الفصل الرابع
يُسأل (كيف عرف الراهب بحيرا وغيره من الرهبان ان محمّداً(صلى الله عليه وآله) هو الذي بشّر به عيسى(عليه السلام) بعد إن كان الإنجيل مغيّراً من ذلك الوقت)، كأنّ السائل يرى انّ علم ذلك كان محصوراً في الإنجيل، فإذا ذهب الإنجيل ذهب ذلك العلم، ولم يفهم انّ الله تعالى إذا أراد الدلالة على شيء أو كان من حكمته الإرشاد إليه لا تعارض حكمته ولا يكون خلاف إرادته ولو كره الكافرون.
أعلم أيّها السائل انّ الله تعالى شأنه أراد بمحمّد(صلى الله عليه وآله) بشيراً في عباده ونذيرا، وهادياً إليه بإذنه وسراجاً منيرا، أراد الله أن يستنقذ بمحمّد(صلى الله عليه وآله)عباده، ويملأ بنوره أرضه وبلاده، فأكثر من الأدلة عليه، وأوضح من الهداية والإرشاد إليه، حتّى لم يكن ليعمى عن ذلك إلاّ أعمى، لا يجهله إلاّ غبي جاهل، ويمكنني أن أكثر لك من الشواهد على ذلك وأوضحه، لولا خوف الإطالة، وحصول الملل منك على نحو يوجب حرمانك من فهم ما تريد وأريده لك، فمن هنا أرى أنّ الاقتصار على بيان كيفية إيمان الراهب الجليل بحيرا أمثل وأفضل، فإنّها تنتهي بك إلى ما أردناه ومن الله التوفيق.
محمّد(صلى الله عليه وآله) وبحيرا
يحدّثنا التاريخ انّ إيمان بحيرا بمحمّد(صلى الله عليه وآله) كان عن علم بصفات محمّد(صلى الله عليه وآله)وخصائصه من كتاب كانوا يتوارثونه رهبان تلك الصومعة فيما بينهم، حتّى إذا جاء محمّد(صلى الله عليه وآله) إلى الشام مع عمّه أبي طالب قيل في سنة ثمان من مولده رأى منه بحيرا ما كان يعلم من صفاته وخصائصه، رآه وقد أشرف عليه من صومعته والغمامة تظلّله، وما يمرّ به يسجد له، والشجرة قد هصرت أغصانها عليه لمّا نزل تحتها، ودعاه مع مَن معه إلى إطعامه، فلمّا جاءوا جعل يلحظ رسول الله(صلى الله عليه وآله) لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده الشريف كان يجدها عنده، وسأله حينما تفرّق القوم عن أشياء في حال يقظته ونومه فأخبره رسول الله(صلى الله عليه وآله) عنها، فكان يجدها بحيرا موافقة لما عنده من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوّة بين كتفيه، ومن هنا قال لمَن معه من أشياخ قريش وقد أخذ بيده (هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربّ العالمين)(1) لم يمنع بحيرا عن الإيمان بمحمّد(صلى الله عليه وآله) حينما رأى ما رأى خوفاً على رياسة، ولا حرص على منزلة عند قومه ومكانة، بل أخذ يبشّر بمحمّد(صلى الله عليه وآله) ويقول لمَن معه انّي أرى ما لا ترون واعلم ما لا تعلمون، وان تحت هذه الشجرة لغلاماً لو كنتم تعلمون منه ما اعلم لحملتموه على أعناقكم حتّى تردوه إلى وطنه(2)، هذا شأن ذوي النفوس الحية، هذا طريق
____________
1- تجد ذلك في صفحة 195 من الجزء الثاني من تاريخ الطبري.
2- تجد ذلك في صفحة 60 من سادس البحار.
ويمكن ان اذكر لك هذه المسئلة بنحو أوسع واثبتها لك من أقلام كتبة المسيحيين تأكيداً لإيمانك بها، وإخراجاً للشك من نفسك فيها، فاستمع.
قال الياس ابو غنام في صفحة 18 إلى ص... من الجزء الأوّل من كتاب البراهين الجلية، حاكياً عن أحد الرهبان بيان سبب إيمانه بمحمّد(صلى الله عليه وآله)لقيصر الروم عند دخوله بيت المقدس، ومجيء كتاب محمّد(صلى الله عليه وآله) يدعوه فيه إلى الإسلام، والحديث طويل.
