الصفحة 200

موقف الإمام عليّ (عليه السلام) تجاه الصحبة والصحابة


ورد فـي كتاب للإمام عليّ (عليه السلام) إلى معاويـة ـ جواباً على كتاب له ـ مـا نصّه: " كان أشدّ الناس عليه [ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ] تأليباً وتحريضاً هم أُسرته، والأدنى فالأدنى من قومه إلاّ قليلا ممّن عصمه الله منهم..

وأنّ الله اجتبى لرسول الله من المسلمين أعواناً أيّده بهم، فكانوا في منازلـهم عنـده على قـدر فضائلهم فـي الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام ـ كما زعمت ـ وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة الصدّيق، ومن بعده خليفة الخليفة الفاروق ".

ثمّ قال: " وما أنت والصدّيق؟! فالصدّيق من صدّق بحقّنا وأبطل باطل عدوّنا، وما أنت والفاروق؟! فالفاروق من فرّق بيننا وبين عدوّنا.

وذكرت أنّ عثمان بن عفّان كان في الفضل ثالثاً، فإن يكن عثمان محسناً فسيجزيه الله بإحسانه، وإن يك مسيئاً فسيلقى ربّاً غفوراً لا يتعاظمه ذنب أن يغفره.

ولعمر الله، إنّي لأرجو إذا أعطى الله المؤمنين على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ولرسوله أن يكون نصيبنا أهل البيت في ذلك الأوفر.

إنّ محمّـداً (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد له كنّا أهل البيت أوّل من آمن به وصدّق بما جاء به، فلبثنا أحوالا كاملة مُجَرَّمَةً تامّةً وما يَعبد الله في رَبْع ساكن من العرب أحدٌ غيرُنا، فأراد قومنا قتل نبيّنا، واجتياح أصلنا، وهمّوا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا الميرة، وأمسكوا عنّا العذْب، وأحلسونا الخوف، واضطـرّونا إلى جبل وعر، وجعلوا علينا

الصفحة 201
الأرصـاد والعيـون، وأوقـدوا لنـا نار الحـرب، وكـتبوا علينـا بـينهم كـتاباً: لا يؤاكلوننا، ولا يشاربـوننا، ولا يناكحوننا، ولا يبايعوننا، ولا يكلّموننا، ولا نأمن فيهم حتّى ندفع إليهم نبيّنا محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقتلوه ويمثّلوا به ; فلم نكن نأمن فيهم إلاّ من موسم إلى موسم..

فعزم الله لنا على منعه، والذبّ عن حوزته، والرمي من وراء حرمته، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف، وبالليل والنهار ; فمؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامي عن الأصل.

وأمّا من أسلم من قريش بعد، فإنّه خلوٌّ ممّا نحن فيه بحلْف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه، فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف، فهو من القتل بمكان نجوة وأمن ; فكان ذلك ما شاء الله أن يكون.

ثمّ أمر الله تعالى رسوله بالهجرة، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا احمرّ البأس، ودعيتْ نزال، وأحجم الناس قدّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرّ السيوف والأسنّة، فقُتل عبيـدة ابن الحارث يوم بدر، وقُتل حمزة يوم أُحد، وقُتل جعفر وزيد يوم مؤتة، وأسلمَ الناسُ نبيَّهم يوم حنين غير العبّـاس عمّه وأبي سفيان بن الحارث بن عبـد المطّلب ابن عمّه، وأراد من لو شئت يا معاوية ذكرتُ اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مرّة، ولكنّ آجالهم عُجّلت ومنيّته أُجّلت، والله وليّ الإحسان إليهم، والمنّان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات.

وأيم الله ما سمعت بأحد ولا رأيت من هو أنصح لله في طاعة رسوله، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربّه، ولا أصبر على اللأواء والضرّاء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من هؤلاء النفر من أهل بيته

الصفحة 202
الّذين سمّيت لك، وفي المهاجرين خير كثير نعرفه جزاهم الله خيراً بأحسن أعمالهم.

وذكرتَ حسدي على الخلفاء، وإبطائي عنهم، وبغيي عليهم..

فأمّا الحسد والبغي عليهم، فمعاذ الله أن أكون أسررته أو أعلنته، بل أنا المحسود المبغي عليه.

