الصفحة 454
تراجعاً منه عن نظريّة الامامة الالهيّة التي وبتصوّره تحصر كلّ الصلاحيّات بالامام دون غيره.

وهذه النظرة خاطئة غير مبنيّة على تحقيق علمي لصلاحيّات الفقيه الشيعية ماضياً وحاضراً، فلقد وردت روايات من أئمّة أهل البيت تجيز للفقهاء التدخل والقيام ببعض الوظائف، واتفق كلّ العلماء على هذا التدخّل، وإن اختلفوا فيه سعة وضيقاً.

ومن تلك الروايات، حديث الامام الصادق (عليه السلام) حيث قال: "انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً"(1).

ومشهورة أبي خديجة التي قال الامام الصادق (عليه السلام) فيها: "اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً"(2).

وكذلك قول الامام (عليه السلام): "إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو ترادى بينكم في شيء من الاخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً منكم ممّن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته قاضياً، وإيّاكم أن يتحاكم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر"(3).

وغير ذلك من الاحاديث الشريفة لاهل البيت، والتي عدّها الاستاذ هادي معرفة إلى خمسة عشر حديثاً(4).

وهذه الاحاديث وغيرها هي التي حدّدت صلاحيّات الفقيه الشيعي زمن الغيبة، وتلقّاها كلّ من المفيد، والمرتضى، والطوسي، وأبو الصلاح الحلبي، والقاضي ابن برّاج، ومحمّد بن إدريس الحلّي، والعلاّمة الحلّي، وجمال الدين مقداد بن عبدالله السيوري، والشهيد الاوّل، والمحقّق الكركي، والشهيد الثاني، والاردبيلي، وبهاء الدين العاملي،

____________

(1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 99، باب 11، ح 1.

(2) وسائل الشيعة: ج 18، ص 99، باب 11، ح 6.

(3) وسائل الشيعة: ج 18، ص 100، باب 11.

(4) ولاية الفقيه أبعادها وحدودها: ص 47 ـ 100.


الصفحة 455
وجعفر كاشف الغطاء، ومحمّد حسن النجفي، وغيرهم من الفقهاء، تلقّوها بالقبول، وعلى أساس ذلك حدّدوا صلاحيّات الفقيه الشيعي في عصر إقصاء المعصوم عن منصبه وعصر الغيبة.

قال الشيخ المفيد: (فأمّا إقامة الحدود فهو إلى سلطان الاسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمّة الهدى من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من نصّبوه لذلك من الامراء والحكّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الامكان).

وأضاف: (إنّ للفقهاء من شيعة آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجمعوا بإخوانهم.... ولهم أن يقضوا بينهم بالحقّ ويصلحوا بين المختلفين...)(1).

وقال الشيخ الطوسي في النهاية: (فأمّا الحدود، فليس يجوز لاحد إقامتها إلاّ لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالى، أو من نصّبه الامام لاقامتها.... وأمّا الحكم بين الناس والقضاء في ذلك فقد فوّضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكنون فيه من توليه بأنفسهم).

وقال في المبسوط: (وأمّا الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز أيضاً إلاّ لمن أذن له سلطان الحقّ في ذلك، وقد فوّضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكّنون فيه من توليته بنفوسهم، فمن تمكّن في إنفاذ حكم أو إصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفين فليفعل ذلك، وله بذلك الاجر والثواب ما لم يخف على نفسه، ولا على أحد من أهل الايمان ويأمن الضرر فيه، فإن خاف شيئاً من ذلك لم يجز له التعرّض لذلك على حال).

وقال السيّد المرتضى: (جاءت الرواية الصحيحة لمن هذه حاله أن يقيم الحدود ويقطع السرّاق ويفعل كلّ ما اقتضت الشريعة فعله من هذه الامور)(2).

ويقول أبو الصلاح الحلبي (المتوفى سنة 447 هـ) متحدّثاً عن الفقيه: (فهو نائب عن ولي الامر في الحكم، ومأهول له لثبوت الاذن منه ومن آبائه لمن كان بصفته في

____________

(1) المقنعة: كتاب الامر بالمعروف، ص 810.

(2) الرسائل: ج 2، ص 89.


الصفحة 456
ذلك، ولا يحل له القعود عنه)(1).

وقال سلاّر: (ومن تولّى من قبل ظالم وكان قصده إقامة الحقّ، أو اضطرّ إلى التولّي، فليتعمّد تنفيذ الحقّ ما استطاع، وليقضي حقّ الاخوان)(2).

وقال القاضي ابن البرّاج (المتوفى سنة 481 هـ): (أن يقيم الحدود إذا استخلفه السلطان الجائر وجعل إليه إقامة الحدود بشرط أن يعتقد أنّه من قبل الامام العادل المهدي (عج) في ذلك، وأن يفعل ذلك بإذنه لا بإذن السلطان الجائر)(3).

فسلاّر وابن البرّاج وغيرهم، وإن شرّعوا للاستثناء أي في حالة تولية السلطان الجائر للفقيه ذلك، ولكنّ هذا التشريع مبني على أنّ الفقيه له إذن من ولي الامر في القيام بتلك الاعمال، ويستطيع في حالة المكنة أن ينفّذ تلك التشريعات بواسطة ذلك الاذن العام من الامام.

واستمرّ محمّد بن إدريس الحلّي، والمحقّق الحلّي، والعلاّمة الحلّي على هذا المنوال، وأنّ هناك صلاحيّات ممنوحة للفقيه الشيعي للتدخّل في الحياة العامّة(4).

وأمّا جمال الدين مقداد بن عبدالله السيوري (المتوفى سنة 826 هـ) فقد قال: (لابدّ من إقامة الحدود مطلقاً اعتماداً على روايات، مثل: العلماء ورثة الانبياء، وغيرها)(5).

واتفق الاردبيلي مع سلاّر وابن البرّاج في مسألة تولّي الفقيه من قبل الظالم بالاستناد على مبدأ الاذن من قبل إمام الحقّ لا من قبل السلطان الجائر(6).

وأكّد حقيقة تدخل الفقيه الشيعي محمّد باقر السبزواري، فقال: (إنّ الاكثر على أنّ للمولى أن يقيم الحدّ على عبده في زمان الغيبة، وربما يلوح من كلام بعضهم

____________

(1) الكافي في الفقه: ص 423.

(2) المراسم: ص 264.

(3) المهذّب: ج 1، ص 342.

(4) السرائر: ج 2، ص 24; شرائع الاسلام: ج 1، ص 391; تذكرة الفقهاء: ص 459.

(5) كنز العرفان: ص 597.

(6) مجمع الفائدة والبرهان: ج 7، ص 550.


الصفحة 457
اشتراط الفقاهة)(1).

وقال: (وأمّا إقامة الحدود فللامام أو من يأذن له، وهل لفقهاء الشيعة في حال الغيبة ذلك؟ محكي في المنتهى عن الشيخين أنّهما جزما بجواز ذلك)(2).

أمّا كاشف الغطاء فقد سمح للمجتهد تولّي إقامة الحدود في زمان الغيبة، وأعطى الضوء الاخضر لكلّ واحد في إقامة فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع عدم الضرر، وفي حالة إجبار الفقيه الشيعي من قبل سلطان الجور على تولّي بعض الامور، يقوم بذلك نيابة عن الامام لا عن الحاكم، كما هو عليه سلاّر وابن البرّاج والاردبيلي وغيرهم(3).

وقال صاحب الجواهر (فقد قيل والقائل الاسكافي والشيخان والديلمي والفاضل والشهيدان والمقداد وابن فهد والكركي والسبزواري والكاشاني وغيرهم على ما حكي عن بعضهم: يجوز للفقهاء العارفين بالاحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة العدول، إقامة الحدود في حال غيبة الامام (عليه السلام)، كما لهم الحكم بين الناس مع الامن من ضرر سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك، كما يجب مساعدة الامام (عليه السلام) عليه، بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافاً إلاّ ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس)(4).

إذن، الفكر الشيعي الفقهي يسمح بتدخّل الفقيه في الحياة، وإن اختلفوا في حدود هذا التدخّل سعةً وضيقاً، وهذا التدخّل مستوحى من كلام الائمّة (عليهم السلام) للفقيه ودوره في الحياة، وأعطى للفكر الشيعي مرونة التعامل في كلّ الظروف.