قال عن ذلك الراهب (منذ نيف واربعين سنة كان يقيم في دير صغير في مدينة بصرى راهب اسمه بحيرا كان على جانب عظيم من علم الفلك والطوالع والحكمة، واسمه الأصلي يوحّنا، ولكن الكلدانيين لقبوه بحيرا يعني العالم المدقّق، لقبوه بذلك لطول باعه في جميع العلوم، والبعض يظنون انّه ساحراً نظراً لقوّة فراسته وحسن نظره، وكان بيني وبين هذا الراهب صداقة قويّة حيث صحبته سنيناً طويلة وكان مؤنسي في وحشتي واستاذي في حياتي، وله القدح المعلى في المبادىء والآداب، وما زلت أعجب به وأتحدّاه وأسير في أثره إلى هذا اليوم) ثم ذكر عن ذلك الراهب حكايته عن ورود قافلة من الحجاز فيها محمّد(صلى الله عليه وآله) واجتماع بحيرا به ثم رجوعه إلى
قال ثمّ انّه خرج من الدير، وخلا برئيس القافلة، وحادثه ملياً وسراً، ثم انفرد بالغلام وصار يكلّمه فلم اسمع من حديثهما شيئاً، ثمّ رجع إلى غرفته وكان يردّد مثل هذه الكلمات، دانيال يقول (انّه ستجتمع به كلمة العرب، ويقوى أمرهم ويشتد أزرهم فيذللون أبناء عمّهم بني اسحاق ويتسلّطون عليهم أحقاباً متطاولة، ودينه يسود على كلّ الأرض، وكلّ الأمم تطريه، وتتبارك فيه، وانّه سيعيد للعبادة رونق الخشية والوقار. وفي زبور داود يقول انّه سيملك من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض، وتخضع له كلّ الأمم، وتجثوا له كل ركبة، ويؤتى بملوك الأرض أسرى قدامه، ويوثق رؤساءهم بالقيود. ثم أجرى الكلام في مناقشات طالت بينهما لا غرض لنا بذكرها، ثمّ رجع إلى كلام الراهب بحيرا مع صاحبه بشأن محمّد(صلى الله عليه وآله)، اعلم انّ هذا الغلام سيجتاح عروش الملوك أصحاب التيجان، ويقلب بلاد الله الواسعة، ويجعل سافلها عاليها وعاليها سافلها:
هو قائد الخيل العتاق شوازبا | خزراً إلى لحظ السنان الأخزر |
هذا هو النبي الذي أخبرت عنه الكتب المقدّسة، والمرموز عليه في إيمان كلّ أمّة على وجه الأرض، هذا الذي سينشر رسالته في مشارق
وتبني بحدّ السيف مجداً مشيدا | على هامة العلياء بين الكواكب |
وتقيم الشرائع والروابط حتّى لا يعدَّ أحد من البشر قادراً أن يعيش خارجاً عن نطاقها فتجعل لنفسها ربط العالم بأسره.
هذا هو النبي الإسماعيلي المنبأ عنه بالكتب المنزلة انّه سيقرُّ في الأفئدة عواطف الدين الخامدة، ويرد جماح الأميال المنحرفة، وانّه يكون سيداً قديراً، ومشترعاً عظيماً، يسود الأمم بعصا من حديد، ويوثق الرؤساء بالقيود، ويعلم الناس بأي روح يخدمون الله ويعامل بعضهم بعضاً، ثمّ قبض على يدي وقال اتبعني ثم مشى بي إلى غرفة صغيرة، وأجلسني بقرب طاولة عليها رقوق قديمة وتناول رقاً منها وقرأ ما يأتي: هو ذا عبدي بعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جدّاً هكذا ينطح أمماً كثيرين، من أجله يسد ملوك أفواههم، ويرفع يده على الأمم، ويقيم رايةً للشعوب، يسجدون له ووجوههم إلى الأرض، ويلمسون تراب قدميه، ثم قرأ وعد الله لهاجر كما هو مصرح بسفر التكوين (هاجر هاجر قومي احملي الغلام وشدي يدك به إنّي سأجعله أمّة عظيمة).
فهذا هو الوقت الذي تعين لإتمام المواعيد الإلهيّة، وهذا هو النبي الموعود بصدقها عليه، نعم هو بعينه الذي سبقت الأنبياء وبشرت به، وتنبّأت عنه به بقوّة الروح القدس، ورنم له المرنمون تسبيحاتهم ونظروا إلى مجيئه، وتحدّثوا بعظمته، فلم يستطع نبي منهم أن يلقي قلم الوحي من يده من دون ان يكتب عنه شيئاً، إمّا تصريحاً وإمّا تلميحاً، لأنّ الأدلّة على نبوّته عديدة وقويّة جدّاً في التوراة والإنجيل.
ثمّ قرأ بسفر التثنية فصل 33 (جاء الرب من سيناء وأشرق من ساعير وتلألأ من جبل فاران)، ثم نقل عنه تفسيرها قال فقوله (جاء الرب من سيناء) أي أعطى الشريعة لموسى على جبل سيناء، (وأشرق الرب من ساعير عنى إعطاء الشريعة المسيح على جبل ساعير، (وتلألأ من جبل فاران) عنى عن إعطاء شريعة ثالثة لهذا النبي الإسماعيلي على جبل فاران، الواقع في بلاد العرب حيث سكن جده إسماعيل قبلا كما هو منصوص بسفر التكوين فصل 21.
المعنى انّ النور الذي أشرق على سناء وساعير سيشرق أيضاً على فاران، ثم قرأ ما جاء في إنجيل يوحّنا إصحاح 14 آية 16 وهو قول المسيح لتلاميذه (إن كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي، وانا أطلب من الأب
ومتى جاء البارقليط الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي والإصحاح السادس عشر (الآية السابعة) التي تقول: (لكني أقول لكم الحق انّه خير لكم ان انطلق، لأنّه ان لم انطلق لا يأتيكم البارقليط، ولكن ان ذهبت ارسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيئة، وعلى بر وعلى دينونة.
فلو تأمّلت يا بني هذه البشائر واعطيتها حقّها من التصفح والتفهم عثرت في أثنائها على الحق بأجلى بيان وأوضح دليل وبرهان، وهي لا تحتاج بتفهّمها إلى سمو المدارك والحكمة الفائقة، بل إلى حسن النية والاعتراف بالحقائق الراهنة.
ثم قرأ في الزبور المزمور الثاني والمزمور الخامس والأربعين وقال:
انّ هذه تصفه بانّه سيكون نبيّاً قويّاً وميراثه سيشمل كلّ الأمم، وكلّ أعدائه يخضعون تحت قدميه ويعاقبون على عصيانهم عليه، لأنّ الموعود به فيها سيكون ملكوته ملكوت مجد وانتصار ينقضّ على أعداء الله بغتة،
____________
1- كلمة يونانية معناها أحمد.
وقرأ في سفر التثنية الإصحاح الثامن عشر آية 18 وهو خطاب الله سبحانه وتعالى لموسى: (اقيم لهم نبياً من وسط اخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به.
قال أفهمت يا بني معنى هذه الآية، فقوله ان النبي سيكون من اخوتهم أي من الاسماعيليين، فالعرب المستعربة كما تعلم هم من ذرية اسماعيل وبنو اسرائيل من ذرية اسحاق، إذاً العرب المستعربة وبنو اسرائيل اخوان في النسب.
ثمّ ذكر مناقشة دارت بين بحيرا وصاحبه في انّ المقصود بها
انتهى ما أردنا نقله من البراهين الجلية، والغرض من ذكره على طوله الاستشهاد به على انّ العلم بنبوّة محمّد(صلى الله عليه وآله) لم يكن محصوراً بالإنجيل حتّى يذهب بذهابه، بل كان مدلولاً عليه(صلى الله عليه وآله) من جهات شتّى، وقد أثبتنا لك ذلك ممّا نقلناه من تاريخي المسلمين والمسيحيين، هذا على انّ هناك انجيلاً آخر طوته الأيدي(1)، واخفته عن أعين الناظرين الأهواء والأغراض، فبقي مصوناً عن أقلام المحرفين بعيداً عن تغييراتهم، حتّى أظهرته المشيئة الإلهيّة في هذه العصور المتأخّرة حجّة على الجاهلين، وانّ فيه من التصريحات عن محمّد(صلى الله عليه وآله) ما يرشد للحق ويهدي إلى الطريق المستقيم، وهذه نبذة منهُ وجيزة فاستمع اليها:
قال برنابا في الكلمة الثانية والعشرين من الفصل السابع عن عيسى: (ولكن سيأتي بعدي بهاء كل الأنبياء والأطهار فيشرق نوراً على ظلمات
____________
1- هو إنجيل برنابا المترجم من اللغة الانكليزية بقلم الدكتور خليل سعادة الذي عثر عليه بعد البحث عنه في مكتبة البابا سكتس الخامس في أواخر القرن السادس عشر ثمّ ظهرت منه نسخة إيطالية سنة 1709 ونسخة اسبانية في أوائل القرن الثامن عشر ونقلها الدكتور منكهوس إلى اللغة الانكليزية ودفع الأصل مع الترجمة إلى الدكتور هويت سنة 1784 فتبصّر.
(وقد جاء الأنبياء كلّهم إلاّ رسول الله الذي سيأتي بعدي، لأنّ الله يريد ذلك حتّى أهيىء طريقه)، أيّ لأنّ الله يريد أن يكون محمّدٌ(صلى الله عليه وآله) بعد عيسى(عليه السلام) حين يبشّر العالم بمجيئه(صلى الله عليه وآله) (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدّقاً لما بين يدي من التوراة ومبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)(1).
وفي الكلمة الرابعة عشرة من الفصل التاسع والثلاثين: (فلمّا انتصب آدم على قدميه رأى في الهواء كتابة تتألّق كالشمس، نصّها لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، ففتح حينئذ آدم فاه، وقال: اشكرك أيّها الربّ إلهي، لأنّك تفضّلت فخلفتني، ولكن أضرع إليك أن تنبئني ما معنى هذه الكلمات محمّد رسول الله، فأجاب الله: مرحباً بك يا عبدي آدم، وإنّي أقول لك انكَ أوّل إنسان خلقت، وهذا الذي رأيته إنّما هو ابنك الذي سيأتي إلى العالم بعد الآن بسنين عديدة، وسيكون رسولي الذي لأجله خلقت كلّ الأشياء، الذي متى جاء سيعطي نوراً للعالم، الذي كانت نفسه موضوعة في بهاء سماوي ستين ألف سنة قبل أن اخلق شيئاً).
وفي الكلمة الرابعة والعشرين من الفصل الواحد والاربعين (ثمّ قال الله
____________
1- الصف: 6.
وفي الكلمة الرابعة عشرة من الفصل الثاني والاربعين عن عيسى: (ولستُ أحسب نفسي نظير الذي تقولون لأنّي لستُ أهلا أن احلّ رباطات جرموق أو سيور حذاء رسول الله الذي تسموّنه مسيا، الذي خُلِقَ قبلي وسيأتي بعدي، وسيأتي بكلام الحقّ، ولا يكون لدينه نهاية).
وفي الكلمة الخامسة من الفصل الثالث والاربعين: (حينئذ قال اندراوس: لقد حدثتنا بأشياء كثيرة عن مسيا فتكرم بالتصريح لنا بكلّ شيء، فأجاب يسوع: كلّ مَن يعمل فإنّما يعمل لغاية يجد فيها غناء، لذلك أقول لكم انّ الله لمّا كان بالحقيقة كاملاً لم يكن له حاجة إلى غناء، لأنّه الغناء عند نفسه، وهكذا لمّا أراد أن يعمل خلق قبل كلّ شيء نفس رسوله الذي لأجله قصد إلى خلق الكلّ، لكي تجد الخلائق فرحاً وبركة بالله ويسرّ رسوله بكلّ خلائقه، التي قدر أن تكون عبيداً له، ولماذا؟ وهل كان هذا
وفي الكلمة التاسعة عشرة من الفصل الرابع والاربعين (لذلك أقول لكم: انّ رسول الله بهاء يسرّ كلّ ما صنع الله تقريباً، لأنّه مزدان بروح الفهم والمشورة، روح الحكمة والقوّة، روح الخوف والمحبة، روح التبصّر والاعتدال، مزدان بروح المحبة والرحمة، روح العدل والتقوى، روح اللطف والصبر، التي أخذ منها عن الله ثلاثة أضعاف ما أعطى لسائر خلقه.
ما أسعد الزمن الذي سيأتي فيه إلى العالم، صدّقوني إنّي رأيته وقدمت له الاحترام، كما رآه كلّ نبي لأنّ الله يعطيهم روحه نبوّة(3)، ولمّا رأيته امتلأت
____________
1- أراد الله ان يعرف فخلق نفس محمّد(صلى الله عليه وآله) وخلق الخلق لمسرّته كما يفهم من هذا الكلام.
2- يعطيه ما هو في السلطة عليه بمثابة خاتم يده.
3- وإلى نظير هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى في القرآن خطاباً لمحمّد(صلى الله عليه وآله)(وتوكّل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين) وفي الحديث عنه(صلى الله عليه وآله) انّه قال (لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات حتّى أخرجني في عالمكم هذا) الخ إلاّ ان بانتقال نوره(صلى الله عليه وآله) إلى عيسى(عليه السلام)تأمل وبحث ليس هذا موضعه فليتأمّل.
هذا قليل من كثير ممّا هو موجود في انجيل برنابا من ذكريات محمّد(صلى الله عليه وآله)المثبتة لما ادعيناه في صدر هذا الفصل من أن أعلام نبوّته(صلى الله عليه وآله)غير محصورة في جهة واحدة ولا مقصورة على دلالة مخصوصة.
فإذا عرفت ذلك تعلم انّ إيمان الراهب بحيرا وأمثاله بمحمّد(صلى الله عليه وآله) كان من العلم المستفيض على لسان عيسى، وغيره من أنبياء الله وأوصياء أنبيائه بشأنه(صلى الله عليه وآله)، حتّى إذا أشرق ذلك النور، وسطع ضياء ذلك الهدى:
وافت إليه ذوو البصائر ولَّهاً | تطوي القفار يقودها عرفانها |
الفصل الخامس
لم أجد في السؤال العاشر وهو قوله (هل اعترف أحد من اليهود بنبوّة عيسى عند ظهوره تابعين قول نبيّهم) مغزىً صالحاً ولا مقصداً حسنا، وكيف كان فإنّا نبيّن في الجواب ما فيه الفائدة إن شاء الله تعالى فاستمع.
يحدّثنا برنابا في إنجيله إنّ أوّل من آمن بعيسى أمّه، وذلك انّه قصّ علينا في الفصل العاشر منه ما ملخّصه: انّه لمّا بلغ عيسى ثلاثين سنة نزل عليه جبرئيل بالوحي، وهو على جبل الزيتون، كاشف مريم أمّه بكلّ ذلك، فلمّا سمعت مريم هذا أجابت: يا بني إنّي نبئت بكلّ ذلك قبل أن تولد).
وان لهذه الصديقة مثيلاً في الإسلام خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، يحدّثنا العلاّمة المجلسي(رحمه الله) في ص449 من المجلّد السادس من كتابه بحار الأنوار بما ملخّصه: إنّ جبرئيل لمّا نزل على محمّد(صلى الله عليه وآله)، وأعطاه ما أعطاه، توجّه إلى خديجة، فكان كلّ شيء يسجد له، ويقول بلسان فصيح: السلام عليك يا نبي الله، فلمّا دخل الدار صارت الدار منيرة، فقالت خديجة: وما هذا النور؟ قال: هذا نور النبوّة، قولي لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فقالت خديجة: طالما عرفت ذلك.
وأمّا السؤال عن انّه (هل كان مَن كان نصرانياً قبل الإسلام كان مشركاً)؟ فقد عرفت الجواب عنه من تضاعيف المباحث السابقة، كيف وقد فهمت انّ في أوّلهم مثل برنابا وفي آخرهم مثل بحيرا المؤمنين العارفين بمحمّد(صلى الله عليه وآله)أكثر ممّا يعرفه كثير من المسلمين.
