الصفحة 68
النبي [صلى الله عليه وآله] هذه الخطبة. فذكرت طائفة من الروايات: أن ذلك قد كان في حجة الوداع، في عرفات.

ورواية واحدة تردد فيها الرواي بين عرفات ومنى.

وهناك طائفة من الروايات عبّرت بـ «المسجد»(94).

وسكتت روايات أخرى عن التحديد. مع أنها جميعاً قد تحدثت عن حدوث فوضى وضجيج، لم يستطع معه الراوي أن يسمع بقية كلام الرسول الأكرم [صلى الله عليه وآله]؛ وتوجد روايات أشارت إلى عدم فهم الرواي، ولكنها لم تشر إلى الضجيج.

فهل كرر النبي [صلى الله عليه وآله] ذلك في المواضع المختلفة فكان يواجه بالضجيج والفوضى؟! ويكون المقصود بالمسجد، هو المسجد الموجود في منى، أو عرفة؟! إن لم يكن ذكر منى اشتباهاً من الراوي. أم أنه موقف واحد، اشتبه أمره على الرواة والمؤرخين؟!


الصفحة 69
أم أن ثمة يداً تحاول التلاعب والتشويش بهدف طمس الحقيقة، وإثارة الشبهات حول موضوع هام وحساس جداً. ألا وهو موضوع الإمامة بعد رسول الله [صلى الله عليه وآله].

قد يمكن ترجيح احتمال تعدد المواقف، التي أظهرت إصرار فئات الناس على موقف التحدي، والخلاف. وذلك بسبب تعدد الناقلين، وتعدد الخصوصيات والحالات المنقولة.

وقد صرحوا بأنه صلى الله عليه وآله قد خطب في حجته تلك: خمس خطب. واحدة في مكة، وأخرى في عرفات، والثالثة يوم النحر بمنى، ثم يوم النفر بمنى، ثم يوم النفر الأول.

وحتى إن كان موقفاً واحداً، فإن الذي نرجحه هو أن يكون ذلك في عرفات..

الثاني: كلهم من قريش..

قد ذكرت الروايات أنه [صلى الله عليه وآله] قد قال: «كلهم من قريش»..

والسؤال هو:

هل قال رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك حقاً؟!

وإذا كان قد قاله، فما هو السبب في ذلك؟

ألا يعتبر ذلك نوعاً من التخفيف من لهجة رفض المنطق القبلي؟

أضف إلى ذلك: أن ما تقدم من حقيقة الموقف الظالم لقريش، ومن هم على رأيها، وخططهم التي تستهدف تقويض حاكمية خط الإمامة، قد يشجع على استبعاد صدور كلمة «كلهم من قريش» منه صلى الله عليه وآله.. وترجيح أن تكون العبارة التي لم يسمعها جابر بن سمرة، وأنس، وعمر بن الخطاب، وعبد الملك بن عمير، وأبو جحيفة، بسبب ما أثاره المغرضون من ضجيج، هي عبارة: «كلهم من بني هاشم». كما ورد في بعض النصوص(95).

وهي الرواية التي استقر بها القندوزي الحنفي، على

الصفحة 70
أساس: أنهم «لا يحسّنون خلافة بني هاشم»(96).

غير أننا نقول: إننا نرجح أن يكون [صلى الله عليه وآله] قد قال الكلمتين معاً، أي أنه [صلى الله عليه وآله] قال: «كلهم من قريش، كلهم من بني هاشم». ويكون ذكر الفقرة الأولى توطئة، وتمهيداً لذكر الثانية؛ ولكن قريشاً قد عرفت ما يرمي إليه صلى الله عليه وآله، خصوصاً بعد أن ذكر لهم حديث الثقلين، فثارت ثائرتها هي وأنصارها، وعجوا وضجوا، وقاموا وقعدوا..!!

وإلا.. فإن قريشاً، ومن يدور في فلكها لم يكن يغضبهم قوله [صلى الله عليه وآله]: «كلهم من قريش» بل ذلك يسرهم، ويفرحهم، لأنه هو الأمر الذي ما فتئوا يسعون إليه، بكل ما أوتوا من قوة وحول، ويخططون ويتآمرون، ويعادون، ويحالفون من أجله، وعلى أساسه، فلماذا الهياج والضجيج، ولماذا الصخب والعجيج، لو كان الأمر هو ذلك؟!.

