الصفحة 67
إنما ينطبق عليهم وعلى فرقهم أيضاً.

وفي دائرة هذه الدراسة سوف نلتزم بنفس المقاييس والمعايير التي وضعها أهل السنة وقسموا على أساسها فرق المسلمين تلك المقاييس والمعايير التي وضعها فقهاء العقائد ومؤرخي الفرق ـ سوف نلتزم بها في النظر لحالة أهل السنة وفرقهم(1).

لقد تجنبت كتب الفرق الحديث عن فرق أهل السنة رغم كونها تنطبق عليها نفس الحالة والمقاييس التي أطلقت على الفرق الأخرى المخالفة لأهل السنة، وذلك لكون أن الذين دوّنوا هذه الكتب هم أهل السنة على ما سوف نبيّن.

وأما الشاك في كفر أهل الأهواء، فإن شك في أن قولهم هل هو فاسد أم لا؟ فهو كافر، وإن علم أن قولهم بدعة وضلال وشك في كونه كفراً، فبين أصحابنا في تكفير هذا الشاك خلاف(2).

ويلاحظ من خلال عرض موقف أهل السنة من المخالفين مدى تأثير الرواية على هذا الموقف، كما يلاحظ أن الرواية لها تأثيرها على مواقف واطروحات الفرق الأخرى أيضاً.

وهذه اللغة التي التزم بها البغدادي هي نفس لغة الشهرستاني وابن حزم وابن تيمية وغيرهم من فقهاء أهل السنة، فهذه اللغة الواحدة إنما هي نابعة من روايات ثابتة لدى القوم كونت لديهم معتقد ثابت في المخالفين.

____________

1- أنظر ملحق رقم 1 من هذا الكتاب.

2- المرجع السابق.


الصفحة 68
إن البغدادي وابن حنبل وابن حزم والشهرستاني وغيرهم ممن خاضوا في أمر الفرق المخالفة لأهل السنة لم يبينوا لنا أدلة وبراهين وأطروحات هذه الفرق، وكانت لغتهم في مواجهته لغة أحادية أفقدتهم الموضوعية والقدرة على حسم الخلاف وكسب المعركة معهم.

ومثل هذه الروايات التى اعتمد عليها أهل السنة لا ترقى إلى درجة الصحة عندهم، إلا أنهم اعتمدوا عليها في الماضي، أما في الحاضر فقد بطلت حجتهم بها.


الصفحة 69

الفرقة الناجية
مناقشة الروايات وتحديد السمات


الصفحة 70

الصفحة 71
ورد فى عدة مصادر عن ابى هريرة وغيره أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: افترقت اليهود على إحدى ـ أو اثنين ـ وسبعين فرقة. وتفرقت النصارى على إحدى ـ أو اثنين ـ وسبعين فرقة.

وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة(1).

وعن معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وان هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين ملة. كلها في النار إلاّ واحدة وهي الجماعة(2).

وعن عوف بن مالك قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار. وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة. والذي نفس محمد بيده لتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار.

قيل: يا رسول الله من هم؟

____________

1- انظر أبو داود كتاب السنة والترمذي كتاب الإيمان وابن ماجة كتاب الفتن والحاكم كتاب الإيمان وابن حبان كتاب الفتن ومسند أحمد ج2.

2- انظر الدارمي كتاب الجهاد ومسند أحمد ج4 والحاكم كتاب العلم وسنن أبي داود.


الصفحة 72
قال: الجماعة(1).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة وهي الجماعة(2).

وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا ابن مسعود هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة لم ينج منهم إلاّ ثلاث فرق(3).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):... وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم فى النار إلاّ ملة واحدة.

قالوا: ومن هي يا رسول الله؟

قال: ما أنا عليه وأصحابي(4).

وعن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الليالي والأيام حتى تفترق أمتي على مثلها(5).

____________

1- ابن ماجة كتاب الفتن. وانظر الحاكم كتاب الإيمان.

