ويقولون: إنك لتعلم: أنه لا يقدر على ذلك، ثم تأمره به!!.
ولو صح هذا لصح أن يبعث الله رسولا إلى الجمادات مع الكتاب، فيبلغ إليها ما ذكرناه، ثم إنه تعالى يخلق الحياة في تلك الجمادات، ويعاقبها لأجل أنها لم تمتثل أمر الرسول، وذلك معلوم البطلان ببديهة العقل.
مخالفة الجبرية لإجماع الأمة
ومنها: أنه يلزم منه سد باب الاستدلال على وجود الصانع (1)، على كونه تعالى صادقا، والاستدلال على صحة النبوة، والاستدلال على صحة الشريعة، يفضي إلى القول بخرق إجماع الأمة، لأنه لا يمكن إثبات الصانع إلا بأن يقال: العالم حادث، فيكون محتاجا إلى المحدث، قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا، فمع منع حكم الأصل في القياس، وهو كون العبد موجدا، لا يمكنه استعمال هذه الطريقة، فينسد عليه باب إثبات الصانع (2).
____________
(1) في نسخة: والاستدلال على.
(2) توضيحه: أن مختار الأشاعرة: أن الدليل على وجود الصانع، هو الحدوث، فيتوقف إثبات الصانع على قولنا: العالم حادث، وكل حادث محتاج إلى محدث، ولا دليل على الكبرى إلا احتياج أفعالنا إلينا، وقياس سائر الحوادث عليها، في الحاجة إلى محدث، فإذا منع الأشاعرة الأصل، وهو احتياج أفعالنا إلينا، لعدم كوننا موجدين لها، ولم يكن في سواها من الحوادث دلالة على الحاجة إلى المحدث، انسد عليهم باب إثبات الصانع
(راجع: دلائل الصدق ج 1 ص 297).
وأيضا إذا جاز: أن يخلق الله تعالى القبائح، جاز أن يكذب في إخباره، فلا يوثق بوعده، ووعيده، وإخباره عن أحكام الآخرة، والأحوال الماضية، والقرون الخالية.
وأيضا: يلزم من خلقه القبائح جواز أن يدعو إليها، وأن يبعث عليها، ويحث ويرغب فيها، ولو جاز ذلك جاز أن يكون ما رغب الله تعالى فيه من القبائح، فتزول الثقة بالشرائع، ويقبح التشاغل بها.
وأيضا لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر، والإضلال، ويزينه له، ويصده عن الحق، ويستدرجه بذلك إلى عقابه، للزم في دين الإسلام جواز أن يكون هو الكفر، والضلال، وأنه تعالى زينه في قلوبنا، وأن يكون بعض الملل المخالفة للإسلام هو الحق، ولكن الله تعالى صدنا عنه، وزين خلافه في أعيننا، فإذا جوزوا ذلك لزمهم تجويز ما هم عليه هو الضلال والكفر، وكون ما خصومهم عليه هو الحق، وإذ لم يمكنهم القطع بأن ما هم عليه هو الحق، وما خصومهم عليه هو الباطل، لم يكونوا مستحقين للجواب...
يلزم الجبرية الظلم والعبث في أفعاله تعالى
منها: تجويز أن يكون الله تعالى ظالما عابثا، لأنه لو كان الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد، ومنها القبائح، كالظلم، والعبث، لجاز أن يخلقها لا غير، حتى تكون كلها ظلما وعبثا، فيكون الله تعالى ظالما، عابثا، لاعبا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
يلزم الجبرية السفه والجهل في أفعاله تعالى
منها: أنه يلزم إلحاق الله تعالى بالسفهاء والجهال، تعالى الله عن ذلك، لأن من جملة أفعال العباد الشرك بالله تعالى، ووصفه بالأضداد، والأنداد، والأولاد، وشتمه، وسبه، فلو كان الله تعالى فاعلا لأفعال العباد لكان فاعلا للأفعال كلها، ولكل هذه الأمور.. وذلك يبطل حكمته، لأن الحكيم لا يشتم نفسه، وفي نفي الحكمة إلحاقه بالسفهاء، نعوذ بالله من هذه المقالات الردية..
