الصفحة 27
بأنه سيُقتَل، فقد روى ابن الأثير أن الحسين عليه السلام كان يقول: (والله لا يدَعونِي حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفِي..) (1).

وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: (أشهد لَسمعت عائشة تقول إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يُقتَل الحسين بأرض بابل "، فلما قرأ ـ أي الحسين عليه السلام ـ كتابَها قال: فلا بُد لِي إذًا مِن مصرعي، ومضى) (2).

وروى ابن كثير قول الحسين عليه السلام للفرزدق: (لو لَم أعجِّل لأخِذت) (3)، وقوله عليه السلام أيضًا: (والله لتعتدن علَي كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت) (4).

وجاء في تاريخ ابن الأثير أن الحسين عليه السلام قال: (لو كنت في حجر هامة مِن هذه الهوام لاستخرجونِي حتى يقضوا بِي حاجتهم، والله لَيعتدَن علَي كما اعتدت اليهود في السبت) (5)، وقال عليه السلام: (ولا أراهم إلا قاتلي) (6).

____________

(1) ابن الأثير: الكامل في التاريخ ـ ج3 ص401. وانظر ابن كثير: البداية والنهاية ـ ج8 ص135.

وأيضًا الطبري: تاريخ الأمم والملوك ـ ج3 ص300.

(2) ابن كثير: البداية والنهاية ـ ج8 ص135.

(3) نفس المصدر: ج8 ص134. وانظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك ـ ج3 ص296.

(4) نفس المصدر: ج8 ص135.

(5) ابن الأثير: الكامل في التاريخ ـ ج3 ص400. وانظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك ـ ج3 ص296.

(6) ابن كثير: البداية والنهاية ـ ج8 ص135.


الصفحة 28
قال السيوطي: (وأخرج الحاكم، عن ابن عباس قال: ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين يُقتل بالطف) (1).

أقول: هذا بعض ما جاء في كتب أهل السنة المعتبَرة من روايات صحيحة، ذكرناها ليعرف الشيخ عثمان الخميس ـ ومن لفَّ لفَّه واحتطب بِحبله ـ أن البكاء على الحسين عليه السلام سُنة سنَّها سيد البشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن مقتله عليه السلام أمرٌ اعتنت به السماء واهتم به الباري جل شأنه.

وملخَّص ما تقدم من الروايات:

( 1 ) أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبَر عن قتل الحسين عليه السلام وبكى لِمقتله مرات عديدة ورأى تربته.

( 2 ) أن هناك اهتمامًا إلَهيًّا كبيرًا بجريمة قتل الحسين عليه السلام.

( 3 ) أن هذه الجريمة أعظم عند الله تبارك وتعالى مِن جريمة قتل النبي يحيى عليه السلام.

( 4 ) أن الله جل وعلا أخبَر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سينتقم لجريمة قتل الحسين عليه السلام.

( 5 ) أن الحسين عليه السلام كان يَعلم ـ عن طريق جدِّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بأنه سوف يُقتَل.

____________

(1) السيوطي: الخصائص الكبرى ـ ج2 ص213.


الصفحة 29

العِلَـل والأسباب التـي دفعت الحسيـن عليه السلام للنهوض بالثورة والنتائج المترتبة على هـذا النهوض والأبعاد التاريخية له وأهم أهدافه

تُعَد ثورة الإمام الحسين عليه السلام أكثر الأحداث التاريخية جذورًا وأصولاً، وأعمقها عِللاً وأسبابًا، وأثراها ثِمارًا ونتائج، فهي نهضة بطولية فدائية أبدية خالدة، انتصر فيها الدم على السيف، وانتصرت فيها المبادئ على الطغيان، وانتصر فيها الإسلام على الكفر.

لقد خرج أبو عبد الله الحسين عليه السلام وقام بثورة لَم يخمد ضياؤها حتى الآن، سطَّر فيها أروع صور الشجاعة والبطولة والفداء والطاعة والصبر والتضحية، حفظًا للنواميس الإلَهية والدين المقدَّس، فقد قارع الظلم والجور، وبذل نفسه وماله وآله في سبيل إرساء دعائم الإسلام المحمدي الأصيل، حتى لقَى الله تعالى وهو مضرَّج بدمه الشريف.

