والغريب أنّ التفتازاني ثمّة أعترف ـ ونقل عن بعضهم أيضاً ـ أنّ الدلائل من كلا الطرفين موجودة، غاية الأمر انّه رجّح الدالّ منها ـ بزعمه ـ على فضائل الشيخين، على ما دلّ على فضائل علي (عليه السلام)، ولا ينقضي التدافع في أقوال القوم فهم من جانب يجعلون الخلافة والإمامة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفروع دون الاعتقادات، ومن جانب آخر يجعلون الاختلاف بينهم وبين الشيعة في الإمامة والخلافة خلافاً اعتقادياً، وهذا بخلاف الاختلاف في المذاهب الأربعة ونحوها فإنّه خلاف في الفروع لاتّفاقهم على إمامة الشيخين وإن اختلفوا في التجسيم والتشبيه وفي الجبر والتفويض وفي خلق القرآن وغيرها من المسائل الخطيرة الخلافية في الاعتقادات.
ثمّ أنّهم اشترطوا في التوبة الاجتناب ممّن كان يواليه من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ويوالي من كان يعاديه من أهل سُنّة الجماعة ولم يذكروا ذلك في الناصبة الذين عادوا أهل البيت (عليهم السلام)، ولم يعتبروهم من أهل البدع بل من أهل سُنّة الجماعة الذين اشترط موالاتهم في التوبة المتقدمة.
وقال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي: " شيعي جلد، لكنّه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته.
وقد وثقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيّع، وقال السعدي: زائغ مجاهر.
وجوابه: أنّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التّابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبويّة، وهذه مفسدة بيّنة ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحطّ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتجّ بهم ولا كرامة. وأيضاً فما استُحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأمونا، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله! حاشا وكلا، فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلّم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممّن حارب عليّاً رضي الله عنه، وتعرّض لسبِّهم، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضالّ مُعَثّر، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً، بل قد يعتقد عليّاً أفضل منهما "(1). انتهى.
أقول:
وإقرار الذهبي بأنّ كثيراً من رواة التّابعين وتابعيّهم هم ممن تشيّع وكان من الرافضة، يقتضي على أصول القوم تعديلهم لأولئك الرواة وحجّيتهم بمقتضى القاعدة والأصل الذي عدّلوا به الصحابة، وهو كونهم نقلة الدّين وأنّه لولاهم لما وصل إلينا.
____________
1- ميزان الاعتدال 1 / 5.
ويلحظ في نهج الذهبي الدمشقي الذي هو من أئمّة الجرح والتعديل لدى أهل سُنّة الجماعة والذي وصفه تلميذه ابن السبكي في الطبقات بالنصب، بل إنّ غالب أئمّة الجرح والتعديل لديهم ممّن ينصب العداوة لآل البيت (عليهم السلام) ـ كما يفوح من كلماتهم ـ:
أنّه جعل حبّ أهل البيت عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وهو التشيّع كما يسمّيه ـ بدعة، ولا يستغرب من جرأة القوم على القرآن والسُنّة وجعلهم الفريضة العظيمة بدعة، وسيأتي أنّهم جعلوا بغض أهل البيت سُنّة وكلّما أشتد البغض أطلقوا عليه صلب في السُنّة.
وقد جرى على ذلك غالب أئمّة الجرح والتعديل لديهم.
ففي ترجمة إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: " قال الخلال: إبراهيم جليل جداً، كان أحمد بن حنبل يكاتبه ويكرمه إكراماً شديداً....
وقال ابن حبّان في الثقات: كان حروري المذهب، ولم يكن بداعية، وكان صلباً في السُنّة، حافظاً للحديث، إلاّ أنّه من صلابته ربّما كان يتعدّى طوره.
وقال ابن عدي: كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الميل على علي.
وقال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه: لكنّ فيه انحراف
قلت: وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته، ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان حريزي المذهب وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبعد الياء زاي نسبة إلى حريز ابن عثمان المعروف بالنصب "(1). انتهى.