الموقف، الفضحية:

ولا نشك في أن طائفة الأخيار، والمتقين الأبرار من صحابة النبي [صلى الله عليه وآله] كانت تلتزم بأوامره [صلى الله عليه وآله]، وتنتهي بنواهيه، وتسلم له [صلى الله عليه وآله] في كل ما يحكم ويقضي به.


الصفحة 71
ولكن هؤلاء كانوا فئة قليلة إذا قيست بالفئة الأخرى، المتمثلة بأصحاب الأهواء، وطلاب اللبانات، وذوي الطموحات، ممن لم يسلموا، ولكنهم غلبوا على أمرهم، فاستسلموا، وأصبح كثير منهم يتظاهر بالورع، والدين والتقوى، والطاعة والتسليم لله، ولرسوله، متخذاً ذلك ذريعة للوصول إلى مآربه، وتحقيق أهدافه.

أما هؤلاء، الذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون، ويسرون غير ما يعلنون، فقد كان لا بد من كشف زيفهم وإظهار خداعهم بصورة أو بأخرى.

وقد رأينا:

كيف أن هؤلاء الذين كانوا يتبركون بفضل وضوء رسول الله [صلى الله عليه وآله]، وحتى ببصاقه، ونخامته، ويدّعون الحرص على امتثال أوامر الله سبحانه بتوقيره، وبعدم رفع أصواتهم فوق صوته(97)، وبالتأدّب معه، وبأن

الصفحة 72
لا يقدموا بين يدي الله ورسوله و.. و..

لقد رأينا أن هؤلاء بمجرد إحساسهم بأنه [صلى الله عليه وآله] يريد الحديث عن الأئمة الاثني عشر، وبيان مواصفاتهم ـ ويتجه نحو تحديدهم بصورة أدق، وأوفى وأتـم ـ كيف ثارت ثائرتهم. وأن خشيتهم من إعلان إمامة من لا يرضون إمامته، وخلافة من يرون أنه قد وترهم، وأباد خضراءهم في مواقفه المشهورة، دفاعاً عن الحق والدين ـ ألا وهو علي أمير المؤمنين [عليه السلام]، قد أظهر حقدهم، فعلا ضجيجهم، وزاد صخبهم، والتعبيرات التي وردت في الروايات واصفة حالهم، هي مثل:

«ثم لغط القوم وتكلموا».

أو: «وضج الناس».

أو: «فقال كلمة أصمّينها الناس».

أو: «فصرخ الناس، فلم أسمع ما قال».

أو: «فكبر الناس، وضجوا».

أو: «فجعل الناس يقومون، ويقعدون».

نعم، لقد كان هذا هو موقفهم من الرسول، وهؤلاء هم الذين يدعي البعض لهم مقام العصمة عن كل ذنب، ويمنحهم وسام الاجتهاد في الشريعة والدين!!.


الصفحة 73

التدبير النبوي:

وتوضيحاً لما جرى نقول:

لقد حج النبي صلى الله عليه وآله، في تلك السنة، فاجتمع إليه مئة وعشرون ألفاً، أو تسعون ألفاً، أو سبعون ألفاً.. ليحجوا معه، وقيل غير ذلك..(98).

وكان معظم هؤلاء الناس قد أسلموا، أو أرسلوا وفوداً إلى المدينة ليعلموه بإسلامهم بعد فتح مكة أي في سنة تسع ـ سنة الوفود ـ وسنة عشر، وأما المسلمون من عدا هؤلاء، وأهل المدينة أنفسهم، فكانوا قلة قليلة جداً، حتى إن النبي صلى الله عليه وآله، قال لهم في سنة ست: «اكتبوا لي كل من تلفظ بالإسلام» فكتب له حذيفة ألفاً وخمس مئة رجل..(99).

وفي رواية أخرى: «ونحن ما بين الست مئة إلى السبع مئة»..(100) ولا شك أن فيهم صحيح الإيمان، وفيهم المدخول والمنافق قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}(101).

ومن الواضح: أن الذين تلفظوا بالإسلام كانوا منتشرين في المدينة وحولها، وفي الحبشة أيضاً، وفي غير ذلك من المناطق.

وقد فرض الإسلام وجوده، وهيبته تلك السنين التي كانت زاخرة بالتحديات، وسمع به القاصي والداني..

وكان المهاجرون في المدينة، فريقان:

أحدهما: الأنصار، وهم أهل المدينة أنفسهم.

والآخر: القرشيون المهاجرون من مكة ـ بصورة عامة ـ.


