"يحمل على التفسير، والمراد من "أسقط من القرآن" أي: أسقط من لفظه فلم تنزل الآية بهذا اللفظ، لا أنها كانت منزلة ثم اسقطت، وإلاّ فما مَنَعَ عمر وعبدالرحمن من الشهادة على أنّ الآية من القرآن وإثباتها فيه"(1).
|
وفي الفرقان:
"وقد ذهب بعضهم إلى أن أغلب ما وجد من الخلاف إنّما هو من وضع بعض كلمات بين الأسطر تفسيراً لما في المصحف فظنّها القارئ من جنس القرآن خطأً وليست من القرآن"(2).
|
ومن ذلك: ماورد عن زرّ بن حبيش، عن اُبيّ بن كعب، أنه قال له:
"كم تقرأ سورة الأعراف ـ كذا، والذي نقلنا سابقاً عن مصادرهم كم تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثاً وسبعين آية..." فقد قيل: "يحمل إنْ صحّ ـ لأنّ أهل النقل ضعفوا سنده ـ على أن تفسيرها كان يوازي سورة البقرة وإن في تفسيرها ذكر الرجم الذي وردت به السُّنة"(3).
|
2 ـ الحمل على السنّة:
وهذا وجه آخر اعتمد عليه بعض العلماء بالنسبة لعدد من الأحاديث:
ومن ذلك: قول أبي جعفر النحّاس وبعضهم في آية الرجم:
"إسناد الحديث صحيح، إلاّ أنـّه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة ولكنّها سُنّة ثابتة... وقد يقول الإنسان: "كنت أقرأ كذا" لغير القرآن، والدليل على هذا أنـّه قال: ولولا أنـّي أكره أن |
____________
1 ـ مقدمتان في علوم القرآن: ص 100.
2 ـ الفرقان: ص 110.
3 ـ مقدمتان في علوم القرآن: ص 83.
ومن ذلك: قول بعضهم حول آية: "لو كان لابن آدم...":
"إنّ هذا معروف في حديث النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، على أنـّه من كلام الرسول لا يحكيه عن ربّ العالمين في القرآن... ويؤيّده حديث روي عن العبّاس بن سهل، قال: سمعت ابن الزُّبير على المنبر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أنّ ابن آدم اُعطي واديان..."(2).
|
وهو قول العلاّمة الزبيدي حيث ذكره في كتابه في الأحاديث المتواترة وقال:
"الحديث الرابع والأربعون: "لو أنّ لابن آدم وادياً من ذهب لأحبَّ..." رواه من الصّحابة خمسة عشر نفساً..."(3).
|
ويؤيد هذا الحمل ما قد روى مسلم بعدة أسانيد، أنـّه من حديث الرسول(4)وهكذا في رواية أبي نعيم الأصبهاني(5).
3 ـ الحمل على الحديث القدسي:
وعليه حمل ابن قتيبة إذ قال:
"يجوز أن يكون أنزله وحياً إليه كما كان تنزل عليه أشياء من أمور الدين ولا يكون ذلك قرآناً... كقوله صلّى الله عليه وسلّم: يقول الله تعالى: إنّي خلقت عبادي جميعاً حنيفاً..."(6) |
____________
1 ـ الناسخ والمنسوخ: ص 8.
2 ـ مقدمتان في علوم القرآن: ص 85.
3 ـ المصدر السابق: ص 87 ـ 88.
4 - صحيح مسلم: ج 3، ص 100.
5 ـ حلية الاولياء: ج 3، ص 316.
6 ـ تأويل مختلف الحديث: ص 292.