يلزم مخالفة الضرورة
منها: أنه يلزم مخالفة الضرورة، لأنه لو جاز أن يخلق الزنا واللواط، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه. ولو جاز ذلك لجوزنا: أن يكون فيما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلا للدعوة إلى السرقة، والزنا، واللواط، وكل القبائح. ومدح الشيطان وعبادته، والاستخفاف بالله تعالى، والشتم له، وسب رسوله، وعقوق الوالدين، وذم المحسن، ومدح المسئ.
يلزم الجبرية كونه تعالى أضر من الشيطان
منها: أنه يلزم أن يكون الله سبحانه أشد ضررا من الشيطان، لأن الله تعالى لو خلق الكفر في العبد، ثم يعذبه عليه، لكان أضر من الشيطان، لأن الشيطان لا يمكن أن يلجئه إلى القبائح، بل يدعوهم إليها، كما قال الله تعالى: " وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي " (1).
ولأن دعاء الشيطان هو أيضا من فعل الله تعالى.
وأما الله سبحانه فإنه يضطرهم إلى القبائح، ولو كان كذلك لحسن
____________
(1) إبراهيم: 22.
يلزم الجبرية مخالفة العقل والنقل
ومنها: أنه يلزم مخالفة العقل والنقل، لأن العبد لو لم يكن موجدا لأفعاله لم يستحق ثوابا ولا عقابا، بل يكون الله تعالى مبتدئا بالثواب والعقاب من غير استحقاق منهم، ولو جاز ذلك لجاز منه تعذيب الأنبياء (ع)، وإثابة الفراعنة، والأبالسة، فيكون الله تعالى أسفه السفهاء، وقد نزه الله تعالى نفسه عن ذلك، فقال: " أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون " (1) " أم نجعل المتقين كالفجار " (2).
يلزم الجبرية كونه تعالى ظالما جائرا
ومنها: يلزم مخالفة الكتاب العزيز، من انتفاء النعمة عن الكافر، لأنه تعالى إذ خلق الكفر في الكافر لزم أن يكون قد خلقه للعذاب في نار جهنم، ولو كان كذلك لم يكن له عليه نعمة أصلا، فإن نعمة الدنيا مع عقاب الآخرة لا تعد نعمة، كمن جعل لغيره سما في حلواء، وأطعمه، فإنه لا تعد اللذة الحاصلة من تناوله نعمة. والقرآن قد دل على أنه تعالى منعم على الكفار. قال الله تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله " (3)، " وأحسن كما أحسن الله إليك " (4).
وأيضا قد علم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وآله: أنه ما من عبد إلا ولله عليه نعمة، كافرا كان أو مسلما.
ومنها: صحة وصف الله تعالى بأنه ظالم وجائر، لأنه لا معنى للظالم
____________
(1) القلم 35.
(2) ص: 28.
(3) إبراهيم: 28.
(4) القصص: 77.
ولأنه لما فعل العدل سمي عادلا، فكذا لو فعل الظلم سمي ظالما، ويلزم: أن لا يسمى العبد ظالما، ولا سفيها، لأنه لم يصدر عنه شئ من هذه!..
إلزام الجبرية بالالتزام بالمحال
منها: أنه يلزم المحال، لأنه لو كان هو الخالق للأفعال، فإما أن يتوقف خلقه لها على قدرتنا ودواعينا، أو لا، والقسمان باطلان.
أما الأول: فلأنه يلزم منه عجزه سبحانه عما يقدر عليه العبد.
ولأنه يستلزم خلاف المذهب، وهو وقوع الفعل منه، والداعي من العبد، إذ لو كان من الله تعالى لكان الجميع من عنده. ولأن القدرة والداعي: إن أثرا فهو المطلوب، وإلا، كان وجودهما كوجود لون الإنسان، وطوله. وقصره. ومن المعلوم بالضرورة: أنه لا مدخل للون، والطول، والقصر في الأفعال. وإذا كان هذا الفعل صادرا عنه جاز وقوع جميع الأفعال المنسوبة إلينا منا.
وأما الثاني: فلأنه يلزم منه أن يكون الله تعالى أوجد - أي خلق - تلك الأفعال من دون قدرتهم ودواعيهم، حتى توجد الكتابة والنساجة المحكمتان ممن لا يكون عالما بهما، ووقوع الكتابة ممن لا يد له، ولا قلم، ووقوع شرب الماء من الجائع في الغاية، الريان في الغاية، مع تمكنه من الأكل، ويلزم تجويز أن تنقل النملة الجبال، وأن لا يقوى الرجل الشديد القوة على رفع تبنة، وأن يجوز من الممنوع المقيد العدو، وأن يعجز القادر الصحيح عن تحريك الأنملة، وفي هذا زوال الفرق بين القوي والضعيف، ومن المعلوم بالضرورة الفرق بين الزمن والصحيح.
