الصفحة 166
  • الثالثة:

    إنّ الأجواء السائدة لدى المسلمين في عهود الفتوحات الأُولى، وما كان لديهم من حماس ديني ملتهب، ومن قوّة نظر وإشراف في مراقبة الحكم والحاكم، بجانب عوامل أُخرى ـ نتعرّض لها كلّها ـ من إعداد وصنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانت سبب النصر والظفر والفتوحات.

    وبعبارة أُخرى: الخطّة المرسومة من القرآن الكريم والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)للمسلمين ولوظيفة الحكم من بعده، سواء على صعيد التقنين، أو على صعيد البناء الروحي للمسلمين، أو على صعيد البناء العسكري والقوّة الضاربة، أو على صعيد الوحدة الاجتماعية المترابطة، أو على صعيد بناء الدولة وأجهزة الحكم ; كانت تملي القيام بالجهاد وفتح البلدان.

    هذا كلّه بالإضافة إلى البريق النيّر الذي أوجده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الدين الإسلامي في أسماع الملل والأقوام المختلفة، من العدالة وكرائم الخلق في القانون والتنفيذ، ونشـدة الحقّ والنصفة..

    فإنّ نظرة تحليلية في الأُصول الاجتماعية والسياسية والقانونية التي كانت العرب تعيشها قبل البعثة النبويّة الشريفة مقارنة بالنظام الاجتماعي والسياسي والروحي والقانوني الذي بناه وأسّـسه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذه النظرة والمقارنة كفيلة لفهم أنّ القيادة في الفتوحات بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لم تكن تلعب ذلك الدور الخطير المؤثّر في الوصول إلى نتائج الفتوحات، سواء القيادة السياسية، أو القيادة العسكرية.

    ويستطيع القارئ أن يلمس ذلك من بعض النصوص التاريخية أو الروائية التي ذكرناها آنفاً، فضلا عمّا لو تتبّع واستقصى ذلك بنفسه من خلال كتب السير والتاريخ والحديث ; فإنّ سرّ الفوز بتلك النتائج يكمن في

    الصفحة 167
    عظمة النظام الذي بنى صـرحه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأصعدة المختلفة.

    وقد أشار إلى ذلك عدّة من الباحثين في حقل العلوم الإسلاميّة أو العلوم الإنسانية، ولنضرب الأمثلة لنماذج تلك العوامل المزبورة:

  • فأمّا رقابة المسلمين الشديدة على الحكم والحاكم، التي ربّاهم عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومحاسبتهم لكلّ صغيرة وكبيرة، وأنّ الظروف المحيطة بالحاكم والحكم ما كانت تسمح له بتغيير كلّ معالم النظام السياسي والاجتماعي والمعنوي الذي شيّده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ; فمن أمثلة ذلك:

    قـول عمـر بن الخطّاب لابن عبّـاس: لـو وليـها عثمان لحمـل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه(1).

    وفي نقل آخر عنه: لو ولّيتها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس، والله لو فعلت لفعل، ولو فعل لأوشكوا أن يسيروا إليه حتّى يجزّوا رأسـه(2)..

    وهذا ما حدث ; إذ ثار المسلمون على عثمان وقتلوه، بسبب الإثرة في السلطة وفي المال وفي مقدّرات المسلمين التي خصّـصها بذويه وعشـيرته وبني أُميّة.

    وهذه القوّة لرقابة الناس التي يصوّرها عمر في العقد الثالث الهجري فكيف هي في العقد الثاني، وفي أوائل العهد الذي تلا العهد النبوي؟!

    وقول عليّ (عليه السلام) لعثمان ; وقد كان في بيت المال بالمدينة سـفط فيه حلي وجوهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن

    ____________

    1- أنساب الأشراف 5 / 16.

    2- ذكره القاضي أبو يوسف في الآثار: 217.


    الصفحة 168
    عليه في ذلك، وكلّموه فيه بكلام شديد حتّى أغضـبوه فقال: هذا مال الله، أعطيه من شئت وأمنعه من شئت، فأرغم الله أنف من رغم..