"إنّ هذا من جنس ما كان نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأمر والنهي وغير ذلك على جهة التبليغ لا على جهة أنـّه قرآن يُتلى ويكتب في المصاحف; لأنّه لو كان من القرآن المتلوّ المكتوب في المصاحف لما بطل بأكل الداجن ولما سقط بالنسخ، والله عزّ وجلّ يقول: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون) وقال: (لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه)، ولو كان من القرآن لما اجتمع الناسخ والمنسوخ في آية واحدة بل كانت الآية الناسخة تتأخر عن المنسوخ كما لا يجوز أنْ يجتمع حكمان مختلفان في وقت واحد وحال واحدة. وكيف يجوز أن يكون قرآناً يُتلى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما أخبرت به عائشة رضي الله عنها ولا يحفظه واحد من الصحابة ولا كاتب الوحي الذي جمع القرآن في زمن أبي بكر وعثمان وهو زيد بن ثابت رضي الله عنهم، ولو كان من القرآن لما احتمل ما يذكرون حدوثه من السَّهو والإغفال والتفريط حتّى أكله الداجن أو سقط من المصحف مع شدة حرص الصّحابة رضي الله عنهم على جمعه وحفظه كما لم يحدث في غيره من الآي، يدل على أنـّه من جنس ما كان ينزل عليه على جهة التبليغ والرِّسالة لا على جهة أنـّه قرآن يتلى أو يكتب. ومن نحو هذا ما روي عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال حكاية عن ربّه عزّ وجلّ: "كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به" وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" وما نحوها، أخبار كثيرة... وقولها (أي عائشة) "كانت في صحيفة" تجوز أن تكون من السنة المكتوبة في |
الصحيفة لأنّهم كانوا يكتبون السنن في الصحيفة. ويحتمل ـ إن صحت هذه اللفظة ـ أن يكون من القرآن متأوَّلاً مفسّراً من حكمه لا متلواً من لفظه ونظمه ولولا أنه كذلك لما كانت الأمّة تجمع على إسقاط ما ضمّن الله"(1).
|
ويظهر ذلك ـ أي الحمل على الحديث القدسي أيضاً ـ من رواية أبي واقد اللَّيثي حيث قال:
"كنّا نأتي النبىَّ صلّى الله عليه وسلّم إذا انزل عليه، فيحدثنا فقال صلّى الله عليه وسلّم لنا ذات يوم: إنّ الله عزّ وجلّ قال: انا أنزلنا المال لإقام الصلوة وايتاء الزَّكاة ولو كان لابن آدم واد لأحبّ أن يكون إليه ثان..."(2).
|
وقال ابن حزم:
"قد قال قوم في آية الرجم: إنّها لم تكن قرآناً وفي آية الرضعات كذلك، ونحن لا نأبى هذا ولا نقطع أنـّها كانت قرآناً متلوّاً في الصلوات ولكنّا نقول: إنّها كانت وحياً أوحاه إلى نبيّه كما أوحى إليه من القرآن فقرئ المتلوّ مكتوباً في المصاحف والصلوات، وقرئ سائر الوحي منقولاً محفوظاً معمولاً به كسائر كلامه الذي هو وحي فقط"(3).
|
4 ـ الحمل على الدعاء:
وهذا ما قاله بعضهم في ما سمّي بسورة "الحفد" وسورة "الخلع" فقال:
____________
1 ـ المباني لنظم المعاني: المخطوط، الورقة 62، 63، 64 وعنه في: "مقدمتان في علوم القرآن": ص 85 ـ 86.
2 ـ مسند أحمد: ج 5، ص 219.
3 ـ الأحكام في أصول الأحكام: ج 1، ص 93 وعنه فتح المنان في نسخ القرآن: ص 226 ـ 227.
"وأمّا ما ذكر عن اُبي بن كعب انه عدّ دعاء القنوت: اللّهم انا نستعينك... سورة من القرآن، فانه ـ إن صحّ ذلك ـ كتبها في مصحفه لا على أنـّها من القرآن بل ليحفظها ولا ينساها احتياطاً، لأنّه سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وكان يقنت بها في صلاة الوتر..."(1).
|
5 ـ الحمل على الوضع أو الخطأ في الفهم:
قال الآلوسي فيما أخرج أبو عبيد في الفضائل وابن الانباري وابن مردويه، عن عائشة حيث قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مئتي آية، فلمّا كتب عثمان رضي الله عنه المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ماهو الآن:
"وهو ظاهر في الضياع من القرآن، ومقتضى ما سمعت أنـّه موضوع، والحق ان كل خبر ظاهره ضياع شيء من القرآن إمّا موضوع أو مؤوَّل"(2).
|
وقال الرافعي:
"ولا يتوهمن أحد أنّ نسبة بعض القول إلى الصحابة نصّ في أنّ ذلك المقول صحيح البتة; فإن الصحابة غير معصومين وقد جاءت روايات صحيحة بما أخطأ فيه بعضهم من فهم أشياء من القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك العهد هو ما هو. ثم بما ذَهَلَ عنه بعضهم مما تحدثوا من أحاديثه الشريفة فأخطأوا في فهم ما سمعوا..."(3).
|
____________
1 ـ مقدمتان في علوم القرآن: ص 75.
2 ـ روح المعاني: ج 12، ص 217.
3 ـ اعجاز القرآن: ص 44.