يلزم الجبرية كونه تعالى جاهلا أو محتاجا
ومنها: تجويز أن يكون الله تعالى جاهلا أو محتاجا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لأن في الشاهد فاعل القبيح: إما جاهل، أو محتاج، مع أنه ليس عندهم فاعلا في الحقيقة، فلأن يكون كذلك في الغائب الذي هو الفاعل في الحقيقة أولى.
يلزمهم نسبة الظلم إليه تعالى
ومنها: أنه يلزم منه الظلم، لأن الفعل، إما أن يقع من العبد لا غير، أو من الله تعالى، أو منهما بالشركة، بحيث لا يمكن تفرد كل منهما بالفعل، أو لا من واحد منهما.
والأول: هو المطلوب.
والثاني: يلزم منه الظلم، حيث فعل الكفر، وعذب من لا أثر له فيه البتة، ولا قدرة موجدة له، ولا مدخل له في الايجاد. وهو أبلغ أنواع الظلم!.
والثالث: يلزم منه الظلم، لأنه شريك في الفعل، وكيف يعذب شريكه على فعل فعله هو وإياه؟، وكيف يبرئ نفسه من المؤاخذة، مع قدرته وسلطنته، ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فعله هو مثله؟.
وأيضا يلزم منه تعجيز الله تعالى إذ لا يتمكن من الفعل بتمامه، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد.
وأيضا يلزم المطلوب وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل وإذ جاز استناد أثر ما إليه جاز استناد الجميع إليه، فأي ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات، فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربهم إلى هذه النقائص، التي نزه الله تعالى نفسه عنها، وتبرأ منها.
يلزم الجبرية المخالفة للقرآن والسنة المتواترة، والإجماع، والعقل
ومنها: أنه يلزم مخالفة القرآن العظيم، والسنة المتواترة، والإجماع، وأدلة العقل.
أما الكتاب: فإنه مملوء من إسناد الأفعال إلى العبيد، وقد تقدم بعضها، وكيف يقول الله تعالى: " فتبارك الله أحسن الخالقين " (1)، ولا خالق سواه؟، وقوله: " إني لغفار لمن تاب، وآمن، وعمل صالحا، ثم اهتدى " (2)، ولا تحقق لهذا الشخص البتة، ويقول: " من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها " (3)، و " ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " (4)، " لنبلوهم أيهم أحسن عملا " (5)، " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " (6) " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار " (7)، ولا وجود لهؤلاء!..
ثم كيف يأمر وينهى ولا فاعل، وهل هو إلا كأمر الجماد ونهيه؟.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " (8) " نية المؤمن خير من عمله " (9) إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (10) والإجماع: دل على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى، فلو كان الكفر
____________
(1) المؤمنون: 14.
(2) طه: 82.
(3) فصلت: 46.
(4) النجم: 31.
(5) الكهف: 7.
(6) الجاثية: 21.
(7) ص: 28.
(8) الجامع الصغير ج 1 ص 156، رقم الحديث: 202 (ط مصر).
(9) كنز العمال ج 3 ص 242 رقم: 2143 و 2142، والجامع الصغير ج 2 ص 585 رقم: 9295.
(10) كنز العمال ج 3 ص 243 رقم 2145.
شبهة الأشاعرة في الجبر
المطلب الحادي عشر: في نسخ شبههم.
إعلم أن الأشاعرة احتجوا على مقالتهم بوجهين، هما أقوى الوجوه عندهم، يلزم منهما الخروج عن العقيدة. ونحن نذكر ما قالوا: ونبين دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله.
الأول: قالوا لو كان العبد فاعلا لشئ ما بالقدرة والاختيار، فإما أن يتمكن من تركه، أو لا.
والثاني: يلزم منه الجبر، لأن الفاعل الذي لا يتمكن من ترك ما يفعله موجب لا مختار، كما يصدر عن النار الاحراق، ولا تتمكن من تركه، والأول، إما أن يترجح الفعل حالة الايجاد، أو لا.