ومِن الأمور الثابتة بالوجدان والمشاهدة بالعيان، أنَّ فاجعة كربلاء ملأت قلب الإنسانية قيحًا، وفجَّرت عيونَها دمًا، لِما وقع فيها مِن رزايا ومصائب لَم ترَ عين الدهر ولَم تسمع واعية الأزمان بواقعة مثلها أبدًا.

فلقد قام ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثورة اختار فيها المنيَّة

الصفحة 30
على الدنيَّة، والميتة في العِزَّة على الحياة في الذلَّة، ومصارع الكرام على طاعة اللِّئام، فأظهر من إباء الضَّيم وعزَّة النفس في نَيل رِضا الله عز وجل، وإنقاذ الأمة من مَخالب الظالِمين والمستكبِرين.

ولقد كانت حركة الحسين عليه السلام حركة إصلاحية في المجتمع، وذلك بعدما تلاطمت الأمواج العاتية، واختلط الحق بالباطل، وانقلب الناس على ذواتهم، وشاعت البدع، فدخل ما ليس من الدين فيه.

ولِهذا تصدَّى عليه السلام لإصلاح المجتمع الفاسد، فقال كلمته التاريخية الشهيرة: [ إنِي لَم أخرج أشِرًا، ولا بَطِرًا، ولا مُفسِدًا، ولا ظالِمًا، إنَّما خرجت لطلب الإصلاح فِي أمَّة جدي مُحمد.. أريد أن آمُر بالمعروف، وأنَهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبِي ].

وقبل أن يغادر مكة، خطب في الناس قائلاً: [ خُطَّ الموت على ولد آدم مَخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولَهَني إلى أسلافِي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لِي مصرع أنا لاقيه، كأنِي بأوصالِي تقطِّعها عُسلان الفَلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشًا جوفًا وأجربة سغبًا، لا محيص عنه يوم خُط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين.. فَمَن كان باذلاً فينا مُهجته، وموطِّنًا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنِي راحل مصبحًا إن شاء الله ].

والذي يتمعَّن فِي هذه الخطبة الشريفة، تتجلَّى له قداسة هذا الرجل العظيم وقداسة ثورته المباركة، فالحسين عليه السلام يبيِّن بوعيه وإرادته أنه

الصفحة 31
مُقبِل على الشهادة وعلى تضحية مأساوية دامية، حيث بدأ بالموت وأنَّ مستقبل حركته ومصيرها هو القتل الفظيع، ثم أخبَر عن شرعية ثورته وأنَّ الله راضٍ عنها، ثم دعا الناس إلى نصرته ـ إن كانوا يرجون طاعة الله ولقاءه ـ، ولَم يكن يفكِّر عليه السلام مطلقًا في أي تحرك عسكري للإطاحة بِبني أمية وإسقاط حكمهم عسكريًّا، إنما نهض بِهذه الثورة لعدة أسباب وعوامل ومن أجل تحقيق غايات سامية وأهداف نبيلة، منها:

1- تحرير إرادة الأمة، وهز ضميرها، وبث روح الحركة والتضحية والإقدام فيها.

2- سلب الشرعية من النظام، وعدم مبايعة فرعون زمانه يزيد بن معاوية ـ كما طُلِب منه ـ.

3- فضح بنِي أمية، وكشف قيادتِهم الجاهلية، وأنها مُلك عضوض.

4- إعطاء الأمثولة للدين، وأنه يستحق كل التضحية والصبر وتحمُّل الآلام والجراح والقتل.

5- إصلاح الوضع الفاسد للأمة.

6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

7- السير على منهج رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين علي عليه السلام.

ولِهذا صار عليه السلام يطل علينا بشعاراته الثورية.

ففي الحرية نجده يقول: [ الموت أولَى من ركوب العار، والعار أولَى

الصفحة 32
من دخول النار ]، ويقول: [ كونوا أحرارًا في دنياكم ].

وفِي العِزَّة نراه يصيح: [ هيهات منَّا الذلَّة ]، ويقول: [ والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد ].

وفي مناجاته مع الله جل شأنه يقول: [ صبرًا على قضائك يا رب ].