وقال الذهبي في ترجمته: " أحد أئمّة الجرح والتعديل... كان مقيماً بدمشق يحدّث على المنبر وكان أحمد يكاتبه فيتقوّى بكتابه ويقرؤه على المنبر "(2). انتهى.
أقول:
فقد أفصحوا بأبلغ وضوح مرادهم من السُنّة والصلابة في السُنّة وهي نصب العداوة لعلي (عليه السلام) وولده، ويلاحظها المتتبع في تراجم كثير من الرواة من التّابعين وتابعيّهم المعروفين بالنصب والجفاء للعترة، وهذه السُنّة أفرزتها السقيفة من إقصاء أهل البيت (عليهم السلام)، ومن الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام)، كما جاهر بها بنو أُميّة وهي طابع النهج المرواني.
ولقد ارتجّ المسجد من صياح من فيه بعمر بن عبد العزيز: السُنّة السُنّة تُركت السُنّة! عندما ترك في خطبة الجمعة لعن ابن عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وأخيه!! وأصرّ أهل حران على الاستمرار على تلك السُنّة لمّا نهوا عن
____________
1- تهذيب التهذيب 1 / 159 رقم 332.
2- ميزان الاعتدال 1 / 75 ـ 76.
هذا في حين يذكر الذهبي في ترجمة عمر بن سعد قاتل سبط النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): وقال العجلي: روى عنه الناس، تابعي ثقة.
وقال ابن حجر في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي البصري: " قال أبو طالب عن أحمد: لا بأس به، قيل له: أن سليمان بن حرب يقول: لا يكتب حديثه، فقال: أنّما يتشيّع، وكان يحدّث بأحاديث في فضل علي، وأهل البصرة يغلون في علي ـ أي في بغضه ـ وقال عباس عنه: ثقة كان يحيى بن سعيد لا يكتب حديثه لا يروي عنه وكان يستضعفه، وقال أحمد بن سنان: رأيت عبد الرحمن بن مهدي لاينبسط لحديث جعفر بن سليمان قال أحمد بن سنان: استثقل حديثه، وقال ابن سعد: كان ثقة وبه ضعف وكان يتشيّع، وقال جعفر الطيالسي عن ابن معين: سمعت من عبد الرزاق كلاماً يوما فاستدللت به على ما ذكر عنه من المذهب، فقلت له: أنّ أستاذيك الذين أخذت عنهم ثقات، كلهم أصحاب سُنّة فعمّن أخذت هذا المذهب؟ فقال: قدم علينا جعفر بن سليمان فرأيته فاضلاً حسن الهدي فأخذت هذا عنه.
وقال ابن الضريسي: سألت محمّـد بن أبي بكر المقدمي عن حديث لجعفر ابن سليمان، فقلت: روى عنه عبد الرزاق قال: فقدت عبد الرزاق ما أفسد جعفر غيره ـ يعني في التشيع ـ...
قال ابن حبان: كان جعفر من الثقات في الروايات غير أنّه ينتحل الميل إلى أهل البيت ولم يكن بداعية إلى مذهبه وليس بين أهل الحديث
فيلاحظ من نقله لكلمات أئمّة الجرح والتعديل الأُمور التالية:
الأوّل: جعلهم حبّ علي (عليه السلام) ونقل الرواية في فضائله بدعة، ويسمونه تشيع، وهم في ذلك يستحرمون الفريضة العظيمة التي أمر بها القرآن من مودّة القربى.
الثاني: جعلهم الميل إلى أهل البيت مصدر طعن وقدح في الراوي، وتراهم يفصحون بذلك ويجاهرون به في كثير من تراجم الرواة من غير نكير وهذا شقاق مع الله ورسوله ومحادّة، وقد طعنوا في كثير من أصحاب علي (عليه السلام) وحواريّه بمثل ذلك.
الثالث: إعراضهم عن روايات فضائل أهل البيت (عليهم السلام) التي يرويها الثقات، وكم طُمس وضُيّع من الآثار النبوّية في مناقب العترة، الجمّ الغفير وترى تصريحهم بالإعراض المزبور في تراجم رواة ثقات كثير، ومن ذلك قول الشافعي في حقّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): ماذا أقول في رجل أخفت أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين(2).