وأمّا الإبطـاء عنهـم والكراهـة لأمرهم، فإنّي لسـت أعتذر منه إليـك ولا إلى الناس ; وذلك لأنّ الله جلّ ذِكره لمّا قبض نبيّه محمّـداً (صلى الله عليه وآله وسلم)اختلف الناس، فقالت قريش: منّا الأمير، وقالت الأنصار: منّا الأمير ; فقالت قريش: منّا محمّـد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنحن أحقّ بالأمر منكم ; فعرفت ذلك الأنصار فسلّمت لقريش الولاية والسلطان..

فإذا استحقّوها بمحمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الأنصار، فإنّ أوْلى الناس بمحمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) أحقّ بها منهم، وإلاّ فإنّ الأنصار أعظم العرب فيها نصيباً.. فلا أدري أصحابي سلّموا من أن يكونوا حقّي أخذوا، أو الأنصار ظلموا؟!

بل عرفت أنّ حقّي هو المأخوذ... "(1).

ويتّضح من كلامه (عليه السلام) إنّ الصدق والصدّيقية في الصحبة والصحابة إنّما هي بالإقامة على العدل والوفاء بمواثيق الله ورسوله التي أُخذت في الكتاب والسُـنّة عليهم، وهي التسليم لأهل البيت بالولاية والمودّة، وإنّهم ولاة الفيء والأنفال والخمس، وإنّهم الثقل الثاني الواجب التمسّك بهم

____________

1- نهج البلاغة: كتاب 49. ط مؤسّـسة الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) ـ تحقيق السـيّد الموسوي ـ، وهي الطبعة المعتمدة في التخريجات اللاحقة ; وقد ذكر للكتاب ولبعض ما ورد فيه مصادر أُخرى عديدة من كتب الفريقين.

وانظر: شرح نهج البلاغة 15 / 74 ـ 78 آخر شرح الكتاب 9، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 4 / 172 ـ 186 الكتاب 70.


الصفحة 203
أعدال الكتاب، فيتولّى أهل البيت ويبرأ من أعدائهم..

والفاروق من يميّز بين الحقّ الثابت لأهل البيت وبين الباطل الذي عند عدوّهم.

وإنّ أشدّ الناس عناءً وبلاءً وجهداً في الجهاد والذبّ عن حوزة وحومة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هم أهل بيته، وإنّهم أوّل الناس إيماناً به قبل أن يؤمن به أصحابه من قريش أو الأنصار، فقد سبق أهل البيت جميع الصحابة سنيناً وأعواماً، وهم الّذين تحمّلوا أعباء الرسالة في المرتبة الأُولى، وهم الّذين قدّموا الشهداء في الصفوف الأُولى، فلا تشهد الحروب لأبي بكر وعمر وعثمان وبقيّة الصحابة من قريش ممّن اجتمع في السقيفة أو الأنصار ثباتاً في حرب، كيوم حنين وغيرها.

فأهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هم أنصح وأطوع وأصبر لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)وهم مع ذلك أقرب للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحقّ الناس بخلافته.

وقال (عليه السلام) في كتاب آخر له إلى معاوية ـ جواباً على كتابه الذي ذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) لدينه، وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه ـ: " فلقد خبّأ لنا الدهر منك عجباً ; إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا، ونعمته علينا في نبيّنا محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر، أو داعي مُسدّدِه إلى النضال...

وزعمت أنّ أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرتَ أمراً إنْ تمّ اعتزلك كلّه، وإنْ نقص لم يلحقك ثلمه.

وما أنت يا بن هند والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس؟!

وما للطلقاء وأبناء الطلقاء، والأحزاب وأبناء الأحزاب، والتمييز بين المهاجرين الأوّلين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟!


الصفحة 204
هيهات، لقد حنّ قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها!

ألا تربع ـ أيّها الإنسان ـ على ظَلْعِك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر؟! فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر، وإنّك لذهّاب في التيه، روّاغ عن القصـد.

ألا ترى ـ غير مُخبِر لك، ولكن بنعمة الله أُحدّث ـ أنّنا قد فزنا على جميع المهاجرين كفوز نبيّنا محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) على سائر النبيّين؟!

أَوَلا ترى أنّ قوماً استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ولكلّ فضل، حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل: سيّد الشهداء، وخصّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه، ووضعه بيده في قبره؟!

أَوَلا ترى أنّ قوماً قُطّعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل، حتّى إذا فُعل بواحدنا ما فُعل بواحدهم قيل: الطيّار في الجنّة وذو الجناحين؟!

