الصفحة 60

فذكر قوله: إنّي لا آسى إلاّ على ثلاث فعلتهن ووددت انّي لم أفعلهنّ، وثلاث لم أفعلن وودت انّي فعلتهن، وثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عنهنّ; فأمّا الثلاث التي فعلتها ووددت انّي لم أكن فعلتها، فوددت انّي لم أكن كشفت عن بيت فاطمة وتركته ولو أُغلق على حرب(1)


وقال في مكان آخر نقلاً عن القاضي عبد الجبار:


وأمّا حديث الإحراق فلو صحّ لم يكن طعناً على عمر لأنّ له أن يهدد من امتنع عن المبايعة إرادة للخلافة على المسلمين(2)


25. الجويني و «فرائد السمطين»

إبراهيم بن محمد الحديد المعروف بالجويني (المتوفّـى عام 722هـ) من مشايخ الذهبي، يقول في حقه: إمام، محدث، فريد، فخر الإسلام وصدر الدين(3)

____________

1. شرح نهج البلاغة:2/46 ـ 47.

2. شرح نهج البلاغة:16/272 وقال المعلق: نقله المرتضى في الشافي:234 ـ 235.

3. معجم شيوخ الذهبي:125 رقم الترجمة156.


الصفحة 61
فقد روى في كتاب فرائد السمطين بالسند المذكور فيه عن ابن عباس، انّ رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن (عليه السَّلام)، فلما رآه بكى، ثمّ قال: إليَّ إليَّ يا بُنيّ فمازال يُدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى. ثمّ أقبل الحسين (عليه السَّلام) فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: إليَّ إليَّ يا بُنيّ، فمازال يُدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليُسرى. ثمّ أقبلت فاطمة (عليها السَّلام)، فلمّا رآها بكى، ثمّ قال: إليَّ إليَّ يا بُنيّة فاطمة، فاجلسها بين يديه. ثمّ أقبل أمير المؤمنين علي (عليه السَّلام)، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: إليّ إليّ يا أخي، فمازال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه يا رسول اللّه! ما ترى واحداً من هؤلاء إلاّ بكيت! أو ما فيهم من تسرّ برؤيته؟ فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية، إنّي وإيّاهم لأكرم الخلائق على اللّه عزّوجلّ و ما على وجه الأرض نسمة أحبَّ إليَّ منهم.

إلى أن قال: وأمّا ابنتي فاطمة فانّها سيدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي وهي نور عيني،وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الانسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جلّ جلاله، زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض.

ويقول اللّه عزّ وجلّ لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى أمتي

الصفحة 62
فاطمة سيدة إمائي قائمة بين يدي، ترعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أُشهدكم انّي قد أمّنت شيعتهامن النار. وانّي لما رأيتها ذكرتُ ما يُصنع بها بعدي كأنّي بها و «قد دخل الذُّل بيتها وانتهكت حرمتها وغصب حقّها، ومنعت إرثها،وكُسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي يا محمداه فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث(1)

26. الذهبي و «تاريخ الإسلام»

يقول شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (المتوفّى 748هـ) في كتاب تاريخ الإسلام:


روى علوان بن داود البجلي، عن حميد بن عبدالرحمن عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه، وقد رواه الليث بن سعد عن علوان عن صالح نفسه، قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه فسلمت عليه وسألته كيف أصبحت؟ فقال: بحمد اللّه بارئاً، إلى أن قال: ثمّ قال: انّي لا آسى على شيء إلاّعلى ثلاث فعلتهن


____________

1. فرائد السمطين:2/34 ـ 35، ط بيروت.


الصفحة 63

وثلاث لم أفعلهن، وثلاث وددت أنّي سألت رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عنهن: وددت انّي لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وأن أُغلق عليّ الحرب، وددت انّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق عمر أو أبي عبيدة(1)


27. نور الدين الهيتمي و «مجمع الزوائد»

أخرج الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيتمي (المتوفّى سنة 807هـ) في كتابه مجمع الزوائد و ضبع الفوائد في باب كراهة الولاية ولمن تستحب.


روى وقال: فعن عبد الرحمن بن عوف، قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفي فيه وسلمت عليه وسألته كيف أصبحت؟ فاستوى جالساً وقال: أصبحت بحمد اللّه بارئاً ـ إلى أن قال: ـ أمّا انّي لا آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتهن وددت انّي لم أفعلهن، وثلاث لم أفعلهن وددت انّ فعلتهن، وثلاث وددت انّي سألت


____________

1. تاريخ الإسلام:3/117 ـ 118.


الصفحة 64

رسـول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عنهن.

فأمّا الثلاث التي وددت انّي لم أفعلهنّ فوددت انّي لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وان اغلق على الحرب، وددت انّي يوم سقيفة بني ساعدة قذفت الأمر في عنق الرجلين أبو عبيدة أو عمر و كان أمير المؤمنين وكنت وزيراً.(1)


28. ابن حجر العسقلاني ولسان الميزان

أخرج الإمام الحافظ شهاب الدين أبو الفضل المعروف بالعسقلاني (المتوفّى سنة 852هـ) في كتابه لسان الميزان بسنده عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه، قال:


دخلت على أبي بكر أعوده فاستوى جالساً فقلت: أصبحت بحمد اللّه بارئاً، فقال أبو بكر: أمّا إنّي على ماترى بي... انّي لا آسى على شيء إلاّعلى ثلاث وددت انّي لم أفعلهن وددت انّي لم أكشف بيت فاطمة وتركته وإن أُغلق على الحرب، وددت انّي يوم السقيفة كنت قذفت الأمر في عنق أبي عبيدة أو عمر فكان أميراً وكنت وزيراً(2)


____________

1. مجمع الزوائد:5/202 ـ 203.

2. لسان الميزان:4/188 ـ 189.


الصفحة 65

29. المتقي الهندي و «كنز العمال»

روى علاء الدين المتقي الهندي (المتوفّى عام 975هـ) في كنز العمال حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو مفصل، وقال:


عن عبد الرحمن بن عوف انّ أبا بكر الصديق، قال له في مرض موته: إنّي لا آسى على شيء إلاّعلى ثلاث فعلتهن ووِددت انّي لم أفعلهن وثلاث لم أفعلهن ودِدت انّي فعلتهن، وثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه عنهن، فأمّا اللاتي فعلتها ووددت انّي لم أفعلها فوددت انّي لم أكن أكشف بيت فاطمة وتركته وإن كانوا قد غلقوه على الحرب...(1)


30. عبد الفتاح عبد المقصود و كتاب «الإمام علي عليه السَّلام»

إنّ عبد الفتاح مؤلف كتاب «الإمام علي (عليه السَّلام)» أحد الكتّاب البارعين في العصر الحاضر، فقد جدّ وثابر وبذل جهود جبارة وأخذ زبدة المخض من الحقائق الناصعة وقدم بكتابه هذا خدمة مشكورة وقال في حادثة الدار:


إنّ عمر قال: والذي نفسي بيده، ليخرجنّ أو


____________

1. كنز العمال:5/631، رقم الحديث14113.


الصفحة 66

لأحرقنّها على من فيها.

قالت له طائفة ـ خافت اللّه، ورعت الرسول في عقبه ـ: يا أبا حفص انّ فيها فاطمة....

فصاح لا يبالي: وإن واقترب وقرع الباب، ثمّ ضربه واقتحمه...وبدا له عليّ.

ورنّ حينئذاك صوت الزهراء عند مدخل الدار.

فان هي إلاّ رنة استغاثة أطلقتها «يا أبت رسول اللّه...» تستعدي بها الراقد بقربها في رضوان ربّه عليعسف صاحبه، حتّى تبدّل العاتي المدل غير إهابه، فتبدّد على الأثر جبروته، وذاب عنفه وعنفوانه، وودّ من خزى لو يخرّ صعقاً تبتلعه مواطئ قدميه ارتداد هدبه إليه.

وعندما نكص الجمع، وراح يفرّ كنوافر الظباء المفزوعة أمام صيحة الزهراء، كان عليّ يقلّب عينيه من حسرة وقد غاض حلمه، وثقل همّه، وتقبضت أصابع يمينه على مقبض سيفه كهمّ من غيظه أن تغوص فيه(1)


____________

1. عبد الفتاح عبد المقصود: الإمام علي عليه السَّلام:4/274 ـ 277.وله كلمة أُخرى في هذا الموضوع لاحظ الجزء1/192 ـ 193 لم نأت بها روماً للاختصار.


الصفحة 67

3
في الوثائق التاريخية


انّ هنا وثائق تاريخية تكشف عمّا جرى عليها من ظلم وقسوة وهضم حقّ ممّا يندى له جبين الإنسانية.

الوثيقة الأُولى:

احتجاج عروة بن الزبير بعمل الخليفة لتبرير فعل أخيه عبد الله الذي جمع الحطب لإحراق بني هاشم.

الوثيقة الثانية:

كتاب يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن عمر.

الوثيقة الثالثة:

الأحاديث الّتي رواها البخاري في كتاب «الخمس والمغازي».

الوثيقة الرابعة:

الخطبة الغرّاء لفاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ الّتي ألقتها في محتشد عظيم ضمّ المهاجرين والأنصار.


الصفحة 68

الصفحة 69

3
الوثائق التاريخية


انّ ما ذكرناه من المصادر الجمّة يكفي في إثبات المقصود ولو أضفنا إليه ما ذكره مؤرّخو الشيعة ومحدّثوهم حول حوادث السقيفة، لأصبحت القضية من المتواترات بل الضروريات التي لا يشكّ فيها من له إلمام بالتاريخ.

وقد كانت القضية في العصور الأُولى من الأُمور المسلمة حتى أنّ بعض من تلطّخت أيديهم بدماء المسلمين أخذوا يبرّرون ما يقترفونه بعمل الخليفة، وإليك هذه الوثائق التاريخية.


الصفحة 70

الوثيقة الأُولى


روى المسعودي «انّ ابن الزبير عمد إلى مكة من بني هاشم، فحصرهم في الشعب، وجمع لهم حطباً عظيماً لو وقعت فيه شرارة من نار لم يسلم من الموت أحد، وفي القوم محمد بن الحنفية.

ثمّ قال وحدّث النوفلي في كتابه في الاخبار، عن ابن عائشة، عن أبيه، عن حماد بن سلمة، قال: كان عروة بن الزبير يعذِّر أخاه إذا جرى ذكرُ بني هاشم وحصره إياهم في الشعب وجمعه لهم الحطب لتحريقهم، ويقول: إنّما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته إذا هم أبوا البيعة فيما سلف، وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا،وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب «حدائق الأذهان».

ونقله ابن(1) أبي الحديد أيضاً وقال: وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد اللّه في حصر بني هاشم في الشعب، وجمعه الحطب ليحرقهم ويقول: إنّما أراد بذلك ألا تنتشر الكلمة، ولا يختلف

____________

1. مروج الذهب:3/77، ط دار الأندلس.


الصفحة 71
المسلمون، وأن يدخلوا في الطاعة، فتكون الكلمة واحدة، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر، فانّه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار(1)

____________

1. شرح نهج البلاغة:20/147.


الصفحة 72

الوثيقة الثانية


وروى البلاذري قال: لما قتل الحسينعليه السَّلام كتب عبد اللّه بن عمر إلى يزيد بن معاوية:

أمّا بعد، فقد عظمت الرزية وجلت المصيبة، وحدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسين.

فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، يا أحمق، فانا جئنا إلى بيوت مجدَّدة، وفرش ممهدة، ووسادة منضّدة، فقاتلنا عنها فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا. وإن كان الحقّ لغيرنا، فأبوك أوّل من سنّ هذا، واستأثر بالحقّ على أهله(1)

____________

1. نهج الحق وكشف الصدق:356، علق عليه فرج اللّه الحسيني، مكتبة المدرسة. نقله عن الأنساب للبلاذري.


الصفحة 73

الوثيقة الثالثة


إنّ هناك قرائن وشواهد تدل بوضوح على أنّ سيدة نساء العالمين استقبلت بعد رحيل أبيها حوادثَ مريرة من قبل من تسنّم منصة الخلافة، ويدل على ذلك الأُمور التالية:

أ. انّ فاطمة هجرت أبا بكر ولم تكلمه إلى أن ماتت.

أخرج البخاري في كتاب الخمس «فغضبت فاطمة بنت رسول اللّه فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت»(1)

وأخرج في كتاب الفرائض وقال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت(2)

وذكر في كتاب المغازي في باب غزوة خيبر قوله: فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت(3)

فما ظنك بروايات يرويها الإمام البخاري، وما هذا إلاّ لأنّها انتهكت حرمتها حتى لاذت بقبر أبيها، و قالت:

____________

1. صحيح البخاري:4/42، دار الفكر، بيروت.

2. صحيح البخاري:8/30، دار الفكر، بيروت.

3. صحيح البخاري:5/82، دار الفكر، بيروت.


الصفحة 74

ماذا على من شمّ تربة أحمدلاّ يـشـم مـدى الزمان غواليا
صُبَّت عليَّ مصائب لو أنّهاصُبَّت على الأيّام صرن ليالياً(1)

ب. انّ عليّاً لما جهز فاطمة الزهراء وأودعها في قبرها، هاج به الحزن، وخاطب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وقال:

«ستنبّئك ابنتك بتضافر أُمّتك على هضمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر»(2)

كلّ ذلك يعرب عن أنّها (عليها السَّلام) ماتت مظلومة، مقهورة، مغصوبة الحقّ.

ج. انّها دفنت ليلاً بإيصاء منها، فما هو السرّ في هذا الإيصاء.

قال البلاذري بعد ذكره السند: انّ علياً دفن فاطمة (عليها السَّلام) ليلاً، إلى أن قال: وأوصت فاطمة (عليها السَّلام) أن تحمل على سرير طاهر، فقالت لها أسماء بنت عميس: اصنع لك نعشاً كما رأيت أهل

____________

1. وفاء الوفا:2/444.

2. نهج البلاغة:الخطبة 202.


الصفحة 75
الحبشة يصنعون فأرسلت إلى جريد رطب فقطعته، ثمّ جعلت لها نعشاً، فتبسمت ولم تر متبسمة بعد وفاة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّساعتها تيك، وغسلها عليّ، وأسماء، وبذلك أوصت ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها(1)

____________

1. أنساب الأشراف:1/405.


الصفحة 76

الوثيقة الرابعة: خطبة الزهراءعليها السَّلام بعد وفاة أبيها


وممّا يدلّ على أنّها ماتت مقهورة، مظلومة، مغصوبة الحقّ، هي خطبتها المعروفة التي هي في غاية الفصاحة والبلاغة، والمتانة وقوة الحجة، وهي من محاسن الخطب وبدائعها، عليها مسحة من نور النبوة، وفيها عبقة من أرج الرسالة، قد أوردها الموالف والمخالف وسيوافيك اسنادها في آخر الخطبة.

روى المؤرخون والمحدِّثون انّه لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة بنت رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فدكاً وبلغ فاطمة (عليها السَّلام) لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمّة من حفدتها(1) ونساء قومها، تطأ ذيولها(2)، ما تخرم مشيتها مشية [أبيها ]رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)(3)

____________

1. الحَفَدُ والحفدة: الأعوان والخدمة. لسان العرب:3/153.

2. تطأ ذيولها: قال المجلسي (قدَّس سرَّه): أي كانت أثوابها طويلة تستر قدميها وتضع عليها قدمها عند المشي، وجمع الذيل باعتبار الأجزاء أو تعدّد الثياب ـ بحار الأنوار.

3. وقال أيضاً: الخرم: الترك والنقص والعدول، والمشية بالكسر: الاسم من مشى يمشي مشياً أي لم تنقص مشيتها من مشيه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) شيئاً كأنّه هو بعينه ـ نفس المصدر.


الصفحة 77
حتّى دخلت على أبي بكر وهو في حشد(1) من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت(2) دونها ملاءة(3)، فجلست، ثمّ أنَّت أنَّةً أجهش(4) القوم لها بالبكاء، فارتجّ (5) المجلس، ثمّ أمهلت هُنيئة حتّى إذا سكن نشيج(6) القوم وهدأت(7) فورتهم(8)، افتتحت الكلام بحمد اللّه تعالى والثناء عليه والصلاة على رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فعاد القوم في بكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها، فقالتعليها السَّلام:

الحمد للّه على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها، واستحمد إلى

____________

1. الحَشْدُ: الجماعة ـ لسان العرب:3/150.

2. النوط: ما علّق ـ لسان العرب:7/418.

3. الملاء بالضمّ والمدّ: جمع ملاء وهي الإزار والربطة ـ النهاية:4/352.

والمراد منه: أي ضربوا بينهاعليها السَّلام وبين القوم ستراً وحجاباً.

4. الجَهْشُ: أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو مع ذلك يريد البكاء، كالصبيّ يفزع إلى أُمّه وقد تهيّأ للبكاء ـ الصحاح:3/999.

5. الارتجاج: الاضطراب. يقال ارتجّ البحر: اضطرب ـ لسان العرب:2/282.

6. النشج: الصوت مع توجع وبكاء كما يردد الصبي بكاءه في صدره ـ مجمع البحرين.

7. هدأ كمنع: سَكَنَ ـ لسان العرب:1/180.

8. الفور: الغليان والاضطراب ـ مجمع البحرين.


الصفحة 78
الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلاّاللّه وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في التفكّر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة(1) امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيّته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له فـي تصويرهـا، إلاّ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريّته وإعزازاً لدعوته، ثمّ جعل الثـواب على طاعته، ووضـع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته، وحياشته (2) لهـم إلـى جنته.

وأشهد أنّ أبي، محمّداً[النبيّ الأُمّي] (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عبده ورسوله اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسمّـاه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة(3)،

____________

1. يقال احتذى مثاله: أي اقتدى به ـ الصحاح:6/2311.

2. قال المجلسي (قدَّس سرَّه): الذود والذياد، بالذال المعجمة: السوق والطرد والدفع والإبعاد.

وحشت الصيد أحوشه: إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة، ولعلّ التعبير بذلك لنفور الناس بطباعهم عمّا يوجب دخول الجنّة ـ بحار الأنوار.

3. وقال المجلسي (رحمه الله) أيضاً: لعلّ المراد بالستر ستر العدم، أو حجب الأصلاب والأرحام، ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق الأشياء في تلك الأحوال من موانع الوجود وعوائقه.

ويحتمل أن يكون المراد أنّها كانت مصونة عن الأهاويل بستر العدم إذ هي إنّما تلحقها بعد الوجود.

وقيل: التعبير بالأهاويل من قبيل التعبير عن درجات العدم بالظّلمات ـ نفس المصدر.


الصفحة 79
وبنهاية العدم مقرونة، علماً من اللّه تعالى بم آيل الأُمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور.

ابتعثه اللّه إتماماً لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأى الأُمم فرقاً في أديانهم، عُكَّفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة للّه مع عرفانها، فأنار اللّه بأبي، محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ظُلَمَها، وكشف عن القلوب بهمها(1)، وجلا عن الأبصار غممها(2)، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلى الدّين القويم، ودعاهم إلى الصّراط المستقيم.

ثمّ قبضه اللّه إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من تعب هذه الدار في راحة، قد حُفّ بالملائكة الأبرار، ورضوان الربّ الغفّار، ومجاورة الملك الجبّار، صلّى اللّه على أبي، نبيّه وأمينه على الوحي، وصفيّه [في الذّكر ]وخيرته من الخلق ورضيّه،

____________

1. البُهَمْ جمع بهمة بالضمّ، وهي مشكلات الأُمور ـ النهاية:1/168.

2. الغُمَمُ: جمع الغمّة، يقال: هو في غمّة أي في حيرة ولبس ـ مجمع البحرين.


الصفحة 80
والسلام عليه ورحمة اللّه وبركاته.

