الصفحة 424

وقوله تعالى: ( وآخرونَ مُرْجوْنَ لأمْر الله إمّا يُعذّبُهُم وإمّا يتوبُ عليهم واللهُ عليمٌ حكيمٌ )(1)..

فالآية الأُولى من البراءة تحدّده بالاعتراف بالذنوب، وهذا نوع ونمط من التوبة والإيمان بالحقّ والإعراض عن الضلال.

ووردت أيضاً روايات عديدة في تحديده:

في رواية ابن الطيّار عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن المستضعف، فقال: " هو الذي لا يستطيع حيلة الكفر فيكفر، ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان فيؤمن، لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر، فهم الصبيان، ومَن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان، ومن رُفع عنه القلم "(2).

وروى أيضاً، قال: قال أبو عبـد الله (عليه السلام): " المرجون لأمر الله قوم كانوا مشركين قتلوا حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ثمّ دخلوا بعده في الإسلام، فوحّدوا الله وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة، ولم يكونوا على جحودهم فتجب لهم النار، فهم على تلك الحالة مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم "(3)..

وظاهر الرواية الثانية أنّ " المُرجأ " هو الذي أسلم ولم يؤمن، نظير قوله تعالى: ( قالت الأعرابُ آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا

____________

1) سورة التوبة (براءة) 9: 106.

2) تفسير القمّي 1 / 149، بحار الأنوار 72 / 157 ح 1.

3) تفسير القمّي 1 / 304 ـ 305، بحار الأنوار 72 / 157.


الصفحة 425
ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبِكم )(1).

وروى الحلبي عن أبي عبـد الله (عليه السلام)، قال: " الناس على ستّ فرق: مستضعف، ومؤلّف، ومرجى، ومعترف بذنبه، وناصب، ومؤمن "(2).

وروى عبـد الغفّار الجازي عن أبي عبـد الله (عليه السلام)، قال: " إنّ المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضاً، ومَن لم يكن من أهل القبلة ناصباً فهو مستضعف "(3)..

وهذه الرواية تبيّن أنّ القصور على درجات عديدة، شـدّة وضعفاً، وهو هكذا عقلا، والضابطة فيه: أن لا يكون ناصباً، وهي تشير إلى اشتراط انتفاء درجات نصب العداء التي قد فسّرت في روايات عديدة بأنّ منها: معاداة الشيعة لكونهم أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، ومنها: تولّي أصحاب السقيفة والائتمام بهم، ومنها: بغض أهل البيت قلباً وإن لم يكن لساناً، ومنها: إنكار وجحد فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، وستأتي الروايات في ذلك.

وفي رواية سفيان بن السمط، قال: قلت لأبي عبـد الله (عليه السلام): ما تقول في المستضعفين؟ فقال لي شبهاً بالمفزّغ: " وتركتم أحداً يكون مستضعفاً؟! وأين المستضعفون؟! فو الله لقد مشى بأمركم هذا العواتق إلى العواتق في خدورهنّ، وتحدّث به السقايات بطرق المدينة "(4).

وروى عمرو بن إسحاق، قال: سئل أبو عبـد الله (عليه السلام): ما حدّ المستضعف الذي ذكره الله عزّ وجلّ؟ قال: " مَن لا يحسن سورة من القرآن

____________

1) سورة الحجرات 49: 14.

2) الخصال: 333 ح 34، بحار الأنوار 72 / 158 ح 4.

3) معاني الأخبار: 200 ح 1، بحار الأنوار 72 / 159 ح 8.

4) معاني الأخبار: 201 ح 6، بحار الأنوار 72 / 160 ح 11.


الصفحة 426
وقد خلقه الله عزّ وجلّ خلقة ما ينبغي له أن لا يحسن "(1) ; والحدّ في هذه الرواية من هو متخلّف عقلياً.

وفي رواية حمران، قال سألت أبا عبـد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ( إلاّ المستضعفين )؟ قال: " هم أهل الولاية "، قلت: وأي ولاية؟! فقال: " أما إنّها ليست بولاية في الدين ولكنّها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفّار، وهم المرجون لأمر الله عزّ وجلّ "(2).