وفي تعبيره عن عقيدته وإيمانه المطلق يقول: [ هوَّن علَي ما نزل بِي أنه بعين الله ].

وفي طلب الناصر ينادي: [ أمَا مِن مُغيث يغيثنا لوجه الله، أمَا مِن ذاب يذب عن حرم رسول الله ].

وفي شوقه للقاء الله يخطب في الناس قائلاً: [ لِيرغب المؤمن في لقاء الله محِقًّا، فإنِي لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا ]، ويقول: [ أمَا والله لا أجيبهم إلى شيء مِمَّا يريدون حتى ألقَى الله تعالى وأنا مخضَّب بدمي ].

وفي تعليله لخروجه يخاطب الناس قائلاً: [ ألا ترَون أن الحق لا يُعمَل به، وأن الباطل لا يُتناهَى عنه ].

وفي يقينه بتكليفه الشرعي وبيانه لسبب اصطحابه للنساء والأطفال نجده يقول: [ شاء الله أن يرانِي قتيلاً، وشاء الله أن يراهن سبايا ].

وفي عَيشه لِهموم الإسلام وغيرته عليه نراه يقول: [ وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليَت الأمة براعٍ مثل يزيد ].

كان عليه السلام يجسِّد أسمى معانِي الصبر، وكان يلقي الحجة على أعدائه

الصفحة 33
ويتمَّها ـ حتى آخر لحظة ـ، ويطلب الناصر والمغيث مِن الأجيال الآتية بعده، وكان يبكي على أعدائه لأنهم عصوا الله باجتماعهم ضد إمامهم فدخلوا النار ـ وهذا هو بكاء الأبوَّة ـ، أما تصوره عن شهادته فهو الفرح والاستبشار والفوز بلقاء الله عز وجل.

وقد ظن الأمويون أنهم قضوا على وجود الحسين عليه السلام وتأثيره، لكنهم تفاجئوا بأنه عليه السلام أصبح ينافسهم وهو شهيد أكثر مِن منافسته لهم وهو حي.

بل إنَّ علامات الانكسار والهزيمة بَدَت في معسكر أعداء الحسين عليه السلام حتى في يوم المعركة، حيث قاموا بالتشويش على خطبه عليه السلام، واستخدموا أسلوب الرمي بالسِّهام والنبال والرماح مِن بعيد، ولَم يتبعوا طريقة المواجهة الفردية في القتال.

أمَّا الحسين عليه السلام وأهله وأصحابه، فكانت علامات الانتصار واضحة فيهم، وذلك من خلال الشجاعة البدنية الفائقة، والإيمان والشوق المتزايد للقاء الله، والصبر والتحمل، والرضا والتسليم لأمر الله، وطمأنينة النفس وعدم الغضب الشخصي، والقلب القوي والروح الحماسية العالية.

ولِهذا جاء أئمة أهل البيت عليهم السلام ليؤكدوا على ضرورة إحياء مأساة كربلاء، وعدم نسيانها، ودوام البكاء على مصيبة الحسين عليه السلام، لتنسجم روحنا مع روحه، فنتبع نهجه وسيرته، وليَعرف بنو

الصفحة 34
البشر أن أهل بيت النبوة وقادة الإسلام وزعماء المؤمنين هم أوَّل مَن يقدِّم التضحيات فداء للدين، ولكي تُخلَّد المدرسة التِي أسَّسها سيِّد الشهداء عليه السلام إلى الأبد، فتنعكس علينا بعض الظلال من روحه وشعاراته.

فالحسين عليه السلام لَم ينهض لِهدف شخصي أو دنيوي، بل من أجل كل الأمة، ومن أجل الحق والحقيقة، والمساواة والعدالة، ونهضته العظيمة استندت إلى بصيرة ثاقبة، ورؤية بعيدة، ونظر حاد، حيث كان يقرأ المستقبل، كما أن ثورته تعَد نورًا في الظلام الدامس، ونداء وسط السكوت، حيث ظهر فجأة ليكسر الصمت، فصار عليه السلام أظهر وأبرز مَن ادَّعَى وعمل، وقال وفعل، ولهذا كانت ثورته مقدسة.