6 ـ القول بالتحريف:
وهو ظاهر قول أبي الحسن محمد بن أحمد المعروف بابن شنبوذ البغدادي (ت / 328 هـ.) قال:
"إنّ عثمان قد أسقط من القرآن خمسمائة حرف وإنّه والصحابة زادوا في القرآن ما ليس فيه... والمصحف الذي في أيدينا اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيرة"(1).
|
وأيضاً قول الشعراني حيث قال:
"ولولا ما يسبق للقلوب الضعيفة ووضع الحكمة في غير أهلها لبيّنت جميع ما سقط من مصحف عثمان"(2).
|
وفي القرن الأخير محمد الخطيب حيث ألّف كتاب الفرقان في سنة 1948 م. وحشاه بتلك الروايات وقد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب(3).
وعلى هذا قد تبيّن زلة أخرى من الدكتور القفاري حيث اتّهم محمّد مهدى الآصفي بأنّه كذب على علماء أهل السنة حيث قال:
"شذّ عن اجماع الفريقين على سلامة القرآن من التحريف بعض الشيعة وبعض أهل السنة"(4).
|
____________
1 ـ انظر: تفسير القرطبي: ج 1، ص 45 وتاريخ بغداد: ج 1، ص 280 والمرشد الوجيز: ص 186 وسيأتي تفصيل البحث عنه في المقام الثاني مبحث "بداية هذا الافتراء كما تقوله مصادر أهل السنة".
2 ـ الكبريت الاحمر المطبوع بهامش اليواقيت والجواهر: ج 1، ص 143 والشعراني هو الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني (ت 973 هـ.)، من فقهاء الحنفية له مؤلفات كثيرة في الحديث والمواعظ وغيرها من العلوم. انظر: شذرات الذهب: ج 8، ص 372 وغيرها.
3 ـ انظر مقال الأستاذ محمد المديني عميد كلية الشريعة في الجامع الأزهر، مجلة رسالة الإسلام، العدد الرابع من السنة الحادية عشرة: ص 382 و383.
4 ـ أصول مذهب الشيعة: ص 216.
ولكن المحصل من آراء الكثير من علماء أهل السنة هو اعتبار هذه الرّوايات صحيحة وأن الآيات المذكورة فيها نسخت وسمّوا ذلك "نسخ التلاوة دون الحكم أو مع الحكم" وإليك تفصيلها:
دراسة في نسخ التلاوة
استدلّ بعض علماء أهل السنة بوجود آيات منسوخة التلاوة على وجه العموم بآيتين كريمتين:
أ ـ آية (ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها)(1).
فيكون المعنى ـ على حدّ زعمهم ـ ما ننسخ من آية من آيات القرآن أو نمحها من الأَذهان، نأت بآيات قرآنية خير منها أو مثلها.
ب ـ آية (وإذا بدّلنا آية مكان آية...)(2).
فيكون المعنى فيها أيضاً: إذا بدّلنا آية من آيات سور القرآن مكان آية أخرى.
وقد استشهد علماء السنة بالآيتين(3) وأوردوا في تفسيرهما الرّوايات السابقة
____________
1 ـ البقرة (2): الآية 106.
2 ـ سورة النحل (16): الآية 101.
3 ـ بعض العلماء اعتقدوا أنّ هاتين الآيتين لا تدلان على نسخ التلاوة اطلاقاً وذلك لامور، نلخص جملة منها:
فأوّلاً: ان لفظ "آية" في قوله تعالى (ما ننسخ من آية...) إذا ورد في القرآن الكريم بصيغة المفرد فانه يراد به الأمر العظيم الخارق للعادة لا الفقرة القرآنية.
ثانياً: ولو سُلِّمَ، ان قوله تعالى (ما ننسخ من آية...) قد ورد في مقام التعريض باهل الكتاب والمشركين فلابد وان يراد به نسخ ما ورد في الشرايع السابقة لاجل هذه القرينة السياقية. فانظر إلى سياق الآيات فانها كما يلي: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها الم تعلم ان الله على كل شيء قدير * الم تعلم ان الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير * ام تريدون ان تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل و...).
فمع وجود هذه القرائن التي قبل الآية وبعدها نعلم ان المقصود من الآية هاهنا هو تبديل استقبال بيت المقدس في الصلاة بحكم استقبال الكعبة فيها، ومن ثمّ ندرك انّ المقصود من تبديل آية مكان آية في قوله تعالى: (وإذا بدّلنا آية مكان آية...)تبديل حكم استقبال بيت المقدس في الصلاة بحكم استقبال الكعبة فيها، أو نظائره.