فلقد حمل تشريعات تصدّي الفقهاء لمناصب الحكم والتدخّل في الشؤون الحياتيّة العامّة وحمل أيضاً تشريعات استثنائيّة في حالة تسلّط الظلاّم وإجبار الفقهاء على

____________

(1) كفاية الاحكام: ص 83.

(2) كفاية الاحكام: ص 83.

(3) كشف الغطاء: ص 421.

(4) جواهر الكلام: ج 21، ص 393 ـ 394.


الصفحة 458
التصدّي لبعض الامور، وقد قيل بحقّ هذه المرونة:

كان متكلّمو الشيعة وفقهاؤهم قد بذلوا ذكاءً ملحوظاً في أفضل جزء من تاريخ التشيّع في إيجاد طرق عمليّة للتوافق مع حكّام العصر، وذلك حتّى يضمنوا بقاء أتباعهم وأمنهم(1).

ولكنّ هذا التدخّل لم يكن بمعزل عن وعي الامامة الالهيّة وشروط الامام، وما غير ذلك كما يتصوّر أحمد الكاتب، ولهذا يقول نبيل إبراهيم:

فالامامة وشروطها ومواصفاتها كانت نصب أعين الفقهاء في زمن الغيبة عندما استوحوا مسألة تدخّل الفقيه الشيعي في مناحي الحياة من قبل أئمتهم (عليهم السلام).

ثمّ جاء الشيخ النراقي ليحوّل ذلك التراث الضخم من الحدود والصلاحيّات إلى نظريّة ولاية الفقيه، وقال:

(كلّ ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والامام (عليه السلام) فيه الولاية فللفقيه أيضاً ذلك، إلاّ ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما)(2).

ثمّ أضاف: (إنّ كلّ فعل متعلّق باُمور العباد في دينهم أو دنياهم ولابدّ من الاتيان به، ولا مفر منه، إمّا عقلاً، أو عادةً من جهة توقّف اُمور العباد والمعاش لواحد أو جماعة عليه، وإناطة انتظام اُمور الدين أو الدنيا، أو شرعاً من جهة ورود أمر به اجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو إفساد على مسلم أو دليل آخر... أو ورود الاذن فيه من الشارع، ولم يجعل وظيفة لمعين واحد أو جماعة، ولا لغير معين، أي واحد لا بعينه، بل عُلِم لابديّة الاتيان به أو الاذن فيه، ولم يُعلم المأمور ولا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه، وله التصرّف فيه والاتيان به)(3).

واستدلّ كما استدلّ علماء الطائفة من قبل بالروايات والاحاديث التي ذكرنا جملة منها فيما تقدّم.

____________

(1) الفكر الاسلامي المعاصر: ص 59.

(2) عوائد الايّام: ص 187.

(3) عوائد الايّام: ص 188.


الصفحة 459
وقال أخيراً بضرس قاطع: (الفقهاء هم الحكّام في زمان الغيبة والنوّاب من الائمّة).

وأخيراً استلم السيّد الخميني هذا التراث من أسلافه الذين سبقوه والذين لم تسنح لهم الفرصة من إقامة الدولة لقلّة العدد وضعف الناصر وجور حكّام الزمان وسلاطين الوقت.

استلم ذلك التراث بعد استكمال الدراسة النظريّة عليه فقال:

(فولاية الفقيه ـ بعد تصوّر أطراف القضيّة ـ ليست أمراً نظريّاً يحتاج إلى برهان، ومع ذلك دلّت عليها بهذا المعنى الواسع روايات)(1).

وأحكم السيّد الخميني هذه المسألة حتّى في حالة مزاحمة الفقهاء، فجعل المزاحمة أمراً تنكره العقول ومخالفاً لطريقة العقلاء، ولازم هذا الوجه قيام الدليل الاجتهادي على عدم جواز المزاحمة وبطلان تصرّف المزاحم وحرمته، وإن أحرزنا من الادلّة أنّ الولاية بلا قيد ثابتة للفقيه، لكن احتملنا سبق أحد من الفقهاء موجب لسقوط ولاية غيره حال تصدّيه تستصحب ولايته الثابتة قبل تصدّي الاخر... فليس لاحد من الفقهاء الدخول فيما دخل فيه فقيه آخر(2).