إنَّ نهضة الإمام الحسين عليه السلام نهضة عالَمية، أرادت ترسيخ مبادئ الإسلام وقواعده وأصوله في ربوع المعمورة، فينبغي على المسلمين كافة أن يقتدوا بِهذا الإمام العظيم، ويهتدوا بِهُداه، ويسلكوا سبيله، سبيل الأحرار والثوار.

وحقيقٌ بأن تقام له ذكرى في كل عام، بل في كل يوم، لتعلَم الدنيا كلها مَن هو الحسين بن علي عليهما السلام، ذلك الرجل الذي قدَّم نفسه وأبناءه، وإخوته، وأبناء أخيه، وأبناء عمِّه، حتى ولده الرضيع، قدَّمهم جميعًا للاستشهاد في طريق الله، وقدَّم أمواله للسلب والنهب، وقدَّم نساءه للسبي، كل ذلك ليفدي دين جدِّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

إنه لَفارق كبير بين رجلٍ نشأ في بيت النبِي صلى الله عليه وآله وسلم وتربَّى

الصفحة 35
في حجر علي عليه السلام، وآخرين لَم يدركوا سر هذا البيت الشريف.

هذه شذرات مِن الأبعاد التاريخية والأهداف السامية لواقعة عاشوراء، والأسباب والعوامل التي دفعت الإمام الحسين عليه السلام للقيام بالثورة، والنتائج المترتبة على ذلك.

ولنَشرَع الآن بالرد على شبهات وادعاءات الشيخ عثمان الخميس في كتابه " حقبة من التاريخ " حول واقعة الطف، وتفنيد ما نفثه قلمه من تخرصات وأكاذيب تفنيدًا كاملاً بالدليل والبُرهان.

*  *  *  *

الصفحة 36

الصفحة 37

ادعـاءات الشيـخ عـثمـان الخـميس
حـول واقعـة الطـف وبطلانها

ذكر الشيخ عثمان الخميس جُملة مِن الاعتراضات والإشكالات حول واقعة الطف، وأثار حولَها الكثير من الأكاذيب والأباطيل التي لا يقول بِها إلا مَن أعمى الهوى بصيرته، بل ادَّعى ادعاءات زاعمًا صحة أسانيدها التاريخية، متبعًا في ذلك كله أسلوب التجريح والتزوير والتكذيب والتشكيك والتدليس ـ وهذه هي بضاعته ـ، وسوف نثبت للملأ ـ بتوفيق وتسديد من الله جل شأنه ـ أنَّ كل ما أتى به مطعون فيه سواء من حيث السَّند أم من جهة الدلالة، وأنَّ ادَّعاءاته ما هي إلا كذب وانتحال لا أصل لَها، وأنَّ ما استدل واستشهد به لا يُمكن وصفه بالدليل العلمي ولا بالبَرهان المنطقي، لأنه مُخالف لآداب الرد وعُرف النقد وقواعد المناظرة فلا يقتضي علمًا ولا عملاً، بل هو أوهَن مِن بيت العنكبوت، حيث شحن كتابه بعبارات القدح والقذع، وأودع فيه تحاملاته ومقالاته الجوفاء التي لَم نجد فيها ردًّا ولا تفنيدًا ولا دحضًا ولا تدليلاً، وهذا ما سيعرفه القارئ في الصفحات الآتية وفي مطاوي نقضنا لِمزاعمه في هذا الكتاب.


الصفحة 38

الصفحة 39

الادعاء الأول
أن يزيد بن معاوية ليس فاسقًا

يقول الشيخ عثمان الخميس صاحب كتاب " حقبة من التاريخ " ما نصُّه: (فالفسق الذي نسِب إلى يزيد في شخصه كشرب خمر أو ملاعبة قردة كما يقولون أو فحش أو ما شابه ذلك لَم يثبت عنه بسند صحيح فهذا لا نصدقه والأصل العدالة..) (1).

أقول: يظهر أن هناك بعض الأيادي الأموية حرَّكت الشيخ عثمان الخميس للدفاع عن يزيد بن معاوية، لذا نراه ينكر فسقه ولا يصدقه بل يدعي عدالته، في حين أن المتسالَم عليه عند علماء الشيعة قاطبة وعند كثير من علماء أهل السنة ثبوت كُفر يزيد بن معاوية ـ فضلاً عن فسقه وعدم عدالته ـ.