ثمّ التفتتعليها السَّلام إلى أهل المجلس وقالت: أنتم عباد اللّه نصب(1) أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأُمناء اللّه على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأُمم، وزعمتم حقّ لكم، للّه فيكم عهد، قدّمه إليكم، وبقيّة استخلفها عليكم: كتاب اللّه الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللاّمع، بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبط به أشياعه، قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤدّ إلى النجاة استماعه، به تنال حجج اللّه المنوّرة، وعزائمه المفسّرة، ومحارمه المحذرة، وبيّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، و رخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة.

فجعل اللّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام[وذلاًّ لأهل الكفر والنفاق]، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبرّ الولدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة(2)في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء،

____________

1. النَّصبُ والنُّصُبُ: العَلَمُ المنصوب ـ لسان العرب:1/759.

2. النّسء: تأخير في الوقت ـ المفردات:492.


الصفحة 81
والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللّعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم اللّه الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتّقوا اللّه حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون، وأطيعوا اللّه فيما أمركم به و[ما ]نهاكم عنه، فإنّه إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء.

ثمّ قالت: أيّها الناس اعلموا: إنّي فاطمة وأبي محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أقول عَوداً وبدواً ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً(1)، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن تعزوه(2)وتعرفوه، تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين(3)، ضارباً ثَبَجهم(4)،

____________

1. يقال: شطّ فلان في حكمه شطوطاً وشططاً: جار وظلم ـ المصباح:1/377.

2. قال المجلسي (رحمه الله): يقال عزوته إلى أبيه أي: نسبته إليه. أي إن ذكرتم نسبه وعرفتموه تجدوه أبي ـ بحار الأنوار.

3. وقال أيضاً: الصّدع: الإظهار، تقول: صدعت الشيء: أي أظهرته وصدعت بالحق: إذا تكلمت به جهاراً. والنذارة بالكسر: الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف. والمدرجة: المذهب والمسلك ـ نفس المصدر.

4. الثَّبَجُ بالتحريك: وسط الشيء ومعظمه ـ النهاية: 1/206.


الصفحة 82
آخذاً بأكظامهم(1)، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام، وينكث الهام، حتّى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتّى تفرّى(2) الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق(3) الشياطين، وطاح(4)وشيظ النفاق(5)، وانحلّت عقد الكفر والشقاق، وفهتم(6) بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص(7) (الَّذينَ أَذْهَبَ اللّه عَنْهُمُ الرِّجس وَطَهَّرهُمْ تَطْهِيراً)

____________

1. الكَظَمُ بالتحريك: مخرج النَّفَس من الحلق ـ مجمع البحرين، لسان العرب:12/520.

2. تفرّى: أي انشق، يقال تفرّى الليل عن صبحه ـ الصحاح:6/2454.

3. الشقاشق: جمع شِقْشِقَة بالكسر ـ وهي شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج ـ لسان العرب:10/185.

4. طاح: هلك وسقط ـ مجمع البحرين.

5. قال المجلسي (قدَّس سرَّه): الوشيظ بالمعجمتين: الرذل والسّفلة...وفي بعض النسخ: الوسيط بالمهملتين: أشرف القوم نسباً و أرفعهم محلاً وهـو أيضاً مناسـب ـ بحار الأنوار.

6. فاه الرجل بكذا، يفوه: تلفّظ به ـ المصباح:2/161.

7. قال المجلسي (رحمه الله): البيض: جمع أبيض وهو من الناس خلاف الأسود والخماص بالكسر جمع خميص والخماصة: تطلق على دقة البطن خلقة وعلى خلوه من الطعام يقال: فلان خميص البطن من أموال الناس: أي عفيفٌ عنها.

والمراد بالبيض الخماص: إمّا أهل البيت (عليهم السَّلام) ويؤيده ما في كشف الغمة:2/111: في نفر من البيض الخماص الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

ووصفهم بالبيض لبياض وجوههم... وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل أو لعفّتهم عن أكل أموال الناس بالباطل.

أو المراد بهم من آمن من العجم كسلمان (رضي اللّه عنه) و غيره ويقال لأهل فارس: «بيض» لغلبة البياض على ألوانهم وأموالهم، إذ الغالب في أموالهم الفضّة... والأوّل أظهر ـ بحار الأنوار.