2- ابن ماجة وانظر مسند أحمد ج3.

3- رواه الطبراني في الكبير حديث رقم 10357. وانظر الحاكم كتاب التفسير، سورة الحديد.

4- الترمذي كتاب الإيمان. والحاكم كتاب العلم. وانظر الطبراني حديث رقم 7659.

5- رواة المروزي والبزار كتاب الفتن باب افتراق الأمم حديث رقم 284.


الصفحة 73
وعن أبي إمامة: افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة أو قال: اثنين وسبعين فرقة، وتزيد هذه الأمة فرقة واحدة، كلها في النار إلاّ السواد الأعظم(1).

وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تفرقت اليهود على واحد وسبعين فرقة كلها في النار، وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار، وإن امتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أخبرنا من هم؟

قال: السواد الأعظم(2).

وروى: ذروا المراء فإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنين وسبعين فرقة، كلهم في الضلالة إلاّ السواد الأعظم.

قالوا: يا رسول الله، ومن السواد الأعظم؟

قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي، ومن لم يمار في الدين، ومن لم يكفر أحداً من أهل التوحيد بذنب غفر له(3).

وروى أن عوف بن مالك قال له الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم):

كيف أنت يا عوف إذا افترقت هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة:

____________

1- رواه ابن أبي عاصم والمروزي والطبراني في الكبير ج8/321: 328، والبيهقي 8/188.

2- لم يرو هذا الحديث في كتب السنن وإنما روى في تاريخ بغداد ج9/247، وتهذيب التهذيب لابن حجر ج9/498، والكاشف ج3/92 والتقريب ج2/215.

3- الطبراني في الكبير ج8/178. حديث رقم 7659.


الصفحة 74
واحدة في الجنة وسائرهن في النار؟

قلت: ومتى ذلك يا رسول الله؟

قال: إذا كثرت الشرط، وملكت الإماء، وقعدت الحملان على المنابر، واتخذ القرآن مزامير، وزخرفت المساجد، ورفعت المنابر(1).

وروى عن عوف بن مالك أيضاً أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة: أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، يحرمون الحلال ويحلون الحرام(2).

____________

1- رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج7/323.

2- رواه البزار والهيثمي في مجمع الزوائد كتاب العلم ج1/179، والحاكم كتاب الفتن والملاحم ج4/430، والبيهقي في المدخل باب ما يذكر في ذم الرأي.


الصفحة 75

مناقشة السند:

ويمكن تركيز الخلاف الواقع حول سند هذه الروايات فيما يلي:

الرواية الأولى رواها أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي عاصم والمروزي من طريق محمد بن عمرو بن العاص وعن أبي سلمة عن أبي هريرة وقد تكلم رجال الجرح والتعديل في محمد بن عمرو فقالوا:

قال أبو حاتم: صالح الحديث يكتب حديثه.

وقال النسائي: ليس به بأس.

وقال ابن حجر: صدوق له أوهام.

وتكلم فيه ابن معين والجوزجاني(1).

ومن هذا يتبين لنا أن فقهاء الجرح والتعديل قد وضعوا الراوي لهذه الرواية في دائرة الشك مما يؤدي إلى التوقف في سند الرواية.

وإذا كان الفقهاء قد وضعوا هذه الرواية في درجة حسن واعتبروها صحيحة بالشواهد إلاّ أن هذا كله لا يشفع لهم.

____________

1- انظر التهذيب ج9/375، والجرح والتعديل ج8/31، والميزان ج3/673، والتقريب ج2/196.


الصفحة 76
والرواية الثانية رواها أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم وابن أبي عاصم والمروزي عن طريق صفوان بن عمرو عن أزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر الهوزني عن معاوية.

أما صفوان بن عمرو فقد وثقه القوم.

وأما أزهر الحرازي فاختلفوا فيه، وقالوا تابعي حسن الحديث، لكنه ناصبي ينال من علي كرم الله وجهه.

وأما أبو عامر فاختلفوا فيه أيضاً.