    وفي لفظ آخر: لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام.

    فقال له عليّ (عليه السلام): إذاً تُمنع من ذلك ويُحال بينك وبينه(1).

    وقد صعد عمر المنبر يوماً وقال: لو صرفناكم عمّا تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم؟

    فأجابه عليّ (عليه السلام): إذاً كنّا نسـتتيبك، فإن تبت قبلناك.

    فقال: وإنْ لم؟

    قال: نضرب عنقك الذي فيه عيناك.

    فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأُمّة من إذا اعوججنا أقام أَودنا(2).

    والحاصل: إنّ أمثلة هذا العامل كثيرة جدّاً يجدها الباحث بمجرّد رجوعه إلى ذاكرته في أحداث العقود الهجرية الأُولى التي تلت العهد النبوي الأوّل.

    نعم، ليس المراد من وجود هذا العامل أنّه لم تكن للتكتّلات السياسية في صفوف الصحابة ـ من المهاجرين والأنصار، وائتلاف السقيفة، والبيت الهاشمي وأنصاره ـ أيّ دور، إمّا في تغيير وتبديل الخطّة

    ____________

    1- أنساب الأشراف 6 / 161.

    2- مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 98 ح 100.


    الصفحة 169
    المرسومة من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإمّا في المحافظة على بقائها ; إذ الأُمور نسبية، وإنّما الغرض بيان الجانب الغالب.

  • وأمّا تعيين وظيفة المسلمين والدولة من قبل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن الفتوحات ; فقد كان إخبار النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بفتح المسلمين لفارس والروم وسقوط ملك كسرى وقيصر على أيديهم، إخباراً ملأ آذان المسلمين في مواقع عديدة أنبأ فيها بذلك، كما في حفر الخندق في غزوة الأحزاب(1)وغيره، وقد كان وعداً قطعياً منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك للمسلمين، وهذا الوعد الصادق استيقن به المسلمون، كما رأوا صدق الوعود منه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل، وكان هذا باعثاً للأمل ولقوّة الروح فيهم التي لا تستجيب لليأس أو الخوف.

    كما إنّ تعيين القرآن الكريم والنبيّ الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الوظيفة للمسلمين كان بياناً لمشروعية الجهاد في نفسه لدى العديد ممّن لم ير مشروعية لِما نتج عن بيعة السقيفة.

    ولقد كان في أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في أيّامه الأخيرة ـ بتجهيز جيش أُسامة، وحثّه على إنفاذه، ولعنه من تخلّف عنه، دلالة على مدى العناية الشديدة التي كان يوليها (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمر الجهاد.

  • وأما روح الفداء وطلب الشهادة والتضحية، والتعطّش لدرجات الآخرة والرضوان ; فقد كانت ما تزال ملتهبة بفضل أنوار النبوّة وقرب العهد من الوحي، ومشاهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الحيّة في أذهانهم، ووقائع الغزوات الكبرى في الإسلام، التي خلّدت أسماء نجوم الشهادة، فلم تكن هناك تعبئة من القيادة السياسية أو العسكرية للجهاد بقدر ما كانت محاولة تدبير

    ____________

    1- انظر: تاريخ الطبري 2 / 92.


    الصفحة 170
    للحالة الاندفاعية الموجودة والحماس الملتهب.

  • الرابعة:

    سبب إخفاق الفتوح عن الوصول إلى الوعود الإلهيّة ; فإنّ المحاولة في التدبير هي التي أضفت لوناً على الجهاد والفتوح، وغيّرت من خلق وغايات هذا الباب، وساهمت في تقليل حيوية عوامله ومعدّاته، على نحو تدريجي، بسبب الممارسات التي ارتكبت، سواء بالإضافة إلى البلدان المفتوحة وأهاليها، أو بالإضافة إلى الرموز الخاصّة من القيادات العسكرية وغيرها، ممّن كانت تربطه بالسلطة علائق معينة، وسواء على صعيد المال أو الأعراض أو النفوس..