فانظر "القرآن الكريم وروايات المدرستين": ج 2، ص 351 وما بعدها و"حقائق هامة حول القرآن الكريم": ص 314.
فقال ابن حزم:
"فأمّا قول من لا يرى الرجم أصلاً فقول مرغوب عنه، لأنّه خلاف الثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان نزل به القرآن ولكنه نسخ لفظه وبقي حكمه"(2).
|
وعلى ذلك حمل "أبو شامة" وكذا "الطحاوي" فقال:
"لكنّ عمر لم يقف على النسخ فقال ما قال ووقف على ذلك غيره من الأصحاب"(3).
|
وقال السيوطي:
"وأمثلة هذا الضرب كثيرة".
|
ثمَّ حمل قول ابن عمر: "لا يقولَنَّ أحدكم قد أخذت القرآن كلَّه... قد ذهب منه قرآن كثير...". وكذلك ما روي عن عائشة في شأن سورة الأحزاب(4).
وفي "المحلّى" بعد أن روى قول اُبي بن كعب في عدد آيات ـ مزعومة من ـ سورة الأحزاب قال:
"هذا اسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه... ولو لم ينسخ لفظها |
____________
1 ـ أورد "الطبري" بتفسير آية (ما ننسخ...) قليلاً منها: ج 1، ص 378 ـ 383 و"السيوطي" كثيراً منها في "الدرّ المنثور": ج 1، ص 104 ـ 106.
2 ـ المحلى: ج 11، ص 234.
3 ـ المرشد الوجيز: ص 42.
4 ـ الاتقان في علوم القرآن: ج 2، ص 81.
لأقرأها أُبي بن كعب زِرّاً بلا شك ولكنّه أخبره بأنّها كانت تعدل سورة البقرة ولم يقل له: إنّها تعدل الآن; فصح نسخ لفظها"(1).
|
وقال "الآلوسي":
"اُسقط زمن الصديق ما لم يتواتر وما نسخت تلاوته وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة..." |
ثمّ ذكر طائفة من الآثار الدّالة على نقصان القرآن عن كتبهم وقال:
"ومثله كثير وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر أنـّه قال: "لا يقولَنَّ أحدُكم..." والرّوايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى إلاّ أنـّها محمولة على ما ذكرنا"(2).
|
ووافق "الزرقاني" على حمل هذه الأحاديث على النسخ لورود ذلك في الأحاديث(3)، وكذا ذكر غيرهم.
وقد عدّ الدكتور القفاري أيضاً كل هذه الطوائف من الرّوايات من باب "القراءة الواردة" أو "منسوخ التلاوة" تبعاً لغيره، ودافع عن هذه النظرية بشدّة قائلاً:
"إنّ تلك الآثار كان قرآناً ثمّ رفع في حياة الرسول والوحي ينزل، ولهذا وضعت من باب النسخ من مباحث علوم القرآن عند أهل السنة..."(4).
|
ونسب هذا النسخ إلى الله تعالى ودافع عنه وقد أصرّ على أن نظر السيد الخوئي رحمه الله تعالى في ردّ هذه النظرية يوصد باب نسخ التلاوة الذي هو بمثابة القاعدة
____________
1 ـ المحلى: ج 11، ص 234.
2 ـ روح المعاني: ج 1، ص 45.
3 ـ مناهل العرفان: ج 2، ص 225.
4 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1019. أورد الدكتور القفاري مزعومة نسخ التلاوة في مواضع عديدة من كتابه انظر: ص 1031، 1052 و...
"... وكأنّه أراد [السيد الخوئي] ان يوصد هذا الباب ويرد هذه القاعدة الثابتة [أي نسخ التلاوة] ليثبت بطريق ملتو عقيدة في نفسه يكاد يخفيها..."(1).
|
وأخيراً فإن الدكتور القفاري يجعل من نظرية نسخ التلاوة أمراً مشتركاً بين الفريقين(2)، مع أنـّه لا يخفى أنّ من يقول بنسخ التلاوة في آيات القرآن لا يحتاج إلى التواتر في اثبات آيات الوحي(3)، أو التواتر في نسخها; لأنّا نرى أنّ من روى تلك الآيات المزعومة هم ثلة قليلة لا تبلغ حد التواتر كـ "عائشة"، "عمر بن الخطاب"، "عبد الله بن عمر"، "اُبي بن كعب" و"أبو موسى الأشعري" ولو كانت متواترة لكثر الراوون لها، بل انهم قرأوا تلك الآيات المزعومة ولا يعلمون أنـّها منسوخة(4) ومع ذلك يعتبر أكثر علماء أهل السنة أنها من آيات الوحي أولاً ونسخها ثانياً.
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 247 ـ 248 وج 3، ص 1053، وقد تقدم نص كلام الدكتور القفاري بتمامه.
2 ـ هذا جهل أو تجاهل وسيأتي في المقام الثاني ان شاء الله تعالى نص عبارات علماء الإمامية وهم يقولون بامكان نسخ التلاوة في عالم الامكان والثبوت في ردّ من أنكر وقال انه محال ذاتاً ـ وهو شاذ من المعتزلة ـ لا في عالم الوقوع والاثبات إلاّ في آية الرجم ولا يخفى على ذي حجىً البون الشاسع بين مقام الثبوت ومقام الاثبات.
3 ـ وان كانوا يقولون: "لا خلاف ان كل ما هو من القرآن يجب ان يكون متواتراً في اصله واجزائه، واما في محله ووضعه وترتيبه فكذلك عند محققي أهل السنة للقطع بان العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله." الاتقان: ج 1، ص 77 ـ 78.
4 ـ كما صرح به الآلوسي وقال: "... اسقط زمن الصديق ما لم يتواتر... وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ..." روح المعاني: ج 1، ص 45.
هل نسخ التلاوة واقع أم خيال؟
نأتي هنا إلى بحث الجانب التطبيقي لنظرية "نسخ التلاوة"، يعني أننا لو فرضنا أن هذه الأنواع الثلاثة من النسخ ممكنة ثبوتاً، وأيضاً على فرض أن هاتين الآيتين (ما ننسخ من آية أو ننسها...) و(وإذا بدلنا آية مكان آية) ناظرتان إلى نسخ التلاوة، مع هذه الفرضيات نقول: إنّ هذه الرّوايات التي تتحدث عن نقصان القرآن هل يمكن أن يشملها نسخ التلاوة أم أنها في مقام التطبيق تواجه اشكالات كثيرة جداً؟ وهنا لسنا بحاجة إلى أدلة علماء الإمامية، في ردّهم على تلك النظرية، بل يكفي الاعتماد على أدلّة جماعة من متقدمي أهل السنّة ومتأخريهم في ردّهم لتلك النظرية ـ نسخ التلاوة ـ في مقام التطبيق.
وأدلتهم تلك تنقسم الى أقسام ثلاثة:
1 ـ إنّ هذه الرّوايات أخبار آحاد ومن البديهي أنه لا يمكن اثبات آية قرآنية أو إثبات نسخها اعتماداً على خبر الواحد:
قال الزركشي في مورد آية الرضاع المزعومة:
"حكى القاضي أبو بكر (ت 403) في "الانتصار" عن قوم إنكار هذا الضرب لأنّ الأخبار فيه أخبار آحاد ولا يجوز القطع على انزال القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها"(1).
|
وقد ردّ "أبو جعفر النحّاس" (ت 338) منسوخ التلاوة دون الحكم بقوة وأورد في جملة كلامه حديث الرجم عن عمر بن الخطاب وقال:
"واسناده صحيح إلاّ أنه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله جماعة عن الجماعة ولكنّه سنة ثابتة..."(2).
|
____________
1 ـ البرهان في علوم القرآن: ج 2، ص 39 ـ 40 وأيضاً حكى عنه الاتقان في علوم القرآن: ج 2، ص 85.
2 ـ الناسخ والمنسوخ: ص 10 ـ 11.
"خبر الواحد لا يثبت القرآن وقد صرّحوا ـ أي العلماء ـ بعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ونسبه "القطّان" إلى الجمهور"(1).
|
وقال الشوكاني:
"لقد اختلف في المنقول آحاداً هل هو قرآن أم لا، فقيل: ليس بقرآن لأنّ القرآن ما تتوفر الدواعي على نقله... فما لم يتواتر فليس بقرآن(2). وقال في موضع آخر: منع قوم من نسخ اللّفظ مع بقاء الحكم وبه جزم "شمس الدين السرخسي" لأنّ الحكم لا يثبت بدون دليل"(3).
|
وقال ابن الجزري:
"... فما عدا مصحف عثمان ـ وهو المصحف الموجود ـ لا يقطع عليه وإنّما يجري مجرى الآحاد"(4).
|
وهكذا غيرهم من العلماء(5).