فقد نقل السيوطي والذهبي أن عبد الله بن حنظلة قال ـ في وصف يزيد بن معاوية ـ: (إنه رجل ينكح أمهات الأولاد، والبنات، والأخوات، ويشرب الخمر، ويدَع الصلاة) (2).

____________

(1) عثمان الخميس: حقبة من التاريخ ـ ص101.

(2) السيوطي: تاريخ الخلفاء ـ ص167. وانظر الذهبي: سير أعلام النبلاء ـ ج3 ص324. وأيضًا ابن الأثير: الكامل في التاريخ ـ ج3 ص449و450. وأيضًا ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ ج6 ص19.


الصفحة 40
وقال عنه الذهبي: (وكان ناصبيًّا، فظًّا، غليظًا، جلفًا، يتناول المسكِر ويفعل المنكر، افتتح دولته بِمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرَّة، فمقتَه الناس، ولَم يبارَك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين..) (1).

وقال عنه أيضًا ـ ردًّا على ما زعمه عثمان الخميس بأن الأصل فيه العدالة ـ: (مقدوح في عدالته، ليس بأهل أن يُروَى عنه..) (2).

وجاء في تاريخ ابن الجوزي: (أنَّ الإمام أحمد سُئِل: أيُروَى عن يزيد الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة) (3).

ولِهذا قال الشوكانِي: (أفرط بعض أهل العلم كالكرامية ومَن وافقهم في الجمود.. حتى حكموا بأن الحسين السبط رضي الله عنه وأرضاه باغٍ على الخمير السكير الهاتك لحرم الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية لعنهم الله..) (4).

وقال التفتازانِي: (والحق أنَّ رضا يزيد بقتل الحسين واستبشاره بذلك، وإهانته أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِمَّا تواتر معناه، وإن كان تفصيله آحادًا.. فنحن لا نتوقف فِي شأنه، بل فِي

____________

(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء ـ ج4 ص37و38.

(2) الذهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال ـ ج4 ص440.

(3) ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ ج5 ص322.

(4) الشوكاني: نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار ـ ج7 ص176.


الصفحة 41
كفره وإيمانه، لعنة الله عليه..) (1).

وقد نقل ابن خلكان وصف الفقيه الشافعي الكيا الهراسي ليزيد بن معاوية بقوله: (.. وهو اللاعب بالنرد، والمتصيِّد بالفهود، ومُدمِن الخمر، وشِعره في الخمر معلوم..) (2).

وذكر ابن كثير أنه كان في يزيد (إقبال على الشهوات، وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات، وإماتتها في غالب الأوقات) (3).

وقال المنذر بن الزبير ـ عن يزيد بن معاوية ـ: (والله إنه لَيشرب الخمر، وإنه ليسكر حتى يَدَع الصلاة) (4).

ومع أنَّ ابن كثير ـ في تاريخه ـ قد نصب نفسه مُحاميًا ومدافعًا عن يزيد بن معاوية إلا أنه لَم ينكر فسقه ـ كما أنكره عثمان الخميس ـ، حيث نص على أنه فاسق بقوله: (بل قد كان فاسقًا) (5).

قال ابن الأثير: (قال عمر بن سبيئة: حج يزيد في حياة أبيه، فلما بلغ المدينة جلس على شراب له..) (6).

____________

(1) ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب ـ ج1 ص123.

(2) ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ـ ج3 ص287.

(3) ابن كثير: البداية والنهاية ـ ج8 ص185.

(4) ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ ج6 ص7. وانظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ ـ ج3 ص450. وأيضًا الطبري: تاريخ الأمم والملوك ـ ج3 ص350و351. وأيضًا ابن كثير: البداية والنهاية ـ ج8 ص173.

(5) ابن كثير: البداية والنهاية ـ ج8 ص186.

(6) ابن الأثير: الكامل في التاريخ ـ ج3 ص465.


الصفحة 42
وجاء في تاريخ ابن كثير أنه (كان يزيد في حداثته صاحب شراب، يأخذ مأخذ الأحداث..) (1).