    مضافاً إلى إنّ الانفتاح على الأقوام الأُخرى كان يتطلّب كفالة شرعية من مختلف الجوانب الروحية والعلمية والتربوية والقانونية والسياسية، وغيرها من الجوانب التي لم تكن القيادة المركزية مؤهّلة لتلك المهمّة في ظلّ التحديد والحصار لدور الإمام عليّ (عليه السلام)، حامل علم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقيّم الثاني المبيّن للدين، والوزير لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تأسيس الدعوة وتشييدها حتّى آخر لحظات حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)..

    بسبب كلّ هذا لم يُكتب للوعد الإلهي في قوله تعالى: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون )(1)، الذي تكرّر في ثلاث سور ـ وغيره من الوعود الإلهيّة، كقوله تعالى: ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذِكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون )(2)، ووعده تعالى في قوله: ( ونريد أن نمنّ على

    ____________

    1- سورة التوبة 9: 32، وسورة الفتح 48: 28، وسورة الصفّ 61: 9.

    2- سورة الأنبياء 21: 105.


    الصفحة 171
    الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين )(1)، وقوله سبحانه: ( أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض )(2) ـ التحقّق في العاجل.

  • الخامسة:

    الاهتراء الداخلي الذي بدأ عدّه العكسي وأخذ يدبّ في جسد الأُمّة ووحدة المسلمين ; وقد حذّر منه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في طوائف من الحديث، نظير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أشرف على أطم من آطام المدينة: " هل ترون ما أرى؟! ".

    قالوا: لا.

    قال: " فإنّي لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر "(3).

    وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما استيقظ من النوم محمرّاً وجهه: " لا إله إلاّ الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب "(4).

    وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هلكة أُمّتي على يدي غِلمة من قريش " فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة ; رواه البخاري، عن ابن سعيد، عن جدّه، وقال: فكنت أخرج مع جدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى أن يكونوا منهـم(5)..

    وقال ابن حجر في فتح الباري ـ بعد نقل الحديث ; إذ ذكر البخاري

    ____________

    1- سورة القصص 28: 5.

    2- سورة النمل 27: 62.

    3- صحيح البخاري 9 / 86 ح 11 كتاب الفتن ب 4، ورواه مسلم أيضاً في صحيحه 8 / 168.

    4- صحيح البخاري 9 / 86 ح 10 كتاب الفتن ب 4.

    5- صحيح البخاري 9 / 85 ح 9 كتاب الفتن ب 3.


    الصفحة 172
    تتمّة له من لعن مروان لأُولئك الغلمة ـ: تنبيه: يتعجّب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع إنّ الظاهر أنّهم من وُلده، فكأنّ الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشـدّ في الحجّة عليهم لعلّهم يتّعظون، وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني(1).

    وقد رواه مسلم في صـحيحه، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " يهلك أُمّتي هذا الحيّ من قريش ".

    قالوا: فماذا تأمرنا؟

    قال: " لو أنّ الناس اعتزلوهم "(2).

    قال النووي ـ في شرحه بعد مطابقته بين الروايتين ـ: إنّ المراد برواية مسـلم طائفـة من قريـش، وهذا الحديث من المعجزات، وقد وقع ما أخبـره (صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

    وقد تقدّم أنّ أبا بكر ابتدأ بتولية ابن أبي سفيان، وقد أمن بذلك من مواجهة أبي سفيان لتنصيبه في السقيفة.

    وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، ليُرفعنّ إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت لأُناولهم اختُلجوا دوني، فأقول: أيّ ربّ أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك "(4).

    وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، ليردنّ علَيَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثمّ

    ____________

    1- فتح الباري 13 / 13 ذ ح 7058.

    2- صحيح مسلم 8 / 186 كتاب الفتن.

    3- صحيح مسلم بشرح النووي 18 / 35 ح 2917.

    4- صحيح البخاري 9 / 83 ح 2 كتاب الفتن ب 1.