وروى سليمان بن خالد، قال: سألت أبا عبـد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ( إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ).. الآية؟ قال: " يا سليمان! في هؤلاء المستضعفين مَن هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون ويصلّون، تعفّ بطونهم وفروجهم، لا يرون أنّ الحقّ في غيرنا [ غيرها ] آخذين بأغصان الشجرة، ( فأُولئك عسى الله أن يعفوَ عنهم ) ; إذ كانوا آخذين بالأغصان وإن لم يعرفوا أُولئك، فإن عفى عنهم فبرحمته، وإن عذّبهم فبضلالتهم عمّا عرّفهم "(3)..

وعلى نسخة: " غيرها " ; يكون المعنى: لا يرون أنّ الحقّ في غير الأعمال الصالحة، كالصوم والصلاة والعفّة، ولا يعرفون حقائق الإيمان والولاية، فعسى أن يعفو الله تعالى عنهم بأخذهم بتلك الأعمال وبعد امتحانهم ـ كما تقدّم في مستفيض الروايات ـ وإن لم يعرفوا أُولئك أصحاب

____________

1) معاني الأخبار: 202 ح 7، بحار الأنوار 72 / 160 ح 12.

2) مرّت تخريجات الحديث في ص 106.

3) تفسير العيّاشي 1 / 270 ح 250، معاني الأخبار: 202 ح 9، بحار الأنوار 72 / 161 ح 14.


الصفحة 427
السقيفة بالباطل، فإن عفى عنهم بعد الامتحان فبرحمته، وإن عذّبهم فبضلالتهم عن حقيقة الإيمان التي عرّفها لهم، ومَن هو أثخن رقبة منك، أي الساذج البله..

وعلى نسخة: " غيرنا " ; أي: لا يرون أنّ الحقّ في غيرنا، ولكنّهم لم يعرفوا أصحاب السقيفة بالباطل، فلديهم تولّي ولكن ليس لديهم تبرّي.

وفي موثّق سليمان بن خالد عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن المستضعفين؟ فقال: " البلهاء في خدرها والخادم تقول لها: صلِّ فتصلّي لا تدري إلاّ ما قلت لها، والجليب المجلوب، وهو الخادم الذي لا يدري إلاّ ما قلت له، والكبير الفاني، والصبي الصغير، هؤلاء المستضعفين، فأمّا رجل شديد العنق، جدل خصم، يتولّى الشراء والبيع، لا تستطيع أن تغبنه في شيء تقول: هذا مستضعف؟! لا ولا كرامة "(1).

وروى الصدوق عن أبي عبـد الله (عليه السلام)، قال: " مَن عرف الاختلاف فليس بمستضعف "(2)، وفي رواية أبي بصير: " مَن عرف اختلاف الناس... "(3).

وفي رواية سليم بن قيس في جواب أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشعث بن قيس ; قال الأشعث ـ رأس الفتنة ـ: والله لئن كان الأمر كما تقول لقد هلكت الأُمّة غيرك وغير شيعتك؟!

قال: " فإنّ الحقّ والله معي يا ابن قيس كما أقول، وما هلك من الأُمّة

____________

1) تفسير العيّاشي 1 / 270 ح 251، معاني الأخبار: 203 ح 10، بحار الأنوار 72 / 161 ح 15.

2) معاني الأخبار: 200 ح 2، بحار الأنوار 72 / 162 ح 17.

3) معاني الأخبار: 201 ح 3، بحار الأنوار 72 / 162 ح 18.


الصفحة 428
إلاّ الناصبين والمكابرين والجاحدين والمعاندين، فأمّا من تمسّك بالتوحيد والإقرار بمحمّـد والإسلام، ولم يخرج من الملّة، ولم يظاهر علينا الظلمة ولم ينصب لنا العداوة، وشكّ في الخلافة ولم يعرف أهلها وولاتها، ولم يعرف لنا ولاية ولم ينصب لنا عداوة، فإنّ ذلك مسلم مستضعف يرجى له رحمة الله ويُتخوّف عليه ذنوبه "(1)..

فذكر (عليه السلام) للمستضعف تسعة قيود لفظاً قد ترجع خمسة منها إلى أن لا يتوالى أعداء أهل البيت، والغاصبين للخلافة، ويكون شاكّاً، ولا يظاهر عليهم النصّاب.

وروى في مستطرفات السرائر مسائل محمّـد بن على بن عيسى مكاتبة لمولانا أبي الحسن الهادي (عليه السلام)، قال: كتبت إليه أسأله عن الناصب، هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاده بإمامتهما؟! فرجع الجواب: " مَن كان على هذا فهو ناصب "(2).

وروى في العلل، بسنده إلى عبـد الله بن سنان، عن الصادق (عليه السلام)، قال: " ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت ; لأنّك لا تجد رجلا يقول: أنا أبغض محمّـداً وآل محمّـد، ولكنّ الناصب مَن نصب لكم وهو يعلم أنّكم تتولّونا وأنّكم من شيعتنا "(3).

وروى المعلّى بن الخنيس، قال: سمعت أبا عبـد الله (عليه السلام) يقول: " ليس الناصب مَن نصب لنا أهل البيت، لأنّك لا تجد أحداً يقول: أنا

____________

1) كتاب سليم بن قيس الكوفي 2 / 670 ضمن ح 12، بحار الأنوار 72 / 170 ح 36.

2) مستطرفات السرائر 3 / 583.

3) علل الشرائع: 601 ح 60، طبعة النجف الأشرف.


الصفحة 429
أبغض محمّـداً وآل محمّـد، ولكنّ الناصب مَن نصب لكم وهو يعلم أنّكم تتولّونا وتتبرؤون من أعدائنا "(1).

وروي في الأمالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: " من سرّه أن يعلم أمحبّ لنا أم مبغض؟! فليمتحن قلبه، فإن كان يحبّ وليّاً لنا فليس بمبغض لنا، وإن كان يبغض وليّاً لنا فليس بمحبّ لنا "(2).

وروي في تفسير العسكري عن السجّاد ـ عليهما السلام ـ قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من عبد ولا أمَة زال عن ولايتنا، وخالف طريقتنا، وسمّى غيرنا بأسمائنا وأسماء خيار أهلنا، الذي اختاره الله للقيام بدينه ودنياه، ولقّبه بألقابنا، وهو كذلك يلقّبه معتقداً، لا يحمله على ذلك تقّية خوف، ولا تدبير مصلحة دين، إلاّ بعثه الله يوم القيامة ومَن كان قد اتّخذه من دون الله وليّاً وحشر إليه الشياطين الّذين كانوا يغوونه فقال له: يا عبدي! أربّاً معي هؤلاء كنت تعبد؟! وإيّاهم كنت تطلب؟! فمنهم فاطلب ثواب ما كنت تعمل، لك معهم عقاب إجرامك "(3).

فيتحصّل أنّ الناصب على أقسام والمستضعف على درجات، كلّها خارجة عن التقصير، ولا يندرج فيه الموالي لأئمّة الضلال، ومن ثمّ روي عنهم (عليهم السلام): " الناجون من النار قليل ; لغلبة الهوى والضلال "(4)، ومفاده: في النجاة من النار، لا النجاة من الخلود، وبينهما بون كما مرّ.

____________

1) معاني الأخبار: 365 ح 1.

2) الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ: 334 ح 4، الأمالي ـ للشيخ الطوسي ـ: 113 ح 172، بحار الأنوار 27 / 53 ح 6.

3) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 579 ح 341.

4) مرّت تخريجات الحديث في ص 112.


الصفحة 430

التاسـعة:

إنّ شرطية النجاة بالولاية لا تعني التواكل في العمل، وإنّما تعني أهمّية الولاية وأهمّية هذا المقام التوحيدي، فإنّ روح العمل وقوامه بالنيّة ; قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّما الأعمال بالنيّات "(1)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " نيّة المؤمن خير من عمله "(2).

وقد روى العسكري (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال لبعض أصحابه ذات يوم: يا أبا عبـد الله! أحبّ في الله وأبغض في الله، ووالِ في الله وعادِ في الله ; فإنّه لا تنال ولاية الله إلاّ بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتّى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون وعليها يتباغضون، وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً "(3).

فكما أنّ أهمّية الولاية لا تعني التفريط في العمل والتهاون فيه، فكذلك صلاح العمل في صورته وقالبه لا يعني التفريط بالولاية والإيمان، إذ أنّ الولاية لهم (عليهم السلام) هي توحيد الولاية له تعالى وإخلاص له في التولّي.

ومن ثمّ أكّدت عدّة آيات وروايات على خواء العمل بدونها، وإنّه

____________

1) دعائم الإسلام 1 / 156، الهداية ـ للشيخ الصدوق ـ: 62، الأمالي ـ للشيخ الطوسي ـ: 618 ضمن ح 1274.

2) الكافي 2 / 69 ح 2، علل الشرائع: 524 ح 1.

3) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 49 ضمن ح 22، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 / 291 ح 41، علل الشرائع: 140 ح 1، الأمالي ـ للشيخ الصدوق ـ: 61 ح 21، معاني الأخبار: 37 ضمن ح 9 و 399 ح 58، بحار الأنوار 27 / 54 ح 8.


الصفحة 431
هباءً منثوراً ; قال تعالى: ( مثلُ الّذين كفروا بربّهم أعمالُهم كرماد اشتدّتْ به الريحُ في يوم عاصف لا يقدرون ممّا كسبوا على شيء ذلك هو الضلالُ البعيد )(1)..

وقال: ( وقدِمْنا إلى ما عمِلوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً )(2)..

وقال: ( والّذين كفروا أعمالُهم كسراب بقِيعَة يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتّى إذا جاءَهُ لم يجِدْهُ شيئاً )(3)..

وقال: ( يحْسَبونَ أنّهم يُحْسِنون صُنْعاً )(4)..

وقال: ( ويحْسَبونَ أنّهم على شيء ألا إنّهم هم الكاذبون )(5).

العاشـرة:

إنّ مفاد الحـديث النبوي المعروف بين الفريقـين بـ: " حديث الفرقة الناجية " هو الدعوة لتمييزها ومعرفتها كي تُتّبع، والنهي عن اتّباع غيرها، وعن التوقّف والتبلبل والحيرة والاضطراب..

روى الشيخ المفيد بسنده عن سلمان رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " تفترق أُمّتي ثلاث فرق: فرقة على الحقّ لا ينقص الباطل منه شيئاً، يحبّونني ويحبّون أهل بيتي، مثلهم كمثل الذهب الجيّد كلّما أدخلته النار فأوقدت عليه لم يزده إلاّ جودة، وفرقة على الباطل

____________

1) سورة إبراهيم 14: 18.

2) سورة الفرقان 25: 23.

3) سورة النور 24: 39.

4) سورة الكهف 18: 104.

5) سورة المجادلة 58: 18.


الصفحة 432
لا ينقص الحقّ منه شيئاً، يبغضونني ويبغضون أهل بيتي، مثلهم مثل الحديد كلّما أدخلته النار فأوقدت عليه لم يزده إلاّ شرّاً، وفرقة مدهدهة، على ملّة السامري، لا يقولون: لا مساس، لكنّهم يقولون: لا قتال، إمامهم عبـد الله بن قيس الأشعري "(1)..

ويشير (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اضطراب الفرقة الثالثة، وأنّ شعارهم: " لا قتال "، أي: لا فيصلة بين الحقّ عن الباطل، ويمزجون المذاهب والمسارات، مدهدهة البصيرة(2).

وروي ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، إلاّ أنّه وصف الفرقة المذبذبة بأنّها شـرّ الفرق ; فقال: " إنّ هذه الأُمّـة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحـدة منها في الجـنّة واثنتان وسـبعون في النار، وشرّها فأبغضها إلى الله وأبعـدها منه السامـرة، الّذين يقولون: " لا قتال " وكذبوا، وقد أمر الله عزّ وجلّ بقتال هؤلاء الباغين في كتابه وسُـنّة نبيّه، وكذلك المارقة "(3).

وروى في كشف الغُمّة أنّ عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال: " قد انتحلت طوائف من هذه الأُمّة ـ بعد مفارقتها أئمّة الدين والشجرة النبوية ـ إخلاص الديانة وأخذوا أنفسهم في ضحائل الرهبانية و... حتّى إذا طال عليهم الأمد وبعدت عليهم الشقّة وامتحنوا بمحن الصادقين رجعوا على أعقابهم ناكصين...

____________

1) الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ: 29 ح 3.