قال ابن حبان والعجلي والذهبي وابن حجر: ثقة.

وقال أبو زرعة والدراقطني: لا بأس به(1).

وعلى هذا الأساس أعطى القوم هذه الرواية درجة حسن أيضاً كسابقتها.

والرواية الثالثة رواها ابن ماجة وابن عاصم والحاكم معلقاً عن طريق عمرو بن عثمان عن عباد بن يوسف، وعباد بن يوسف هذا لم يرو عنه أصحاب السنن إلاّ ابن ماجة وحده وهو الحديث الوحيد الذي رواه له.

وقد وثق القوم عمرو وعباد(2).

وحازت هذه الرواية أيضاً على درجة حسن.

والرواية الرابعة رواها ابن ماجة وابن أبي عاصم عن طريق هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عن أبي عمرو قتادة عن أنس.

____________

1- انظر الميزان ج1/173، والتقريب ج1/52، وثقات ابن حبان ج4/38.

2- انظر التهذيب ج8/76 و ج5/110، والميزان ج2/380، والتقريب ج1/395.


الصفحة 77
أما هشام فقالوا فيه:

قال ابن معين: ثقة.

وقال العجلي: صدوق.

وقال: ابن حجر: صدوق.

وقال أبو حاتم: لما كبر هشام تغير.

أما الوليد فقد أتهم بالتدليس وكذلك قتادة(1).

وهذه الرواية بهذا الاسناد تعتبر ضعيفة.

والرواية الخامسة رواها الطبراني وابن عاصم عن طريق هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عن بكير بن معروف.

أما هشام فقد سبق ذكره وكذلك الوليد المتهم بالتدليس.

وقالوا عن بكير: لا بأس به.

وتكلم فيه ابن المبارك وأحمد.

وقال ابن حجر: فيه لين(2).

والرواية على هذا الأساس ضعيفة.

والرواية السادسة رواها الترمذي والمروزي والحاكم عن طريق عبد الرحمن بن زياد الأفريقي عن عبد الله بن زيد عن عبد الله بن عمرو.

أما عبد الرحمن فقالوا عنه:

____________

1- انظر التهذيب ج11/51، والتقريب ج1/493 و ج2/32 و123، والميزان ج3/385.

2- انظر التهذيب ج1/495، والتقريب ج1/108، والميزان ج1/351.


الصفحة 78
قال البخاري: في حديثه بعض المناكير(1).

وقال يحيى القطان: ضعيف.

وقال يحيى بن معين: ضعيف.

وقال ابن حجر: ضعيف.

وقال الذهبي: ضعفوه.

وقال النسائي: ضعيف.

وقال أحمد: ضعيف(2).

والرواية بهذه الأسناد تدخل في دائرة الروايات الضعيفة على أساس أن عبد الرحمن من رواة المناكير.

والرواية السابعة رويت عن طريق أحمد بن عبد الله بن يونس عن أبي بكر بن عياش عن موسى بن عبيدة عن عائشة بنت سعد.

وقد وثق القوم أحمد بن يونس وابن عياش أما موسى بن عبيدة فجرحوه.

وقالوا في عبد الله بن عبيدة أخو موسى بن عبيدة الذي دخل بين موسى وعائشة في رواية المروزي ـ كلاماً كثيراً(3).

____________

1- انظر الضعفاء الصغير ص142.

2- انظر التهذيب 6/173، والتقريب ج1/480.

3- انظر التقريب ج1/19، وتهذيب الكمال ج3/1586، والثقات لابن حبان ج5/288، والتهذيب ج5/309، والكاشف ج2/95، والتقريب ج1/431 وج2/399، والثقات للعجلي ص521.


الصفحة 79
وقالوا في عائشة بنت سعد تابعية ثقة(1).

ومن خلال هذه الأقوال في رواة هذا الحديث يصبح الإسناد ضعيفاً.