    الصفحة 173
    يحال بيني وبينهم، أقول: إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي "(1).

    قال ابن حجر في فتح الباري: إنْ كانوا ممّن لم يرتدّ لكن أحدث معصية كبيرة من أعمال البدن أو بدعة من اعتقاد القلب ; فقد أجاب بعضهم بأنّه يحتمل أن يكون أعرض عنهم ولم يشفع لهم اتّباعاً لأمر الله فيهم حتّى يعاقبهم على جنايتهم، ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته لأهل الكبائر من أُمّته فيخرجون عند إخراج الموحّدين من النار، والله أعلم(2).

    وقد تواصل هذا الاهتراء في نظام الحكم إلى أن وصل إلى الحالة التي أشرنا إليها في عهد عثمان، فقد أعطى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ـ أخاه من الرضاعة ـ الخمس من غنائم إفريقية في غزوها الأوّل(3).

    قال البلاذري في الأنساب: لمّا قدم الوليد ـ ابن عقبة بن أبي معيط ابن أبي عمرو بن أُميّة، الذي نزلت فيه آية: ( إن جاءكم فاسق بنبإ )(4) ـ الكوفة ألفى ابن مسعود على بيت المال، فاستقرضه مالا، وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثمّ تردّ ما تأخذ، فأقرضه عبـد الله ما سأله، ثمّ إنّه اقتضاه إيّاه، فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبـد الله بن مسعود: إنّما أنت خازن لنا، فلا تعرض للوليد في ما أخذ من المال..

    فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال: كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين،

    ____________

    1- صحيح البخاري 9 / 83 ح 3 كتاب الفتن ب 1.

    2- فتح الباري 13 / 5 ذ ح 7050 و 7051.

    3- تاريخ ابن كثير 7 / 152، أنساب الأشراف 5 / 26، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 67.

    4- سورة الحجرات 49: 6.


    الصفحة 174
    فأمّا إذ كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك. وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال(1).

    حتّى آل الأمر إلى ليالي بني أُميّة وبني العبـّاس ونظام حكمهم، وعن السيّدة عائشة: إنّ الخلافة سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر(2).

    وروى البخاري، عن أيّوب، عن نافع، قال: لمّا خلع أهل المدينة يـزيد بـن معاويـة جمـع ابـن عمر حشـمه وولـده فـقال: إنّي سـمعت النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة، وإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإنّي لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثمّ ينصب له القتال، وإنّي لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلاّ كانت الفيصل بيني وبينه(3).

    وقد قتل يزيد في العام الأوّل من خلافته سبط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)..

    وفي العام الثاني استباح المدينة المنوّرة وأهلها ونساءها..

    وفي العام الثالث رجم الكعبة..

    بل إنّه أمر بأخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء ; مع إنّ البخاري روى في صحيحه، عن ابن عمر، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة... "(4).

    ____________

    1- أنساب الأشراف 5 / 30، ولاحظ: العقد الفريد 2 / 272 ; وغيرها من الأرقام التي سطّرتها الكتب والسير من هذا القبيل.

    2- الدرّ المنثور 6 / 19.

    3- صحيح البخاري 9 / 103 ح 55 كتاب الفتن ب 21.

    4- صحيح البخاري 9 / 113 ح 8 كتاب الأحكام / باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية / باب 4.


    الصفحة 175

  • السادسة:

    من كلّ ما سبق يتّضح جليّاً سرّ تركيز عليّ (عليه السلام) في عهده الذي تسلّم فيه مقاليد الأُمور على إصلاح الداخل والبناء الذاتي ; إذ كيف يدعو الآخرين من الملل الأُخرى إلى الدين، وأبناء الدين الإسلامي أنفسهم لا يعملون به؟! وعطّلوه ومحوا رسومه التي كانت على عهد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنطق القرآن: ( يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )(1)..

    و ( أتأمرون الناس بالبرّ وتنسـون أنفسكم وأنـتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )(2)..

    وقال تعالى: ( واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أنّ الله شديد العقاب * واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيّبات لعلّـكم تشكرون * يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنة وأنّ الله عنده أجرٌ عظيمٌ )(3).

    وذكر ابن حجر في فتح الباري في شرح كتاب الفتن، الذي صدّره البخاري بالآية، قال: أخرج الطبري من طريق الحسن البصري، قال: قال الزبير: لقد خُوِّفنا بهذه الآية ونحن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما ظننّا أنّا

    ____________

    1- سورة الصفّ 61: 2 و 3.

    2- سورة البقرة 2: 44.

    3- سورة الأنفال 8: 25 ـ 28.


    الصفحة 176
    خُصصنا بها..

    وقال: عند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّـاس، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم ; فيعمّهم العذاب.

    ولهـذا الأثـر شـاهد مـن حـديث عـديّ بـن عميـرة: سـمعـت رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إنّ الله عزّ وجلّ لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتّى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصّة والعامّـة "(1).

    فإذا لم يحكم العدل في ما بين المسلمين فكيف يطالب غيرهم به؟! وقد روي ـ ما مضمونه ـ: إنّ قائلا قال للإمام السجّاد عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): أتركت الجهاد في الثغور وخشونته وأقبلت على الحجّ ونعومته؟! وقد قال تعالى: ( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )(2).. الآية.

    فقال له زين العابدين (عليه السلام): " أكمل الآية ".

    فقال: ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود

    ____________

    1- فتح الباري 13 / 4 ح 7048.

    2- سورة التوبة 9: 111.


    الصفحة 177
    الله وبشّر المؤمنين )(1).

    فقال له زين العابدين (عليه السلام): " إذا وجدتُ مَن هم بهذا الوصف فنحن نجاهد معهم "..

    ويا له من شرط صعب! الحفظ لحدود الله!

    ولقد خطب الإمام عليّ (عليه السلام) في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: " ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال ; فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوّج به النساء، وفرّق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحقّ فالجور عنه أضيق "(2).

    فسيف عليّ (عليه السلام) الذي أُقيم به صرح الإسلام، وشُيّد به دعائم الدولة الإسلاميّة، عاد مرّة أُخرى لإزالة الأود والعوج الذي حصل في نظام المسلمـين السياسي والاجتماعي، وبناء النموذج الداخلي المثالي للدعوة إلى الإسلام.

    بل إنّ عليّـاً (عليه السلام) أقام ـ قبل تسلّمه مقاليد الأُمور ـ مرابطاً في الخندق العلمي لوجه الدين الإسلامي، أمام تحدّيات المسائل الحرجة التي ابتليت بها الأُمّة ولم يكن لها من يطّلع على حكم الشريعة فيها، وقد ذكرت المصادر التاريخية الكثير من الموارد لذلك، وكذا أمام تحدّي الملل والنحل الأُخرى(3).

    ____________

    1- سورة التوبة 9: 112.

    2- شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 90، السيرة الحلبية 2 / 87.

    3- لاحظ: ما أخرجه الحافظ العاصمي في كتابه: زين الفتى في شرح سورة (هل أتى)، في وفد النصارى وأسئلتهم لأبي بكر، وغير ذلك من الوقائع.


    الصفحة 178

  • السابعة:

    وننتهي في الفتوحات إلى هذه النقطة: وهي أنّ عقدة الملل الأُخرى ـ لا سيّما الغربيّين ـ النفسية والذهنية تجاه الدين الإسلامي، وعدم إقبالهم عليه، وعدم البحث عن حلّ لمشاكلهم من منظار ديننا ـ وإن كان له أسباب متعدّدة صاغها أعداء الإسلام والمسلمين ـ مضافاً إلى النفسية العدوانية، والعقلية الاستعلائية التي تصعّر بخدّهم ; إلاّ إنّ شطراً مهمّاً من تلك الأسباب هي ممارسات المسلمين أنفسهم، وبالخصوص والتحديد هي رواسب الممارسات التي وقعت في فتوحات البلدان..