وكيف لا يكون ذلك منهم وقد منع كتابة الحديث النبوي في الصدر الأوّل تحت شعار حسبنا كتاب الله.
____________
1- تهذيب التهذيب 2 / 61 ـ 63.
2- حلية الأبرار 1 / 294، وانظر: الرواشح السماويّة: 203، الأنوار البهيّة: 60، كشف اليقين: 40.
الخامس: جعلهم الانقطاع عن أهل البيت (عليهم السلام) والابتعاد عنهم وتركهم سُنّة، والعاملين بها أصحاب سُنّة كما عبّر بذلك ابن معين في كلامه مع المحدّث الحافظ عبد الرزاق الصنعاني، وجعل موادّة عبد الرزاق لأهل البيت (عليهم السلام) فساد في الدين.
ولا يخفى أن جعفر بن سليمان ممّن روى حديث الطير، وحديث ما تريدون من عليّ! عليّ مني وأنا منه وهو وليّ كل مؤمن بعدي كما ذكر ذلك الذهبي في الميزان(1).
وقال ابن حجر في ترجمة حريز بن عثمان الحمصي: " قال معاذ بن معاذ حدّثنا حريز بن عثمان ولا أعلم أني رأيت بالشام أحداً أُفضله عليه.
وقال الآجري عن أبي داود: شيوخ حريز كلّهم ثقات، قال: وسألت أحمد بن حنبل فقال: ثقة ثقة، وقال أيضاً: ليس بالشام أثبت من حريز إلاّ أن يكون بحير، وقال أيضاً عن أحمد وذكر له حريز وأبو بكر بن أبي مريم وصفوان فقال: ليس فيهم مثل حريز ليس أثبت منه...
وقال عمر بن علي: كان ينتقص عليّاً وينال منه وكان حافظاً لحديثه
____________
1- ميزان الاعتدال 1 / 410 ـ 411.
وقال الحسن بن علي الخلال: سمعت عمران بن إياس سمعت حريز بن عثمان يقول: لا أحبّه قتل آبائي ـ يعني عليّاً ـ.
وقال أحمد بن سعيد الدارمي، عن أحمد بن سليمان المروزي: سمعت إسماعيل بن عياش قال: عادلت حريز بن عثمان من مصر إلى مكّة فجعل يسبّ عليّاً ويلعنه، وقال الضحاك بن عبد الوهاب ـ وهو متروك متّهم ـ: حدّثنا إسماعيل بن عياش سمعت حريز بن عثمان يقول: هذا الذي يرويه الناس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لعلي: " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى " حقّ، ولكن أخطأ السامع، قلت: فما هو؟
فقال: إنّما هو: أنت منّي بمنزلة قارون من موسى.
قلت: عمّن ترويه؟
قال: سمعت الوليد بن عبد الملك يقول وهو على المنبر.
وقال ابن عدي: وحريز من الأثبات في الشاميين، ويحدّث عن الثقات منهم، وقد وثّقه القطان وغيره، وإنّما وضع منه ببغضه لعلي، وقيل له في ذلك، فقال: هو القاطع رؤوس آبائي وأجدادي.
وقد اعتمده البخاري في صحيحه "(1). انتهى.
أقول:
فانظر إلى مدح هذا الناصبيّ الوضّاع، وتوثيقهم له وجعلهم إيّاه من الأثبات، واعتمادهم عليه وملازمة روايته وتوثيقهم لجميع مشايخه الذين
____________
1- تهذيب التهذيب 2 / 219 ـ 222.
ثمّ أين غيرتهم على الصحابة والبراءة من سبّ الصحابة؟! وأين تلك الهالة القدسيّة التي يحيطونها بالصحابي؟! وأين تلك الحميّة لصحبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! أو ليس ابن عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نجم ورأس في الصحبة والصحابة؟! علاوة على قرابته للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومقاماته في بناء صرح الدّين.
