وممّـا يتّصـل بالخلاف في عدالة الصحابـة أمـران رئيسـيّان، الأوّل: ما هو مصير الوحدة الإسلامية مع الخلاف في عدالتهم، الثاني: محطّة الفتوحات الإسلامية التي وقعت على يد الخلفاء الثلاثة هي عمدة مستمسكات القائلين بعدالتهم ومكانتهم في الدين. فلا بُدّ من تناول البحث لكلا الأمرين..
الأوّل ـ آفاق الوحـدة:
إنّ كثيراً من الضلالات ناشئة من العمى في البصيرة، قال تعالى: ( فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )(1)وقال: ( فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها )(2)..
والعمى في البصيرة ينشأ من أسباب مختلفة، تارة من ضحالة في العلم والفقه، وأُخرى من اتّباع الهوى والمصالح الدنيوية القصيرة المدى،
____________
1) سورة الحجّ 22: 46.
2) سورة الأنعام 6: 104.
قال تعالى: ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلّكم تهتدون * ولتكن منكم أُمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينْهَوْن عن المنكر وأُولئك هم المفلحون )(1)..
هذه الآية الكريمة كما تعيّن مدار وحدة المسلمين فهي تنبّأ بملحمة خطيرة، هي: أنّ الوحدة الإسلامية لم ولن تتمّ ولا تتحقّق في هذه الأُمّة وتنال تلك السعادة في ظلّ الأُلفة الأخوية إلاّ بالاعتصام بـ: " حبل الله "، أي التمسّك بحبل الله، فيكون هذا الحبل عاصماً عن الفرقة، وعن السقوط في الهاوية، وعن الضياع في المتاهات ; فما هو " حبل الله "، وما هو سرّ التعبير بـ: " الحبل "؟!
لـ " حبل الله " ـ كما لكلّ حبل ـ طرفان، طرف تستمسك به الأُمّة، وطرف آخر عند الله تعالى، أي أنّ هذا الحبل شيء رابط بين البشرية والغيب، وسبب متّصل بين الأرض والسماء، فلا بُدّ أن يكون قطب الوحدة ومركز الاتّحاد سبب موصل مطّلع على الغيب ; وهذا يعطي أنّ سفينة الوحدة والاتّحاد يجب أن ترسو على ما هو حقّ وحقيقة، لا التوافق على الهوى والهوس.
وسياق الآية الثانية المتّصلة يصرّح بأنّ الوحدة يجب أن تكون على الخير والمعروف والاجتناب عن المنكر، بحسب الواقع والحقيقة، فلو
____________
1) سورة آل عمران 3: 103 ـ 104.
وهذا يدلّ على أنّ الحقّ والمعروف له وجود وحقيقة في نفس الأمر، اتّفقت كلمة الأُمّة عليه أم لم تتّفق، وليس الحقّ ناتجاً ومتولّداً من اتّفاق الأُمّة كي يقال: " كلّ ما اتّفقت الأُمّة عليه فهو حقّ، وكلّ ما لم تتّفق عليه فهو باطل "..
ومن ثمّ كان الحسن والقبح في الأفعال، والصفات، والاعتقادات ذاتي، تكويني، عقلي، حقيقي ; إذ ليس حسن الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على مدحه، ولا قبح الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على ذمّه، بل الحسن والمدح والثناء ذاتي ; للكمال، والقبح والذمّ والهجاء ذاتي ; للنقص، ومن ذلك يعلم أنّ الثابت الديني ليس وليد الوفاق بل هو مرهون بالأدلّة والبراهين.
فإذا كان الحقّ ثابت في نفسه فيجب إقامة الوحدة على أساسه، لا أن تقام الوحدة على أساس الباطل أو الحقّ الممزوج بالباطل، فنقيم الاتّحاد ولو على النهج السقيفي أو الأُموي أو العبّاسي، بل هذا اتّحاد على الغواية وتعاون على الإثم والعدوان، ومن ثمّ لم يبال سيّد الشهداء (عليه السلام) أن يشقّ عصا المسلمين المتآلفين على النهج اليزيدي، وقال: " إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جـدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ".