وقال ابن تيمية في منهاجه ـ المعوَج ـ: (ولِهذا قيل لأحمد: أتكتب الحديث عن يزيد؟ قال: لا، ولا كرامة، أوَ ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل) (2).

أقول: هذه بعض آراء علماء أهل السنة في يزيد بن معاوية، كلها تصرِّح بفسقه وعدم عدالته، بل وكفره أيضًا، ذكرناها ليَرى كل منصف أنَّ الشيخ عثمان الخميس ليس لديه هَمٌّ سوى الدفاع عن أعداء أهل البيت عليهم السلام وإنكار الثابت عند المسلمين.

أما ما نقله من أنَّ مُحمد بن الحنفية مدح يزيد بن معاوية ونفى عنه شرب الخمر وترك الصلاة (3)، فالمفروض أن يذكر لنا " الشيخ " سَند الرواية، لنرى مبلغ صحتها ومدى وثاقة رجال إسنادها، لا أن يحتج بِها مكتفيًا بنقل ابن كثير لَها في تاريخه، وذلك لأن ابن كثير نفسه لَم يذكر سَند الخبَر، أي أنه روى خبَرًا مرسلاً، والمرسل ـ كما هو معلوم ـ لا يَجب العمل به ولا النـزول عليه.

____________

(1) ابن كثير: البداية والنهاية ـ ج8 ص183.

(2) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ـ ج2 ص253.

(3) انظر عثمان الخميس: حقبة من التاريخ ـ ص101.


الصفحة 43

الادعاء الثاني
أن الصحابة حاولوا مَنع الحسين عليه السلام مِن الخروج

يقول الشيخ عثمان الخميس: (وكان كثير مِن الصحابة قد حاولوا منع الحسين بن علي من الخروج وهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير ومُحمد بن الحنفية) (1).

أقول: إنَّ الشيخ المتخبِّط عثمان الخميس خَلَط بين أمرين، ولَم يُميِّز الفرق بينهما، فالمتأمِّل في النصوص التاريخية يَجد أن الصحابة لَم يَمنعوا الحسين عليه السلام من الخروج على يزيد بن معاوية والثورة عليه، ولَم يعارضوه في ذلك كما لَم ينهوه عن الخروج، ويدل على ذلك أمران:

الأمر الأول: أن الصحابة كانوا يعرفون أن الحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنة (2)، وأنه ريحانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه مِن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله منه، وهذه المراتب أعطِيت له مقابل عبادته وعمله وجهاده عليه السلام، فمَنع الصحابة له ومعارضتهم إياه يتنافَى مع المقام الذي جعله الله سبحانه فيه.

____________

(1) نفس المصدر: ص107.

(2) انظر نفس المصدر: ص118.


الصفحة 44
الأمر الثانِي: أن هؤلاء الصحابة كانوا على عِلم باعتناء الله تبارك وتعالى بقضية الحسين عليه السلام، وأنه تعالى سينتقم لِمقتله، كما أنهم على معرفة ودراية بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بِمقتل الحسين عليه السلام وببكائه المتكرر عليه، ورؤيته لتربته، وأن الحسين عليه السلام مقتول لا مَحالة، وهم الذين رووا هذه الأخبار، فهل يصح في منطق العقل السليم أن يَمنعونه من الخروج الذي أخبَرهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعارضونه وينهونه عنه، وهم يعلمون بإخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن مقتله؟

ولو سلَّمنا ـ جدلاً ـ بأن بعض الصحابة عارضوا الحسين عليه السلام وحاولوا منعه من الخروج، فالمفروض أن يُرجَّح رأي الحسين عليه السلام، لا رأي غيره، كما أن الواجب على الصحابة أن يطيعوه وينصروه، لأنه سيد شباب أهل الجنة والإمام ـ بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

إنَّ المتتبِّع لِمقدِّمات واقعة الطف يلاحظ جيِّدًا بأن بعض الصحابة قدَّموا نصائح للإمام الحسين عليه السلام خوفًا وشفقة عليه من القتل، وعلى اعتبار أن أهل العراق أهل غدر وخيانة ونفاق، ولَم يعارضوه أو ينهوه أو يَمنعوه مِن الخروج، وإنما عرضوا عليه بدائل أخرى.