الصفحة 74
وكان المهاجرون يدبرون لإبعاد أمر الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله عن الإمام علي عليه السلام، وقد تعاهدوا وتعاقدوا على ذلك..

وكان المراقب لتصرفاتهم في مختلف الموارد يدرك مدى انحرافهم عن الإمام علي عليه السلام، وأنهم تكتل واضح المرامي والأهداف، ظاهر التباين والاختلاف، لا مجال لأن يفكر بالإنصياع للتوجيهات النبوية، ولا حتى للقرارات الإلهية فيما يرتبط بالإمام علي عليه السلام، في مختلف الظروف والأحوال..

وقد حج منهم مع رسول الله بضع عشرات، قد لا يصلون إلى المئات.. ولكن ثقلهم الحقيقي كان في مكة، التي أظهرت في السنة الثامنة من الهجرة، الاستسلام للإسلام، بالإضافة إلى ما حولها من البلاد والعباد، الذين يخضعون لنفوذها، ويلتقون في مصالحهم معها..

ولأجل ذلك وجد المهاجرون الطامحون، في قريش، وفي مكة وما والاها، عضداً قوياً، وسنداً لهم، شجعهم على مواجهة رسول الله صلى الله عليه وآله، بهذه الحدة والشدة التي سلفت الإشارة إليها..

وبعد أن فعلوا فعلتهم الشنيعة تلك، وظنوا أنهم قد ربحوا معركتهم ضد رسول الله صلى الله عليه وآله، بمنعهم إياه من الإعلان على الحجيج تنصيب علي في مقام الإمامة.

كان التخطيط النبوي الحكيم يقضي، بأن يخرج النبي صلى الله عليه وآله من مكة فور انتهاء مراسم الحج مباشرة، ومن دون تفويت ساعة، بل دقيقة واحدة من الوقت، فنفر في اليوم الثالث عشر من منى بعد الزوال..(102) وبعد أن طاف بالبيت خرج من مكة..(103).

لأن أي تعلل، أو تأخر، سوف يكون معناه أن يخرج أشتات من الناس إلى بلادهم ولا يتمكن النبي صلى الله عليه وآله، من إيصال ما يريد إيصاله إليهم.

وقد قطع صلى الله عليه وآله المسافة ما بين مكة والجحفة، حيث يوجد غدير خم، وهي عشرات الكيلومترات، ـ فقطعها ـ في أربعة أيام فقط، ثم نصب علياً هناك إماماً للأمة، وبايعه حتى أشد الناس اعتراضاً على رسول الله، ولم يجرؤا على التفوه ببنت شفة إلا همساً..

لأنهم وجدوا أنفسهم أفراداً قليلين، لا يتجاوزون بضع عشرات من الناس بين عشرات الألوف، فإن حماتهم، وهم مكة وما ولاها، قد بقيت وراء ظهورهم، وأما اليمن، فقد أسلمت طائفة من أهلها قبل أيام يسيرة على يد الإمام علي عليه السلام، الذي لحق برسول الله صلى الله عليه وآله في مكة.. مع بعض من أسلم على يديه..

ظهور الأحقاد والمصارحة المرة:


الصفحة 75
وقد تقدمت كلمات أمير المؤمنين [عليه الصلاة والسلام] التي صرح فيها بأن العرب كرهت أمر محمد [صلى الله عليه وآله]، وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه، حتى قذفت زوجته، ونفرت به ناقته.

ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة للرياسة، وسلماً إلى العز والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً.

وعلى هذا، فإن من الطبيعي جداً: بعد أن جرى ما جرى منهم معه [صلى الله عليه وآله] في منى وعرفات وبعد أن تأكد لديهم إصرار النبي [صلى الله عليه وآله] على جعل الأمر في أهل بيته، ولعلي [عليه السلام] على وجه الخصوص، أن يظهر الحقد والبغض على وجوههم، وفي حركاتهم وتصرفاتهم، وعلى مجمل مواقفهم. وصاروا يعاملون رسول الله [صلى الله عليه وآله] معاملة غريبة، وبصورة بعيدة حتى عن روح المجاملة الظاهرية.