2) مناقب عليّ بن أبي طالب ـ لابن مردويه ـ: 124 ح 157، بحار الأنوار 28 / 9 ـ 10 ح 12 و 16.

3) كتاب سليم بن قيس الكوفي 2 / 663 ضمن ح 12.


الصفحة 433
وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن، فتأوّلوا بآرائهم، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا، يقتحمون في أغمار الشبهات ودياجير الظلمات بغير قبس نور من الكتاب، ولا أثرة علم من مظانّ العلم، بتحذير مثبطين زعموا أنّهم على الرشد من غيّهم..

وإلى مَن يفزع خلف هذه الأُمّة، وقد درست أعلام الملّة، ودانت الأُمّة بالفرقة والاختلاف يكفّر بعضهم بعضاً، والله تعالى يقول: ( ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات )(1)؟! فمَن الموثوق به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكمة، إلاّ أهل الكتاب وأبناء أئمّة الهدى ومصابيح الدجى؟!... "(2).

الحادية عشـرة:

إنّ جملة من أتباع الشيخين قد ذهبوا إلى وجود النصّ من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهما..

قال التفتازاني: المبحث الرابع: الجمهور على انّه (صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم) لم ينصّ على إمام، وقيل: نصّ على أبي بكر (رض) نصّاً خفيّاً، وقيل: جليّاً.

وقالت الشيعة: على عليّ (كرّم الله وجهه) خفيّاً، والإمامية منهم: جليّاً أيضاً(3). انتهى.

وقال في شرح كلامه السابق: ذهب جمهور أصحابنا والمعتزلة

____________

1) سورة آل عمران 3: 105.

2) كشف الغمّة 2 / 98 ـ 99، بحار الأنوار 27 / 193 ح 52.

3) شرح المقاصد 5 / 258.


الصفحة 434
والخوارج إلى أنّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم لم ينصّ على إمام بعده، وقيل: نصّ على أبي بكر ; فقال الحسن البصري: نصّاً خفيّاً، وهو تقديمه إيّاه في الصلاة، وقال بعض أصحاب الحديث: نصّاً جليّاً(1).

ثمّ إنّ التفتازاني يناقض نفسه ; فمع إنكاره للقول بالنصّ يستدلّ على إمامة أبي بكر بالنصّ!!

قال: المبحث الخامس: الإمام بعد رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ]وسلّم أبو بكر، وقالت الشيعة: عليّ.

لنا إجماع أهل الحلّ والعقد... وقد يتمسّك بقوله تعالى: ( قل للمخَلّفين من الأعراب... )(2).. الآية، فالداعي المفترض الطاعة أبو بكر عند المفسّرين!! وعمر عند البعض!! وفيه المطلوب، وبقوله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم: اقتدوا باللّذين من بعدي: أبي بكر وعمر... ثمّ قال: يأبى الله والمسلمون إلاّ أبا بكر... وبأنّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم استخلفه في الصلاة ولم يعزله... وهذه ظنّيات ربّما تفيد باجتماعها القطع، مع أنّ المسألة فرعية يكفي فيها الظنّ(3).

واستدل في موضع آخر بعدّة نصوص رووها في فضائل أبي بكر وعمر(4).

ثمّ إنّ التفتازاني ـ ككثير من متكلّمي ومحدّثي أهل سُـنّة الجماعة ـ عقد بحثاً آخر مستقلاًّ في ذيل الإمامة، وهو البحث عن الأفضلية في هذه

____________

1) شرح المقاصد 5 / 259.

2) سورة الفتح 48: 16.

3) شرح المقاصد 5 / 263 ـ 264.

4) فلاحظ: شرح المقاصد 5 / 292 ـ 294.


الصفحة 435
الأُمّة لمَن؟! وترتيبها وأدلّتها..

قال: المبحث السادس: الأفضلية عندنا بترتيب الخلافة، مع تردّد فيما بين عثمان وعليّ (رضي الله عنه)، وعند الشيعة وجمهور المعتزلة الأفضل عليّ. لنا أجمالا(1).

وكذلك لاحظ الأيجي في المواقف، والشريف الجرجانى في شرحها في المرصد الرابع، فإنّهما مع نفيهما للنصّ قالا في جواب النصوص على إمامة عليّ (عليه السلام): " هذه النصوص معارضة بالنصوص الدالّة على إمامة أبي بكر، وهي من وجوه: الأوّل: قوله تعالى:... "، ثمّ استدلّ بعدّة آيات قرآنية ونصوص روائية(2).