كلّ هذا شاهد لما كررناه في بحوث هذه الحلقات أنّ عنوان الصحابة لا يراد به إلاّ أصحاب السقيفة دون الأنصار ودون بني هاشم ودون من والى عليّاً (عليه السلام) من المهاجرين وسائر الصحابة، كما أنّ مرادهم من أصحاب السُنّة هو سُنّة العداء والقطيعة والجفاء لعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إنّ هذه السُنّة الجاهلية والمنبعثة من السقيفة والأُمويّة المروانية قد طالت شخص النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال ابن حجر في ترجمة خالد بن سلمة بن العاص المخزومي المعروف بالفأفأ: قال أحمد ـ أي ابن حنبل ـ وابن معين وابن المديني: ثقة....
وقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه، وقال ابن عدي: هو في عداد من يجمع حديثه، ولا أرى بروايته بأساً، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال محمّـد بن حميد عن جرير: كان الفأفأ رأساً في المرجئة وكان يبغض عليّاً، ذكره علي بن المديني يوماً، فقال: قُتل مظلوماً.
وقع في صحيح البخاري ضمناً، وذكر ابن عائشة أنّه: كان ينشد بني مروان الأشعار التي هجى بها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).
____________
1- تهذيب التهذيب 2 / 514 ـ 515.
أقول:
وكيف لا يركنون إلى أمثال هؤلاء الرواة المبغضين للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وعترته، ـ كمروان بن الحكم ونظائره في صحاحهم ـ؟! وكيف لا يأمنونهم على دينهم والسُنّة عندهم هي على قطيعة العترة وجفائهم وهجرهم والعداوة لهم؟! وهي تؤدي إلى قطيعة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والعداوة له، كما أنّ مودّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤدي إلى مودّة عترته، فالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته متلازمان في المودّة، وبغض أحدهما يؤدي إلى بغض الآخر وهذا هو مفاد آية المودّة، إذْ مقتضى كون مودّة القربى أجر الرسالة هو: أن تقدير نبوّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقديسه، بأداء أجرها وقيمتها وهو مودّة القربى، فالاستخفاف بمودّة القربى استخفاف بأجر الرسالة والنبوّة، واستحلال عداوة العترة استحلال لحرمة الرسالة.
وقال ابن حجر في ترجمة لِمازَة بن زبّار ـ أبو لبيد البصري ـ: " ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة، وقال: سمع من علي وكان ثقة وله أحاديث، وقال حرب عن أبيه: كان أبو لبيد صالح الحديث، وأثنى عليه ثناءً حسناً، وقال موسى بن إسماعيل، عن مطر بن حمران: كنّا عند أبي لبيد فقيل له: أتحبّ عليّاً؟ فقال: أحبّ علياً وقد قتل من قومي في غداة ستة آلاف، وذكره ابن حبّان في الثقات.
وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: حدّثنا وهب بن جرير، عن
____________
1- ميزان الاعتدال 1 / 631.
ـ ثمّ قال ابن حجر ـ وقد كنت استشكل توثيقهم الناصبي غالباً، وتوهينهم الشيعة مطلقاً، لا سيّما أنّ عليّاً ورد في حقّه: (لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق).
ثمّ ظهر لي في الجواب عن ذلك أنّ البغض هاهنا مقيّد بسبب وهو كونه نصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ; لأن من الطبع البشري بغض من وقعت منه إساءة في حقّ المبغض، والحبّ بعكسه ; وذلك ما يرجع إلى أمور الدنيا غالباً، والخبر في حبّ علي وبغضه ليس على العموم، فقد أحبّه من أفرط فيه حتّى ادعى أنّه نبيّ، أو أنّه إله تعالى الله عن إفكهم، والذي ورد في حقّ علي من ذلك قد ورد مثله في حقّ الأنصار، وأجاب عنه العلماء أن بغضهم لأجل النصر كان ذلك علامة نفاقه وبالعكس، فكذا يقال في حقّ علي، وأيضاً فأكثر من يوصف بالنصب يكون مشهوراً بصدق اللهجة والتمسّك بأمور الديانة بخلاف من يوصف بالرفض فإنّ غالبهم كاذب، ولا يتورّع في الأخبار، والأصل فيه أنّ الناصبة أعتقدوا أنّ عليّاً رضي الله عنه قتل عثمان، أو كان أعان عليه فكان بغضهم له ديانة بزعمهم، ثمّ انضاف إلى ذلك أنّ منهم من قُتلت أقاربه في حروب علي "(1). انتهى كلامه.
____________
1- تهذيب التهذيب 8 / 410 ـ 411 رقم 831.
أقول:
دفاع ابن حجر عن الناصبة وإن كان استحلالاً منه لعداوة علي (عليه السلام)بتسويل واهي إلاّ أننا نوضّح لوازم كلامه ونسجّل نقاط اعترافه:
الأُوّلى: إقراره بتوثيق أهل سُنّة الجماعة غالب الناصبة المعادين لعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، واعتمادهم في الرواية عليهم وأخذ أحكام الدّين عنهم، ولا غرابة في ذلك لأنّ مآل من يترك العترة النبويّة التي أمر الله بمودّتها ـ وهو ترك لأعظم فريضة ـ الركون إلى العصاة البغاة أهل النفاق والشقاق.
الثانية: إقراره بتوهين أهل سُنّة الجماعة كافة الشيعة ممّن يميل إلى عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويواليهم، وهذا يعزز ما ذكرناه من أنّ مرادهم من السُنّة هو سُنّة العداء وقطعية عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
الثالثة: دعواه: أنّ حرمة بغض علي (عليه السلام) وكون البغض نفاقاً مقيّداً بسبب نصرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستدل على التقييد بأنّ من وقعت منه إساءة في حقّ المبغض يبغضه بحكم الطبع البشري.
ويندفع: مع ذيل كلامه من أنّ الناصبة يبغضون عليّاً لمخالفته لعثمان، وليس كلّ الناصبة ممّن كان في عصر علي (عليه السلام)، ولا كلّ الناصبة هم ممّن قتل علي آباءهم في بدر وأُحد وحنين والأحزاب وخيبر والجمل وصفين،
____________
1- ميزان الاعتدال 3 / 419 رقم 6989.
ولعمري إنّ دفاع ابن حجر بمثل ذلك أعظم فدحاً في الدّين من نصب الناصبة، لأن ذلك يفتح الباب للآخرين ببغض العترة بذلك التسويل، ثمّ ماذا يصنع ابن حجر مع آية المودّة فهل يُأوّلها أيضاً؟ وإذا ساغ مثل هذا العبث بمحكمات وبيّنات الدّين فليعذر عندهم إبليس في معاداته لخليفة الله آدم (عليه السلام) ; لأنّه تأوّل فأخطأ لا سيّما وأن خلقة إبليس من نار فطبعه الخلقي الحمية والعصبية.
ثمّ إن حديث " علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار "، أو مثل حديث السفينة وحديث الثقلين وغيرها من الأحاديث دالّ على أنّ بغض علي (عليه السلام) في أيّ موقف مخالفة للحقّ وهلاك وضلال ; لأنّ عليّاً (عليه السلام)في كلّ سيرته وفعله مع الحقّ ونصرة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى بعد وفاته.
الرابعة: إنّ إفراط بعض من أحبّ عليّاً وغلوه لا يسوّغ بغض وعداوة علي (عليه السلام)، وإلاّ لجاز بغض ومعاداة النبيّ عيسى (عليه السلام)، وكيف يتعذّر ابن حجر بمثل ذلك في مخالفة آية المودّة التي تنادي بعظم فريضة المودّة في القربى؟! وما وزر مَنْ أحبّ عليّاً ولم يغل فيه؟!