الفصل السادس
لقد تطرّق السائل بسؤاله (ماذا تقول بخروج المسيح بعد موته بثلاثة أيام من بين الأموات) وهذا القرآن كتاب الله المنزَّل على محمّد(صلى الله عليه وآله) يقول في (الآية السادسة والخمسين بعد المئة) من سورة النساء في بيان تعداد أفعال اليهود التي أخذوا بها (وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم وانّ الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلاّ اتّباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيما)، فكيف يسألني عن أمر أنهاه القرآن، وبيّن أن ما يقوله ويزعمه أهل الكتاب من قتل عيسى وصلبه أمر باطل استحقوا أن يؤخذوا به، أفيطمع في مؤمن بالله أن يقول بخلاف قوله، لقد طلب ما لا يُدرك، نعم، لو سأل عن وفاة عيسى وموته بغير القتل والصلب المزعوم متمسّكاً لذلك بظاهر قوله تعالى في (الآية الخامسة والخمسين) من سورة آل عمران (يا عيسى إنّي متوفيك ورافعك إلي)، وفي (الآية العشرين بعد المئة) من سورة المائدة في مقام حكاية خطاب عيسى لربّه (فلمّا توفيتني كنتَ أنتَ الرقيب عليهم) لكان له وجه، فإن كان هذا هو المقصود، ولكن كان التعبير
اعلم انّه جاء في الخبر عن النبي(صلى الله عليه وآله) انّه قال: (إنّ عيسى بن مريم لم يمت، وانّه راجع إليكم قبل يوم القيامة) وقد صحّ عنه(صلى الله عليه وآله) انّه قال: (كيف انتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)، رواه البخاري ومسلم في الصحيح، وبرنابا كتب في أواخر الفصل السابع عشر بعد المئتين من إنجيله: إن يسوع قال على نحو أصبح معلوماً عند تلاميذه من غير شك (انّه لا يموت إلى وشك انقضاء العالم لأنّه سيؤخذ في ذلك الوقت من العالم) وأمّا قوله تعالى: (يا عيسى إنّي متوفّيك ورافعك)، فلا دلالة فيه على الوفاة قبل الرفع لأنّ الواو لا توجب الترتيب، ويكون المعنى على هذا أنّي قابضك بالموت بعد نزولك من السماء، وهو المستفاد من كلمة انجيل برنابا، هذا على ان متوفيك ليست نصّاً في الدلالة على الوفاة بمعنى الموت، بل قال بعض المفسّرين: ان معنى متوفّيك رافعك إليَّ وافياً لم ينالوا منك شيئاً، من قولهم توفيت كذا واستوفيته أيّ أخذته تامّاً، وانّ معناه متسلمك من قولهم توفّيت منه كذا أيّ تسلمته، وعلى كلا الوجهين فالمقصود انّي قابضك برفعك من الأرض إلى السماء من غير وفاة بموت، وعليه جملة من المفسّرين، وكذلك الحال في الآية الاُخرى فتدبّر.
أمّا ما تقوله الأناجيل الأربعة من موت عيسى بيد اليهود صلباً، فشيء تفرَّدت به، وقد عرفت بما أسلفناه لك من أحوالها قيمتها في سوق العلم
وهل يستحق الألوهية شخصٌ يموت بيد عبد يهودي؟ والإله إذا مات فمن يحييه؟ ومن يستقل بتدبير الخلق بعد موته؟
أمور تأخذ بالإنسان الحيرة والذهول كلّما تأمل فيها وفيما عليه كثير من المسيحيين من فطنة وذكاء، ألم يدبّروا انّ العاقل لا يرضى لنفسه الصغار؟ ولا يقبل لها بالذل والهوان؟ فكيف يرضى الإله بزعمهم أن يكون مقتولا بيد أعدائه؟ مصلوباً بأكف مبغضيه؟ ولماذا لم يدفع عن نفسه؟ وما الذي ألجأه إلى الرضا بذلك التحقير؟ واضطره إلى قبول ذاك الخسف والامتهان؟ وان كان عن مصلحة وحكمة كما يزعمون فعلامَ حزنه واكتئابه(1) وبمّن استغاثته واستنصاره بقوله "ان أمكن فلتعبّر عنّي هذه الكاس(2)؟ وعلى مَن لومه وعتبه بقوله ـ وهو على الصليب ـ إلهي لماذا تركتني"(3)؟
اَمَا آن لهذه النفوس أن تستيقظ من كرى الغفلة؟ أما آن لتلك العقول أن
____________
1- قال متّى في الإصحاح 26 فقال يسوع للتلاميذ اجلسوا ههنا حتّى أمضي وأصلي هناك ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب.
2- في الإصحاح السادس والعشرين من انجيل متّى كلمة 39.
3- في الكلمة الحادية عشرة من الإصحاح السابع والعشرين من انجيل متّى.
____________
1- ق: 37.
الفصل السابع
لقد التزمنا في الأجوبة على هذه المسائل الاثنتى عشرة بالسير على منهج سهل وطريق جلي ولم نأخذه بشيء منها إلى جهة التعمّق والمناحي الغامضة رغبة بتعميم الفائدة والمنفعة وإيضاح الحقيقة لكلّ ذي عينين.
ولا نعدو ذلك أيضاً بالجواب عن المسألة الثالثة عشرة وهي (ما تقول بصعود المسيح إلى السماء بعد أربعين يوماً من خروجه من القبر على مرأىً من تلاميذه). اعلم رعاك الله ان صعود المسيح إلى السماء حينما أريد به القتل أمر قرّره القرآن وقد عرفت ما تلونا عليك منه ونحن به مؤمنون.