فالاصـلاح والنصـيحة للمسلمـين ليس بإقرارهـم على ما هم عليه مـن الفساد والغوايـة، بل هو بأمرهم بالمعروف والحقيقة ونهيهم عن المنكر والباطل، ودعوتهم للتعاون على السير على نهج الحقّ والصراط المستقيم.
وكما قام سيّد الشهداء بتفرقة الجماعة المتجمّعة على الباطل، قام جدّه النبيّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بتفرقة المجتمع المكّي القرشي، الذي كان متّحداً على عبادة الأوثان، وأرشدهم بالأُسلوب التدريجي، وبالحكمة والموعظة، وبالتي هي أحسن، والمداراة، إلى طريق الصواب والهداية، ولم تكن مداراته بمعنى ذوبانه في أرجاس الجاهلية ومداهنته لزيغهم وغيّهم، نعم لا يكون العلاج إلاّ تدريجياً وبتعقّل وتروّي وتؤدة.
ولك أن تعتبر بسيرة سيّد الشهداء (عليه السلام)، فإنّه لمّا رأى العالم الإسلامي ساكت على تولّي يزيد بن معاوية للأُمور وفاقاً سكوتياً أخذ في توعية الناس في المدينة المنوّرة، ثمّ في مكّة عدّة أشهر، يلتقي بوفود المسلمين في العمرة وموسم الحجّ ويخطب فيهم، إلى أن أثمرت جهوده (عليه السلام) وبانت في مخالفة أهل العراق للسلطة الأُموية، فخالفوا وحدة الصفّ التي كانت في جانب يزيد، وأخذ في توسيع القاعدة الشعبية المخالفة كي تصبح أكثرية، ثمّ توجّه صوب العراق لإنجاز الإصلاح في الأُمّة، فلمّا رأى عودة أهل العراق عن مخالفة الصفّ اليزيدي واتّحادهم مع الوفاق الأُموي، لم يستسلم للوحدة على الباطل والغي حتّى استشهد إحياءً لفريضة الإصلاح والأمر بالوحدة على المعروف والانتهاء عن المنكر.
فترى أنّ سيّد الشهداء (عليه السلام) لم يقم وزناً للوحدة والاتّحاد على الخطأ والباطل، وأشاد بالوحدة على طريق الحقّ والهداية، وهذا هو معنى أنّ
روى الصدوق في معاني الأخبار عن ابن حميد رفعه، قال: " جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني عن السُـنّة والبدعة، وعن الجماعة وعن الفُرقة؟
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): السُـنّة: ما سـنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والبدعة: ما أُحدث من بعده، والجماعة: أهل الحقّ وإن كانوا قليلا، والفُرقة: أهل الباطل وإن كانوا كثيراً "(1).
وروى النعماني بسنده في كتاب الغَيْبة عن ابن نباتة، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) على منبر الكوفة يقول: " أيّها الناس! أنا أنف الهدى وعيناه، أيّها الناس! لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة من يسلكه، إنّ الناس اجتمعوا على مائدة قليل شبعها كثير جوعها "(2).
وفي رواية هشام المعروفة عن موسى بن جعفر (عليه السلام): " يا هشام! ثمّ ذمّ الله الكثرة فقال: ( وإن تُطعْ أكثر مَن في الأرض يُضلّوكَ عن سبيل الله )(3)، وقال: ( ولئن سألتَهم مَن خلق السماواتِ والأرضَ ليقولُنّ اللهُ قل الحمد لله بل أكثَرُهُم لا يعلمون )(4)، وقال: ( ولئن سألتَهم مَن
____________
1) معاني الأخبار: 154 ـ 155 ح 3، بحار الأنوار 2 / 266 ح 23.
2) انظر: الغيبة ـ للشيخ النعماني ـ: 170، الإرشاد ـ للشيخ المفيد ـ 1 / 276، بحار الأنوار 2 / 266 ح 27، نهج البلاغة ـ لمحمّـد عبده ـ 2 / 207 رقم 196.
3) سورة الأنعام 6: 116.
4) سورة لقمان 31: 25.
يا هشام! ثمّ مدح القلّة فقال: ( وقليلٌ من عبادي الشكور )(2)، وقال: ( وقليلٌ ما هم )(3)، وقال: ( وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعونَ يكتُمُ إيمانَهُ أتقتلونَ رجلا أن يقولَ ربّيَ الله )(4)، وقال: ( ومَن آمنَ وما آمنَ معهُ إلاّ قليل )(5)، وقال: ( ولكنّ أكثَرَهُم لا يعلمون )(6)، وقال: ( وأكثَرُهُم لا يعقلون )(7)، وقال: ( أكثَرَهُم لا يشكرون )(8) ".. الحديث(9).
ولا يخفى أنّ الروايات في صدد بيان ضوابط وموازين البصيرة الحقّة وتمييزها عن الباطل، لا في مقام ترك المسؤولية تجاه الأكثرية والقيام بواجب هدايتهم وإرشادهم، والعناية بأُمورهم بالإصلاح وتقويم العوج وإزالة الفساد، بل هي في مقام بيان أنّ الاعتداد بشأن موازين منطق التفكير التي هي موازين العلم والعقل والفطرة والسُـنّة غير المحرّفة لا يكون بالمنطق الأكثري بل بالقيم والمبادئ التي تتضمّن هذه الموازين.
روى في مستطرفات السرائر بسنده عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)،
____________
1) سورة العنكبوت 29: 63.
2) سورة سبأ 34: 13.
3) سورة ص 38: 24.
4) سورة غافر 40: 28.
5) سورة هود 11: 40.
6) سورة الأنعام 6: 37 ; وتكرّرت هذه الآية في سور عديدة أُخرى.
7) سورة المائدة 5: 103.
8) سورة يونس 10: 60، سورة النمل 27: 73.
9) الكافي 1 / 12 ضمن ح 12.
والإمّعة: الذي لا رأي له، فهو يتابع كلّ أحد على رأيه، والذي يقول لكلّ أحد: أنا معك، أنا مع الناس.
وروى الصدوق بسنده عن أبي عبـد الله (عليه السلام) أنّه قال لرجل من أصحابه:" لا تكون إمّعة، تقول: أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس "(2).
وهذه الأحاديث أيضاً في مقام تخطئة التأثّر من رأي الأكثرية بسبب الأكثرية، والحثّ على التمسّك بما هو مقتضى البديهة الفطرية والضرورة الدينية، وهناك توصيات عديدة في القرآن والسُنّة على طريقة التفكير والاعتقاد كمنهج منطقي ديني لا يسع المقام ذكرها.
ثمّ إنّ آية الاعتصام بحبل الله تعالى تتضمّن نبوءة بملحمة قرآنية مهمّة، وهي: أنّ وحدة الأُمّة الإسلامية لا ولن تتمّ إلاّ بالتمسّك جميعاً بحبل الله، فلا تأمل هذه الأُمّة يوماً ما في الخلاص من ذلّ الفُرقة والتشتّت والضعف أمام الأعداء بدون التمسّك بحبل الله..
والرغبة في الوحدة بأن تكون على محور الاعتصام بحبل الله كي لا يقعوا في الفُرقة ; فحبل الله هو العاصم من الفُرقة، وبدونه سوف تكون الرغبة في الوحدة حلماً وشعاراً أجوف ومجرّد تشدّق باللسان.
____________
1) مستطرفات السرائر (ضمن السرائر) 3 / 595، الاختصاص: 343، الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ: 210 ح 47، بحار الأنوار 21 / 62.
2) معاني الأخبار: 226 ح 1، بحار الأنوار 2 / 26.
فذكر تعالى أنّ للقرآن وجوداً علوياً غيبياً غير ما تنزّل منه، لا يصل إلى حقيقته وحقائق ذلك الوجود غير المطهّرين ـ بصيغة الجمع ـ من هذه الأُمّة، وهم الموصوفون بالطهارة في قوله تعالى: ( إنّما يريد اللهُ لِيُذْهِبَ عنكمُ الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهّرَكم تطهيراً )(2).
وكذلك قال تعالى: ( ويومَ نبعثُ في كلّ أُمّة شهيداً عليهم من أنفسِهم وجئنا بكَ شهيداً على هؤلاء ونزّلنا علينا الكتابَ تبياناً لكلّ شيء وهدىً ورحـمةً وبشرى للمسلمين )(3)..
وقد اعترف الفخر الرازي ـ وإن لم تكن أهمّية لاعترافه فأهمّية القرآن ذاتية ـ أنّ الآية دالّة على وجود شخص في زمن لا يزل ولا يخطأ يكون شاهداً على أُمّة كلّ قرن(4)، وإلاّ فكيف يكون شاهداً وهو مشهود عليه
____________
1) سورة الواقعة 56: 75 ـ 82.
2) سورة الأحزاب 33: 33.
3) سورة النحل 16: 89.
4) انظر: التفسير الكبير ـ ذيل الآية 89 من سورة النحل.
والحاصل
أنّ آية الاعتصام تنبّأ بملحمة مهمّة، وهي: أنّ ضعف وذلّ هذه الأُمّة لفرقتها لا يزول بغير الاعتصام بحبل الله، وهما الثقلان: الكتاب والعترة، وبذلك تتحقّق الوحدة..
وقد أشارت الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) بنت المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه الملحمة القرآنية في خطبتها: " فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك... وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة "(3).
والمرتضى (عليه السلام) وصيّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته القاصعة ـ وهي من أعظم خطبه صلوات الله عليه ; إذ يصف فيها ولاية أهل البيت (عليهم السلام) أنّها توحيد لله تعالى في الطاعة ـ يقول: " فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا ; فعقد بملّته طاعتهم، وجمع على دعوته أُلْفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها...
وتعطفت الأُمور عليهم في ذرى ملك ثابت، فهم حكّام على العالمين وملوك في أطراف الأرضين، يملكون الأُمور على من يملكها عليهم،
____________
1) سورة العنكبوت 29: 49.
2) سورة الرعد 13: 43.
3) الاحتجاج ـ للطبرسي ـ 1 / 258 ضمن ح 49، كشف الغُمّة ـ للأربلي ـ 1 / 483.
ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية، فإنّ الله سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأُمّة في ما عقد بينهم من حبل هذه الأُلفة التي ينتقلون في ظلّها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ; لأنّها أرجح من كلّ ثمن، وأجلّ من كلّ خطر.
واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة أحزاباً، ما تتعلّقون من الإسلام إلاّ باسمه، ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه، تقولون: النار ولا العار! كأنّكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه انتهاكاً لحريمه، ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم، حرماً في أرضه، وأمناً بين خلقه، وإنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثمّ لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم إلاّ المقارعة بالسيف حتّى يحكم الله بينكم "(1).
فقوله (عليه السلام): " فعقد بملّته طاعتهم، وجمع على دعوته أُلفتهم... قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم... " إنّ منّة الله على جماعة ووحدة الأُمّة هو بتوسّط ذلك الحبل، حبل الطاعة، وهو حبل الأُلفة، وإنّ في مقابل الموالاة الأحزاب، أيّ التفرّق والفُرقة ; فلا نصرة لهم من الله تعالى وملائكته والمؤمنين، كما أنّه (عليه السلام) أخبر الأُمّة بملحمة مستقبلية، هي الملحمة القرآنية في آية الاعتصام، أنّهم سيتفرّقون ويضعفون أمام الكفر وتكالب الأعداء وكثرة الحروب حتّى يقدّر الله تعالى النهاية، ولعلّه إشارة إلى عصر الظهور..
____________
1) نهج البلاغة: خطبة 192 ـ القاصعة.
فلا يأمل ولا يحلم المسلمـون بتحقّق الأُلفة والوحدة والقدرة لهم على أعدائهم من دون التمسّك بحبل الله، المتمثّل بولاية وطاعة أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ إنشاد الوحدة من دون ذلك ممتنع.
وهذا الإخبار من القرآن ومن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) إخبار إعجاز وتحدّ للمسلمين ; يعضد ذلك العقل والمشاهدة العيانية الاستقرائية لأوضاع المسلمين..
أمّا العقل:
فإنّ المسلمين إن لم يرجعوا في عقائدهم، ومن ثمّ في أحكامهم وقوانينهم إلى مصدر واحد، فكيف يتمّ لهم الاتّفاق في نظامهم السياسي والاجتماعي والمذهبي؟!
وأمّا المشاهدة العيانية الاستقرائية:
فهي حاصلة بأنّ مذاهب العامّة لا تكاد تنحصر في عدد معيّن، وحصرها في أربعة ما هو إلاّ من فعل الخلافة العبّـاسية في القرن الرابع الهجري، وإلاّ فمذاهب فقهائهم كثيرة كاثرة، وهي لا تزال في تشعّب مذهبي ـ أي في أُصول القواعد ـ وفقهي واعتقادي، ولم يبقَ من الأربعة إلاّ العدد فقط، فهناك ـ الآن ـ مذاهب الوهّابيّة والظاهرية والأباظية والتكفير والهجرة، وهلمّ جرّاً ; فكيف يرجى خلاص الأُمّة وهم يتّبعون مذاهب فقهية واعتقادية هي في الأصل من وضع الأُمويّـين والعبّـاسيّين، أي فقه السلاطين واعتقاداتهم؟!
ففقهاؤهم قاطبة ـ إلاّ ما شذّ وندر ـ يحرّمون الخروج على سلطان الجَوْر، بلغ ما بلغ غيّه وفساده وجوره، ما لم يكن كفراً بواحاً، وإن كان وصوله إلى السلطة بالتغلّب والقهر والسيف ; فهل ترى للأُمّة الإسلامية من
قال المزّي: " وقال أبو العبّـاس ابن عقدة ـ وذكر المزّي السند إلى حسن بن زياد، يقول ـ: سمعت أبا حنيفة وسأله: من أفقه من رأيت؟ فقال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّـد..
لمّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة! إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّـد، فهيّئ له من مسائلك الصعاب. قال: فهيأت له أربعين مسألة.
ثمّ بـعث إليّ أبـو جـعفر فأتيته بالحـيرة، فدخـلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر. فسلّمت، وأذن لي، فجلست.
ثمّ التفت إلى جعفر فقال: يا ابا عبـد الله! تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا أبو حنيفة. ثمّ أتبعها: قد أتانا(1).
ثمّ قال: يا أبا حنيفة! هات من مسائلك نسأل أبا عبـد الله.
وابتدأت أسأله، وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ونحن نقول كذا وكذا، فربّما تابعنا، وربّما تابع أهل المدينة، وربّما خالفنا جميعا، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أحزم منها مسألة.
ثمّ قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف
____________
1) الظاهر أنّ المراد: تتلمذ عندنا، كما ذكر ذلك المزّي أيضا في تهذيب الكمال: أنّ أبا حنيفة تتلمذ عنده (عليه السلام).
فها أنّك ترى أنّ أبا حنيفة يستخدمه الخليفة العبّاسي آلة طيّعة ليقابل تنامي نفوذ الإمام الصادق (عليه السلام) في المسلمين، ومثله الحال في بقية فقهائهم..
قال الحافظ ابن عبـد البرّ: " إنّ محمّـد بن سعد قال: سمعت مالك ابن أنس يقول: لمّا حجّ أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إنّي عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعت (يعني الموطّأ) فتنسخ نسخاً ثمّ أبعث إلى كلّ مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوها إلى غيرها! فإنّي رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم "(2).
وقد ذكر هذه الحادثة ابن قتيبة الدينوري، وذكر دخول أكثر فقهاء العامّة على المنصور، كسفيان الثوري، وابن ابي ذؤيب، وابن سمعان، وأنّ المنصور خطب فيهم ثمّ قسّم عليهم أموالا، وأنّ بعضهم أخذها، ومنهم مالك، وأنّ المهدي العبّاسي أمر لمالك بأربعة آلاف دينار مكافأة على كتابه الموطّأ، ولابنه بألف دينار، وأنّ هارون بالغ في الحفاوة به أيضاً(3).
فبدون ولاية وطاعة المعصوم لا سبيل للنجاة من الفُرقة ; إذ الأهواء المتّبعة مدعاة للفُرقة، والجهل والجهالات المتفشّـية هي الأُخرى موجبة لاختلاف القول والرأي، وبالتالي اختلاف الكلمة..
وتوحيد الكلمة الذي هو مظهر التوحيد الإلهي لا يتحقّق إلاّ بإمامة
____________
1) تهذيب الكمال 5 / 79.
2) كتاب الانتقاء: 41.
3) انظر: الإمامة والسياسة: 193، 195، 203، 208.
ولن يستكمل التوحيد حتّى يعمّ قوله تعالى: ( إن الحُكْمُ إلاّ لله )(1) كلّ المواطن، وإلاّ فعزل الباري عن مسرح الحياة البشرية وقصر التوحيد على الذات والصفات ـ كما يصنع العلمانيون ـ ليس إلاّ توحيد أجوف صوري، كما أنّ التوحيد في التشريع ـ النبوّة ـ دون التوحيد في التطبيق هو الآخر توحيد نظري بدون تطبيق، كما قال الإمام عليّ (عليه السلام): " احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة "، أي ثمرة النبوّة وهي الولاية لأهل البيت (عليهم السلام)، فولايتـهم وإمامتـهم نهاية معاقل التوحـيد وزبدة مواطنه، وهو الامتحان الذي فشل فيه إبليس الرجيم ; إذ لم يكفر بتوحيد الذات ولا الصفات بحسب الظاهـر ولا بالمعاد، بل كـفر بولايـة آدم وخـلافته، أي بالتوحيد في مقام الطاعة والولاية، فنجم عن ذلك كفره وحبط عمله، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته القاصعة الطويلة، وسنشير إلى مقطعين منها..
الأوّل: " الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل
____________
1) سورة الأنعام 6: 57، سورة يوسف 12: 40 و 67.
ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ; فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب: ( إنّي خالقٌ بشراً من طين * فإذا سوّيْتُهُ ونفخْتُ فيه من روحـي فقـعوا لـه ساجـدين * فسجدَ الملائكةُ كلّهم أجمعونَ * إلاّ إبليس )(1) اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه، وتعصّب عليه لأصله، فعدوّ الله إمام المتعصّبين، وسلف المتكبّرين، الذي وضع أساس العصـبية، ونازع الله رداء الجـبرية، وادّرع لباس التعـزّز، وخلع قناع التذلّل.
ألا ترون كيف صغّره الله بتكبيره، ووضعه بترفّعه، فجعله في الدنيا مدحوراً، وأعدّ له في الآخرة سعيراً، فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ; إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ـ وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته... ".
الثاني: " فاحذروا عباد الله! أن يعديكم بدائه، وأن يستفزّكم بندائه... ألا وقد أمعنتم في البغي، وأفسدتم في الإرض، مصارحة لله بالمناصبة، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة، فالله الله في كبر الحمية، وفخر الجاهلية... ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم! الّذين تكبّروا عن حسبهم، وترفّعوا فوق نسبهم، وألقَوْا الهجينة على ربّهم ـ أي قبحوا فعل ربّهم ـ وجاحدوا الله على ما صنع بهم ; مكابرة لقضائه، ومغالبة لآلائه،
____________
1) سورة ص 38: 71 ـ 74.
ثمّ بيّن (عليه السلام) في آخر الخطبة خصائصه الموجبة لوصايته بعد النبوّة.
فبيّن (عليه السلام) أنّ الخضوع لآدم وطاعته وولايته بأمر من الله تعالى هي تواضع لله، ونفي للكبر، أي نفي المخلوق استقلاليّته أمام استقلالية الذات الأزلية ; فولاية خليفة الله توحيد لله تعالى في آخر المعاقل التي يطرد منها الكفر ويقام فيها التوحيد، وذلك المعقل هو ذات الإنسان نفسه، فهدم كبر الأنانية وإقامة فقر العبد لله بتولّي الإمام المنصوب من قبل الله، إقامة للتوحيد في صقع الذات الإنسانية، وإن إبليس قد فشل في هذا الامتحان للتوحيد، فلم تنفعه دعواه التوحيد في سائر المقامات، هذا في المقطع الأوّل.
وأمّا المقطع الثاني فهو (عليه السلام) يبيّن فيه أنّ مَن تقحّموا الخلافة من قبله قد ردّوا على الله تعالى أمره، وقبّحوا نصبه تعالى وجعله عليّاً (عليه السلام) خليفةً ووصيّاً ; فنهجوا نهج إبليس في الاستكبار، وأنّهم قواعد أساس العصبية ودعائم أركان الفتنة، وهذا الحكم منه (عليه السلام) أشدّ ممّا ورد في الخطبة الشقشقية وأصرح في بيان حالهم..
ثمّ إنّه (عليه السلام) بيّن أنّ الإفساد في الأرض هو لكون الناس أحزاباً
وتتّضـح جليّاً الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: ( إنّ هذه أُمّتُكم أُمّةً واحدةً وأنا ربّكم فاعبـدونِ )(1) ; فلازم كونها أُمّة واحدة توحيدية بتمام التوحيد هو الربوبية لله وحده من دون وجود طاغوت استكباري على أوامره تعالى، وإلاّ فالأُمّة الإسلامية ستكون أُمماً كثيرة، كلّ مجموعة تتّبع هوىً ما، وطاغوتاً ما ; إذ الأُمّة في اللغة والاشتقاق من: أمّ يؤمّ، أي: قصد واتّبع، فإذا كانت المقاصد والمناهج الأصلية مختلفة فسيكون المجموع أُمماً لا أُمّة واحدة.
والإشارة إلى ذلك أيضاً في قوله تعالى: ( قل يا أهلَ الكتابِ تعالَوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينَكم ألاّ نعبدَ إلاّ اللهَ ولا نشركَ بهِ شيئاً ولا يتّخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دونِ اللهِ فإنْ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون )(2)..
فإن توحّد الربوبية لله تعالى يقضي بتوحيد المنهاج والشريعة والطاعة والولاية، نعم من أبجديات فقه أهل البيت (عليهم السلام) أنّ أهل الكتاب في ظلّ الحكم الشرعي لهم حقّ التعايش السلمي بضريبة الجزية، بدلا عن ضريبة الزكاة والخمس الموضوعة على المسلمين، وأنّ من خصوصيات عقيدة
____________
1) سورة الأنبياء 21: 92.
2) سورة آل عمران 3: 64.
فإنّ المشاهد في الآيات أنّه عند المنعطفات الحادّة الصعبة سياسياً، أو عسكرياً من الحرب أو السلم، أو قضائياً أو مالياً يكون التدبير الجزئي والحكم صادر منه تعالى، فالحاكم السياسي الأوّل في حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الله تعالى، وحاكميّته تعالى لا تقتصر على التشريعات الكلية فحسب، كما هو المزعوم في معتقد المذاهب الإسلامية الأُخرى، وكما هو الحال في الديانة المسيحية واليهودية: ( وقالت اليهودُ يدُ الله مغلولةٌ غُلّتْ أيديهِم ولُعنوا بما قالوا بل يداهُ مبسوطتانِ يُنفقُ كيفَ يشاء )(1)، بل تشمل جميع نواحي الحياة..
ولن تجد ـ إذا فتّشت ـ عقيدة تتبنّى حاكمية الله تعالى السياسية والعسكرية و... وباقي نواحي الحياة فضلا عن حاكميّته في مجال التشريع غير عقيدة الإمامة الإلهية ; وهذا معنى أنّ الإمامة والولاية باب من أبواب التوحيد ومن أبواب ربوبية الله تعالى وحده في النظام الاجتماعي السياسي.
النبيّ هارون (عليه السلام) ونموذج الوحدة:
وقوله تعالى حكاية عن هارون بعد عبادة بني إسرائيل العجل: ( قال
____________
1) سورة المائدة 5: 64.
ملحمة قرآنية يسطرها لنا القرآن الكريم تبياناً لموقف هارون وصيّ موسى (عليه السلام) بعدما ضلّ كثير من بني إسرائيل عن الهدى إلى عبادة العجل واتّباع السامري..
ففي الوقت الذي راعى فيه هارون وحدة بني إسرائيل وحافظ عليها، إلاّ أنّه لم يتّبع ضلال أكثرية بني إسرائيل والسامري في عبادة العجل لتحقيق الوحدة، بل قال لهم: ( يا قومِ إنّما فُتِنْتُم به وإنّ ربَّكُمُ الرحمنُ فاتّبِعوني وأطيعوا أمْري )(2) ; فقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
وكان الأُسلوب الذي اتّخـذه لا بنحو يؤدّي إلى فُرقة بني إسرائيل ولا بنحو ذوبانه هو في الانحراف وترك طريق الإصلاح، لا سيّما وأنّه لم تكن لديه القدرة على الالتجاء إلى القوّة في الإصلاح، كما قال: ( ابنَ أُمَّ إنّ القومَ اسْتضْعَفوني وكادوا يقْتُلونَني )(3) وهو يدلّ على مدى رفض هارون (عليه السلام) للانحراف الحاصل لدى بني إسرائيل ومقاومته السلمية الثابتة لهم بلا مهادنة حتّى كادوا أن يقتلوه.
والذي قام به هارون (عليه السلام) هو الذي أوصاه به موسى (عليه السلام): ( وقال موسى لأخيه هارونَ اخْلُفْني في قَوْمي وأصْلِحْ ولا تتّبِعْ سبيلَ المفسدين )(4)، فأمره بالإصلاح ونهاه عن اتّباع سبيل المفسدين، ومن
____________
1) سورة طه 20: 94.
2) سورة طه 20: 90.
3) سورة الأعراف 7: 150.
4) سورة الأعراف 7: 142.
وكانت مساءلة موسى (عليه السلام) عن عدم اتّباع هارون (عليه السلام) له، أي عن عدم مفارقة هارون لبني إسرائيل ولحوقه بموسى كي يحلّ عليهم العذاب، أو عن عدم مقاتلته لتيّار الانحـراف والضلال في بني إسرائيل، فأجابه بتحرّيه طريق الإصلاح من الاهتمام بمصير بني إسرائيل، وإرشادهم إلى الصواب، ونهيهم عن الضلال، ومقاطعته وتبرّيه عن سبيل المفسدين، ورضى موسى (عليه السلام) بفعله.
وفي الحقيقة إنّ مساءلة النبيّ موسى (عليه السلام) لوصيّه النبيّ هارون (عليه السلام)عن دوره في هذا الحدث الداهية الفظيع، وكذلك أخذه برأسه ولحيته، ليس لإدانة أخيه ووصيّه، أو شكّه في استقامته، بل هي لإجل بيان مدى فظاعة الانحراف والضلال الذي ارتكب، كما قال موسى: ( بئسما خَلَفْتُموني من بعدي )(2)، ( قال فإنّا قد فتَنّا قوْمكَ من بعدِكَ وأضَلّهُمُ السامِريُّ )(3)، وكذلك لدفع تهمة تخاذل هارون عن الحقّ..
وهي أيضاً نظير مساءلة الله تعالى للنبيّ عيسى يوم المعاد: ( وإذ قال الله يا عيسى ابنَ مريمَ أأنت قلت للناس اتّخذوني وأُمّيَ إلهينِ من دون الله قال سبحانك ما يكونُ لي أنْ أقولَ ما ليس لي بحقّ إن كنتُ قلْتُهُ فقد علِمْتَهُ تعلمُ ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسك إنّك أنت علاّمُ الغُيوب * ما قلتُ لهم إلاّ ما أمَرْتَني به أن اعْبُدوا اللهَ ربّي
____________
1) سورة طه 20: 92 ـ 94.
2) سورة الأعراف 7: 150.
3) سورة طه 20: 85.