وأمّا قياس ما ورد في علي (عليه السلام) بما ورد في حقّ الأنصار، فهو قياس
وأمّا الحكم في الأنصار فقد رُتّب على عنوان نصرتهم، والوصف مشعر بعلّة الحكم، بخلاف عنوان الذات في علي (عليه السلام) فإنّه يعطي ملازمة ذاته الطاهرة للحقّ ونصرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والدّين في كلّ المواطن.
ثمّ ما يصنع ابن حجر في الحديث الآخر: " لا يبغضك يا علي إلاّ منافق أو ابن زنا أو ابن حيضة "، أو ما في حديث جابر: " كنّا نباري أولادنا بحبّ علي (عليه السلام)، فمن كان يحبّه علموا أنّه طاهر الولادة، ومن كان يبغضه علموا أنّه لغير أبيه "، وغير ذلك من الأحاديث التي تهيّج ثائرة أهل النصب.
الخامسة: وصفه أكثر الناصبة بالتمسّك بأمور الديانة والصدق، ومن تلك الديانة قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومنع أجرة النبوّة العائد نفعها لا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكيف لا يكون إبليس أعبد العباد على هذا المنطق ; لأنّه أبى أن يسجد لآدم وأصرّ أن يكون خضوعه لله خالصاً من طاعة ولي الله، فلقد اقترح إبليس على الله أن اعفني من السجود لآدم ولأعبدنّك عبادة لم يعبدك أحد مثلها، فأجابه تعالى: " إنّي أُحبّ أن أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد "، ثمّ إنّ ممّن وثّقوه من الناصبة خالد بن سلمة بن العاص الذي تقدّم أنّه ينشد بني مروان أشعاره التي يهجو بها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذا عمر بن سعد قاتل الحسين (عليه السلام)، ونظائرهم فبخ بخ له بهذه الديانة.
السادسة: دعواه: كذب أكثر الرافضة يناقضه ما تقدّم من إقرار الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب: " فهذا كثير في التّابعين وتابعيهم مع الدين والورع
هذا مع أنّ تأوّل ابن حجر في جرح أهل سُنّة الجماعة في الرواة الشيعة يدفعه تنصيصهم على أنّ منشأ الطعن هو الميل إلى أهل البيت (عليهم السلام)، أو حبّ علي (عليه السلام)، فكلماتهم تنادي بأبتداع المودّة في القربى التي أمر الله تعالى بها.
السابعة: أنّ الناصبة يعذرون في بغضهم لعلي (عليه السلام)، مع افتراض مودّته بنصّ الكتاب ومع ذلك يوصفون بالديانة، فلم لا يُعذر مَنْ يُنسبْ إليهم بغض الشيخين وأصحاب السقيفة؟!
العداوة مرض في قلوب الناصبة:
إنّ القرآن الكريم كما أمر وفرض مودّة أهل البيت وأمر بصلتهم وعظّم من هذه الفريضة حتّى جعل خطبها في مصافّ أُصول الاعتقاد والإيمان بجعلها أجراً لكلّ الرسالة المشتملة على العقيدة والمعرفة، وهذا البيان شاف لإقامة الحجّة البالغة على العباد وقطع العذر وإنارة سبيل النجاة.
كذلك القرآن حذّر ونهى عن البغض والعداوة لهم، حيث تعرّضت كثير من الآيات للنهي عن قطع ما أمر الله به أنْ يوصل، كما حذّر من الضغينة التي هي ضد المودّة في قوله تعالى: ( إنّ الّذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم * ذلك بأنّهم قالوا للّذين كرهوا ما نزّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله
____________
1- ميزان الاعتدال 1 / 5.
فقد سلّطت الضوء هذه الآيات الشريفة على تعريف الضغينة بأنّها مرض في قلوب ثلّة، ولا نجد في القرآن الكريم أنّ الله تعالى افترض المحبّة والمودّة ـ التي هي من أفعال القلب ـ، ومن ثمّ تظهر على أفعال الجوارح إلاّ في المحبّة لله تعالى وللرسول ولذي القربى، فالضغينة المحرّمة لا تكون إلاّ في موارد عصيان فريضة المحبّة والمودّة ; فالقرآن قد حرّم المودّة والمحبّة لآخرين في موارد أُخرى، كما في قوله تعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أُولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه )(2)، وقد أطلق القرآن على موادّة من حادّ الله ورسوله أنّها موالاة في السورة نفسها في الآيات الكريمة التى تحكي عن طائفة ممّن هم حول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ( ألم تَرَ إلى الّذين تولّوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم... )(3).