وأمّا انّه كان بعد اربعين يوماً من خروجه من القبر فقد عرفت ما في هذا القول في البحث السادس، ولا نخفي عليك ما ذكر في العهد الجديد من هذا الأمر، ففي الكلمة التاسعة عشرة من الإصحاح السادس عشر من انجيل مرقس قال: (ثمّ انّ الرب بعدما كلّمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله)، وفي الكلمة الحادية والخمسين من الإصحاح الرابع والعشرين من انجيل لوقا قال عن المسيح: (وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء).
(يا أيّها الناس ضُرِبَ مثلٌ فاستمعوا له إنّ الذين تدّعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حقّ قدره انّ الله لقوي عزيز)(1).
أيّها السائل: إذا كان عيسى أصعد به واخذته سحابة فذلك آية انّه عبدٌ محكوم عليه والحاكم عليه أقدر منه أفلا يبصرون؟ أيّها السائل انّ محمّداً(صلى الله عليه وآله) جاء إلى الخلق فأخبرهم عن الله بما أذعنت له العقول بعد
____________
1- الحج: 73.
فانظر أيّها السائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فأتمَّ به واستضيء بنور هدايته، وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي(صلى الله عليه وآله) وأئمّة الهدى أثره، فكلّ علمه إلى الله سبحانه، فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك. واعلم ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب(1)، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، وسمى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمه الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين، ثم أخذ(عليه السلام)يذكر له ما يجب ان يعرفه من صفته فقال: هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته(2)، وحاول الفكر المبرّأ من خطرات
____________
1- السدد جمع سدّة وهي ما يمنعك من الدخول إلى الدار والإقرار فاعل أغناهم.
2- ارتماء الأوهام سبقها أمام الفكر كالطليعة لها لتدرك منقطع القدرة أي منتهاها.
____________
1- الفكر قسمان مغلوب بالوساوس وغالب لها والمبرّأ هو الغالب وإذا كان هذا عاجز فالمغلوب أعجز.
2- أي اشتد عشقها وميلها لمعرفة كنهه.
3- ردعها جواب إذا ارتمت المتقدّمة.
إلى آخر ما قال(عليه السلام) في هذا المقام الذي تنقطع دونه ألسنة الفصحاء، وتخرس عن الإتيان بمثله أفواه البلغاء، قد كشف النقاب عنه، وأماط الحجاب عمّا يجبّ أن تكون عليه العباد فيه.
وأزيدك على ذلك بحديث أرويه ذلك عن أمير المؤمنين(عليه السلام) يكشف ذلك عمّا يجب أن تعتقد في الله تعالى شأنه.
جاءت الرواية أن بعض أحبار اليهود سأل أحد أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)عن الله تعالى أين هو أفي السماء أم في الأرض؟ فقال الصحابي: هو في السماء على العرش فقال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه، وأراه على هذا القول في مكان دون مكان، ثمّ خرج من عنده واستقبله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: يا يهودي قد عرفت ما سألت عنه وما أجبت به، وإنا نقول انّ الله عزّ وجل اين الاين فلا اين له وجلّ أن يحويه مكان، وهو في كلّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علماً ممّا فيها لا يخلو شيء منها من تدبيره، وانّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم بصدق ما ذكرته لك فإن عرفته أتؤمن به؟ فقال اليهودي: نعم، قال: ألستم تجدون في
ومنه تعلم انّ هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ودعت إليه الرسل من قبل، ولكن لم توضح لأممها كما أوضح رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولم تكشف عنه كما كشفت عنه أوصياؤه(عليهم السلام)، فالتاطت العقول بعبادة الأوثان تارة وبتشبيه الله بخلقه أخرى، حتّى جاء(صلى الله عليه وآله) فبرأ الأذهان ممّا دنست به، وطهر الأفكار ممّا توهّمته، وبقيت من العرب بقية قد غلب عليهم الهوى، وأضلهم حب الدنيا، فإن يسمعوا فقد هدوا وإن يعرضوا فلن يضرّوا الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين والحمد لله ربّ العالمين.
وقع الفراغ منه يوم السبت الثالث من شهر رمضان المبارك سنة 1351 على يد مؤلفه الخاطىء.
المهاجر العاملي
حبيب آل إبراهيم
____________
1- عن إرشاد المفيد.