ولكن الذي يُؤسَف له هو أن الشيخ عثمان الخميس لا يُفرِّق بين النصيحة وبين المعارضة والنهي والمنع، ولا يُميِّز بين الأمرين، فلم يستطع أن يفهم كلمات هؤلاء الصحابة ولا أن يستوعِبها، فظن أنهم عارضوا

الصفحة 45
الحسين عليه السلام في خروجه ونهوه وحاولوا منعه.

وفيما يلي نستعرض نصائح الصحابة التي نقلها في كتابه " حقبة من التاريخ " ونناقشها بإيجاز:

أولاً: نصيحة عبد الله بن عباس

نقل الشيخ عثمان الخميس قول ابن عباس ـ مخاطبًا الحسين عليه السلام لَمَّا أراد الخروج ـ: (لولا أن يزري بِي وبك الناس لَشبثت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب) (1).

أقول: ليت الشيخ عثمان الخميس أكمل قول ابن عباس لِيعرف الجميع الموقف الحقيقي الذي اتخذه هذا الصحابِي إزاء خروج الحسين عليه السلام، فالشيخ عثمان الخميس فضَح نفسه من خلال عدم إكماله للنص التاريخي، فكشف للعام والخاص عدم أمانته في نقل النصوص، حيث أورد العبارة التي توافق أهواءه وميوله الأموية، ولَم يكمل بقية الفقرة.

وإليك أخي القارئ قول ابن عباس كما ورد في مصادر التاريخ كاملاً غير منقوص.

روى ابن كثير عن ابن عباس أنه قال: (استشارنِي الحسين بن علي في الخروج، فقلت: لولا أن يزري بِي وبك الناس لنشبت يدي في

____________

(1) نفس المصدر: ص107.


الصفحة 46
رأسك، فلم أتركك تذهب، فكان الذي رد علَي أن قال: لأن أقتَل في مكان كذا وكذا أحب إلَي من أن أقتَل بِمكة، قال: فكان هذا الذي سلَّى نفسي عنه) (1).

قال الهيثمي: (رواه الطبَرانِي ورجاله رجال الصحيح) (2).

أقول: إنَّ هذا الخبَر يدل بشكل واضح وصريح على إقرار ابن عباس لخروج الحسين عليه السلام واستسلامه لرأيه، كما يدل على أن بني أمية كانوا عازمين على قتله عليه السلام، وأن السبب الذي دعاه إلى الخروج من مكة هو حِرصه على أن لا يُستحَل الحرم.

ويؤكِّد ذلك ما رواه ابن الأثير والطبَري فِي تاريخيهما من أنه عليه السلام قال: (والله لأن أقتَل خارجًا منها ـ أي من مكة ـ بشِبر أحب إلَي من أن أقتَل فيها، ولأن أقتَل خارجًا منها بشِبرين أحب إلَي من أن أقتَل خارجًا منها بشِبر) (3).

وما رواه ابن كثير من قوله عليه السلام: (لأن أقتَل بِمكان كذا وكذا أحب إلَي من أقتل بِمكة وتُستحَل بِي) (4).

وبِهذا يتبيَّن فساد ما زعمه الشيخ عثمان الخميس، مِن أنَّ ابن عباس

____________

(1) ابن كثير: البداية والنهاية ـ ج8 ص128.

(2) الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ـ ج9 ص195.

(3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ ـ ج3 ص400. وانظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك ـ ج3 ص295 و296.

(4) ابن كثير: البداية والنهاية ـ ج8 ص132.


الصفحة 47
حاول منع الحسين عليه السلام وعارضه ونهاه عن الخروج.

ثانيًا: نصيحة عبد الله بن عمر

يقول الشيخ عثمان الخميس: (قال الشعبي: كان ابن عمر بمكة فبلغه أن الحسين قد توجَّه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليالٍ فقال: أين تريد؟ قال: العراق.. قال ابن عمر: لا تأتِهم، فأبَى الحسين إلا أن يذهب، فقال ابن عمر: إنِي مُحدثك حديثًا إن جبريل أتَى النبي صلى الله عليه وسلم فخيَّره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولَم يُرِد الدنيا..) (1).

