يرى البعض من أمثال أبي سعيد فرج بن لب مفتي البلاد الأندلسية أن:
"من زعم أنّ القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر، لأنه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة"(1).
|
فحكم بكفر جمع كثير من المحققين بلا هوادة.
أما البعض الآخر ـ من أمثال المحدث النوري ـ فيرى بأن القراءات حيث لم تثبت بالتواتر عن النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلم فهذا معناه أن القرآن ليس له وجوه عديدة في التلاوة، فتكون جميع تلك القراءات ـ عدا وجه واحد مجهول ومردد ـ غير مطابقة لما أنزل على الرسول صلّى الله عليه وآله.
لكن في الحقيقة، لا ما ذكره أبو سعيد فرج بن لب صحيح، ولا مقولة النوري هي الأخرى تامة، بل الصائب ما صرح به سيدنا الخوئي في قوله:
"ليست بين تواتر القرآن وبين عدم تواتر القراءات أية ملازمة، لأن أدلة تواتر القرآن وضرورته لا تثبت بحال من الأحوال تواتر قراءته كما أن نفي تواتر القراءات لا تتسرب إلى تواتر القرآن بأي وجه، لأن القرآن تتوافر الدواعي لنقله لأنه الأساس للدين الإسلامي والمعجز الإلهي وكل شيء تتوفر الدواعي لنقله لا بدّ وأن يكون متواتراً فما كان نقله بطريق الآحاد لا يكون من القرآن قطعاً..."(2). "فالواصل إلينا بتوسط القراء إنما هو خصوصيات قراءاتهم، وأما أصل القرآن فهو واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين وبنقل الخلف عن |
____________
1 ـ عن مناهل العرفان: ص 428. وقال أبو شامة:
"وظنّ جماعة ممن لا خبرة له بأصول هذا العلم أن قراءة هؤلاء الأئمة السبعة هي التي عبّر عنها النبىّ صلّى الله عليه وسلم بقوله: "انزل القرآن على سبعة أحرف..." وقد أخطأ من نسب إلى ابن مجاهد أنـّه قال ذلك". المرشد الوجيز: ص 146.
|
2 ـ البيان: ص 124.
السلف... ولذلك فإن القرآن ثابت بالتواتر، حتى لو فرضنا أن هؤلاء القراء السبعة أو العشرة لم يكونوا موجودين أصلا، وعظمة القرآن أرقى من أن تتوقف على نقل أولئك النفر المحصورين"(1).
|
ويعقب السيد الخوئي كلامه هذا ببحث موسع نسبياً ليقيم أفضل الأدلة على عدم تواتر القراءات، مرفقاً ذلك بالشواهد التاريخية والمستندات التي تتحدث عن ترجمة القراء أنفسهم، وهو ـ مع ذكره التصريحات التي أدلى بها النافون للتواتر في القراءات من كبار علماء أهل السنة ـ ركز جهوده على مناقشة الأدلة التي قدمها القائلون بتواتر القراءات السبع، بحيث لا يستغني قارئ عن الرجوع إلى هذا البحث(2).
وعليه فرأي المحدث النوري باطل من أساسه، أي القول بأن الاختلافات الكثيرة الواقعة من ناحية القراء حصلت دون إذن ورضا من نبيهم صلّى الله عليه وآله مما يوجب الخلل ويعرض أساس القرآن نفسه للنقصان، ليجعله غير مطابق لما أنزل على الرسول إعجازاً، ذلك أنّ للقرآن حقيقة ثابتة أما الاختلاف عند بعض القرّاء في كيفية أداء كلماته فهو حقيقة أخرى.
وعلاوة على هذا الرأي، يبدو المحدث النوري هنا متناقضاً أيضاً حيث يقول:
"... إن القرآن نزل في جميع مراتبه بنحو واحد لا تغيير فيه ولا اختلاف فكان جميع ما ذكروه [أي من وجوه الاختلاف في القراءات] غير الوجه الواحد المجهول المردد فيه... فكان غير مطابق لما أنزل على الرسول إعجازاً وهو المقصود... وهذا الدليل وإن كان غير واف لإثبات نقصان سورة بل آية والكلمات أيضاً لعدم شمول |
____________
1 ـ نفس المصدر: ص 158.
2 ـ انظر: نفس المصدر، بحث "أضواء على القراء": ص 121 ـ 168.
تلك الاختلاف القراءات لها إلاّ أنه يمكن تتميمه بعدم القول بالفصل..."(1).
|
إن هذا الكلام من المحدث النوري يناقض كلامه السالف الذكر فيما يخص مصحف ابن مسعود ومصحف أبي بن كعب، فهو يقول في زعمه الخامس والسادس إن قراءة عبد الله بن مسعود وقراءة أُبي بن كعب معتبرتان، ويعدهما معاً من قبل الله تعالى، وكان يقول بأن كلتا القراءتين ترجعان إلى حقيقة القرآن الكريم نفسه(2) لا إلى كيفية أداء كلمات القرآن، والحال أن ثمة اختلافات كثيرة بين قراءة هذين الشخصين، وطبقاً لتوهم النوري لا بدّ أن تكون جميع هذه الاختلافات الواقعة بين هذين المصحفين من جانب الله عزّ وجلّ ذلك أن كلتيهما مرتبطتان بالقرآن الكريم نفسه، إلاّ أنه هنا يعود فيكرر القول بـ: "أن القرآن نزل في جميع مراتبه بنحو واحد لا تغيير فيه ولا اختلاف"، أليس هذا تناقضاً واضحاً وجلياً في مواقفه وكلماته؟!
ومع غض النظر عن كل ذلك، فإن ما يثير تعجب الإنسان هو ذاك الادّعاء الخطير الذي يطرحه المحدث النوري فيما يتعلق بعدم القول بالفصل بين نقصان السورة والآية والكلمات واختلاف القراءات في الهيئات وأداء الكلمات نفسها، إذ
____________
1 ـ أي كل من رأى بنقصان حروف القرآن واختلاف هيئات الكلمات رأى بنقصان سورة وآية ونفس الكلمات فلا يفصل بينهما!!
2 ـ قال النوري في مصحف عبد الله بن مسعود:
"تمام ما جمع ابن مسعود في مصحفه معتبر ومطابق لما نزل على النبىّ" (فصل الخطاب: ص 136).
|
وقال في مصحف أُبي بن كعب:
"إنّ ما في مصحف أُبي صحيح ومعتبر وحيث إنّ هذا المصحف الموجود غير شامل لتمام ما في مصحف أُبي بن كعب فيكون غير شامل لتمام ما نزل إعجازاً" (فصل الخطاب: ص 144).
|
"... والظاهر أن المصحف الموجود غير مطابق لما أنزل عليه صلّى الله عليه وآله إعجازاً".
|
وهذا الكلام يعني سقوط القرآن عن مستوى الإعجاز، ومن ثم فتحديه يصبح لغواً، ونتيجة ذلك قدرة الآخرين على الإتيان بمثله، والحال أنّ التاريخ على امتداده يحكي عن عدم قدرة أحد على الإطلاق على تقديم نموذج كالنموذج القرآني أو حتى سورة من مثل سوره الكريمة، بل إن نفس المحدث النوري يقرّ بهذا الأمر قائلا:
"التحريف بزيادة السورة وتبديلها ممتنع لقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب ممّا نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله...) بل زيادة الآية وتبديلها أيضاً منتفيان"(1).
|
الزعم الحادي عشر والثاني عشر: أخبار تحريف القرآن بالنقيصة
قال النوري:
"الأخبار الكثيرة في وقوع السقط ودخول النقصان في الموجود من القرآن... من غير اختصاصها بآية أو سورة"(2).
|
وقال أيضاً:
"الأخبار الواردة في الموارد المخصوصة من القرآن الدالة على تغيير بعض الكلمات والآيات والسور وهي كثيرة جداً"(3).
|
____________
1 ـ فصل الخطاب: ص 32.
2 ـ نفس المصدر: ص 234.
3 ـ نفس المصدر: ص 250.
وقد ناقش الأستاذ السيد مرتضى العسكري لدى نقده كتاب "الشيعة والقرآن" للأستاذ إلهي ظهير هذه الروايات كافة وبالتفصيل، سواء على صعيد المضمون والمحتوى أم على صعيد السند، ثم كتب عقب ذلك وتحت عنوان "نتائج البحوث" قائلا:
"استشهد الشيخ النوري والأستاذ ظهير على حد زعمهما بتلك الروايات التي بعضها مشتركة في كتب الفريقين على التحريف والنقصان في آيات كتاب الله العزيز الحكيم، وقمنا بفضل الله تعالى بدراستها رواية بعد رواية سنداً ومتناً...".
|
ثم قال مدّ ظله:
"فلم يصح سند رواية واحدة منها [إلاّ رواية عن الكافي التي مضى دراستها](1) بل كان في إسنادها من وصفه علماء الرجال بضعيف الحديث! فاسد المذهب! مجفو الرواية! يروي عن الضعفاء! كذّاب! متّهم في دينه! غال!
|
____________
1 ـ وهي رواية الكليني بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام، انظر: الكافي: ج 2، ص 634، رقم 28.
ولم يكن المراد مما جاء في متون الروايات ما زعم بأن في نصوص القرآن الذي بأيدينا اليوم تبديل وتحريف والعياذ بالله بل المراد أن المخاطبين لم يعلموا بها... ويفسرونها على غير ما أنزل ولا يكون في متن الرواية إلاّ بياناً وتفسيراً للآية الكريمة خلافاً لما زعما بأنها نص محذوف منها وكثيراً ما اجتمع الأمران المذكوران في ما استدلا به من رواية، وهكذا انتج البحث لهما في كل رواية استدلا بها صفراً، وصدق عليهما المثل القائل: تمخض الجبل فولد فأراً"(1).
|
أقول: إن ما قاله الأستاذ في مضامين تلك الروايات في محلّه; لأنّنا حينما نعمد إلى القيام بفرز وتقسيم تلك الروايات فسنجد مضامينها غير خالية من إحدى طائفة من الطوائف الستّ، التي مضت دراستها، ولاحظتم أنها بعيدة كل البعد عن التحريف بالمعنى المتنازع فيه.
وأما ما ذكره الأستاذ حول أسانيد ومصادر تلك الروايات فهو عين مقالة المحققين من علماء الإمامية، وسترونها في النقاط الآتية.
____________
1 ـ القرآن الكريم ورواية المدرستين: ج 3، ص 231 و847.
النقطة الثانية: دراسة في مصادر وأسانيد روايات كتاب فصل الخطاب
كلّ من يتصفّح كتاب فصل الخطاب يصل إلى النتائج الآتية:
أولا: إن هذا الكتاب مشحون بروايات ضعاف أكثرها من كتب المراسيل.
يقول العلامة محمد جواد البلاغي النجفي:
"إن المحدّث المعاصر جهد في كتاب "فصل الخطاب" في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة وكثر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل عن الأئمة عليهم السلام في الكتب كمراسيل العياشي وفرات وغيرها مع أن المتتبع المحقق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد... فإن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيدها إلى بضعة أنفار وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم إما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية، وإما بأنّه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء، وإما بأنه كذاب متهم لا أستحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً وأنه معروف بالوقف وأشد الناس عداوة للرضا عليه السلام. وإما بأنه كان غالياً كذاباً. وإما بأنه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعول عليه ومن الكذابين. وإما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلو. ومن الواضح أن أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً..."(1).
|
وقال العلاّمة الشعراني في هذا الصدد أيضاً:
"قد تتبعت الكتاب ـ كتاب فصل الخطاب ـ صدره وذيله وجميع ما فيه فلم نجد فيه ما يصلح مستنداً للقول بالتحريف سوى بضع روايات ضعاف الأسناد وفيها من المناكير مما لا يقول به أشياخه ولا |
____________
1 ـ آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ص 26.
سائر علمائنا حيث مخالفتها مع أصول المذهب..."(1).
|
وتقدّم أيضاً كلام الأستاذ السيد مرتضى العسكري بعد دراسته لروايات فصل الخطاب رواية بعد رواية.
وكلام هؤلاء العلماء والمحققين تام ناجم عن تحقيق دقيق لا شبهة فيه، لأن مجموع الروايات التي نقلها المحدث النوري ـ ويزعم أنها اختصت بكتب الإمامية ـ يصل إلى 1602 رواية موزعة على النحو الآتي:
____________
1 ـ الوافي: ج 2، حاشية ص 232 ـ 234. ومن جملة علماء الإمامية الذين أبدوا رأيهم في سند روايات التحريف وعدّوها بين الآحاد، الضعيف، المرسل وغير المعتبر و...: الشيخ محمد بن محمد النعمان المفيد (ت 413 هـ.) في المسائل السروية: ص 78. السيد الشريف المرتضى علم الهدى (ت 436 هـ.) في كتاب "الذخيرة في علم الكلام": ص 364. الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 هـ.) في كتاب "التبيان في تفسير القرآن": ج 1، ص 3. الشيخ محمد بن الحسين الحارثي الشهير ببهاء الدين العاملي (1030 هـ.) عن آلاء الرحمن: ص 26. الشيخ جعفر الكبير (ت 1228 هـ.) في كتاب "كشف الغطاء": ص 277. السيد محمد الطباطبائي (ت 1242 هـ.) في "مفاتيح الأصول". السيد شرف الدين العاملي (ت 1377 هـ.) في "الفصول المهمة": ص 126. الميرزا مهدي الشيرازي في "المعارف الجلية": ص 18. العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ.) في تفسيره "الميزان": ج 12، ص 104 وما بعدها. الإمام روح الله الخميني (ت 1409 هـ.) في "أنوار الهداية": ص 243 وما بعدها. و"تهذيب الأصول": ج 2، ص 165. والأستاذ محمد هادي معرفة في "صيانة القرآن من التحريف": ص 235.
2 ـ قال النجاشي: "أحمد بن محمد بن سيار أبو عبد الله الكاتب بصري:... ضعيف الحديث، فاسد المذهب... له كتب... كتاب القراءات": ج 2، ص 865. وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي: "أحمد بن محمد بن سيار... ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية، كثير المراسيل... وصنف كتباً كثيرة... كتاب القراءة" ص 411. وقال ابن الغضائري: "أحمد بن محمد بن سيار... ضعيف متهالك، غال، محرف...". وقال أبو جعفر ابن بابويه في فهرسته حين ذكر كتاب النوادر: استثني منه ما رواه أحمد بن محمد بن سيار، وقال: لا أعمل به ولا أفتي به لضعفه...". انظر معجم رجال الحديث: ج 2، ص 282، رقم 871 وراجع أيضاً: "أعيان الشيعة": ج 2، ص 448، "تنقيح المقال": ج 1، ص 87 و"لسان الميزان": ج 1، ص 382، رقم 800.
____________
1 ـ مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 1، ص 83.
2 ـ فصل الخطاب: ص 34.
3 ـ مرآة العقول: ج 5، ص 60 ـ 161، وأرقام الأحاديث كالتالي: 17، 72، 74، 76، 78 و83.
وقد اعتمد المحدث النوري على روايات كثيرة من كتب أهل السنة في هذا المجال، كما قلنا، لكن لا قيمة لهذه الروايات عند أهل السنة أنفسهم، فيما إذا لم يكن يوجد لها تأويل صحيح.
ثانياً: إن أغلب روايات كتاب "فصل الخطاب" ينتابها مشكل التكرار، وهي بين مرسلة ومسندة، والمرسل منها عين المسند، فالناظر إليها من بعيد قد يلحظ كثرة فيها بيد أنّ هذه الكثرة تؤول في النهاية إلى روايات قليلة، غاية الأمر أن سندها قد حذف تارة وذكر أخرى، وهذا يعني قلة عدد هذه الروايات في الواقع.
ثالثاً: لم يذكر المحدث النوري في هذا الكتاب أبداً أن المصادر التي اعتمد عليها في رواياته مصادر معتبرة، وهو من دأب النوري الذي يعتبر من المحدثين المجدين في التتبع للشواذ، وقد ضمن كتابه روايات من مصادر لا وزن لها علمياً ليحقق ضالته المنشودة، كـ "تفسير أبي الجارود" وهو زياد بن المنذر السرحوب (ت 150 هـ.) وتفسيره هذا يرويه عنه أبو سهل كثير بن عياش القطان وإليه ينتهي طريق الشيخ الطوسي والنجاشي إلى تفسيره، وقد قال الشيخ الطوسي عنه: "... وكان ضعيفاً"(1).
وكتاب "الاستغاثة" لعلي بن أحمد أبي القاسم الكوفي (ت 325 هـ.) ولا اعتداد بالرجل وكتابه عند العلماء(2).
و"التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام"، وهو تفسير منقول برواية "علىّ بن محمد بن سيار" وزميله "يوسف بن محمد بن زياد" وكلاهما
____________
1 ـ معجم رجال الحديث: ج 7، ص 322.
2 ـ قال النجاشي: علي بن أحمد أبو القاسم الكوفي... غلا في آخر أمره وفسد مذهبه وصنف كتباً كثيرة أكثرها على الفساد" وقال الشيخ الطوسي رحمه الله مثله. معجم رجال الحديث: ج 11، ص 246 ـ 247.