وقد واجههم رسول الله [صلى الله عليه وآله] بهذه الحقيقة، وصارحهم بها، في تلك اللحظات بالذات. ويتضح ذلك من النص المتقدم في الفصل السابق والذي يقول:


الصفحة 76
عن جابر بن عبدالله: أن رسول الله [صلى الله عليه وآله] نزل بخم فتنحى الناس عنه، ونزل معه علي بن أبي طالب، فشق على النبي تأخر الناس، فأمر علياً، فجمعهم، فلما اجتمعوا قام فيهم متوسداً [يد] علي بن أبي طالب، فحمد الله، وأثنى عليه.. ثم قال:

«أيها الناس، إنه قد كَرِهْتُ تخلفكم عني، حتى خُيِّلَ إلي: أنه ليس شجرة أبغض إليكم من شجرة تليني»(104).

وروى ابن حبـان بسند صحيح على شرط البخاري ـ كما رواه آخرون بأسانيد بعضها صحيح أيضاً:

إنه حين رجوع رسول الله [صلى الله عليه وآله] من مكة، ـ حتى إذا بلغ الكديد أو [قدير]، جعل ناس من أصحابه يستأذنون، فجعل [صلى الله عليه وآله] يأذن لهم.

فقال رسول الله [صلى الله عليه وآله]:

«ما بال شق الشجرة التي تلي رسول الله أبغض إليكم من الشق الآخر؟».

قال: فلم نر من القوم إلا باكياً.

قال: يقول أبو بكر: «إن الذي يستأذنك بعد هذا لسفيه في نفسي الخ..»(105).


الصفحة 77


الفصل الخامس

الغدير
في ظل التهديدات الإلهية





الصفحة 78

الصفحة 79

قريش وخلافة بني هاشم:

قد عرفنا في الفصل السابق: أن قريشاً، ومن هم على رأيها هم الذين كانوا يخططون لصرف الأمر عن بني هاشم، وبالذات عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [عليه الصلاة والسلام]، ويتصدون لملاحقته ومتابعته في جميع تفاصيله وجزئياته.

وقد رأوا: أن رسول الله [صلى الله عليه وآله] كان في مختلف المواقع والمواضع لا يزال يهتف باسمه، ويؤكد على إمامته، ولم يكن في مصلحتهم أن يعلن بذلك أمام تلك الجموع الغفيرة، التي جاءت للحج من جميع الأقطار والأمصار، ولأجل ذلك فقد بادروا إلى التشويش والإخلال بالنظام. قريش بالذات هي التي قصدت النبي [صلى الله عليه وآله]

الصفحة 80
في منزله بعد هذا الموقف مباشرة لتستوضح منه ماذا يكون بعد هؤلاء الأئمة.

فكان الجواب: ثم يكون الهرج. وفي نص آخر: [الفرج]، كما رواه الخزاز(106).

والظاهر: أن هذا هو الصحيح..

وقد رأى النبي [صلى الله عليه وآله]: أن مجرد التلميح لهذا الأمر، قد دفعهم إلى هذا المستوى من الإسفاف والإسراف في التحدي لإرادة الله سبحانه. ولشخص النبي [صلى الله عليه وآله]، دون أن يمنعهم من ذلك شرف المكان، ولا خصوصية الزمان، ولا قداسة المتكلم، وشأنه وكرامته.

فكيف لو أنه [صلى الله عليه وآله] صرح بذلك وجهر باسمه [عليه الصلاة والسلام]، فقد يصدر منهم ما هو أمر وأدهى، وأشر وأقبح، وأشد خطراً على الإسلام، وعلى مستقبله بصورة عامة.

وقد فضح الله بذلك أمر هؤلاء المتظاهرين بغير حقيقتهم، أمام فئات من الناس، جاءت للحج من كل حدب وصوب، وسيرجعون بذكريات مرة عن هؤلاء الناس ليحدثوا بها أهلهم، وأصدقاءهم، وزوارهم.. في زمان كان الرجوع من سفر كهذا، والنجاة من أخطاره ومشقاته، بمثابة ولادة جديدة..

التدخل الإلهي:

ثم جاء التهديد الإلهي لهم، فحسم الموقف، وأبرم الأمر، وظهر لهم أنهم عاجزون عن الوقوف في وجه إرادة الله، القاضية بلزوم إقامة الحجة على الناس كافة، بالأسلوب الذي يريده الله ويرتضيه. وأدركوا: أن استمرارهم في المواجهة السافرة قد يؤدي

الصفحة 81
بهم إلى حرب حقيقية، مع الله ورسوله، وبصورة علنية ومكشوفة.

فلم يكن لهم بد من الرضوخ، والانصياع، لا سيما بعد أن أفهمهم الله سبحانه: أنه يعتبر عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ أصل الدين، وأساس الرسالة، وأن معارضتهم لهذا الإبلاغ، تجعلهم في جملة أهل الكفر، المحاربين، الذين يحتاج الرسول إلى العصمة الإلهية منهم.