أقول: إنَّ هذا الخبَر لا يُمكن الوثوق به، لأن في سنده " شبابة بن سوار " وهو من المرجئة، قال ابن حجر في ترجمته: (قال أحمد بن حنبل: تركته لَم أكتب عنه للإرجاء.. وقال ابن خراش: كان أحمد لا يرضاه.. وقال العجلي: كان يرى الإرجاء.. وقال أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل: كان يدعو إلى الإرجاء، وحكى عنه قول أخبث من هذه الأقاويل..) (2).

كما ذكره الذهبِي في ميزانه وقال عنه: (قال أحمد بن حنبل: كان

____________

(1) عثمان الخميس: حقبة من التاريخ ـ ص107.

(2) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب ـ ج2 ص474و475.


الصفحة 48
داعية إلى الإرجاء، وقال أبو حاتم: لا يُحتَج به.. وروى أحمد بن أبِي يَحيى عن أحمد بن حنبل قال: تركت شبابة للإرجاء، قيل له: فأبو معاوية كان مرجئًا، قال: كان شبابة داعية) (1).

وعلى فرض صحة الخبَر، فإنه ليس غريبًا على ابن عمر أن ينصح الحسين عليه السلام بعدم الخروج والثورة على يزيد بن معاوية، ويتَّهمه بأنه يريد الدنيا، وذلك لأن ابن عمر كان يسير على منهج الخضوع للحاكم الجائر، وكان مبدؤه هو تثبيت إمامة الفسقة والفجَرة وقبولُها، وهذا التاريخ يحدثنا بأن ابن عمر امتنع عن مبايعة أمير المؤمنين علي بن أبِي طالب عليه السلام، بالرغم من مبايعة الصحابة وغالبية الأمة له، لكنه بايع معاوية بن أبِي سفيان، ثُم يزيد بن معاوية، بل وحتى عبد الملك بن مروان، ولِهذا أصبح ابن عمر إمامًا للجماعة وفقيهًا بارزًا في دولة بني أمية.

روى البخاري في صحيحه عن نافع أنه قال: (لَمَّا خَلَع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جَمَع ابن عمر حشمه وولده فقال: إنِي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يُنصَب لكل غادر لواء يوم القيامة، وإنا قد بايعنا هذا الرجل ـ يعني يزيد بن معاوية ـ على بيع الله ورسوله، وإنِي لا أعلم غدرًا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله، ثم

____________

(1) الذهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال ـ ج2 ص260.


الصفحة 49
ينصِب له القتال، وإنِي لا أعلم أحدًا منكم خَلَعَه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه) (1).

وروى في صحيحه أيضًا عن عبد الله بن دينار قال: (لَمَّا بايع الناس عبد الملك ـ أي عبد الملك بن مروان ـ، كتب إليه ابن عمر: إلَى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، إنِي أقر بالسمع والطاعة.. على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت، وإن بني قد أقروا بذلك) (2).

أما الحسين عليه السلام فيختلف منهجه اختلافًا كُليًّا عن موقف ومنهج ابن عمر، حيث كان عليه السلام يعتقد ويفضِّل بأن يُراق دمه، ويُقتَل هو وأولاده وأصحابه، وتسبَى نساؤه، بدلاً من أن يبايع يزيد بن معاوية ويعطي الشرعية لخلافته، فكان موقفه عليه السلام يتجلَّى في رفض الفساد والظلم، والسعي للإصلاح.

ولِهذا كان من الطبيعي والمتوقع أن لا يعبأ عليه السلام بنصيحة ابن عمر المخزية، ولا يعتد بِموقفه السيء المتخاذل، فلم يَخرج عليه السلام طلبًا للدنيا ـ كما اتهمه ابن عمر ـ، بل كان خروجه من أجل نيل الشهادة وتحصيل رضا الله عز وجل.

وعلى كل حال، فإن المستفاد من نصيحة ابن عمر ـ على فرض ثبوتِها ـ أنه كان مشفقًا على الحسين عليه السلام لأنه يعلم بغدر أهل العراق

____________

(1) صحيح البخاري: ج9 ص690.

(2) نفس المصدر: ج9 ص724.