والرواية الثامنة يقوم إسنادها على أبي غالب عن أبي إمامة الذي ضعفه أبو حاتم والنسائي وابن حبان، وشكك فيه ابن عدي، وقال عنه ابن حجر: صدوق يخطىء بينما وثقة آخرون(2).

والحديث بهذه الصورة فيه خلل في الإسناد.

والرواية التاسعة رويت عن طريق محمد بن الهيثم وقد وثقه القوم بينما ضعف أبو حاتم وقلل أبو رزعة من الراوي الثاني للرواية وهو شجاع بن الوليد.

وقال ابن حجر في رواية جابر راو لم يسم(3).

والرواية العاشرة عن طريق كثير بن مروان الشامي، وهو ضعيف جداً عن عبد الله بن يزيد الدمشقي وهو أسوأ حالا من سابقه.

ومن هنا فنحن نحكم ببطلان هذه الرواية حسب مقاييس القوم.

والرواية الحادية عشر فيها عبد الحميد بن إبراهيم وهو ضعيف، وقال

____________

1- انظر التهذيب ج2/6، والتقريب ج1/445، والتاريخ الكبير ج7/189، والجرح والتعديل ج7/137، و ج3/316، والتهذيب ج12/197، والتقريب ج2/460، والكاشف ج3/322.

2- انظر تهذيب التهذيب ج9/498، والكاشف ج3/92، والتقريب ج2/215، والضعفاء الكبير ج2/184، وتهذيب التهذيب ج4/313، والكاشف ج2/5، والتقريب ج1/347.

3- انظر المجروحين لابن حبان ج2/225.


الصفحة 80
فيه ابن حجر: صدوق إلاّ أنه ذهبت كتبه فساء حفظه(1).

وهذه الرواية من هذا المنظور تعد ضعيفة.

والرواية الثانية عشر جاءت عن طريق نعيم بن حماد عن عيسى بن يونس وعن نعيم بن حماد قالوا:

وثقة أحمد وابن معين وغيرهم.

وقال ابن حجر: صدوق يخطىء كثيراً.

وقد تتبع ابن عدى ما أخطأ فيه، وقال: وعامة ما أنكر عليه هو هذا الذي ذكرته، وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيماً.

وقالوا: وبهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل العلم بالحديث، إلاّ يحيى بن معين لم يكن ينسبه إلى الكذب، بل كان ينسبه إلى الوهم.

وقالوا: كل ما حدث به عن عيسى بن يونس غير نعيم بن حماد فإنما أخذه عن نعيم فتكلم الناس فيه بجرأة.

وقالوا إن هذا الحديث سرقه قوم ضعفاء ممن يعرفون بسرقة الحديث وهو منكر(2).

____________

1- انظر التهذيب ج6/108، والميزان ج2/537، والكاشف ج2/132، والتقريب ج1/16.

2- انظر التهذيب ج10/458، 461، والتقريب ج2/305، وتاريخ بغداد ج13/311.


الصفحة 81

مناقشة المتن:

إن ما يظهر لنا من خلال نصوص الروايات السابقة أنها مجانبة للعقل ولوقائع التاريخ ولنصوص القرآن.

أما مجانبتها للعقل، فتمثل في كون هذه الروايات حددت الفرقة الناجية في ثلاث دوائر، هي:

ـ الجماعة.

ـ الصحابة.

ـ السواد الأعظم.

وفيما يتعلق بالجماعة فقد ذكر القوم ما يلي:

أن الجماعة هي جماعة الصحابة.

أنهم أهل العلم.

أنها الاجتماع على الحق وعدم الفرقة.

أنها مجموع المسلمين.

أنهم أهل الحل والعقد(1).

____________

1- انظر الاعتصام للشاطبي ج2/262، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ج1/109، وفتح الباري ج13/316.


الصفحة 82
وقد قيد فقهاء أهل السنة هذه التعريفات الخمسة في حدود الالتزام بنهج السنة على اعتبار أن الصحابة كانوا جميعاً على نهجهم وأن الاجتماع على الحق إنما يكون في حدود أهل السنة وكذلك مجموع المسلمين وأهل الحل والعقد وأهل العلم الذين اجتمعوا على السنة ونقلوها وحفظوها وتمسكوا بها(1).