وهذه الأمور الثلاثة قد تضمنتها الآية الكريمة التي حددت السياسة الإلهية تجاههم:

{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ الله لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ}(107).

والتركيز على هذه الأمور الثلاثة معناه: أن القرار الإلهي هو أنه تعالى سوف يعتبر عدم تبليغ هذا الأمر للناس بصورة علنية أنه عودة إلى نقطة الصفر، وخوض حروب في مستوى بدر، وأحد والخندق، وسواها من الحروب التي خاضها المسلمون ضد المشركين، من أجل تثبيت أساس الدين وإبلاغه.

ومن الواضح لهم:

أن ذلك سوف ينتهي بهزيمتهم وفضيحتهم، وضياع كل الفرص، وتلاشي جميع الآمال في حصولهم على امتياز يذكر، أو بدونه، حيث تكون الكارثة بانتظارهم، حيث البلاء المبرم، والهلاك والفناء المحتّم.

فآثروا الرضوخ ـ مؤقتاً ـ إلى الأمر الواقع، والانحناء أمام العاصفة، في سياسة غادرة وماكرة.. ولزمتهم الحجة، بالبيعة التي أخذت منهم له [عليه السلام] في يوم الغدير. وقامت الحجة بذلك على الأمة بأسرها أيضاً.

الصفحة 82
ولم يكن المطلوب أكثر من ذلك. وكان ذلك قبل استشهاده صلى الله عليه وآله بسبعين يوماً..

سياسة الفضائح:

ولكن ذلك لم يكن ليمنعهم من ادعاء التوبة عما صدر، والندم على ما بدر منهم، وادعاء أن النبي صلى الله عليه وآله قد رضي عليهم وسامحهم، وأنه قد استجدت أمور دعت النبي إلى العدول عن ذلك كله، وأنه صرف النظر عن تولي الإمام علي عليه السلام للأمور بعده.. لأنه رأى أن العرب لن ترضى بهذا الأمر، لأن علياً عليه السلام قد وترها، وقتل رجالها.. أو لغير ذلك من أسباب..

1ـ فكانت قضية تجهيز جيش أسامة، وظهور عدم انصياعهم لأوامر النبي صلى الله عليه وآله في المسير مع ذلك الجيش، حتى إنه صلى الله عليه وآله قد لعن من تخلف عن جيش أسامة..

كانت هذه القضية هي الدليل الآخر على أنهم لا يزالون على سياساتهم تجاه النبي صلى الله عليه وآله، وأنهم لا يزالون بصدد عصيان أوامره، رغم شدة غضبه صلى الله عليه وآله، منهم، ولعنه لهم..

وقد يعتذرون عن ذلك بأن حبهم للنبي صلى الله عليه وآله، وخوفهم من أن يحدث له أمر في غيبتهم، هو الذي دعاهم إلى هذا العصيان، فليس هو عصيان عن سوء نية، بل هو يدل على أنهم في غاية درجات الحسن والصلاح..

ثم إنهم قد يقولون للناس ـ وقد قالوا ذلك بالفعل ـ: إن لعن النبي لهم هو من أسباب زيادة درجات الصلاح فيهم، حيث رروا عنه صلى الله عليه وآله زوراً وبهتاناً، أنه قال:


الصفحة 83
«والله إني بشر، أرضى وأغضب، كما يغضب البشر، اللهم من سببته، أو لعنته، فاجعل ذلك زكاة له ورحمة»..(108).

2ـ فجاءت قضية صلاة أبي بكر بالناس، في مرض موته صلى الله عليه وآله، وعزل النبي صلى الله عليه وآله له عنها، لتفسد عليهم أي ادعاء لأن يكون أهلاً لما هو أدنى من مقام إمامة الأمة، وخلافة النبوة، فإن عدم أهليته حتى للإمامة في الصلاة، فضلاً عن التي لا تحتاج إلا إلى تصحيح القراءة والعدالة، يكشف عن عدم صلاحيته لمقام الإمامة الذي يحتاج إلى العلم، وإلى العدالة، وإلى الشجاعة، وإلى غير ذلك من صفات..