ومن المعاصرين "رشيد رضا"(6) و"صبحي الصالح" و"الرافعي"(7) و"مصطفى زيد"(8) وغيرهم حيث أنكروا نظرية نسخ التلاوة، فقال صبحي الصالح:
"والولوع باكتشاف النسخ في آيات الكتاب أوقع القوم في أخطاء |
____________
1 ـ عن "صبحي الصالح" مباحث في علوم القرآن: ص 265.
2 ـ ارشاد الفحول: ص 30.
3 ـ المصدر السابق: ص 180 ـ 190.
4 ـ النشر في القراءات العشر: ص 32.
5 ـ انظر: الموافقات للشاطبي: ج 3، ص 105 ـ 106، البرهان للزركشي: ج 2، ص 35 وما بعدها ونواسخ القرآن لابن الجوزي: ص 8.
6 ـ المنار: ج 1، ص 413 ـ 415.
7 ـ اعجاز القرآن: ص 44.
8 ـ النسخ في القرآن الكريم: ج 1، ص 283.
منهجية كان خليقاً بهم أن يتجنبوها لئلاّ يحملها الجاهلون حملاً على كتاب الله... لم يكن خفياً على أحد منهم أنّ الآية القرآنية لا تثبت إلاّ بالتواتر، وأنّ أخبار الآحاد ظنية لا قطعية وجعلوا النسخ في القرآن ـ مع ذلك ـ على ثلاثة أضرب: نسخ الحكم دون التلاوة، نسخ التلاوة دون الحكم ونسخ الحكم والتلاوة جميعاً... ففي الضربين الثاني والثالث اللّذين نسخت فيهما بزعمهما تلاوة آيات معينة أمّا مع نسخ أحكامها وأمّا دون نسخ أحكامها والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأ مركّباً وجميع ما ذكروه منها أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على انزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها..."(1).
|
وفي تفسير "المنار":
"ان عائشة نقلت آية خمس رضعات معلومات يحرمن نقل قرآن لا نقل حديث... [لكن] لو صحّ أن ذلك قرآناً يتلى لما بقي علمه خاصاً بعائشة بل كانت الرّوايات تكثر فيه ويعمل به جماهير الناس ويحكم به الخلفاء الراشدون وكل ذلك لم يكن..."(2).
|
2 ـ نصوص الآيات المزعومة لا تتفق مع سنخ آيات القرآن:
من البديهي أنّ الآيات التي أُوردت بعنوان "منسوخ التلاوة" يجب ان تتوافق مع بقية الآيات القرآنية من حيث الاُسلوب والفصاحة والبلاغة في حدّ الإعجاز، فإن الآيات المزعومة طبقاً لهذه النظرية كانت ممّا نزل من الله تعالى في الأصل، لكنّها نسخت بعد ذلك، ولكن لو نظر إليها أيّ شخص له أدنى معرفة بآيات القرآن
____________
1 ـ مباحث في علوم القرآن: ص 265 ـ 266.
2 ـ المنار: ج 4، ص 471 ـ 474.
قال في الفرقان:
"... ومن ذلك أيضاً ما يدّعونه من نسخ تلاوة "إنا أنزلنا المال لاقام الصلوة وإيتاء الزكاة ولو أنّ لابن آدم وادياً لأحبّ..." ونسخ تلاوة "وان الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم" ونسخ تلاوة "يا أيّها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم..." وكثير غير هذا يضيق المقام عن ذكره ويعلم العقلاء انه ليس بكلام الخالق تعالى وليست له طلاوة وليست به حلاوة وعذوبة وليست عليه بهجة بل ويتبرأ من ركاكته المخلوقون فكيف برب العالمين"(2).
|
وقال "صبحي صالح":
"ومما يدل على اضطراب الرواية، أنّ في صحيح ابن حبان ما يفيد أن هذه الآية التي زعموا نسخ تلاوتها كانت في سورة الأحزاب لا في سورة النور..."(3).
|
وأخيراً قال "العلامة البلاغي" من علماء الإمامية:
"هب ان المعرفة والصدق لا يطلبان المحدثين "ولا نقول القصاص" ولا يسألانهم عن هذا الاضطراب الفاحش فيما يزعمون انه من |
____________
1 ـ سورة النساء (4): الآية 64.
2 ـ الفرقان: ص 157 ـ 158.
3 ـ مباحث في علوم القرآن: ص 266.