ولو كان أهل السنة قد تركوا هذه التعريفات دون تقييد لكان من الممكن أن تستثمرها الفرق الأخرى لصالحها لكنهم سارعوا باحتكار هذه المفاهيم لتحصن أنفسهم وأتباعهم.

إلاّ أن المأزق الذي وقعوا فيه هو أن هذه المفاهيم لا يمكن احتكارها في دائرتهم فهي كما تنطبق عليهم تنطبق على الآخرين.

ولقد قامت على مر التاريخ دول وجماعات على مذاهب وعقائد شتى غير عقيدة أهل السنة ومذاهبها، وكانت لها فقهاء وأهل حل وعقد واتباع من مجموع المسلمين وجميعهم كانوا في دائرة الدين.

فهل يمكن القول أن هذه الدول والجماعات لا ينطبق عليها هذه التعريفات؟

ان أهل السنة قد أغلقوا الأبواب على أنفسهم واعتبروا أن الخارجين عن دائرتهم ليسوا جماعة وليسوا من أهل العلم وليس لهم اتباع سوى شرذمة قليلون، ولم يكن هذا التصور نابع من الشرع وإنما كان نابعاً من السلطة التي كانت تحميهم وتؤويهم وتسهل السبل أمامهم لاستقطاب

____________

1- انظر المراجع السابقة وشروحات كتب السنن أبواب الفرقة والفتن.


الصفحة 83
عامة الناس.

من هنا أعتبر أهل السنة أنه يخرج من مفهوم الجماعة المبتدعة وأصحاب الأهواء والمحدثات في الدين واتباع الفرق الأخرى.

واستدلوا على ذلك بحديث منسوب للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا تجتمع أمتي على ضلالة ولأنهم هم الذين يمثلون الأمة وينطقون بلسانها بنفوذ الحكام فقد اعتبروا أنفسهم الأمة وأن اجتماعهم يكون على الحق دائماً، وبالتالي فهم من خلال تحصّنهم بهذا الحديث يكونون في دائرة العصمة(1).

كذلك تحصن أهل السنة بحديث آخر يقول: من أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد(2).

وتحصنوا بحديث ثالث يقول: يد الله مع الجماعة(3).

ومثل هذه الأحاديث يعتمد عليها أهل السنة في إثبات كونهم الفرقة الناجية ومثلهم في هذا كمثل بيت العنكبوت في وهنه وضعفه إذ أن

____________

1- حديث ضعيف رواه ابن أبي عاصم برقم 801، وضعفه الألباني في سلسلته ج1/39: 40، وذكره الشاطبي في كتابه الاعتصام، والترمذي كتاب الفتن ج4/466 برقم 2167، وأحمد في مسنده ج5/145، والحاكم في مستدركه ج1/15، والدارمي ج1/145.

وهذا الحديث في إسناده سليمان بن سفيان القرشي التيمي وثقه ابن حبان وقال: يخطىء وقال عنه ابن معين ليس بثقة. وقال عنه المديني: روى أحاديث منكرة. وقد أجمعوا أنه من رواة المناكير.

2- رواه البخاري ومسلم.

3- هذا النص جزء من الحديث الأول. وقد انفرد به الترمذي في حديث مستقل.


الصفحة 84
استدلالاتهم وتحصنهم بمثل هذه الأحاديث واه يشوبه الخلل الدائم ولا يرح العقل وهم لم يكسبوا قدرتهم وشيوعهم ببرهان ساطع ودليل قاطع إنما كسبوها من باب الأمر الواقع وغياب الفرق الأخرى.

إن كثرة الأحاديث المنسوبة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والتي تتعلّق بالجماعة في مصادر أهل السنة إنما تعكس حالة رد الفعل لديهم تجاه الفرق المخالفة التي تهدد عقائدهم وأفكارهم تلك الحالة التي دفعت بهم إلى التحصّن بهذه الأحاديث في مواجهة خصومهم.