ولكن قد يعتذرون عن ذلك بالتشكيك في اشتراط العدالة، ويروون عن النبي صلى الله عليه وآله زوراً وبهتاناً أيضاً أنه قال: «صلوا خلف كل بر وفاجر».. ثم يفتي فقهاؤهم بذلك، أو يدّعون أن النبي هو الذي صلى خلف أبي بكر، كما صلى ـ بزعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد ـ خلف عمرو بن العاص.. ويدّعون.. ويدّعون..

3ـ فجاءت قضية كتابة النبي صلى الله عليه وآله الكتاب الذي لن يضلوا بعده أبداً، لتظهر كيف أنهم لا يتورعون حتى عن اتهام النبي صلى الله عليه وآله في عقله، حتى ليقول قائلهم: «إن النبي ليهجر»!! أو قال كلمة معناها: «غلبه الوجع».

وكان القائل لذلك هو عمر بن الخطاب بالذات.

رغم أنه صلى الله عليه وآله ما قال لهم: أريد أن أعين الخليفة بعدي، بل قال: «أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً».. فواجهوه بهذا الأمر العظيم، فكيف لو زاد على ذلك ما هو أوضح وأصرح؟!

ألا يحتمل أن يبادروا حتى إلى قتله؟!


الصفحة 84
ثم إنهم قد يعتذرون عن ذلك أيضاً بأن عمر بن الخطاب قد ندم وتاب، وقد يدعون أنه اعتذر إلى النبي صلى الله عليه وآله وأنه صلى الله عليه وآله قد صفح عنه وسامحه.

بل لقد قالوا: إن ما صنعه عمر، من منع النبي صلى الله عليه وآله من كتب الكتاب كان هو الأصح والأصلح، وأنه لو كتب ذلك الكتاب لاختلف المسلمون، ولكانت المصيبة أعظم.

4ـ فجاء ما جرى على السيدة الزهراء عليه السلام ليؤكد إصرارهم على مناوأة النبي صلى الله عليه وآله في أهدافه، وعلى أنهم لا يتورعون حتى عن الاعتداء على البنت الوحيدة لرسول الله صلى الله عليه وآله.. إلى حد إسقاط الجنين وكسر الضلع، والضرب إلى حد التسبب باستشهادها.. وذلك بعد أن جمعوا الألوف من المقاتلين خصوصاً من قبيلة بني أسلم. التي كانت تعيش بالقرب من المدينة أعرابيتها، وقد قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ}(109).

وقد يقولون للناس أيضاً: لعن الله الشيطان لقد كانت ساعة غضب وعجلة، ولم نكن نحب أن نسيء إلى بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.. وقد ندمنا أعظم الندم على ما صدر وبدر منا ـ رغم أن لنا، أسوة برسول الله صلى الله عليه وآله، فإنه إذا كان النبي قد بدر منه حين الغضب ما لا يناسب مقامه، فكيف يمكن تنزيه غيره صلى الله عليه وآله عن مثل ذلك..

وهذا معناه: أن ما صدر منهم لا يعني بالضرورة أنهم لا يصلحون لمقام الإمامة والخلافة، خصوصاً وأن ما صدر منهم تجاه السيدة الزهراء إنما كان في ساعات حرجة، فيه الكثير من الانفعال والتوتر، وقد كانوا ـ بزعمهم ـ يسعون فيها إلى حفظ الإسلام، قبل انتشار الأمر، وفساد التدبير..

5ـ فجاءت قضية فدك لتبين أن هؤلاء غير صادقين فيما يدعونه، وأنهم يفقدون أدنى المواصفات لمقام خلافة النبوة فهم:

غير مأمونين على دماء الناس، كما أظهره فعلهم بالسيدة الزهراء عليه السلام.


الصفحة 85
وغير مأمونين على أعراضهم كما أوضحه هتكهم لحرمة بيتها وهي التي تقول: خير للمرأة أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل.

وغير مأمونين على أموال الناس كما أوضحه ما صنعوه في فدك..

فإذا كانوا لا يحفظون أموال ودماء وعرض رسول الله، فهل يحفظون دماء وأعراض وأموال الضعفاء من الناس العاديين؟!

وإذا كانوا يجهلون حكم الإرث، فقد علمتهم إياه السيدة الزهراء عليها السلام.

وبعد التعليم، والتذكير فإن الإصرار يدل على فقدانهم لأدنى درجات الأمانة والعدل.

فهل يمكنهم بعد ذلك كله ادعاء أنهم يريدون إقامة العدل، وحفظ الدماء، والأعراض، والأموال، وتعليم الناس دينهم، وتربيتهم، وبث فضائل الأخلاق فيهم، وغير ذلك..