أَوَلا ترى أنّ مسلمنا قد بان في إسلامه كما بان جاهلنا في جاهليّته، حتّى قال عمّي العبّـاس بن عبـد المطّلب لأبي طالب:

أبا طالب! لا تقبل النَصف منهم وإنْ أنصفوا حتّى نُعقّ ونُظلما
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفتْ صوارم في أيماننا تقطر الدما
تركناهم لا يستحلّون بعدها لذي حرمة في سائر الناس مُحْرَما(1)

ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة،

____________

1- أوردها ابن عساكر في تاريخه 26 / 285 وزاد عليها غيرها، وفي تصحيفات المحدثين: 139 ذكر البيتـين الأوّليـين.


الصفحة 205
تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجّها آذان السامعين.

فدع عنك يابن هند من قد مالت به الرمِيّة! فإنّا صنائع ربّنا، والناس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزّنا، ولا عاديُّ طَوْلنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء، ولستم هناك..

وأنّى يكون ذلك كذلك؟! ومنّا المشكاة الزيتونة ومنكم الشجرة الملعـونـة، ومـنّا النـبـيّ ومنكـم المكـذّب، ومـنّا أسـد الله ومنكـم طـريـد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنّا هاشم بن عبـد مناف ومنكم أُميّة كلب الأحلاف، ومنّا الطيّار في الجنّة ومنكم عدوّ الإسلام والسُـنّة، ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صبية النار، ومنّا خير نساء العالمين بلا كذب ومنكم حمّالة الحطب، في كثير ممّا لنا وعليكم.

فإسلامنا ما قد سُمع وجاهليّتكم لا تُدفع، والقرآن يجمع لنا ما شذّ عنّا، وهو قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: ( وأُولو الأرحام بعضهم أَوْلى ببعض في كتاب الله )(1) وقوله تعالى: ( إنّ أَوْلى الناس بإبراهيم لَلّذين اتّبعوه وهذا النبيّ والّذين آمنوا والله وليّ المؤمنين )(2) فنحن مرّة أَوْلى بالقرابة وتارة أَوْلى بالطاعة.

ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فلجوا عليهم، فإنْ يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، وإنْ يكن بغيره فالأنصار على دعواهم.

وزعمتَ أنّي لكلّ الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت، فإنْ يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك.

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

____________

1- سورة الأنفال 8: 75.

2- سورة آل عمران 3: 68.


الصفحة 206
وقلـتَ: إن كنتُ أُقاد كمـا يُقاد الجمل المخشوش حتّى أُبايع.. ولعَمر الله لقد أردتَ أن تذُمَّ فمدحتَ، وأن تفضح فافتضحت. وما على المسلم من غضاضة في أنْ يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه، وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذِكرها... "(1).

فهـو (عليه السلام) يفضّـل ذوي القـربـى الّذيـن آزروا النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفادوه بأرواحهم وبكَلِّهِم على جميع المهاجرين والأنصار، وذلك لكونهم أَوْلى بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رحماً، وأشدّ الناس متابعة ونصحاً وطاعة ونصرة له، كما تشير إليه الآيتان اللتان استشهد (عليه السلام) بهما، ومن ثمّ قدّم القرآن ذوي القربى مصرّحاً في آية الفيء بقوله تعالى: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى و... )..

وكذلك في آية الخمس، قال تعالى: ( واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إنْ كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبـدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كلّ شيء قديرٌ ) فخصّ تعالى ذوي القربى بالمقام بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقرنهم به وبذاته المقدّسة دلالة على تشريفهم ولزوم طاعتهم وأحقّيّتهم بالأمر دون غيرهم..

فكرّر اللام التي للاختصاص وملكية التصرّف لذاته تعالى ولرسوله ولذي القربى دون غيرهم، دلالة على منصب ذوي القربى الخاص في

____________

1- نهج البلاغة: الكتاب 59، وقد ذكر للكتاب ولبعض ما ورد فيه مصادر أُخرى عديدة من كتب الفريقين. وهو برقم 28 في الطبعة المعروفة.


الصفحة 207
الولاية على الأموال والأُمور العامّة.

وقال تعالى مخاطباً نبيّه: ( فآت ذا القربى حقّه ).. كما خصّهم بالذِكر في الأمر بالمودّة، وجعله أجراً لكلّ الرسالة والدين وعدلا لمجموع الإسلام الحنيف حين قال تعالى: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى )..