والثاني أيضا: أنه يلزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، لأنهما لما استويا من كل وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وبالنسبة إلى القادر الموجد، كان ترجيح القادر للفعل على الترك ترجيحا للمساوي بغير مرجح، وإن ترجح، فإن لم ينته إلى حد الوجوب أمكن حصول المرجوح مع تحقق الرجحان وهو محال.
أما أولا، فلامتناع وقوعه حالة التساوي فحالة المرجوحية أولى.
وأما ثانيا، فلأنه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح، فلنفرضه واقعا في وقت، والراجح في آخر، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين لا بد له من مرجح غير المرجح الأول، وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين
الثاني: أن كل ما يقع، فإن الله تعالى قد علم وقوعه قبل وقوعه، وكل ما لم يقع فإن الله قد علم في الأزل عدم وقوعه، وما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع، وإلا لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا، وهو محال، وما علم عدم وقوعه فهو ممتنع، إذ لو وقع انقلب علم الله تعالى جهلا، وهو محال أيضا، والواجب والممتنع غير مقدورين للعبد، فيلزم الجبر.
الجواب عن شبهة الأشاعرة
والجواب عن الوجهين، من حيث النقض، ومن حيث المعارضة.
أما النقض ففي الأول من وجوه:
الأول: وهو الحق: أن الوجوب من حيث الداعي والإرادة، لا ينافي الامكان في نفس الأمر، ولا يستلزم الايجاب وخروج القادر عن قدرته، وعدم وقوع الفعل بها. فإنا نقول: الفعل المقدور للعبد يكمن وجوده منه، ويمكن عدمه. فإذا خلص الداعي إلى إيجاده، وحصلت الشرائط، وارتفعت الموانع، وعلم القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة البتة وجب من هذه الحيثية إيجاد الفعل، ولا يكون ذلك جبرا، ولا إيجابا بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير.
الثاني: يجوز أن يترجح الفعل فيوجده المؤثر، والعدم فيعدمه، ولا ينتهي الرجحان إلى الوجوب، على ما ذهب إليه جماعة من المتكلمين، فلا يلزم الجبر، ولا الترجيح من غير مرجح.
قوله: (مع ذلك الرجحان لا يمتنع النقيض، فليفرض واقعا في وقت،
الثالث: لم لا يوقعه القادر مع التساوي، فإن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المتكلمين، وتمثلوا في ذلك بصورة وجدانية، كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه، فإنه يتناول أحدهما من غير مرجح، ولا يمتنع من الأكل حتى يترجح لمرجح، والعطشان يحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه، والهارب من السبع إذا عن له طريقان متساويان، فإنه يسلك أحدهما، ولا ينتظر المرجح، وإذا كان هذا الحكم وجدانيا كيف يمكن الاستدلال على نقيضه؟
الرابع: أن هذا الدليل ينافي مذهبهم، فلا يصح لهم الاحتجاج به لأن مذهبهم: أن القدرة لا تصلح للضدين، فالمتمكن من الفعل يخرج عن القدرة لعدم التمكن من الترك، وإن خالفوا مذهبهم (1): أن القدرة لا تتقدم. على المقدور عندهم، وإن فرضوا للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل، لزمهم: إما اجتماع الضدين، أو تقدم القدرة على الفعل، فانظر إلى هؤلاء القوم، الذين لا يبالون في تضاد أقوالهم، وتعاندها.
وفي الثاني من وجهين:
الأول: العلم بالوقوع تبع الوقوع، فلا يؤثر فيه، فإن التابع إنما يتبع متبوعه، ويتأخر عنه بالذات، والمؤثر متقدم.
الثاني: أن الوجوب اللاحق لا يؤثر في الامكان الذاتي، ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن، فإن كل ممكن على الاطلاق إذا
____________
(1) في نسخة هكذا: وإن خالفوا مذهبهم، من تعلقها بالضدين، لزمهم وجود الضدين دفعة واحدة، لأن القدرة إلخ...
والعلم حكاية عن المعلوم، ومطابق له، إذ لا بد في العلم من المطابقة، فالعلم والمعلوم متطابقان.. والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم، فإنه لولاه لم يكن علما به. ولا فرق بين فرض الشئ، وفرض ما يطابقه بما هو حكاية عنه، وفرض العلم هو بعينه فرض المعلوم، وقد عرفت أن مع فرض المعلوم يجب، فكذا مع فرض العلم به، وكما أن ذلك الوجوب لا يؤثر في الامكان الذاتي، كذا هو الوجوب. ولا يلزم من تعلق علم الله تعالى به وجوبه بالنسبة إلى ذاته، بل بالنسبة إلى العلم.
وأما المعارضة في الوجهين: فإنهما آتيان في حق واجب الوجود تعالى.
فإنا نقول في الأول:
لو كان الله تعالى قادرا مختارا، فإما أن يتمكن من الترك أو لا، فإن لم يتمكن من الترك كان موجبا مجبورا على الفعل، لا قادرا مختارا. وإن تمكن، فإما أن يترجح أحد الطرفين على الآخر أو لا، فإن لم يترجح لزم وجود الممكن المتساوي من غير مرجح، فإن كان محالا في حق العبد كان محالا في حق الله تعالى، لعدم الفرق. وإن ترجح، فإن انتهى إلى الوجوب، لزم الجبر، وإلا تسلسل، أو وقع المتساوي من غير مرجح فكل ما تقولونه ها هنا نقوله نحن في حق العبد.
ونقول في الثاني:
إن ما علمه الله تعالى إن وجب، ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منا عن قدرته، وإدخاله في الموجب، لزم في حق الله تعالى ذلك بعينه. وإن لم يقتض سقط الاستدلال.
فقد ظهر من هذا أن هذين الدليلين آتيان في حق الله تعالى، وهما إن صحا
والحاصل: أن هؤلاء إن اعترفوا بصحة هذين الدليلين لزمهم الكفر، وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما.
فلينظر العاقل من نفسه: هل يجوز له أن يقلد من يستدل بدليل يعتقد صحته، ويحتج به غدا يوم القيامة؟ وهو يوجب الكفر، والالحاد؟.
وأي عذر لهم عن ذلك؟ وعن الكفر والالحاد؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟، هذه حجتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى. وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنه يلزم منها نسبة الله سبحانه إلى كل خسيسة ورذيلة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وليحذر المقلدون، وينظروا كيف هؤلاء القوم الذين يقلدونهم، فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والايضاح اتباعهم كفاهم بذلك ضلالا، وإن راجعوا عقولهم، وتركوا اتباع الأهواء، عرفوا الحق بعين الإنصاف، وفقهم الله لإصابة الثواب (1).
في إبطال الكسب
المطلب الثاني عشر: في إبطال الكسب.
إعلم: أن أبا الحسن الأشعري وأتباعه لما لزمتهم هذه الأمور الشنيعة، والإلزامات الفظيعة، والأقوال الهايلة، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية، والحركات الجمادية، وما شابه ذلك التجأ إلى ارتكاب قول توهم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات، ولات حين مناص، فقال مذهبا غريبا عجيبا، لزمه بسببه
____________
(1) في نسخة: الصواب.
فإذا طولب بتحقيق الكسب، وما هو؟ وأي وجه يقتضيه؟ وأي حاجة تدعو إليه؟ اضطرب أصحابه في الجواب عنه.
فقال بعضهم: معنى الكسب: خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل، وعدمه عقيب اختيار العدم، فمعنى الكسب: إجراء العادة يخلق الله الفعل عند اختيار العبد.
وقال بعضهم: معنى الكسب: أن الله تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر البتة، لكن العبد يؤثر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية، فأصل الفعل من الله تعالى، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد.
وقال بعضهم: إن هذا الكسب غير معلوم، ولا معقول، مع أنه صادر عن العبد. (2).
وهذه الأجوبة فاسدة:
أم الأول: فلأن الاختيار والإرادة من جملة الأفعال، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه. وأي فرق بينهما؟ وأي حاجة وضرورة إلى التمحل بهذا؟ وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى، وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم، والجور، والعدوان، وغير ذلك، وليس بمعلوم.
____________
(1) الملل والنحل ج 1 ص 96 و 97، وشرح العقائد، وحاشيته للكستلي ص 117، وشرح التجريد ص 277.
(2) الملل والنحل ج 1 ص 97، والفصل لابن حزم ج 3 ص 81، وحاشية الكستلي على شرح العقائد ص 117، وغيرها من الكتب الكلامية.
وأيضا: إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار، إما العبد، أو الله تعالى، فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة.
وإن لم يكن موجبا، لم يبق فرق بين الاختيار والآكل مثلا، في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير من غير شركة للعبد فيه.
وأيضا: العادة غير واجبة الاستمرار، فجاز أن يوجد الاختيار، ولا يخلق الله تعالى عقيبه، ويخلق الله تعالى الفعل ابتداء، من غير تقدم اختيار، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر.
وأما الثاني: فلأن كون الفعل طاعة أو معصية: إما أن يكون نفس الفعل في الخارج، أو أمرا زائدا عليه. فإن كان الأول، كان أيضا من الله تعالى، فلا يصدر عن العبد شئ، فيبطل العذر.
وإن كان الثاني، كان العبد مستقلا بفعل هذا الزائد، وإذا جاز إسناد هذا الفعل فليجز إسناد أصل الفعل، وأي ضرورة للتمحل بمثل هذه المحاذير الفاسدة، التي لا تنهض بالاعتذار؟، وأي فارق بين الفعلين ولم يكن أحدهما صادرا عن الله تعالى، والآخر صادرا عن العبد؟.
وأيضا دليلهم آت في هذا الوصف، فإن كان حقا عندهم امتنع استناد هذا الوصف إلى العبد، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به.
وأيضا كون الفعل طاعة، هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنما هو شئ يرجع إلى ذات الفعل: إن طابق الأمر
وأيضا الطاعة حسنة، والمعصية قبيحة، ولهذا ذم الله تعالى إبليس وفرعون على مخالفتهما أمر الله. كل فعل يفعله الله تعالى فهو حسن عندهم، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله، فلو كان أصل الفعل صادرا من الله امتنع وصفه بالقبح، وكان موصوفا بالحسن، فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة من الله امتنع وصفها بالقبح، فلا تكون معصية فلا يستحق فاعلها الذم والعقاب، فلا يحسن من الله تعالى ذم إبليس، وأبي لهب، وغيرهما، حيث لم يصدر عنهم قبيح، ولا معصية. فلا تتحقق معصية من العبد البتة.
وأيضا المعصية قد نهى الله تعالى عنها إجماعا، والقرآن مملوء من المناهي والتوعد عليها. وكل ما نهى الله تعالى عنه فهو قبيح، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلا ما نهى الله عنه، مع أنها قد صدرت عن إبليس، وفرعون، وغيرهما من البشر. وكل ما صدر من العبد فهو مستند إلى الله تعالى، والفاعل له هو الله تعالى لا غير عندهم، فيكون حسنا حينئذ، وقد فرضناه قبيحا، وهذا خلف.
وأما الثالث: فهو باطل بالضرورة. إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول.
وكفاهم عن الاعتذار الفاسد اعتذارهم بما لا يعلمون. وهل يجوز للعاقل المنصف من نفسه المصير إلى هذه الجهالات، والدخول في هذه الظلمات؟، والأعراض عن الحق الوضح، والدليل اللائح؟ والمصير إلى ما لا يفهمه القائل، ولا السامع، ولا يدري؟ هل يدفع عنهم ما التزموا به؟ أو لا؟
فإن هذا الدفع وصف من صفاته، والوصف إنما يعلم بعد العلم بالذات، فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به؟!.
القدرة متقدمة على الفعل
المطلب الثالث عشر: في أن القدرة متقدمة على الفعل.
ذهبت الإمامية، والمعتزلة كافة إلى أن القدرة التي للعبد متقدمة على الفعل.
وقالت الأشاعرة هنا قولا غريبا عجيبا، وهو أن القدرة لا توجد قبل الفعل، بل مع الفعل غير متقدمة عليه، لا بزمان ولا بآن (1)، فلزمهم من ذلك محالات:
منها: تكليف ما لا يطاق، لأن الكافر مكلف بالإيمان إجماعا منا ومنهم، فإن كان قادرا عليه حال كفره ناقضوا مذهبهم، من أن القدرة مع الفعل غير متقدمة عليه، وإن لم يكن قادرا عليه لزمهم تكليف ما لا يطاق.
ونص الله تعالى على امتناعه، فقال: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " (2)، والعقل دل عليه، وقد تقدم.
وإن قالوا: إنه غير مكلف حال كفره، لزم خرق الاجماع، لأن الله تعالى أمره بالإيمان، بل عندهم أنه أمره في الأزل ونهاهم، فكيف لا يكون مكلفا؟.
ومنها: الاستغناء عن القدرة، لأن الحاجة إلى القدرة إنما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود. وهذا إنما يتحقق حال العدم، لأن حال الوجود
____________
(1) الملل والنحل ج 1 ص 96، وشرح العقائد وحاشيته للكستلي ص، 119 والفصل لابن حزم ج 3 ص 35.
(2) البقرة: 286 والوسع هو: ما يتسع له قدرة الإنسان، واستفراغها، فلا يكون التكليف إلا ما دون الطاقة.
على أن مذهبهم أن القدرة غير مؤثرة البتة، لأن في الموجودات كلها هو الله تعالى، فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول، لأنه خلاف مذهبهم.
ومنها: إلزام حدوث قدرة الله تعالى، أو قدم العالم، لأن القدرة مقارنة للفعل. وحينئذ يلزم أحد الأمرين وكلاهما محال، لأن قدرة الله تعالى يستحيل أن تكون حادثة، والعالم يمتنع أن يكون قديما. ولأن القدم مناف للقدرة، لأن القدرة إنما تتوجه إلى إيجاد المعدوم، فإذا كان الفعل قديما امتنع استناده إلى القادر. ومن أعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد، والكلام في أحكامها.. مع أن القدرة غير مؤثرة في الفعل البتة، وأنه لا مؤثر غير الله تعالى، فأي فرق بين القدرة واللون وغيرهما بالنسبة إلى الفعل، إذا كانت غير مؤثرة، ولا مصححة للتأثير. وقال أبو علي بن سينا، ردا عليهم: (لعل القائم لا يقدر على القعود) (1).
القدرة صالحة للضدين
المطلب الرابع عشر: في أن القدرة صالحة للضدين.
ذهب جميع العقلاء إلى ذلك، عدا الأشاعرة فإنهم قالوا: القدرة غير
____________
(1) قال ابن سينا في فصل القوة والفعل، والقدرة والعجز، من إلهيات الشفاء: " وقد قال بعض الأوائل، وغاريقون (يعني بعض فلاسفة اليونان) منهم: أن القوة تكون مع الفعل، ولا تتقدم، وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير، فالقائل بهذا القول كأنه يقول: إن القاعد ليس يقوى على القيام، أي لا يمكن في جبلته أن يقوم، ما لم يقم، فكيف يقوم، وإن الخشب ليس بجبلته أن ينحت بابا فكيف ينحت، وهذا القائل لا محالة غير قوي، أن يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا، فيكون بالحقيقة أعمى ".
إذا شاء أن يترك ترك.
الإنسان مريد لأفعاله
المطلب الخامس عشر: في الإرادة.
ذهبت الإمامية، وجميع المعتزلة إلى أن الإنسان مريد لأفعاله، بل كل قادر، فإنه مريد، لأنها صفة تقتضي التخصيص، وإنها نفس الداعي.
وخالفت الأشاعرة في ذلك، فأثبتوا صفة زائدة عليه (2).
وهذا من أغرب الأشياء أعجبها، لأن الفعل إذا كان صادرا عن الله تعالى، ومستندا إليه، وكان لا مؤثر إلا الله تعالى، فأي دليل حينئذ يدل على ثبوت الإرادة، وكيف يمكن ثبوتها لنا، لأن طريق الاثبات هو: أن القادر كما يقدر على الفعل، كذا يقدر على الترك.
فالقدرة صالحة للإيجاد والترك، وإنما يتخصص أحد المقدورين بالوقوع دون الآخر بأمر غير القدرة الموجودة، وغير العلم التابع، فالمذهب الذي اختاروه لأنفسهم سد عليهم ما علم وجوده بالضرورة، وهو القدرة والإرادة.
فلينظر العاقل المنصف من نفسه: هل يجوز له اتباع من ينكر الضروريات، ويجحد الوجدانيات؟ وهل يشك عاقل في أنه قادر، مريد؟.
وأنه فرق بين حركاته الإرادية، وحركة الجماد؟ وهل يسوغ لعاقل أن
____________
(1) وقال الفضل في المقام: إن القدرة الواحدة لا تتعلق بالضدين، بناء على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله... وقاله: التفتازاني في شرح العقائد، والكستلي في حاشيته ص 123.
(2) شرح التجريد ص 216، وغيره من الكتب الكلامية والأصولية.