وعلى كل حال، فإن النتيجة هي أن هؤلاء القوم قد أصروا على صرف هذا الأمر عن الإمام علي عليه السلام، ونكثوا بيعته، وأجبروا الناس على البيعة لهم..


الصفحة 86
وقد توسلوا للوصول إلى أهدافهم بقوة السلاح، حيث جهزوا ألوفاً من المقاتلين من قبيلة بني أسلم، وعرضوا على الناس البيعة وأهانوهم، من أجل ذلك، وسحبوهم إلى البيعة من بيوتهم، سحباً وحملوهم عليها قهراً، وجبراً، كما صرحت به النصوص التاريخية.

بل إنهم صاروا يبحثون عن الناس في بيوتهم، ويخرجونهم منها بالقوة، وكان هناك من يدلهم على البيوت التي اختبأ فيها أفراد لا يريدون البيعة لأبي بكر..

وبعد، فإنه إن كان هناك أفراد يحبون نصرة الإمام علي عليه السلام، فكيف يصلون إليه، بعد أن تضايقت سكك المدينة ببني أسلم؟! وأخذوا عليهم أقطار الأرض، وآفاق السماء؟!!

وقد كان ذلك بعد وفاة النبي [صلى الله عليه وآله]، وإحساسهم بالأمن، وبالقوة.

{فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}(110).

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}(111).


الصفحة 87

تذكير ضروري: الورع والتقوى

وقد يدور بخلد بعض الناس السؤال التالي: إنه كيف يمكن أن نصدق أن يقدم عشرات الألوف من الصحابة على مخالفة ما رسمه النبي [صلى الله عليه وآله] لهم في أمر الخلافة والإمامة. وهم أصحابه الذين رباهم على الورع والتقوى، وقد مدحهم الله عز وجل في كتابه العزيز، وذكر فضلهم، وهم الذين ضحوا في سبيل هذا الدين، وجاهدوا فيه بأمواله وأنفسهم!!

ونقول في الجواب:

إن ما يذكرونه حول الصحابة أمر مبالغ فيه. وذلك لأن

الصفحة 88
الصحابة الذين حجوا مع النبي [صلى الله عليه وآله] قبيل وفاته، وإن كانوا يعدون بعشرات الألوف.

ولكن لم يكن هؤلاء جميعاً من سكان المدينة، ولا عاشوا مع النبي [صلى الله عليه وآله] فترات طويلة، تسمح له بتربيتهم وتزكيتهم، وتعليمهم وتعريفهم على أحكام الإسلام، ومفاهيمه.

بل كان أكثرهم من بلاد أخرى بعيدة عن المدينة أو قريبة منها وقد فازوا برؤية النبي [صلى الله عليه وآله] هذه المرة، وقد يكون بعضهم قد رآه قبلها أو بعدها بصورة عابرة أيضاً، وقد لا يكون رآه.

ولعل معظمهم ـ بل ذلك هو المؤكد ـ قد أسلم بعد فتح مكة، وفي عام الوفود، سنة تسع من الهجرة: فلم يعرف من الإسلام إلا اسمه، ومن الدين إلا رسمه، مما هو في حدود بعض الطقوس الظاهرية والقليلة.

وقد تفرق هؤلاء بعد واقعة الغدير مباشرة، وذهب كل منهم إلى أهله وبلاده.

ولم يبق مع رسول الله بعد حادثة الغدير، الا أقل القليل، ربما بضعة مئات من الناس، ممن كان يسكن المدينة.


الصفحة 89
وربما كان فيهم العديد من الخدم والعبيد، والأتباع، بالإضافة إلى المنافقين والذين مردوا على النفاق، ممن أخبر الله عن وجودهم، وأنهم كانوا ممن حولهم الأعراب ومن أهل المدينة، ولم يكن رسول الله [صلى الله عليه وآله] يعلمهم بصورة تفصيلية، وكان الله سبحانه هو الذي يعلمهم..(112).

قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}(113).

هذا إلى جانب فئات من الناس، من أهل المدينة نفسها، كانوا لا يملكون درجة كافية من الوعي للدين، وأحكامه ومفاهيمه، وسياساته، بل كانوا مشغولين بزراعاتهم، وبأنفسهم، وملذاتهم، وتجاراتهم، فإذا رأوا تجارة أو لهواً، انفضوا إليها، وتركوا النبي [صلى الله عليه وآله] قائماً.

وقد تعرض كثير من الناس منهم لتهديدات النبي [صلى الله عليه وآله] بحرق بيوتهم، لأنهم كانوا يقاطعون صلاة الجماعة التي كان يقيمها رسول الله [صلى الله عليه وآله] بالذات، كما أنه قد كان ثمة جماعة اتخذت لنفسها مسجداً تجتمع فيه، وتركت الحضور في جماعة المسلمين، وهو ما عرف بمسجد الضرار، وقد هدمه [صلى الله عليه وآله]، كما هو معروف.

وتكون النتيجة هي أن من كان في ساحة الصراع والعمل السياسي في المدينة، هم أهل الطموحات، وأصحاب النفوذ من قريش،

الصفحة 90
صاحبة الطول والحول في المنطقة العربية بأسرها. بالإضافة إلى أفراد معدودين من غير قريش أيضاً.

فكان هؤلاء هم الذين يدبرون الأمور، ويوجهونها بالإتجاه الذي يصب في مصلحتهم، ويؤكد هيمنتهم، ويحركون الجماهير بأساليب متنوعة، اتقنوا الاستفادة منها بما لديهم من خبرات سياسية طويلة.

فكانوا يستفيدون من نقاط الضعف الكثيرة لدى السذَّج والبسطاء، أو لدى غيرهم ممن لم يستحكم الإيمان في قلوبهم بعد، ممن كانت تسيِّرهم الروح القبلية، وتهيمن على عقلياتهم وروحياتهم المفاهيم والرواسب الجاهلية.

وكان أولئك الذين وترهم الإسلام ـ أو قضى على الإمتيازات التي لا يستحقونها، وقد استأثروا بها لأنفسهم ظلماً وعلوا ـ كانوا ـ يسارعون إلى الاستجابة إلى أي عمل يتوافق مع أحقادهم، وينسجم مع مشاعرهم وأحاسيسهم الثائرة ضد كل ما هو حق وخير، ودين وإسلام.

وهذا هو ما عبر عنه رسول الله [صلى الله عليه وآله] حينما ذكر: أن تأخيره إبلاغ أمر الإمامة بسبب أنه كان يخشى قومه، لأنهم قريبو عهد بجاهلية، بغيضة ومقيتة، لا يزال كثيرون منهم يعيشون بعض مفاهيمها، وتهيمن عليهم بعض أعرافها.


الصفحة 91

وهكذا يتضح:

أن الأخيار الواعين من الصحابة، كانوا قلة قليلة. وحتى لو كثر عددهم، فإن الآخرين هم الذين كانوا يقودون التيار، بما تهيأ لهم من عوامل وظروف، في المدينة التي كانت بمثابة قرية صغيرة، لا يصل عدد سكانها إلى بضعة ألوف من الناس، قد عرفنا بعض حالاتهم، فكان أن تمكنوا من صرف أمر الخلافة بعد رسول الله [صلى الله عليه وآله] عن أصحابها الشرعيين، إلى غيرهم، حسبما هو مذكور ومسطور في كتب الحديث والتاريخ.

خلاصة وبيان:

وبعد ما تقدم، فإنه يصبح واضحاً أن الرسول الأكرم [صلى الله عليه وآله] كان يواجه عاصفة من التحدي، والإصرار على إفشال الخطط الإلهية، بأي ثمن كان، وبأي وسيلة كانت!

وأن التدخل الإلهي، والتهديد القرآني إنما هو موجه إلى العناصر التي أثارت تلك العاصفة، لإفهامهم: أن إصرارهم على التحدي، يوازي في خطورته وفي زيف نتائجه، وقوفهم في وجه الدعوة الإلهية من الأساس، وقد حَسَم هذا التدخل الموقف، ولجم التيار، لاسيما بعد أن صرح القرآن بكفر من يتصدى، ويتحدى، وتعهد بالحماية والعصمة له [صلى الله عليه وآله]:

{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(114).


الصفحة 92
وإذا كان الله سبحانه هو الذي سيتصدى لكل معاند وجاحد، فمن الواضح: أنه ليس بمقدور أحد أن يقف في وجه الإرادة الإلهية، فما عليهم إلا أن ينسحبوا من ساحة التحدي، من أجل أن يقيم الله حجته، ويبلغ الرسول [صلى الله عليه وآله] دينه ورسالته.

وليبوؤوا بإثم المكر والبغي، وليحملوا وزر النكث والخيانة.. والله لا يهدي كيد الخائنين.


الصفحة 93