وقال: ( قل ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتّخذ إلى ربّـه سبيلا )(1)..

وقال: ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم )(2)..

فبيّن تعالى أنّ مودّة وولاية ذوي القربى هي السبيل إليه تعالى، وهي لنفع جميع المسلمين وصلاحهم وكمالهم.. فلم يدرجهم تعالى مع سائر المهاجرين والأنصار مع إنّ ذوي القربى هم أوّل الناس هجرة إلى الله ورسوله وأوّلهم نصرة وطاعة ونصحاً وصبراً.

وقال (عليه السلام) في الخطبة المعروفة بعد النهروان:

" أمّا بعد.. أيّها الناس! أنا الذي فقأت عين الفتنة، شرقيّها وغربيّها، ومنافقها ومارقها، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتدّ كلَبها.

وأيم الله، لو لم أَكُ فيكم لَما قوتل أصحاب الجمل الناكثون، ولا أهل صِفّين القاسطون، ولا أهل النهروان المارقون...

إنّ قريشاً طلبت السعادة فشقيتْ، وطلبت النجاة فهلكتْ، وطلبت

____________

1- سورة الفرقان 25: 57.

2- سورة سبأ 34: 47.


الصفحة 208
الهداية فضلّتْ.

إنّ قريشاً قد أضلّت أهل دهرها ومن يأتي من بعدها من القرون ; ألم يسمعوا ـ ويحهم ـ قوله تعالى: ( والّذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّتُهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّتهم )(1)؟! فأين المعدل والمنزع عن ذرّيّة الرسول، الّذين شـيّد الله بنيانَهم فوق بنيانِهم، وأعلى رؤوسَهم فوق رؤوسِهم، واختارهم عليهم؟!

أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا وحسداً لنا أن رفعنا الله سبحانه ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم؟! بنا يستعطى الهدى لا بهم، وبنا يستجلى العمى لا بهم.

إنّ الأئمّة من قريش، غُرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سـواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم...

والهجرة قائمة على حدّها الأوّل ما كان لله تعالى في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأُمّة ومعلنها، ولا يقع اسم الهجرة على أحد إلاّ بمعرفة الحجّة في الأرض ; فمن عرفها وأقرّ بها فهو مهاجر، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أُذنه ووعاها قلبه... ".

ثمّ ذكر (عليه السلام) ضلال الخوارج والثواب الخاصّ في مقاتلتهم، وقال: " أتراني أكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! والله لأنا أوّل من صدّقه فلا أكون أوّل من كذب عليه.

وأنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر، وصلّيت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يصلّي معه أحد من

____________

1- سورة الطور 52: 21.


الصفحة 209
النـاس.

أنا صفيّ رسول الله وصاحبه، وأنا وصيّه وخليفته من بعده.

أنا ابن عمّ رسول الله، وزوج ابنته، وأبو وُلده.

أنا الحجّة العظمى، والآية الكبرى، والمثل الأعلى، وباب النبيّ المصطفى.

أنا وارث علم الأوّلين، وحجّة الله على العالمين بعد الأنبياء ومحمّـد خاتم النبيّـين، أهل موالاتي مرحومون، وأهل عداوتي ملعونون..

لقد كان حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً ما يقول: يا عليّ! حبّك تقوىً وإيمانٌ، وبغضك كفرٌ ونفاقٌ، وأنا بيت الحكمة وأنت مفتاحه، كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك... "(1).

فها هو (عليه السلام) بعد أن بيّن أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على سائر قريش يذكر ضابطة الهجرة والمهاجر، وهي معرفة الشخص الذي هو حجّة الله في أرضه، وهي الضابطة نفسها المتقدّمة في كلام الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) بأنّ الهجرة إنّما هي بالهجرة إليهم، إلى أهل البيت (عليهم السلام)، لا الابتعاد عنهم، فالهجرة إلى المدينة ـ إضافة لكونها مقام النبيّ وآله صلوات الله عليهم ـ هي هجرة إلى نور الله تعالى ومصابيح هدايته، وهو محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته من بعده، وإنّ الهجرة تكليف شرعي باق ببقاء الشريعة ; لأنّ معرفة حجّة الله تعالى في أرضه مفتاح أبواب الشريعة.

وهذا خلاف ما يزعمه أهل سُـنّة الجماعة من أنّ لا هجرة بعد الفتح، وسنشير في ما يأتي إلى دلالة الآيات على بقاء الهجرة والنصرة، وملازمة

____________

1- نهج البلاغة: الخطبة 21، وقد ذكر للخطبة ولبعض ما ورد فيها مصادر أُخرى عديدة من كتب الفريقين.


الصفحة 210
ذلك ; لكون مدار الهجرة والنصرة هو: الهجرة إلى أهل البيت (عليهم السلام)ومناصرتهم، لا الهجرة إلى بقعة من الأرض معينة مقدّسة، وهي المدينة المنوّرة، والتي تقدّست بوجود النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم، بخلاف الضابطة التي يذكرها أهل سُـنّة الجماعة من أنّها الانتقال الجسماني من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة، كسفر بدني، وقد انتهى ومضى.

وقال (عليه السلام) في خطبته المعروفة بالطالوتية:

" ألا إنّ مثل آل محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) كمثل نجوم السماء، إذا هوى منهم نجم طلع نجم، فكأنّكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون.

فيا عجباً وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها!!! وبؤساً لهذه الأُمّـة الجائرة في قصـدها، الراغبة عن رشـدها، لا يقـتـصّون أثـر نبـيّ، ولا يقـتدون بعمـل وصـيّ، ولا يؤمنـون بغيـب، ولا يعفّـون عن عيب، يعملون فـي الشبهات، ويسيرون فـي الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنّ كلّ امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها في ما يرى بعرىً ثقات، وأسباب محكـمات ; فلا يـزالـون بجـور، لا يألـون قصـداً، ولن يـزدادوا إلاّ خطأً، لا ينالون تقرّباً، ولن يزدادوا إلاّ بعداً من الله عزّ وجلّ ; لشدّة أُنس بعضهم ببعض، وتصديق بعضهم لبعض.

كلّ ذلك حياداً ممّا ورّث الرسول النبيّ الأُمّيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونفوراً عمّا أدّى إليهم من أخبار فاطر السموات والأرض العليم الخبير، فهم أهل

الصفحة 211
عشوات، وكهوف شبهات، وقادة حيرة وضلالة وريبة.

من وكله الله إلى نفسه ورأيه فاغرورق في الأضاليل فهو مأمون عند من يجهله، غير متّهم عند من لا يعرفه، فما أشبه أُمّة صُدّتْ عن ولاتها بأنعام قد غاب عنها رعاؤها.

هذا، وقد ضمن الله قصد السبيل ( ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة وإنّ الله لسميع عليم )(1)..

أيّتها الأُمّة المتحيّرة بعد نبيّها في دينها، التي خُدعت فانخدعت، وعرفت خديعة من خدعها فأصرّت على ما عرفت، واتّبعت أهواءها، وخبطت في عشواء غوايتها، وقد استبان لها الحقّ فصدعت عنه، والطريق الواضح فتنكّبته.

أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لو كنتم قدّمتم من قدّم الله، وأخّرتم من أخّر الله، وجعلتم الولاية والوراثة حيث جعلها الله، واقتبستم العلم من معدنه، وشربتم الماء بعذوبته، وادّخرتم الخير من موضعه، وأخذتم الطريق من واضحه، وسلكتم الحقّ من نهجه ; لَنَهَجَتْ بكم السبل، وبدت لكم الأعلام، وأضاء لكم الإسلام، فأكلتم رغداً وما عال فيكم عائل، ولا ظُلم منكم مسلم ولا معاهد، ولكنّكم سلكتم سبل الظلام، فأظلمت عليكم دنياكم برحبها، وسُـدّت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهوائكم، واختلفتم في دينكم فأفتيتم في دين الله بغير علم، واتّبعتم الغواة فأغووكم، وتركتم الأئمّة فتركوكم، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم، إذا ذُكر الأمر سألتم أهل الذكر، فإذا أفتوكم قلتم: هو العلم بعينه، فكيف وقد

____________

1- سورة الأنفال 8: 42.


الصفحة 212
تركتموه ونبذتموه وخالفتموه؟!

فذوقوا وبال أمركم، وما فرطتم في ما قدّمت أيديكم، وما الله بظلاّم للعبـيد، رويداً عمّـا قليل تحصـدون جمـيع مـا زرعـتم، وتجـدون وخـيم ما اجترمـتم وما اجتلبـتم.

فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لقد علمتم أنّي صاحبكم والذي به أُمرتـم، وأنّي عالمـكم والذي بعلمه نجاتكم، ووصيّ نبيّكم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخيرة ربّكم، ولسان نوركم، والعالم بما يصلحكم، فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وُعدتم وما نزل بالأُمم قبلكم، وسيسألكم الله عزّ وجلّ عن أئمّتكم، فمعهم تحشرون، وإلى الله عزّ وجلّ غداً تصيرون، ( وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون )... "(1).

ويشير (عليه السلام) إلى ما يشـير إليه قوله تعالى: ( وما محمّـد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) فقد تركوا وصية القرآن والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في عليّ (عليه السلام) ـ وعترته (عليهم السلام) ـ، من أنّه وليّ الأُمور من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّه مفزع الأُمّة وملجأُها.

وقد أشارت فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى ذلك أيضاً كما تقدّم، وأنّ سبب الاختلاف والفِرَق الحادثة في المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو تركهم التمسّك بالثقلين اللذين هما ضمان عصمتهم من الضلال.

____________

1- نهج البلاغة: الخطبة 20، وقد ذكر للخطبة ولبعض ما ورد فيها مصادر أُخرى عديدة من كتب الفريقين.


الصفحة 213

وقال (عليه السلام) في خطبة أُخرى:

" فأين تذهـبون؟! وأنّى تؤفكـون؟! والأعلام قائمـة، والآيات واضحة، والمنار منصوبة، فأين يُتاه بكم؟!

بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم، وهم أزمّة الحقّ، وأعلام الدين، وألسنة الصدق؟! فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورود الهيم العطاش.

ألا وإنّ من أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي سفيان الأُموي، وعمرو بن العاص السهمي، أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما!!

والله لقـد علم المستحفَظون من أصحاب رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّي لم أردّ على الله سبحانه ولا على رسوله ساعة قطّ، ولم أعصه في أمر قطّ، ولقد بذلت في طاعته صلوات الله عليه جهدي، وجاهدت أعداءه بكلّ طاقتي، ولقـد واسـيته بنفسـي فـي المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وترتعد فيها الفرائص، وتتأخّـر فيها الأقـدام، نجـدةً أكرمنـي الله بها وله الحمد.

ولقد أفضى إليّ من علمه ما لم يفضِ إلى أحد غيري، فجعلت أتْبع مأخذ رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأطأ ذكره حتّى انتهيت إلى العرج، ولقد قُبض رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّ رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحدي والملائكة المقرّبون أعواني، فضجّت الدار والأفنية، ملأ يهبط وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه، حتّى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحقّ به منّي حيّاً وميّتاً؟!


الصفحة 214
وأيم الله ما اختلفت أُمّة قطّ بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها إلاّ ما شاء الله... "(1).

ويشـير (عليه السلام) إلى أنّ مدار فضيلة الصـحبة ومقامها متحقّق فيه (عليه السلام)بأرفع درجاتها، بنحو لا يدانيه بقيّة الصحابة..

وبيان ذلك: إنّه قد اشتهر عند أهل سُـنّة الجماعة الاستدلال لحجّـيّة الصحابة وقول الصحابي وفِعله، لا سيّما من عاشر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مدّة مديدة، لا سيّما جماعة السقيفة، الّذين وطّدوا الأرضية لبيعة أبي بكر، ومن ناصرهم على ذلك، ولا سيّما أبي بكر وعمر، بأنّ الصحابة هم الّذين حملـوا علـم الديـن عن رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخالطوه، وهم أعلم بأقوال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفعاله ومراده، وهم الّذين تربّوا بتربية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) واهتدوا على يديه وأطاعوه وتابعوه، فهم أقرب الخلق إليه، فهم حملة الدين إلى الناس والقرون اللاحقة، وحملة سُـنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وحفّاظها ووعاتها والمؤدّين عنه، وبما نقلوه كمال الدين، وثبات حجّة الله عزّ وجلّ على العباد، فهـم الواسـطة بين النبـيّ وأُمّـته، فإنّ الرسول حقّ، والقرآن حقّ، وما جاء به حقّ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ; لأنّهم الّذين ناصروا النبيّ على عدوّه وآزروه، فهم المؤتمنين على دينه.