إلاّ أن أزمة فرق أهل السنة أنها لا زالت تتمسك بهذه الأحاديث إلى اليوم ولا زالت تعيش بعقل الماضي في مواجهة عصر يختلف في توجهاته وأوضاعه كل الاختلاف عن العصر الذي نشأت في ظله، فقد كان يمكن استخدام سلاح الأحاديث في الماضي أما اليوم فهذا السلاح لا يصلح للمواجهة وتحقيق الأمن والاستقرار لعقائدهم وأفكارهم.

وحديث من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد الذي جزم القوم بصحته يثير الكثير من التساؤلات بعد أن اعتبر أهل السنة أن عقائد وأفكار الفرق الأخرى باطلة ومردودة على أساسه.

ومن هذه التساؤلات كيف نحدد الأمر. وكيف يكون الرد؟ وعلى أي أساس؟ والإجابة على هذه التساؤلات متوافرة عند أهل السنة بالطبع، فالأمر هو أمرهم وما هم عليه والردّ هو رفضها وعدم قبوله اوالأساس هو قواعدهم وأحاديثهم، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل أهل السنة على أمر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)؟


الصفحة 85
والجواب بالطبع لا وإلاّ ما كان هناك مبرر لظهور الفرق والاتجاهات الأخرى التي ناصبتهم العداء التي برهنت من خلال اطروحاتها عدم استقامة أهل السنة مع نهج الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وتصدع أهل السنة وتعدّد فرقهم هو برهان آخر على عدم توافقهم مع أمر الرسول، وبرهان أيضاً على كونهم ليسوا الجماعة المقصودة التي يمكن اعتبارها الفرقة الناجية.

إنّ الخلاف إنّما يبرز في حالة الانحراف عن الاستقامة على أمر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ولو كان أهل السنة يعبرون التعبير الشرعي الحقيقي عن الدين لما كان هناك مبرر لاصطدام الفرق الأخرى بهم ومخاصمتها لهم وعدم اعترافها بعقائدهم وأفكارهم ولكان الخلاف بينهم وبين الآخرين ينحصر في دائرة الأمور الفرعية الاجتهادية، أما هذا الخلاف الذي وصل إلى الأصول بينهم وبين الآخرين فيدل على أنهم لا يعبرون عن الدين وأصوله وإنما يعبرون عن اعتقادات وأفكار خاصة بهم.

والدائرة الثانية التي حددتها الروايات هي دائرة الصحابة فقد حصرت الفرقة الناحية في حدود ما أنا عليه وأصحابي.

ولو كانت الرواية قد توقفت على قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ما أنا عليه فقط لكان الأمر مقبولا ولاستقامت الرواية مع رواية من أحدث في أمرنا، ويكون الضمير في كلتاهما يعود على الرسول، لكن أن يربط أمر الرسول بأمر صحابته فهذا ما يتوقف فيه العقل.

فما عليه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) شيء.


الصفحة 86
وما عليه الصحابة شيء آخر.

ولا يمكن الربط بين الأمرين.

إن محاولة الربط بين الرسول والصحابة من قبل أهل السنة إنما هي محاولة التغطية على تجاوزاتهم وخلافاتهم وإضفاء القدسية عليها وهو نهج أهل السنة الدائم الذين يستمدون من رواياتهم وأقوالهم عقائدهم وأفكارهم، فمن ثم فإن محاولة المساس بالصحابة في منظورهم تعد مساساً بالرسول وبالدين(1).

وهذا المعتقد المبالغ فيه عندهم يعد أحد نقاط الخلاف الرئيسية بينهم وبين الفرق الأخرى التي تحكم العقل ولا تقدس الرواية.

لقد وقع الصدام بين الصحابة من بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة وبرزت طائفة المنافقين والقبليين لتقوم بدورها الذي لم تستطع القيام به في حياته ـ في العمل على الانحراف بالمسلمين عن نهجه القويم(2).

بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب آل البيت والصحابة التابعين لهم.

وساد الحزب القبلي والصحابة التابعين له.

وفي عهد عثمان ضرب النهج القبلي وساد النهج الأموي والصحابة المتحالفين معه.

____________

1- هذا يوازي شعار أهل السنة الذي رفعوه فيما بعد وهو ربط الكتاب بالسنة كمحاولة لإضفاء القدسية على الرواية التي يعتمدون عليها في صياغة أفكارهم ومعتقداتهم والحيلولة دون المساس بها.

2- أنظر لنا السيف والسياسة. وانظر كتب التاريخ، أحداث سقيفة بني ساعدة.


الصفحة 87
وفي عهد الإمام علي انقسم الصحابة إلى ثلاث جبهات:

جبهة تحالفت مع الإمام علي.

وجبهة تحالفت مع معاوية.

وجبهة وقفت على الحياد(1).

هذا ما كان عليه الصحابة في عالم الحكم والسياسة.

أما ما كانوا عليه في عالم الفقة والدين فلم يكونوا على مشرب واحد أو على درجة واحدة(2).

وما كانوا عليه من جانب الأخلاق والتقيد بالدين كذلك، فلم يكونوا على مستوى واحد ودرجة واحدة(3).

كذلك ما كانوا على درجة واحدة في الجهاد والبذل والعطاء.

وإذا كان الصحابة لم يكونوا كتلة واحدة.

ولم يكونوا على حظ واحد من العلم.

وكان بينهم المنافقين والقبليين.

فكيف يمكن للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلزم الأمة بالاقتداء بهم جملة دون تحديد الطائفة المختارة من بينهم؟

____________

1- أنظر لنا المرجع السابق وكتب التاريخ فترة الخلفاء الأربعة.

2- لم يكن الصحابة على صلة دائمة بالنبي في حياته وحضور مجالسه بانتظام وإنما كان هناك عدد من الصحابة كان ملتصقاً به على الدوام على رأسهم الإمام علي الذي تميز بكونه أعلم الصحابة. انظر سيرة الرسول في المدينة.

3- انظر خلافات الصحابة وصداماتهم مع بعضهم البعض وتجاوزاتهم مع الرسول في كتب السيرة والتراجم وانظر سورة التوبة.


الصفحة 88
هل هذا يعني أن الصحابة جميعهم كانوا على مستوى القدوة؟

وإذا كان أهل السنة يعرفون الصحابي هو من لقي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)مؤمناً به ومات على الإسلام فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ومن لم يره لعرض كالعمى ومنهم الجن(1).

وعلى ضوء هذا التعريف الذي هو محل إجماعهم يستوي الصحابي الذي أسلم قبل الفتح وقاتل مع الذي أسلم بعد الفتح ولم يقاتل.

والذي هاجر وبذل وأعطى مع الذي رأى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولو لساعة مجرد رؤية دون أن ينجز شيئاً لهذا الدين.

والذي تابع النبي من بداية بعثته وحتى مماته مع الذي سلم على الرسول مرة إن هذا التعميم هو قمة التضليل والتعتيم في آن واحد.

التضليل عن المفهوم الحقيقي للصحبة والصحابي.

والتعتيم على النماذج النقية الراقية من الصحابة، أصحاب الدور الجهادي والعلمي الذين قصدهم الرسول وجعلهم القدوة لأمته من بعده.

وهل يعني هذا التعريف للصحابي الذي يعتقده أهل السنة أن ما كان عليه الرسول وأصحابه يشمل الذين رأوه وسلموا عليه وولدا في حياته؟

لقد فات أهل السنة أن يدركوا أن مجتمع الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن مجتمعاً ملائكياً، ولم يكن هدف الرسالات السماوية تحويل الناس إلى ملائكة، وهذا أمر لم يتحقق في حياة الرسل ومحمد خاصة فكيف يتحقق بعد وفاته؟

____________

1- انظر مقدمة الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني.