح نهج البلاغة 14: 68، تاريخ الاسلام للذهبي 1: 138.
فصل
فأما قوله لم رضي الله عنه المنبه على إسلامه وحسن نصرته، وإيمانه الذي ذكرناه عنه، فهو ظاهر مشهور في نظمه المنقول عنه على التواتر والاجماع، وسأورد منه جزءا يدل على ما سواه، إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك قوله في قصيدته الميمية التي أولها:
ألا من لهم آخر الليل مقتم | طواني وأخرى النجم لما تقحم؟(1) |
إلى قوله:
أترجون أن نسخو بقتل محمد | ولم تختضب سمر العوالي(2) من الدم |
____________
(1) في الديوان: معتم بدل مقتم وكلاهما بمعنى واحد.
طواني: أقام عندي " لسان العرب - طوى - 15: 20 ".
وتقحم النجم: غاب " لسان العرب - قحم - 12: 463 ".
(2) العوالي: جمع عالية. وهي أعلى الرمح ورأسه، وقيل: العالية: القناة المستقيمة " لسان العرب - علا - 15: 87 ".
كذبتم وبيت الله حتى تفرقوا(1) | جماجم تلقى بالحطيم وزمزم |
وتقطع أرحام وتنسى حليلة | خليلا ويغشى محرم بعد محرم |
وينهض قوم في الحديد إليكم | يذودون عن أحسابهم كل مجرم |
على ما أتى من بغيكم وضلالكم | وعصيانكم في كل أمر ومظلم(2) |
بظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى | وأمر أتى من عند ذي العرش مبرم(3) |
فلا تحسبونا مسلميه ومثله | إذا كان في قوم فليس بمسلم(4) |
أفلا ترى الخصوم إلى هذا الجد من أبي طالب رضي الله عنه في نصرة نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتصريح بنبوته، والاقرار بما جاء من عند الله عز وجل، والشهادة بحقه، فيتدبرون ذلك أم على قلوب أقفالها؟!
____________
(1) في " أ ": تعرفوا، وفي شرح النهج: تفلقوا.
(2) في الديوان:
على ما مضى من بغيكم وعقوقكم | وغشيانكم في أمرنا كل مأثم |
(3) في الديوان وشرح النهج: قيم.
(4) ديوان أبي طالب: 29 - 31. شرح نهج البلاغة 14: 71.
تطاول ليلي بهم نصب | ودمع كسح السقاء السرب(1) |
للعب قصي بأحلامها | وهل يرجع الحلم بعد اللعب(2) |
إلى قوله رضي الله عنه:
وقالوا لأحمد أنت امرؤ | خلوف الحديث ضعيف النسب |
ألا إن أحمد قد جاءهم | بحق، ولم يأتهم بالكذب(3) |
وفي هذا البيت صرح بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله.
ومنه قوله رضي الله تعالى عنه:
____________
(1) سح: سال " الصحاح - سحح - 1: 373 ".
السرب: الذي يسيل منه الماء " الصحاح - سرب - 1: 147 ".
(2) ورد هذا البيت مصحفا في (1) هكذا:
بلغت قصي بأكلابها | وهل يرجع الحكم بعد اللعب؟! |
(3) ديوان أبي طالب: 25. مناقب ابن شهرآشوب 1: 66، الحجة على الذاهب: 245، شرح نهج البلاغة 14: 61.
أخلتم بأنا مسلمون محمدا | ولما نقاذف دونه بالمراجم(1) |
أمينا حبيبا في البلاد مسوما | بخاتم رب قاهر للخواتم(2) |
يرى الناس برهانا عليه وهيبة | وما جاهل في فضله مثل عالم(3) |
نبيا أتاه الوحي من عند ربه | فمن قال لا يقرع بها سن نادم(4) |
تطيف به جر ثومة(5) هاشمية | تذبب عنه كل باغ وظالم(6) |
ومنه قوله رضي الله تعالى عنه:
____________
(1) المراجم: قبيح الكلام، ولعل المراد هنا التقاذف بها يرجم به من السلاح " لسان العرب - رجم - 12: 228 " وفي شرح النهج: ونزاحم. ولم يرد هذا البيت في الديوان.
(2) في " أ ": للجراثم.
(3) في الديوان: وما جاهل أمرا كآخر عالم.
وفي شرح النهج: وما جاهل في قومه مثل عالم.
(4) قرع فلان أسنانه ندما أي حك بعضها على بعض حتى يسمع لها صوت غيظا وحنقا وندما " أنظر لسان العرب - قرع - 8: 264 و - حرق - 10: 44 ".
(5) جرثومة كل شئ: أصله ومجتمعه " لسان العرب - جرثم - 12: 95 ".
(6) ديوان أبي طالب: 32، شرح نهج البلاغة 14: 73
ألا أبلغا عني على ذات بينها | لؤيا وخصا من لؤي بني كعب |
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا | نبيا كموسى خط في أول الكتب |
وأن عليه في العباد محبة | ولا شك فيمن خصه الله بالحب(1) |
وفي هذا الشعر والذي قبله محض الإقرار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالنبوة، وصريحه بلا ارتياب.
ومن ذلك قوله رضي الله عنه:
ألا من لهم آخر الليل منصب | وشعب العصا من قومك المشعب |
إلى قوله:
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة | متى ما تخبر غائب القوم يعجب(2) |
محا الله منها كفرهم وعيوبهم | وما نقموا من باطل الحق مقرب(3) |
____________
(1) مناقب ابن شهرآشوب 1: 63، سيرة ابن هشام 1: 377، شرح النهج 14: 72، البداية والنهاية 3: 84، خزانة الأدب 1: 261.
(2) في الديوان: أتاك بها من غائب متعصب.
(3) في الديوان:
...................... وعقوقهم | وما نقموا من صادق القول منجب. |
فكذب(1) ما قالوا من الأمر باطلا | ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب |
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا | على سخط من قومنا غير معتب |
فلا تحسبونا مسلمين محمدا | لذي غربة منا ولا متغرب |
ستمنعه منا يد هاشمية | مركبها في الناس غير(2) مركب(3) |
وقال أيضا رضي الله عنه يحض حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه على اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله، والصبر على طاعته، والثبات على دينه:
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد | وكن مظهرا للدين وفقت صابرا |
نبي أتى بالدين من عند ربه | بصدق وحق لا تكن حمز كافرا |
فقد سرني إذ قلت: لبيك، مؤمنا | فكن لرسول الله في الدين ناصرا |
____________
(1) في الديوان: وأصبح.
(2) في الديوان والمناقب: خير.
(3) ديوان أبي طالب: 16، مناقب ابن شهرآشوب 1: 64.
وناد قريشا بالذي قد أتيته | جهارا، وقل: ما كان أحمد ساحرا(1) |
وليس وراء هذه الشهادة والاقرار بالنبوة والحث على اعتقادها بيان في إيمانه ولا بعده شبهة وليس غير ذلك إلا العناد ورفع الاضطرار، نعوذ بالله من الخذلان.
ومن ذلك قوله رضي الله تعالى عنه:
إذا قيل من خير هذا الورى | قبيلا، وأكرمهم أسره؟ |
أناف بعبد مناف أبي | أبو نضلة هاشم الغره(2) |
وقد حل مجد بني هاشم | مكان النعائم والزهره(3) |
وخير بني هاشم أحمد | رسول المليك على فتره(4) |
وهذا مطابق لقوله تعالى: (قد جاءكم رسولنا يبين لكم على
____________
(1) مناقب ابن شهرآشوب 1: 62، شرح نهج البلاغة 14: 76، الغدير 7: 357.
(2) أناف: ارتفع وأشرف، (لسان العرب - نوف - 9: 342 ".
أبو نضلة: كنية هاشم بن عبد مناف " الصحاح - نضل - 5: 1831 ".
(3) النعائم: منزل من منازل القمر " لسان العرب - نعم - 12: 586 ".
الزهرة: كوكب معروف " لسان العرب - زهر - 4: 332 ".