وأقام دولة على ذلك التراث الذي وصفه الكاتب بالانعزال السياسي، وما إن قامت تلك الدولة حتّى تجنّد لها طلاّب الدنيا وعبدة الشيطان لتحديد صلاحيّاتها ومسؤليّاتها وبمختلف الوسائل، وآخر هذه الوسائل أقلام مَنْ غُرِّرَ بهم.

المهم إنّ كلّ ما ذكرنا لم يتم بمعزل عن وعي الامامة الالهيّة وشروطها التي نسبها الكاتب إلى فقهاء الشيعة وعلمائها بدون بحث ولا تحقيق.

الشيعة والنظريّة الاعلاميّة


خالف أحمد الكاتب أبسط مقوّمات الاماميّة التي اعترف بها هو في كلّ موارد كتابه، وهي السريّة التامّة في طرح نشاطاتهم وأنظمتهم وأفكارهم، ولكنّه عندما

____________

(1) البيع: ج 2، ص 467.

(2) البيع: ج 2، ص 518.


الصفحة 460
شاهد أنّ مؤلّفي الفرق دائماً يؤكّدون بذهاب الجمهور إلى الامام الجديد، وخصوصاً بعد وفاة العسكري، فقد قال المفيد: إنّ الجمهور ذهبوا إلى القول بإمامة ابنه المنتظر(1)، عندما شاهد ذلك، علّله بدور الاعلام الشيعي في تكريس ذلك(2)، ولكنّه نسي أنّه في كلّ مورد من موارد كتابه كان يتحدّث عن السريّة التامّة التي لفّت نظريّة التشيّع من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى وفاة العسكري وبعد ذلك وإلى يومنا هذا، حتّى إنّه وضع عنواناً بارزاً أسماه (سريّة نظريّة الامامة)(3)، ولكنّه نسي ذلك في (ص 263) وأشاد بدور الاعلام في تثبيت نظريّة الامامة، وبالخصوص إمامة الامام المهدي المنتظر.

ولو تتبعنا الدور الاعلامي الشيعي على مرّ التاريخ نجده معطّلاً تماماً، ليس وحده فقط، بل عُطّل تدوين الحديث في الاسلام قاطبة حتّى لا يأخذ الاعلام الشيعي دوره بالظهور، وهذا ما حدث في العصور الاولى من صدر الاسلام، ثمّ جاء عثمان لينفي أبا ذر إلى الربذة، ويخمد صوتاً إعلاميّاً ينادي باسم الاسلام، واستلم معاوية من بعده الخلافة، وفتح ملفاً خاصّاً لدفن الاحياء وحرقهم بمجرّد إذاعة كرامة أو نشر فضيلة لال بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاء من بعده يزيد الذي أصبح اسمه كافياً لوصم التاريخ بالخزي والعار، وتتابع حكّام الجور في قتل وتشريد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)وشيعتهم، بحيث وصل الامر إلى أن يتجنّب الناس حتّى السلام على العلويين، وذلك عندما دخل إبراهيم بن هرمة المعاصر للمنصور إلى المدينة، وأتاه رجل من العلويين فسلّم عليه، فقال له إبراهيم: تنحّ عنّي ولا تشطّ بدمي(4)، فالسلام وحده على من ينتسب للبيت العلوي كان جريمة لمعاقبة الناس، ووصل الامر إلى أنّ منصور بن الزبرقان النمري قال أبياتاً من الشعر أدّت به إلى أن يُنبش قبره وتحرق عظامه(5). ونُفي أحمد

____________

(1) الفصول المختارة: ص 318.

(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 263.

(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 75.

(4) تاريخ بغداد: ج 6، ص 127.

(5) زهرة الادب: ج 3، ص 705.


الصفحة 461
ابن أبي نعيم لنفس السبب، ودفن سديف حيّاً لانّه قال:


إنّا لنأمل أن ترتد اُلفتنابعد التباعد والشحناء والاحن
وتنقضي دولة أحكام قادتهافينا كأحكام قوم عابدي وثنِ(1)

لقد ضلّل الكاتب الرأي العام وكذب عليه عندما جعل الاعلام الشيعي الاخطبوط في تكريس نظريّة الامامة، بينما نجد أصحاب الائمّة أنفسهم يطلبون من الائمّة أن تحرق الرسائل التي يبعثونها إليهم، فهذا جعفر بن محمّد الاشعث يطلب من الامام أن يحرق كتبه إذا قرأها مخافة أن تقع في يد غيره(2).

فأي إعلام يتحدّث عنه الكاتب والعسكري يقول لاصحابه: "ألا لا يسلمنّ عليَّ أحدٌ، ولا يشير إليَّ بيده، ولا يومئ، فإنّكم لا تؤمنون على أنفسكم"(3).

وأي إعلام هذا، والعسكري لا يسمّى باسمه من قبل أصحابه، لانّ الحديث عن العسكري يكفي لحكم الاعدام على العسكري وعلى المتحدّث، ولهذا كانوا يسمّونه بالرجل، كما يقول الاردبيلي: وكلّما ورد "عن الرجل" فالظاهر أنّه العسكري(4).

وانعكست هذه السريّة التامّة حتّى على أدب الدعاء عند التشيّع، وأبرز العسكري ذلك عندما قال متحدّثاً عن الامّة ـ من دون تشخيص اُولئك الظلمة ـ:

"وولي القيام باُمورهم فاسق كلّ قبيلة، فلا ذائد يذودهم عن هلكة، ولا راع ينظر إليهم بعين الرحمة..."، إلخ(5).

ونتيجة للضغط على التشيّع وأهله، تجنّب الرواة ذكر مرويّاتهم، وهذا ما اعترف به حامد حنفي داود عندما قال:

____________

(1) العمدة لابن رشيق: ج 1، ص 74.

(2) كشف الغمّة: ج 3، ص 92; مسند الامام الرضا (عليه السلام): ج 1، ص 187، رقم 298; عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ص 537.

(3) بحار الانوار: ج 50، ص 269.

(4) جامع الرواة: ج 2، ص 461 ـ 462.

(5) مهج الدعوات: ص 68.


الصفحة 462
(فإننا لا نستبعد أنّه ـ البخاري ـ حاول الرواية عن رجال البيت النبوي واستعصى ذلك عليه بسبب ما كان يضربه الحكّام حول أفراد هذا البيت من سياج منيع ليحولوا بينهم وبين اتصال طلاّب العلم بهم، ونحن نعرف مدى اضطهاد الحكّام لهم وحقدهم عليهم)(1).

ولم يقف الامر عند هذا الحد، بل قاسى الشيعة أنواع العذاب والحصار سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، فقد استعمل المتوكّل عمر بن الفرج الراجي على مكّة والمدينة، ومنع هذا الرجل كلّ طالبي أن يسأل غيره، حتّى في معيشته، وبلغ بهم الحال إذا سمع الوالي أحداً أحسن إليهم نكّل به ليكون عبرة لغيره.

وكتب المنتصر إلى عمّاله: من كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة فاقبل قوله بدون بيّنة، ولا تقبل لطالبي بيّنة أو قولاً(2).

وحتّى في العصور المتأخّرة، فهذا نوح الحنفي يكفّر الشيعة واستباح دمهم تابوا أم لا، وعلى أساس ذلك قُتل أربعون ألف شيعي(3).

وفي عام 407 قتل المعز بن باديس بأفريقيا خلقاً كثيراً من الشيعة، ونهبت دورهم، وانتهكت أعراضهم، وحاصروهم حتّى قتلوهم عن آخرهم، كما حدّث ابن الاثير بذلك(4).

وفي تركيا قتل السلطان سليم (المتوفى 926) من الشيعة خلقاً كثيراً، وأمر بقتل كلّ من ينتسب إليهم، على حدّ تعبير طبيب الجيش التركي(5).

هذا الاعلام الشيعي الذي جعله الكاتب ركناً أساسياً لتركيز النظريّة الشيعيّة، ولعمري أصبح هذا الرجل كحاطب ليل في طرحه، حيث خالف أهم مقوّمة من

____________

(1) الامام الصادق والمذاهب الاربعة: المقدمة، ص 18.

(2) الخطط للمقريزي: ج 4، ص 153.

(3) الامام الصادق والمذاهب الاربعة: مج 1و2، ص 242.

(4) المصدر السابق نقلاً عن الكامل في التاريخ: ج 9، ص 123، الطبعة الاولى.

(5) مصباح الساري ونزهة القاري: ص 123 ـ 124.


الصفحة 463
مقوّمات التشيّع وهي السريّة للارهاب الذي لاقوه على طول مسيرة تاريخهم الطويلة.

النتيجة النهائيّة التي توصّل إليها الكاتب


بعد أن فشل أحمد الكاتب من تجريد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من منصب الامامة الالهيّة، وفشل في إيجاد أي ثغرة في إمامة المهدي المنتظر، وبعد الخطأ المنهجي الذي ارتكبه من جرّاء ربط قضايا فقهيّة بمسألة الغيبة، وجعل الاختلاف فيها من الاثار السلبيّة لها، بعد كلّ ذلك توصّل إلى نظريّة تقول بشورى الامّة على نفسها(1)، ولكنّه فشل في إعطاء أي آليّة لهذه الشورى، وراح يطلق شعارات إعلاميّة بعيدة عن الواقع، مثل: إشراف الامّة على الامام ومراقبته ومحاسبته وإعطائه من الصلاحيّات بقدر ما تشاء وحسب ما تشاء.

فبعد أن نفى الامام والعصمة والنص، ونفى دور الفقيه والنائب، والقيادة، والدولة، عيّن مكانها الامّة، وجعلها تعطي وتمنع، ولم يتفضّل علينا بمصداق واحد في التاريخ البشري لهذه الامّة التي تعطي وتمنع، وأي أفراد هذه الامّة الذين يقومون بذلك، وكم عددهم، كلّ ذلك لم يبيّنه الكاتب، بل اكتفى بالعبارات الاعلاميّة الفارغة والبعيدة عن الواقع.

أضف إلى ذلك، أنّ شورى الامّة على نفسها لا يستلزم إلغاء الامام والعصمة والنص، فيوجد من علماء الشيعة من قال بشورى الامّة على نفسها من دون أن ينفي كلّ ما نفاه أحمد الكاتب.

يقول الشيخ محمّد مهدي شمس الدين: نظريّة الشورى (ولاية الامّة على نفسها) لا دور فيها للفقيه، ودوره المستشار والمفتي، ويتمتع بموقع تشريعي وليس مصدر للشرعيّة(2).

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 441.

(2) الفقيه والدولة: لقاء مع محمّد مهدي شمس الدين، ص 434.


الصفحة 464
واشتبه الكاتب أيضاً عندما تصوّر الفقيه ذلك الغاصب لحق الامّة المتسلّط على حقوقها، وسرّ دراسته كلّها هو هذا الاشتباه الفضيع الذي هيّأ للكاتب الاعتراض على دكتاتوريّة الفقيه الديني، ولكن هذا كلام فارغ، وكما يقول السيّد فضل الله:

"الفقيه يحكم الدولة من خلال المؤسسات وليس حكماً استبداديّاً بحيث يرى نفسه ظل الله في الارض". كما اشتبه به الكاتب، وقدّم دليلاً على ذلك عندما قال: إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في آخر حياته: "إنّكم لا تمسكون علي بشيء ما أحللت إلاّ ما حلل الله، وما حرّمت إلاّ ما حرّم الله".

وقال الامام علي (عليه السلام): "لا تكلّموني بما تكلّمون به الجبابرة".

وأضاف يقول: فالفقيه في الدولة ينطلق من خلال القانون وأهل الخبرة، وليس له أن يحكم برأيه بالمعنى الذاتي(1).

إذن، مشكلة الكاتب هي دكتاتوريّة الفقيه لما يحمل من صلاحيّات، وهذه الدكتاتوريّة نسجها الكاتب في خياله، لانّ الفقيه له مواصفات تتناقض تماماً مع تلك الدكتاتوريّة، وفي حالة بروزها هناك آليّة لمتابعة ذلك.

____________

(1) الفقيه والدولة: حوار مع السيّد محمّد حسين فضل الله، ص 445.