رابعاً: روى النوري روايات من الغلاة والمتهمين في دينهم، كأحمد بن محمد السياري الذي تقدمت ترجمته آنفاً، وسهل بن زياد الآدمي(6)، وإبراهيم بن إسحاق النهاوندي(7)، والحسين بن حمدان الخصيبي (الحصيني)(8)، ومحمد بن علىّ أبو سمينة الكوفي(9)، ومحمد بن سليمان الديلمي(10)، والحسن بن علىّ بن أبي حمزة(11)وغيرهم.
هذا بالنسبة إلى مصادر وأسانيد الروايات الواردة في كتاب فصل الخطاب.
____________
1 ـ معجم رجال الحديث: ج 17، ص 157.
2 ـ المصدر السابق: ج 12، ص 147.
3 ـ قال المجلسي: يشتمل الكتاب على ما يوهم الخبط والخلط والارتفاع، بحار الأنوار: ج 1، ص 10.
4 ـ سيأتي البحث عنه أكثر في المقام الثاني.
5 ـ انظر تفصيله: صيانة القرآن عن التحريف: ص 222 ـ 234.
6 ـ رجال النجاشي: ص 185، رقم الترجمة 490.
7 ـ نفس المصدر: ج 1، ص 71.
8 ـ رجال النجاشي: ص 67، رقم الترجمة 159.
9 ـ معجم رجال الحديث: ج 17، ص 319 ـ 321.
10 ـ رجال النجاشي: ص 365، رقم الترجمة 987.
11 ـ معجم رجال الحديث: ج 11، ص 299 ـ 340.
"أكثر الروايات التي أوردها المحدث النوري هي من باب اختلاف القراءات ـ مثل ما جمعه من تفسير "مجمع البيان" وهو ينيف على مئة وعشرين حديثاً كلها مراسيل ومن باب اختلاف القراءات ـ أو يكون من باب تفسير الآيات أو تأويلها أو بيان لما يعلم يقيناً شمول عموماتها له لأنّه أظهر الأفراد وأحقها بحكم العام، أو ما كان مراداً بخصوصه وبالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل، أو ما كان هو المورد للنزول أو ما كان هو المراد من اللفظ المبهم. ويحمل كلمة "التحريف" فيها على تحريف المعنى ويشهد لذلك نفس الروايات والقرائن الداخلية والخارجية منها مكاتبة أبي جعفر عليه السلام لسعد الخير كما في روضة الكافي: "وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده"(1). كما يحمل ما في الروايات مما كان في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام أو ابن مسعود وينزل على أنّه كان فيه بعنوان التفسير والتأويل"(2).
|
أقول: ما ذكره العلاّمة محمد جواد البلاغي رحمه الله هو ما يقتضيه التحقيق، لا سيما إذا لاحظنا معاني كلمات "التنزيل"، و"التأويل"، و"الإقراء" و"التحريف" الواردة في الروايات، وقد مرّ تفصيل ذلك في المقام الأول، وجملة القول إن ما أورده المحدث النوري من روايات الإمامية ينقسم من حيث المحتوى والمدلول إلى
____________
1 ـ عن البيان: ص 229.
2 ـ آلاء الرحمن: ج 1، ص 27.
1 ـ الروايات التي وردت في شأن مصحف الإمام علىّ عليه السلام.
2 ـ الروايات التي جاء فيها لفظ "التحريف".
3 ـ قراءات منسوبة إلى بعض الأئمة عليهم السلام.
4 ـ روايات الفساطيط.
5 ـ الروايات التي دلّت على أن بعض الآيات المنزلة من القرآن قد ذكر فيها أسماء الأئمة.
6 ـ الروايات التي دلت على التحريف في القرآن بالنقيصة.
وقد تكلمنا في تلك الطوائف وما اقتضاه التحقيق فيها عند الحديث عنها في الفصل الثاني.
النقطة الثالثة: تفنيد مناقشات النوري في أدلّة سلامة القرآن
لقد عقد المحدث النوري الباب الثاني من كتابه في بيان أدلة سلامة القرآن من التحريف والمناقشة فيها، والآن ننظر ما هي مناقشاته وكيف يجاب عنها.
1) تفنيد المناقشات في دلالة الآيات
أ ـ قال المحدث النوري في جواب المستدلين على صيانة القرآن من التحريف بالآية الشريفة: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(1):
"الذكر قد أطلق في القرآن كثيراً على رسول الله صلّى الله عليه وآله ومن الجايز أن يكون هو المراد منه هنا أيضاً... ولو سلمنا فإن المراد بالحفظ، حفط معاني القرآن ومداليله عن تطرق شبه المعاندين بحيث لا يوجد فيه مدخل إلى القدح فيه، ولا الجامع من حفظ معاني القرآن وحفظ ألفاظه عن الإسقاط، بل فالحفظ عند محمد وآله صلوات الله عليهم يكفي في تحقق مفهوم الآية ومعه لا مانع لتغيره عند غيرهم".
|
ثمّ قال:
"التحقيق في الجواب أنّ ظاهر الآية ـ والله أعلم ـ أنـّه تعالى يحفظ القرآن في الموضع الذي أنزله فيه... وموضعه الذي أنزله تعالى فيه ووعد حفظه هو قلب النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلم لا الصحف والدفاتر ولا غير صدره من الضمائر"(2).
|
وجوابنا عن ذلك:
أولاً: إن كلمة "الذكر" الواردة في القرآن تطلق كثيراً بشكل صريح على القرآن
____________
1 ـ سورة الحجر (15): الآية 9.
2 ـ فصل الخطاب: ص 359 ـ 360.
ثانياً: إن الآية السادسة من سورة الحجر تمثل قرينة سياقية واضحة على أن المقصود من "الذكر" في الآية التاسعة من هذه السورة هو القرآن العظيم; لأن كلمة الذكر الواردة فيها وهي: (وقالوا يا أيّها الذي نزل عليه الذكر إنّك لمجنون) تدل دلالة قاطعة وصريحة على أنّ المراد من الذكر هو القرآن، وفي الواقع إنّ كلمة الذكر الواردة في قوله تعالى: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون) تمثل جواباً قاطعاً عن شبهات المعاندين التي أوردها في الآية السادسة فالألف واللام في كلمة "الذكر" هنا للعهد الذكري.
ثالثاً: إن نفس الادعاء القائل بأن المراد من حفظ القرآن هو حفظه قبال شبهات المعاندين هو ادعاء بلا دليل، بل إنّه مخالف لإطلاق الآية نفسها، ذلك الإطلاق الشامل لمطلق أنواع التحريف والذي من جملته الإسقاط والتغيير، وليس ثمة نوع من أنواع الحفظ أكثر أهمية من هذا النوع، بل إنّ الآية الكريمة ـ وأخذاً بعين الاعتبار الأرضية التي تتحرك فيها ـ تبدو أكثر ظهوراً في هذا النوع من الحفظ منه في الأنواع الأخرى، ذلك أنّ الشبهات والتشكيكات التي يثيرها الكافرون هنا تتعلق بتدخل القوى غير الإلهيّة لإسقاط القرآن ونسبته إلى غير الله سبحانه، وليس لها أية علاقة باختلاق الشبهات على صعيد المعارف والمضامين القرآنية، والقرآن ينبئنا بنفسه ـ عبر تأكيداته المتواصلة ـ عن حفظه من أي مساس حين نزوله وبعد النزول أيضاً.
رابعاً: كيف يمكن أن تصمد المعارف القرآنية ومحتويات الكتاب العزيز أمام الشبهات المقامة من قبل المعاندين والحال أنـّه ـ ووفقاً لتصورات المحدث النوري نفسه والمستندة إلى الرواية التي يوردها في كتابه والقاضية بأن ما يزيد على ثلثي
____________
1 ـ سورة النحل / 44.
خامساً: كيف يتم للمحدث النوري القول بأنّ تحقق مفهوم الآية يكفي فيه حفظ القرآن ولو نسخة واحدة بيد المعصوم عليه السلام؟! ويقدم لذلك جواباً عميقاً حين يقول: بأن الوعد بحفظ القرآن يمكن تحققه بالحفظ في قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم!! أليس الهدف من نزول القرآن الكريم يتطلب بيان الآيات الشريفة؟ فالمطلوب هو أن يحفظ القرآن النازل على النبىّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم في يد الناس حتى يمكنهم عبر الوصول إليه الوصول إلى العلم والتصديق والعمل بما جاء فيه وهل يتحقق هذا النوع من الهداية من خلال حفظ القرآن الكريم ولو بنسخة واحدة في يد المعصوم فيما يصبح القرآن المحرف هو المتداول في أيدي الناس؟! وفي هذه الحالة هل هناك من ضرورة لكل هذا التأكيدات الواردة في الآية الكريمة على كلّ هذه الأهمية والعظمة؟ وإذا كان الحال كما يقوله المحدث النوري من أنّ القرآن المحرف لا يسقط عن سمة الهداية ومقام الإرشاد بل يقوم ـ كما كان ـ بمهمة إيصال الناس إلى الهدف المنشود، فلماذا لا بدّ له أن يحفظ في قلب النبىّ؟ أليس قادراً ـ على تقدير تعرضه للتحريف في هذه المرحلة ـ على الهداية وتحقيق الغاية من أخذ يد البشر إلى طريق الغاية والهدف المقصود، ومن ثم فليس بحاجة إلى كلّ هذا الوعد الإلهي بالحفظ في قلبه صلّى الله عليه وآله وسلم. وعليه فإنّ الوعد بالحفظ الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى إنّما هو ليبقى هذا القرآن حجة على الناس أجمعين، وهو أمر لا يتسنى تحققه إلاّ عن طريق
ب: ناقش المحدث النوري الاستدلال بالآية الشريفة: (... وإنّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(2) على سلامة القرآن من التحريف بقوله:
"إنّ الحذف والتغيير والتبديل وإن كان باطلا لكن ليس المراد من الآية ذلك لأنّه: أولا: فلأن ظاهرها أنـّه لا يجوز أن يحصل فيه ما يستلزم بطلانه من تناقض في أحكامه أو كذب في إخباراته وقصصه [وأنـّه لا يعلو عليه شيء ولا يمكن نسخه أو إبطال محتواه]. ثانياً: فلأنّه منقوض بمنسوخ التلاوة والحكم أو التلاوة فقط بناء على مذهب الجمهور من وقوع القسمين في الآية. وثالثاً: يكفي في انتفاء الباطل عنه انتفاؤه عن ذلك الفرد المحفوظ عند أهل البيت عليهم السلام"(3).
|
وللرد على هذه المناقشات نقول:
أولا: إنّ سياق الآية مطلق، ولا يوجد أي قيد يخصص ذلك، وتخصيصها بهذا النوع من الصيانة والحفظ يحتاج إلى دليل، بل كيف يمكن مع وقوع كل هذا التغيير
____________
1 ـ انظر: سورة المائدة (5): الآية 48.
2 ـ سورة فصل (41): الآية 41 ـ 42.
3 ـ فصل الخطاب: ص 361 ـ 362.
بل نضيف للمحدث النوري قائلين: أليس عدم وجود مدخل إلى شبه المعاندين وما يستلزم بطلانه من التناقض في الأحكام أو الكذب في إخباراته وقصصه... أليس هذا أدل دليل على صيانته عن التحريف بإسقاط ألفاظه؟!
ثانياً: إن كان منسوخ التلاوة والحكم أو دون الحكم، باطلا ـ يعني إن الآيات التي نسخت تلاوتها ليست في الواقع آية قرآنية كما هو الحق ـ فالآن لا يوجد آيات منسوخة في القرآن فلم يدخل الباطل فيه، وإن كانت تلك الآيات آيات قرآنية في الواقع ووقع نسخها فهذا يحتاج إلى دليل، ولا دليل، بل إن الأدلة دالة على عدم كونها آيات قرآنية، وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث في هذه النقطة. وإن كانت تلك الآيات آيات قرآنية في الواقع ونسخت حقيقة فلا يدخل الباطل في القرآن، والشبهة منتفية موضوعاً.
ثالثاً: قلنا سابقاً إن حفظ نسخة كاملة من القرآن الكريم فقط عند أهل البيت عليهم السلام دون عامة الناس لا يلبي الغاية التي أنزل من أجلها القرآن.
2) تفنيد المناقشات في دلالة روايات العرض
قلنا إنّ المستفاد من أحاديث عرض الأخبار على القرآن، والتي وردت في كتب الفريقين متواترةً هو:
أولا: إنّ القرآن الكريم يمثل الميزان والمقياس الكلي والمطلق، وإذا كان القرآن ميزاناً فيجب أن يكون متواتراً مقطوعاً به، لا يدنسه التحريف; لأنّه المقياس
ثانياً: إن الروايات الدالة بظاهرها على التحريف ـ إذا لم يوجد لها تأويل صحيح ـ تتحول بنفسها عند عرضها على الكتاب إلى روايات ساقطة غير ممكنة القبول، ذلك أنها تشكل مصداقاً لما خالف القرآن فيجب طرحه.
والمحدث النوري وبعد اعترافه بتواتر تلك الأخبار عن النبىّ والأئمة عليهم السلام وإنّ العرض على المحرَّف المبدَّل لا وجه له وعلى المنزل المحفوظ لا يستطاع، قال:
"والجواب: إنّ ما ورد عن النبىّ صلى الله عليه وآله في ذلك فلا ينافي ما ورد في التغيير بعده وما جاء عنهم عليهم السلام فهو قرينة على أن الساقط لم يضر بالموجود وتمامه من المنزل للإعجاز، فلا مانع من العرض عليه، مضافاً إلى اختصاص ذلك بآيات الأحكام..."(1).
|
لكن مناقشات المحدث النوري هذه باطلة من حيثيات متعددة:
أولا: لماذا نقيِّد أحاديث النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال بما قبل وفاته؟ وما هو دليلنا على هذا التقييد؟ والحال أننا لو رجعنا إلى كلماته لوجدناها مطلقة في اعتبار القرآن الكريم معياراً وميزاناً يرجع إليه عند الفتن ويحتمى به عند الشبهات.
ثانياً: إن المحدث النوري يخالف مدلولات هذه الأخبار مخالفة صريحة، ذلك أنّ روح مناقشته في الحقيقة تؤول إلى أنّ القرآن لا بدّ له أن يكون محكوماً للأخبار بما فيها تلك الأخبار الدالة على وقوع التحريف فيه، ومن ثم فتحريف القرآن يصبح أمراً ثابتاً نتيجة قيام أخبار التحريف نفسها، ولأجل إدراك مقدار التحريف الحاصل لا بدّ لنا مجدداً من العودة إلى عرض القرآن الكريم على أخبار العرض،
____________
1 ـ فصل الخطاب: ص 363.
ثالثاً: ما هو الدليل الذي يجعل أخبار العرض محصورة في دائرة آيات الأحكام؟ والحال أن المعصومين عليهم السلام كانوا بصدد تقديم ضابطة كلية وعامة، كما أن تعبيراتهم في هذا المجال اتسمت بالإطلاق والشمولية.
النقطة الرابعة: نبذة من ردود الإمامية على كتاب "فصل الخطاب"
لقد انهمك علماء الإمامية وعقب تأليف المحدث النوري لكتابه "فصل الخطاب" بدراسات موسعة وشاملة تثبت سلامة القرآن من التحريف وتناقش الأفكار التي أثارها النوري وتبطل مقولة التحريف، وهي دراسات ما تزال متواصلة، نورد هنا بعضاً من منجزاتها من الكتب التي ألفت بهذا الصدد:
1 ـ كشف الارتياب في عدم تحريف كتاب ربّ الأرباب، تأليف محمود بن أبي القاسم، المشتهر بالمعرب الطهراني (ت / 1313 هـ.)، وقد كتبه رحمه الله في سنة 1303 أي بعد أقل من أربع سنوات على نشر كتاب فصل الخطاب.
2 ـ حفظ الكتاب الشريف على شبهة القول بالتحريف، تأليف هبة الدين السيد محمد حسين الشهرستاني (ت / 1315 هـ.).
3 ـ تنزيه التنزيل، تأليف علىّ رضا حكيم خسرواني، تأليف سنة 1371 هـ.
4 ـ الحجة على فصل الخطاب في إبطال القول بتحريف الكتاب، تأليف عبد الرحمن المحمدي الهيدجي، تأليف سنة 1372 هـ.
5 ـ البرهان على عدم تحريف القرآن، تأليف الميرزا مهدي البروجردي، تأليف سنة 1374 هـ.
6 ـ آلاء الرحيم في الردّ على تحريف القرآن، تأليف الميرزا عبد الرحيم المدرس الماهر الخياباني، تأليف سنة 1381 هـ.
7 ـ بحر الفوائد في شرح الفرائد (في ضمن بحث حجية ظواهر القرآن)، تأليف الميرزا محمد حسن الآشتياني (ت / 1319 هـ.).
8 ـ آلاء الرحمن في تفسير القرآن (مقدمة الكتاب)، تأليف الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي (ت / 1352 هـ.).
9 ـ البيان في تفسير القرآن (مقدمة الكتاب)، تأليف آية الله السيد أبو القاسم