    فإنّ سلبيّات كيفية الأداء في هذه الفتوحات وما رافقها من تجاوز للموازين الدينية المقرّرة، التي تحافظ على روح خُلق الشريعة، فإنّ الحفظ لحدود الله تعالى في باب الجهاد وغيره هو الكفيل الأمثل لدخول الناس أفواجاً في دين الله تعالى، والموجب لتحقّق الوعد الإلهي ـ الذي تأخّر إلى هذا اليوم ـ بإظهار الإسلام في كافّة أرجاء المعمورة.

    ونلـخّص ما تقدّم في الحلقات السابقة من هذا الموضوع بجملة مختصرة، وهي: إنّ البحث عن " عدالة الصحابة " لا بُـدّ من التعمّق فيه، ورفع الإجمال الذي يكتنفه..

    هل المراد به: كلّ الصحابة، أم بعضهم؟!

    ومـن هـم أُولئك البعض؟! هل هم تكتّل بيـعة السـقيفة ورمـوزها، أم يشمل سـعد بن عبادة والأنصار والبيت الهاشمي وعليّـاً (عليه السلام) وسلمان وأبا ذرّ والمقداد وعمّاراً، وغيرهم ممّن كان في تكتّل عليّ (عليه السلام)؟!

    فهل الدائرة هي بحسب ما يُذكر في تعريف الصحابي، أم أضيق؟!

    ثمّ ما المراد بالعدالة؟! هل هي بمعنى الإمامة في الدين؟!

    وما المراد بحجّية قول وعمل الصحابي؟! هل هي بمعنى العصمة؟!


    الصفحة 179
    أم بمعنى حجّية الفتوى كمجتهدين، مثل بقية المجتهدين، بحدود اعتبار الاجتهاد وضوابط موازينه الشرعية؟!

    وعلى هذا، فلِمَ لا يحتمل القائل خطأ أصحاب السقيفة في بيعتهم، وخطأ اجتهادهم مع وجود النصَّين القرآني والنبوي على إمامة عليّ (عليه السلام)؟!

    ولِـمَ يدّعي القائل امتناع احتمال ذلك؟!

    وكيف يبيّن الملازمة بين فضيلة الشيخين، وبين امتناع خطأ اجتهادهما، بعد فرض تسليمه بعدم عصمتهما؟!

    وإذا كانت المسألة اجتهاديّة فلم لا يسوّغ الاجتهاد المخالف؟!

    أم هي بمعنى حجّية روايتهم كرواة ثقات، بحدود حجّيّة قول الراوي في الخبر؟!

    ثمّ ما هو الغرض المترتّب على سـدّ الحديث والكلام عمّا وقع منهم وبينهم؟!

    وكيف يتلاءم ذلك مع دعوى الاقتداء بهم، إذا لم تعرف سيرتهم وأعمالهم؟!

    ونذيّـل المقال ببعض الأحاديث التي ذكرها أصحاب الصحاح:

    1 ـ روى البخاري في صحيحه، عن أبي وائل، عن حذيفة بن اليمان، قال: إنّ المنافقين اليوم شرّ منهم على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانوا يومئذ يسرّون واليوم يجهرون(1).

    وهو مثار سؤال واجه كثيراً من الباحثين في التاريخ الإسلامي ; إذ أنّ

    ____________

    1- صحيح البخاري 9 / 104 ح 56 كتاب الفتن ب 21.


    الصفحة 180
    القرآن الكريم في سوره المباركة أشار إلى مشكلة كبيرة وخطيرة كانت قائمة تواجه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، وهي أصناف وطوائف المنافقين، وقد أشرنا في ما سبق إلى بعض تلك السور الكريمة، ولا يفتأ القرآن يتابعهم في كلّ خطواتهم، التي كانت خطيرة على أوضاع المسلمين حتّى آخر حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)..

    ولكن فجأة لا يرى الباحث في التاريخ وجوداً لهذه المشكلة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)! فهل إنّ أفراد طوائف ومجموعات النفاق قد تابوا وآمنوا بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! أم إنّ الوضع ـ كما يصفه حذيفة بن اليمان، الخبير بمعرفة المنافقين، كما في روايات الفريقين، والذي شهد مؤامرة العقبة التي دُبّرت في غزوة " تبوك " لاغتيال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ عاد مؤاتياً لتحرّكهم وفسح المجال لهم بالجهر بمقاصدهم التي يحيكونها ضـدّ الإسـلام؟!

    2 ـ وروى أيضاً، عن أبي الشعثاء، عن حذيفة، قال: إنّما كان النفاق على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأمّا اليوم فإنّما هو الكفر بعد الإيمان(1).

    3 ـ وروى مسلم في صحيحه، عن قيس، قال: قلت لعمّار: أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر عليّ، أرأياً رأيتموه، أو شيئاً عهده إليكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

    فقال: ما عهد إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً لم يعهده إلى الناس كافّة، ولكنّ حذيفة أخبرني، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): في أصحابي اثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في

    ____________

    1- صحيح البخاري 9 / 104 ح 58 كتاب الفتن ب 21.


    الصفحة 181
    سمّ الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة ; وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم.

    والذيل من قول الراوي عن شعبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيـس(1).

    وروى مثله بطريق آخر(2).

    وما قاله عمّار بيّن ; لأنّ تنصيب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ (عليه السلام) يوم الغدير كان على ملأ الناس الراجعين من حجّة الوداع، وغيرها من المواطن الأُخرى، وإنّما أراد عمّار بيان أنّ مناوئي عليّ (عليه السلام) وخصومه كان حذيفة قد عدّهم من الاثني عشر منافقاً الّذين يمتنع دخولهم الجنّة.

    4 ـ وروى بعد الحديثين السابقين، عن أبي الطفيل، قال: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أُنشدك بالله، كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك!

    قال: كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أنّ اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد(3).. الحديث.

    5 ـ وروى مسلم، عن ابن عمر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عند باب حفصة، فقال بيده نحو المشرق: " الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان " قالها مرّتين أو ثلاثاً(4).

    ____________

    1- صحيح مسلم 8 / 122 كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

    2- صحيح مسلم 8 / 122 كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

    3- صحيح مسلم 8 / 123 كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

    4- صحيح مسلم 8 / 181 كتاب الفتن وأشراط الساعة.


    الصفحة 182
    وقال عبيـد الله بن سعيد في روايته: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند باب عائشة(1)..

    وروى عن ابن عمر، قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان. يعني المشرق. والذيل من تفسير الراوي(2).

    6 ـ وروى أيضاً، عن أبي سعيد الخدري، قال: أخبرني من هو خير منّي، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمّار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: بؤس ابن سميّة، تقتلك فئة باغية. وفي طريق: ويس أو: يا ويس ابن سميّة(3)..

    قال النووي في شرح الحديث: قال العلماء: هذا الحديث حجّة ظاهرة في أنّ عليّـاً (رضي الله عنه) كان محقّـاً مصيباً، والطائفة الأُخرى بغاة، لكنّهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك، كما قدّمناه في مواضع، منها هذا الباب..

    وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أوجه، منها:

    إنّ عمّاراً يموت قتيلا، وإنّه يقتله مسلمون، وإنّهم بغاة، وإنّ الصحابة يقاتلون، وإنّهم يكونون فرقتين: باغية وغيرها، وكلّ هذا وقع مثل فلق الصبح، صلّى الله وسلّم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى(4).

    وروى بطرق أربعة أُخرى ما يقرب من ألفاظ هذا الحديث من أنّ

    ____________

    1- صحيح مسلم 8 / 181 كتاب الفتن وأشراط الساعة.

    2- صحيح مسلم 8 / 181 كتاب الفتن وأشراط الساعة.

    3- صحيح مسلم 8 / 185 ـ 186 كتاب الفتن وأشراط الساعة.

    4- صحيح مسلم بشرح النووي 18 / 34 ح 2916.