ولك أن تقول أطلق على الموالاة أنّها موادّة.
وهذا تعريف آخر يطلعنا ويوقفنا عليه القرآن الكريم وهو كون
____________
1- سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) 47: 25 ـ 30.
2- سورة المجادلة 58: 22.
3- سورة المجادلة 58: 14.
منها: واجبة مفترضة، وهي المحبّة والمودّة والموالاة لله ولرسوله ولذي القربى.
ومنها: محرّمة، وهي المودّة والموالاة لمن حادّ وشاقق الله ورسوله.
كما أنّ الضغينة المحرّمة هي التي يؤتى بها وترتكب في موارد الفريضة الواجبة مخالفة، فبتوسط آية المودّة في سورة الشورى وهذه الآيات من سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمجادلة يتبيّن أنّ المودّة والموالاة والنصرة هي لله ولرسوله ولذي القربى ـ علي وفاطمة وابناهما ـ، وهو الإيمان الذي يكتبه الله تعالى في القلوب، فالإيمان في القلب هو المودّة والموالاة لله ولرسوله ولذي القربى والمرض في القلوب هو العداوة والضغينة لله ولرسوله ولذي القربى.
ويتّضح من هذه الآيات:
إنّ الإيمان يقابل المرض في القلوب، وإنّ الّذين في قلوبهم مرض من أوائل عهد الإسلام ـ كما تشير إليه سورة المدّثر ـ أُولئك لم يُكتب في قلوبهم الإيمان من البدء وبقوا على تلك الصفة.
ومن ذلك يُعلم أنّ من الهدى الذي نزّل الله تعالى ـ وكرهه جماعة وتابعهم جماعة أُخرى طواعية للجماعة الأُولى إسراراً بين الجماعتين ـ هو افتراض مودّة ذي القربى في آية المودّة كما أنّ ممّا نزّل الله تعالى من الهدى ـ والذي كرهه جماعة أيضاً وأبطلوا العمل به ـ هو افتراض الخمس والفيء لذي القربى في سورة الأنفال والحشر، ولا ريب أنّ أداء الخمس لذي القربى وتمكينهم من الفي الذي افترضه الله لهم هو من أبرز مصاديق الموالاة والمودّة لذي القربى.
وقد مرّ بنا في الحلقات الأُولى أنّ الّذين في قلوبهم مرض هم ثلّة
وتبيّن أن مخططهم مبني على الضغينة لذي القربى وكراهة ما نزّل الله في حقّهم من المودّة والموالاة والخمس والفي، كما تبيّن الآيات السابقة في سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تتحدّث في وصف الّذين في قلوبهم مرض: ( ويقول الّذين آمنوا لولا نزّلت سورة فإذا أُنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الّذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم * فهل عسيتم إن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أُولئك الّذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم )(1).
فهذه الآيات تنبأ عن ملحمة قرآنية عن هذه الثلّة والفئة ـ التي
____________
1- سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) 47: 20 ـ 23.
الأوّل: هو الفساد في الأرض، وهو مخالفة الكتاب والسُنّة في الأحكام والتشريعات، ممّا يوجب استشراء الفساد في الأرض شيئاً فشيئاً حتّى ينتشر في بلاد المسلمين الظلم والفساد المالي والفساد الأخلاقي والحيف في القضاء والتلاعب في مقدّرات الحكم والسلطة، وغيرها من وجوه الفساد في الأرض.