كما أنّه في المقصد الخامس من المرصد الرابع عقد البحث في الأفضلية.

هذا، والإمعان في كلماتهم في عدالة الصحابة وفضائلهم، وبالخصوص أصحاب السقيفة، وبالأخصّ الشيخين، يدلّ بوضوح على أنّهم يستدلّون بها بنحو يوازي الاستدلال بالعصمة وامتناع ارتكاب الباطل، إلاّ أنّهم يغلّفوها بعبارات وعناوين عائمة غائمة تغطية للمعنى المستدلّ به بألفاظ أُخرى كي تتم المغالطة وتنطوي، وهذا النمط من الاستدلال من أوسع أنواع صناعة المغالطة مضافاً إلى اضطراب حدود المعاني بتوسّط هذا النمط من الاستدلال، كما أنّهم إذا ضاق بهم الخناق في الاستدلال والجواب عن دلائل إمامة عليّ (عليه السلام) تراهم يتأمّلون في كون عصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقة..

____________

1) شرح المقاصد 5 / 290.

2) شرح المواقف 8 / 363.


الصفحة 436
لاحظ مثلا: ما ذكر الأيجي في المواقف عن الاستدلال بـ: " فاطمة بضعة منّي "(1). وهذه هي عاقبة الأمر، وقد رووا: إنّ عمر محدَّث هذه الأُمّة!! و: لو كان نبيّاً بعدي لكان عمر!!!

الثانية عشـرة:

هناك طوائف عديدة من الروايات بألفاظ مختلفة تنهى عن الذوبان في المخالفين والتسيّب في مخالطتهم، وتأمر بالتحفّظ في كيفية التعايش معهم، وهذه الطوائف متوافقة مع الطوائف الأُخرى الآمرة بالمداراة لهم والتعامل معهم بالحسن والتجمّل ; لأنّ الأُولى تحدّد هذا التعامل بكونه سطحيّاً لا في العمق، والثانية إنّما تحثّ على حسن التعامل على صعيد السطح..

منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبـد الله (عليه السلام)، أنّه أتاه قوم من أهل خراسان من ما وراء النهر فقال لهم: " تصافحون أهل بلادكم وتناكحونهم، أما إنّهم إذا صافحتموهم انقطعت عروة من عرى الإسلام وإذا ناكحتموهم انتهك الحجاب فيما بينكم وبين الله عزّ وجلّ "(2).

وفي موثّق زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: كانت تحته امرأة من ثقيف وله منها ابن يقال له: إبراهيم، فدخلت عليها مولاة لثقيف فقالت لها: من زوجك هذا؟ قالت: محمّـد بن علي. قالت: فإنّ لذلك أصحاباً بالكوفة

____________

1) المواقف 3 / 607 ـ 610.

2) الكافي 5 / 352 ح 17.


الصفحة 437
قوم يشتمون السلف ويقولون. قال: فخلّى سبيلها، فرأيته بعد ذلك قد استبان عليه وتضعضع من جسمه شيء.. الحديث(1).

وفي صحيح عبـد الله بن سنان، عن أبي عبـد الله (عليه السلام) ـ في حديث ـ: " ولا يتزوج المستضعف المؤمنة "(2).

وفي مـوثّق زرارة عن أبي عبـد الله (عليه السلام)، قال: تزوّجوا في الشُكّاك ولا تزوّجوهم ; فإنّ المرأة تأخذ أدب زوجها ويقهرها على دينه "(3) ; ورواها الصدوق بطريق صحيح(4).

وهذه الروايات في مورد النكاح وإن اختلفت أقوال الفقهاء في المنع أو الكراهة أو التفصيل، إلاّ أنّ مفادها إجمالا يسوس باتّجاه التحفّظ عن الذوبان فيهم، وإبقاء عازل في ضمن نظام التعايش معهم.

____________

1) الكافي 5 / 351 ح 13.

2) الكافي 5 / 351 ح 8.

3) الكافي 5 / 351 ح 5.

4) من لا يحضره الفقيه 3 / 408 ح 4426.