والناظر المتدبّر في هذه الصفات التي أوجبوا بها حجّيّة الصحابة، أو حجّيّة الشيخين ـ على إجمال وترديد إبهام ما يرمي إليه أهل سُـنّة الجماعة من معنى الحجّيّة كما أشرنا إليه مراراً في هذه الحلقات من كون الحجّيّة بمعنى العصمة والإمامة الإلهيّة، أو بمعنى العدالة وحجّيّة فتوى المجتهد

____________

1- نهج البلاغة: الخطبة 19، وقد ذكر للخطبة ولبعض ما ورد فيها مصادر أُخرى عديدة من كتب الفريقين.


الصفحة 215
والفقيه، أو بمعنى وثاقة وحجّيّة خبر الراوي ـ يلاحظ أنّ هذه الصفات متوفّرة بدرجة رفيعة سابقة في عليّ (عليه السلام) سبقاً شاسعاً لا يمكن لغيره من الصحابة ـ كأبي بكر وعمر وغيرهما ـ اللحوق به، فضلا عن مقايسته بهم.

ولا أجد نفسي بحاجة إلى تذكير القارئ بتوفّر كلّ تلك الصفات والجهات في عليّ (عليه السلام) بنحو أسبق وأوفر وأوصل وأنمى وأزكى وأشدّ من بقيّة الصحابة ; بعد أن استعرضنا كلامه (عليه السلام) ممّا تواتر وقوع مضمونه في مواطن شهيرة في تاريخ الإسلام.

وإلى مثل ذلك يشير قوله (عليه السلام) حين سأله سُليم بن قيس الهلالي بأنّه سـمع من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير ما في أيدي الناس، ثمّ سمع منه (عليه السلام) تصديق ما سمع منهم، ورأى في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخالفهم فيها (عليه السلام) هو والصحابة الموالين له، ويبطلونها ; متعجّباً من كون الناس يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمّدين، ويفسّرون القرآن بآرائهم؟!!

فقال (عليه السلام): " قد سألت فافهم الجواب:

إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلا، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامّاً وخاصّـاً، ومحكـماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كُـذِب على رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده حتّى قام خطيباً فقال: أيّها الناس! قد كثرت علَيَّ الكذّابة، فمن كذب علَيَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار، ثمّ كُذِب عليه من بعده.

وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس:

رجل منافق، يُظهر الإيمان، متصنّع بالإسلام، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن

الصفحة 216
يكذب على رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمّداً، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب، لم يقبلوه منه ولم يصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا قد صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ورآه وسمع منه، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عزّ وجلّ: ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم )(1)، ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان، فولّوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله شيئاً، لم يحمله على وجهه، ووهم فيه، ولم يتعمّد كذباً، فهو في يده، يقول به ويعمل به، فيقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً أمر به، ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء، ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه أنّه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كما سمع، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ.

____________

1- سورة المنافقون 63: 4.


الصفحة 217
فإنّ أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل القرآن، ناسخ ومنسوخ، خاصّ وعامّ، ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكلام له وجهان: كـلام عامّ وكـلام خاصّ مـثل القـرآن، وقال الله عـزّ وجـلّ في كتابـه: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )(1)، فيشتبه على من لم يعرف ولم يدرِ ما عنى الله به ورسـوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليـس كلّ أصحـاب رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسـأله عن الشـيء فيفهـم، وكان منهم من يسـأله ولا يستفهمه، حتّى إنْ كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى يسمعوا.

وقد كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ يوم دخلة وكلّ ليلة دخـلـة، فيخـلّـيني فيـها أدور معـه حيـث دار، وقـد علـم أصحـاب رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، فربّما كان في بيتي يأتيني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر ذلك في بيتي، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه، فلا يبقى عنده غيري، وإذا أتاني للخلوة معه في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بَنيّ.

وكنت إذا سألتـه أجابنـي، وإذا سكتّ عنـه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها علَيّ، فكتبتها بخطّي وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا الله لي بما دعا.

وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه

____________

1- سورة الحشر 59: 7.


الصفحة 218
وحفظته، فلم أنسَ حرفاً واحداً.

ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً، فقلت: يا نبيّ الله! بأبي أنت وأُمّي، منذ دعوت لم أنسَ شيئاً ولم يفتني شيء لم أكتبه، أفتتخوّف علَيّ النسيان في ما بعد؟! فقال: لا لست أتخوّف عليك النسيان والجهل "(1).

فعليٌّ (عليه السلام) بجانب من شدّة الصلة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقربه منه زماناً ومكاناً وبيتاً وصحبة ورحماً وملازمة وأُخوّة ومحبّة، حتّى نزلت آية وجوب التصدّق قبل نجوى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يعمل بها إلاّ هو (عليه السلام) دون بقيّة الصحابة حتّى نسخت، وكانت بيوت بعضهم في العوالي قد لا يرون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيّاماً كما جاء ذلك على لسان بعضهم(2)، مضافاً إلى شدّة عناية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) به (عليه السلام) وإزلافه له، فخصّه بتزويج فاطمة (عليها السلام) والمؤاخاة معه، كما في آية المباهلة وغير ذلك من المواطن والمشاهد المذكورة في كتب الفريقين.

والغريب من أهل سُـنّة الجماعة ـ حين يستدلّون لحجّيّة الصحابي ـ التغافل عن كلّ ذلك، وعن تقديم حجّيّة قول عليّ (عليه السلام) وفِعله ومقامه على بقيّة الصحابة.

وكيف يستقيم ذلك مع حجيّة الصحابي، بأنّه لولاهم لانقطع نقل الدين وثبوته؟!

وكيف يستبدلون حجّيّة الثقلين ـ كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ

____________

1- أُصول الكافي 1 / 62 ـ 64 ح 1، الخصال: 255 ح 131.

2- انظر مثلا: صحيح البخاري 1 / 55 ـ 56 ح 31 باب التناوب في العلم، سنن الترمذي 5 / 392 ح 3318 كتاب تفسير القرآن.


الصفحة 219
المنصوص عليها في القرآن وحديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المتواتر بين الفريقين، بحجّيّة الصحابة ـ إنْ كان مرادهم من الحجّيّة مقام العصمة والإمامة في الديـن ـ أو بحجّيّة جميع الصحابـة ـ إنْ كان مرادهم حجّيّة الفتوى أو الرواية ـ مع إنّ فيهم الأقسام الأربعة التي أشار إليها (عليه السلام)؟!!

وكيف يتعطّل الدين ويبطل مع وجود عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الهادية العاصمة عن ضلال الأُمّة وتحيّرها؟!

وهل تمحيص الصحابي المستقيم على عهد الله وعهد رسوله في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعد مماته (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن الصحابي الذي نكث العهد وبدّل وأحدث في الدين، يوجب تعطيل وبطلان الدين؟! أم إنّه صيانة للدين عن تحريف المبطلين وزيغ المُحْدِثين، وحياطة للدين عن السنن المحدَثة التي خولفت فيها سـنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

فها هو (عليه السلام) يشير إلى مثل ذلك في قوله (عليه السلام):

" لقد عملت الولاة قبلي أعمالا عظيمة خالفوا فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)متعمّـدين لخـلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسُـنّته، ولو حملتُ الناس على تركهـا وتحويلها عن مواضعها إلى ما كانت تجري عليه في عهد رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لتفرّق عنّي جندي حتّى لا يبقى في عسكري غيري وقليل من شيعتي الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ ذِكره وسُـنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (عليه السلام) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيـه رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورددت فدك إلـى ورثـة فاطـمة (عليها السلام)، ورددت صاع رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومُـدّه إلـى مـا كان، وأمضـيت قطائـع أقطـعها

الصفحة 220
رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأقوام مسمّين لم تمضَ لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر بن أبي طالب إلى ورثته وهدمتها من المسجد، ورددت قضايا من الجور قضى بها من كان قبلي، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حقّ فرددتهنّ إلى أزواجهنّ، واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام، وسبيت ذراري بني تغلب، ورددت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطي بالسويّة ولم أجعلها دُولة بين الأغنياء، وألقيت المساحة، وسوّيت بين المناكح، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عزّ وجلّ وفرضه، ورددت مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما كان عليه، وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سدّ منها، وحرّمت المسح على الخُفّين، وحددت على النبيذ، وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأخرجت من أُدخل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسجده ممّن كان رسول الله أخرجه، وأدخلت من أُخرج بعد رسول الله ممّن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن، وعلى الطلاق على السُـنّة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس وسائر الأُمم إلى كتاب الله وسُـنّة نبـيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذاً لتفرّقوا عنّي.

والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل سيفه معي: يا أهل الإسلام! غُيّرت سُـنّة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً في جماعة! حتّى خفت أن يثوروا في ناحية عسكري.