والثاني: قطع ما أمر الله به أن يوصل، وهو معاداة من أمر الله بمودّتهم وموالاتهم وتمكينهم من حقّ الولاية لهم على الخمس والفيء، وقد أنبأت آية آخرى من كتاب الله العزيز عن نفس هذه الملحمة المستقبلية لأوضاع المسلمين وهي ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير * ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتّقوا الله
وقد توعّدت آيات سورة الحشر عن مخالفة هذا الحكم والتشريع بشدّة العقاب.
فتلخّص ـ ممّا مرّ بنا ـ:
أنّ المودّة للقربى وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هي موالاة لهم ـ كما أوضحت ذلك سورة المجادلة التي مرّ ذكر آياتها ـ وأنّ الضغينة والعداوة لهم مرض في القلوب ـ كما أوضحت ذلك سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في قبال المودّة والموالاة لهم فإنّه إيمان.
وإلى ظاهر هذه الآيات من السور يشير الصادق (عليه السلام) فيما رواه عنه
____________
1- سورة الحشر 59: 6 و 7.
وقد روى ابن المغازلي الشافعي في المناقب، عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: ( ولتعرفنّهم في لحن القول )(3)، قال: ببغضهم علي بن أبي طالب (4)، والآية المذكورة في سياق وصف الّذين في قلوبهم مرض، وغيرها من الروايات(5).
هذا، وممّا يدلّ على كون مودّة ذوي القربى موالاتهم، مضافاً إلى ما تقدّم في سورة المجادلة، قوله تعالى في سورة آل عمران: ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم )(6)، فإنّ في الآية تصريح بأنّ مقتضى المحبّة الإتّباع، كما أنّ مقتضى مفهوم الشرطية في الآية أيضاً هو أنّ ترك الإتّباع كاشف مسبب عن عدم المحبّة.
فيتحصّل
أنّ مودّة ذوي القربى مقتضاها إتّباعهم وموالاتهم وهي التي
____________
1- سورة إبراهيم 14: 27.
2- الغيبة ـ للنعماني ـ: 260 ح 19 الباب 14.
3- سورة محمّـد 47: 30.
4- مناقب ابن المغازلي: 262 ح 359.
5- لاحظ: ما روي عنهم (عليه السلام) في تفسير البرهان، ونور الثقلين في ذيل آيات سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم).
6- سورة آل عمران 3: 31.
فتحصّـل
أنّ مقتضى فريضة المودّة في القربى والتي عظّم شأنها القرآن الكريم، وكون بغضهم والعداوة لهم وجفاءهم وقطعيتهم مرض يعري القلوب ويسلبها الإيمان، هو أن المودّة للقربى ميزان ومعيار لتعديل الصحابي، وبغض ذوي القربى والمصادمة معهم ميزان ومعيار لجرح الصحابي، فهذا الضابط يتطابق مع ما تقدّم من الموازين والمعايير التى مرّت بنا في الحلقات السابقة.
ومن ذلك قول الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) بإن الهجرة كوصف للصحابي أنّما تنطبق عليه لا لكون معناها انتقال البدن من مكان إلى مكان كسفر جغرافي، بل الهجرة إنّما هي بالهجرة إلى أهل البيت (عليهم السلام)، لا الابتعاد عنهم، وأنّ المدار على الموالاة والمتابعة لرسول الله وأهل بيته، لا المعاداة لهم والمخالفة، والهجرة تحققت بهم، والنصرة بنصرة الله ورسوله وذي القربى، فلا هجرة إلاّ إليهم لا إلى غيرهم، ولا نصرة ومودّة وموالاة إلاّ لهم لا عليهم، ولا إتّباع بإحسان إلاّ بإتباع سبيلهم، وما أسألكم عليه من أجر إلاّ ـ وهو المودة في القربى ـ من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، كما مرّ بنا قول علي (عليه السلام): " أنّ الصدّيق من صدّق بحبهم وأبطل باطل عدوهم، والفاروق من فرّق بينهم وبين عدوهم "(1)، وأنّ من ترك الهجرة إليهم يتعرّب، وأنّ من يترك المودّة والموالاة لهم يتحزّب.
____________
1- نهج البلاغة: كتاب 49. ط مؤسّسة الإمام صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ.