الفرية بدأت من كتاب سليم بن قيس..."(1).
|
ومراد الدكتور القفاري من بدء فرية التّحريف واثر الأيدي السبئية في كتاب سليم بن قيس، خبر مصحف الإمام علي عليه السلام فيه. حيث قال:
"وأول كتاب تعرض لهذه الفرية هو كتاب سليم بن قيس حيث نجد الصورة لهذه الفرية في بدايتها فترد هذه المسألة في أثناء روايتين... وفيها "إنّ عليّاً لزم بيته حتى جمع القرآن وكان في الصحف والرقاع"(2).
|
وبالتالي فإنّ الدكتور القفاري حكم من خلال هاتين الروايتين على مصحف الإمام علي عليه السلام بهذا الحكم:
"وقد سجلت هذه المقالة ـ أي مقالة تحريف القرآن ـ في أول كتاب ظهر لهم... وهو كتاب سليم بن قيس"(3).
|
ونكتفي بهذا المقدار من الكلام لأن نذعن بأنّ مصحف الإمام علي عليه السلام برأي الدكتور القفاري ـ وغيره(4) ـ يكتسب أهمية كبرى، فإنّ هذا المصحف سراب ويعتبرونه في الأصل من أفكار "عبد الله بن سبأ"، ومجرّد وجود خبر هذا المصحف ـ بقطع النظر عن محتواه ـ يشير إلى نقطة الصفر في تحريف القرآن في عقيدة الشيعة، وخبر هذا المصحف يعتبر مبرراً للحملة الشرسة التي قام بها الدكتور
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 229.
2 ـ المصدر السابق: ص 235 ـ 236.
3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1281. كما ذكر سابقاً فان الدكتور القفاري يعد خبر مصحف الإمام علي عليه السلام أحد الاكتشافات الكبيرة في عالم التحقيق ويعتبره نقطة بداية تحريف القرآن في عقيدة الشيعة!!
4 ـ انظر: "الوشيعة في نقد عقائد الشيعة": ص 112 و"الثورة الايرانية في ميزان الإسلام": ص 200 و"الشيعة الاثنا عشرية وتحريف القرآن": ص 50 و...
ونحن هنا نرى أنّ من واجبنا البحث حول هذا المصحف وذلك من خلال ثلاث مسائل:
المسألة الاُولى: البحث عن مصحف الإمام علي عليه السلام في مصادر الفريقين.
المسألة الثانية: البحث عن محتوى هذا المصحف ومضمونه.
المسألة الثالثة: دراسة الشبهات والمناقشات التي أثارها الدكتور القفاري في هذا المقام ونقدها.
المسألة الاولى: مصحف الإمام علي عليه السلام في مصادر الفريقين:
إنّ وجود هذا المصحف من الامور الثابتة المتفق عليها بين الفريقين، وهنا نشير إلى بعض مصادر الفريقين:
مصحف الإمام علىّ في مصادر الشيعة:
1 ـ كتاب سليم بن قيس (سليم بن قيس الهلالي ت 76 هـ.): في هذا الكتاب ذكرت مسألة مصحف الإمام علي عليه السلام ضمن ثلاث روايات; هي الرابعة، والحادية عشرة والثانية عشرة. وقد فصّلت الرواية الرابعة القول في هذا المصحف(1).
2 ـ كتاب التفسير (المعروف بتفسير العيّاشي) لمحمد بن مسعود العيّاشي (المتوفى نحو 320 هـ.)(2).
3 ـ الكافي لثقة الإسلام أبي جعفر الكليني (ت 329 هـ.)(3)
____________
1 ـ كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 581 ـ 582 و660 و665.
2 ـ كتاب التفسير: ج 2، ص 307.
3 ـ الكافي، كتاب فضل القرآن: ج 2، ص 633، الرقم 29.
5 ـ مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب (ت 588 هـ.).
وقد نقل ابن شهرآشوب خبر مصحف الإمام علي عليه السلام من طرق الفريقين، فمن طرق الشيعة نقله عن أبي رافع، ومن طرق أهل السنة عن قول "الشيرازي"(2) في كتابه "نزول القرآن" و"أبي يوسف يعقوب"(3) في تفسيره، باسنادهما عن "ابن عباس" وعن "الخطيب البغدادي" في كتابه "الأربعين" باسناده عن عبد خير وأيضاً بسنده عن "أبي العلاء العطار"(4) و"الموفق خطيب خوارزم"(5) باسنادهما عن "علي بن رباح"(6).
والقدر المتيقن من تلك الرّوايات في جميع هذه المصادر هو: أنه "لمّا توفي النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لزم الإمام علي عليه السلام بيته وجمع القرآن في مصحف".
____________
1 ـ الاعتقادات: ص 81.
2 ـ الشيرازي: هو "محمّد بن عبيد الله أبو بكر بن مؤمن" من مشايخ الحاكم الحسكاني مع الواسطة، فالحسكاني فى كتابه "شواهد التنزيل" قد أورد منه عشرات الرّوايات، انظر: أهل البيت في المكتبة العربية: لعبد العزيز الطباطبائي: ص 451.
3 ـ وهو "يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي" من اكابر علماء الحديث والرجال. انظر: تهذيب التهذيب: ج 11، ص 338 وشذرات الذهب: ج 2، ص 171.
4 - وهو "محمّد بن سهل العطار الهمداني" محدث، حافظ، نحوي، لغوي من آثاره "زاد المسافر". انظر: تذكرة الحفاظ: ج 4، ص 114 - 117.
5 ـ "الموفق بن أحمد بن محمّد المكي، خطيب خوارزم" اديب، فاضل، غزير العلم فقيه... انظر: انباه الرواة على أنباه النحاة، للقفطي: ج 3، ص 332 رقم الترجمة 779 وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي: ج 2، ص 308.
6 ـ مناقب آل أبي طالب: ج 2، ص 50 ـ 51. من علماء الإمامية: كمولى محسن الفيض الكاشاني في كتابه "تفسير الصافي": ج 1، ص 24 والمحدث القمي في "سفينة البحار": ج 2، ص 414 و... ممن ذكروا مصحف الإمام علي عليه السلام قد اخذوا عن المصادر المذكورة.
مصحف الإمام علىّ في مصادر أهل السنة:
1 ـ الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد (ت 230 هـ.) فقد أخرج ابن سعد بسنده عن "محمّد بن سيرين":
"نبئت أنّ عليّاً أبطأ عن بيعة أبي بكر وقال... آليت بيمين أن لا أرتدي بردائي إلاّ إلى الصلاة حتّى أجمع القرآن"(1).
|
2 ـ الفضائل، لمحمد بن أيوب بن الضريس (ت 294) بسنده عن "محمّد بن سيرين" عن "عكرمة مولى ابن عبّاس" عن [الإمام] علي [عليه السلام] قال:
"فحدّثت نفسي أن لا أرتدي ردائي إلاّ لصلاة حتّى أجمع القرآن..."(2).
|
3 ـ كتاب المصاحف، لابن أبي داود (ت 316) إذ أورد مثل ما أورده "ابن الضريس" وأضاف:
"لمّا توفي النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أقسم علىّ أن لا يرتدي برداء إلاّ لجُمُعة حتّى يجمع القرآن في مصحف ففعل"(3).
|
وبمضمونه في:
4 ـ كتاب الفهرست للنديم، عن أحمد بن جعفر بن محمّد المنادي (المعروف بابن المنادي ت 332 هـ.)(4).
5 ـ المصاحف لمحمد بن عبد الله بن أشته (ت 360)(5).
6 ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الإصبهاني (ت 430 هـ.) بسنده
____________
1 ـ الطبقات الكبرى: ج 2، ص 338.
2 ـ عن الاتقان: ج 1، ص 58.
3 ـ كتاب المصاحف: ص 16.
4 ـ كتاب الفهرست: ص 31 ـ 32.
5 ـ عن الاتقان: ج 1، ص 58.
7 ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البرّ (ت 463 هـ.) بسنده عن "محمّد بن سيرين" وأيضاً عن "عكرمة مولى ابن عباس"(2).
8 ـ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني من أعلام القرن الخامس، فقد ذكر خبر المصحف بأسانيد متعددة(3).
9 ـ مفاتيح الأسرار ومصابيح الأنوار، لعبد الكريم الشهرستاني (ت 548 هـ.) وقد ذكر هذه المسألة بتفصيل أكثر من بين علماء أهل السنة فقال:
"وهو عليه السلام لمّا فرغ من تجهيز رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وتغسيله وتكفينه والصلوة عليه ودفنه، آلى أن لا يرتدي برداء إلاّ لجمعة حتى يجمع القرآن، إذ كان مأموراً بذلك أمراً جزماً فجمعه كما اُنزل من غير تحريف وتبديل وزيادة ونقصان وقد كان أشار النبىّ صلّى الله عليه وآله إلى مواضع الترتيب والوضع والتقديم والتأخير... ويروى أنـّه لمّا فرغ من جمعه أخرجه هو وغلامه قنبر إلى النّاس وهم في المسجد... وقال لهم هذا كتاب الله كما أنزله على محمّد صلّى الله عليه وسلّم جمعته بين اللّوحين فقالوا: ارفع مصحفك لا حاجة بنا إليه، فقال والله لا ترونه بعد هذا أبداً إنّما كان عَلَيَّ أن اُخبركم حين جمعته. فرجع به إلى بيته قائلاً (يا ربِّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً)(4) وتركهم على ما هم عليه كما ترك هارون عليه السلام قوم |
____________
1 ـ حلية الاولياء وطبقات الاصفياء: ج 1، ص 67.
2 ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب: القسم الثالث، ص 974.
3 ـ شواهد التنزيل: ج 1، ص 36 ـ 38.
4 ـ سورة الفرقان (25): الآية 30.
أخيه موسى بعد إلقاء الحجَّة عليهم واعتذر لأخيه بقوله: (إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي)..."(1).
|
9 ـ المناقب، لخطيب خوارزم (ت 568 هـ.)(2).
10 ـ التسهيل في علوم التنزيل، لابن جزي الكلبي (ت 741 هـ.)(3).
وغيرهم من العلماء.
فكثرة المصادر في هذا المقام تحكي لنا عن اهتمام علماء الإسلام بهذا المصحف واتفاقهم على وجوده.
فعلى هذا لو بنينا على قول الدكتور القفاري بأن مجرّد وجود خبر مصحف الإمام علي عليه السلام في كتاب يحكي عن وجود "الأيدي السبئية" في هذا الكتاب، وأن خبر المصحف يدلّ على وجود "التّحريف في القرآن"، فإنّ قصّة الأيدي السبئية قد ذكرتها جميع المصادر المتقدّمة لأنّها تكلّمت عن المصحف ولأنهم قد تكلّموا عن هذا المصحف لتحقق لنا أنهم يعتقدون بفرية التّحريف لا محالة!!
مع أننا لا نحتاج إلى بحث سند هذه الرّوايات لنصدر هذه الأحكام بالضبط كما أصدرها الدكتور القفاري جزافاً لأنّ الدكتور نفسه صرّح بأنَّ "أبان بن أبي عيّاش" راوي كتاب سليم بن قيس ضعيف باتفاق علماء رجال الفريقين، ومع هذا ترى الدكتور القفاري يقول:
____________
1 ـ مفاتيح الأسرار ومصابيح الابرار: ج 1، ص 121، والشهرستاني هو "أبو الفتح محمّد بن أبي القاسم عبد الكريم الشهرستاني" الفيلسوف المتكلم على مذهب الاشعري من كتبه "الملل والنحل" وقد كتب عنه "ابن السمعاني" وأشاد بذكره وعظم صيته... انظر: مقدمة كتاب "الملل والنحل" لمحققه الشيخ أحمد فهمي محمّد، ص (ل).
2 ـ المناقب: ص 94.
3 ـ التسهيل في علوم التنزيل: ج 1، ص 4 نقلاً عن علوم القرآن عند المفسرين: ج 1، ص 351.
"وهذه الوقفة عند كتاب سليم بن قيس أرى أنها ضرورية لمحاولة اكتشاف الأيدي السبئية التي افترت هذه الفرية، إذ إنّنا نلاحظ أنّ الفرية بدأت من كتاب سليم بن قيس فترد هذه المسألة في اثناء روايتين... وفيها "أنّ عليّاً [عليه السلام] لزم بيته حتّى جمع القرآن..."(1).
|
دراسة في أسانيد خبر مصحف الإمام علىّ في مصادر أهل السنة:
ونحن نريد هنا أن نبحث في اسناد هذا المصحف من وجهة نظر علمية في كتب أهل السنّة من حيث صحّته واستفاضته، ذلك أن بعضاً من علماء أهل السنّة ناقش في إسناد هذا الخبر ومن جملتهم ابن أبي داود حينما أورد الخبر بسنده عن محمّد بن فضيل عن أشعث عن محمّد بن سيرين قال:
"لمّا توفي النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أقسم عليّ أن لا يرتدي برداء إلاّ لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ففعل"(2).
|
ثم قال:
"لم يذكر المصحف أحد إلاّ أشعث وهو ليّن الحديث وإنّما رووا حتّى أجمع القرآن يعني أتمّ حفظه فإنّه يقال للذي يحفظ القرآن قد جمع القرآن"(3).
|
فعلى هذا يكون خبر مصحف الإمام علي عليه السلام مخدوشاً عند ابن أبي داود من عدّة جهات:
أ: لم يذكر المصحف أحد إلاّ أشعث.
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 229.
2 ـ كتاب المصاحف: ص 16.
3 ـ المصدر السابق.
ج: جمع القرآن يعني أتم حفظه لا بمعنى جمعه في مصحف.
لكنّ كلّ مناقشاته لا تتم. وإليك تفصيل ذلك:
أ: إنّ ما قاله ابن أبي داود من أنه "لم يذكر أحد إلاّ أشعث" خطأ منه لأنّ من روى الخبر ليس أشعثاً فقط، بل هو كما قال السيوطي:
"قد ورد من طرق أخرى، أخرجه ابن الضريس في فضائله بسنده عن عون عن محمّد بن سيرين عن عكرمة عن علي "... فحدثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلاّ لصلاة حتى أجمعه..." قال محمّد بن سيرين: فقلت لعكرمة الّفه كما انزل الأوّل فالأول، قال: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلّفوه هذا التأليف ما استطاعوا"(1).
|
وقال أيضاً:
"واخرجه ابن أشته في المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين وفيه أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ وابن سيرين قال: "تطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه"(2).
|
ب: وأمّا قوله بأنّ "أشعث" ليّن الحديث:
فإنّ "الأشعث" في سند أبي داود بقرينة الراوي ـ وهو محمّد بن فضيل ـ والمروي عنه ـ وهو محمّد بن سيرين ـ هو "الأشعث بن سوّار الكنديّ النجّار" وتضعيفه ليس مورد اتفاق الجميع، فإنّ يحيى بن معين عدّه من الثقات، وكذا العجلي وابن شاهين والبزّاز أيضاً قَبِلَ قول ابن عدي في حقِّ الأشعث إذ يقول:
____________
1 ـ الاتقان: ج 1، ص 58.
2 ـ المصدر السابق.
"وفي الجملة يكتب حديثه"(1).
|
ج: وأمّا قوله أجمع القرآن يعني أتمّ حفظه، وإنّما رووا حتى أجمع القرآن يعني أتمّ حفظه الخ فهذا منه ادّعاء خال من الدليل بل هو مجازفة; ذلك لانّه لم ترد رواية بهذا التعبير، بل فيما نحن فيه لا يجوز جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدر كما سنتكلم عنه.
هذا وقد قال ابن حجر في المقام:
"ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق ابن سيرين قال: "قال علي: لمّا مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، آليت أن لا آخذ علىَّ ردائي إلاّ لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن، فجمعه" فاسناده ضعيف لانقطاعه وعلى تقدير أن يكون محفوظاً فمراده بجمعه حفظه في صدره والذي وقع في بعض طرقه حتّى جمعته بين اللّوحين، وَهم من راويه."(2) |
وقد أورد العيني في عمدة القاري نفس مضمون عبارة ابن حجر(3).
والآلوسي لم يتأخّر عن قافلة العلماء في اقوالهم تلك، إذ تبع ابن حجر بقوله:
"وما شاع أنّ عليّاً كرّم الله وجهه لمّا توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخلّف لجمعه، فبعض طرقه ضعيف(4) وبعضها موضوع(5) وما |
____________
1 ـ تهذيب الكمال في أسماء الرجال: ج 3، ص 269. وقال الدكتور بشار في تعليقه على الكتاب: "يظهر ان الرجل لم يكن ضعيفاً بالمرة بل اختلفت الاقوال فيه فانه لا يحسن اطلاق صفة الضعف عليه" ثم استند إلى أقوال علماء الرجال.
2 ـ فتح الباري بشرح البخاري: ج 9، ص 12 ـ 13.
3 ـ عمدة القاري (شرح صحيح البخاري): ج 20، ص 17.
4 ـ وهو ما اخرجه أبو داود من طريق ابن سيرين. منه.
5 - وهو ما اخرجه غير واحد من رواية أبي حيان التوحيدي، احد زنادقة الدنيا. منه.
صحّ(1) فمحمول كما قيل على الجمع في الصدور وقيل كان جمعاً بصورة أخرى لغرض آخر ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ لكتاب علم"(2).
|
وبالتالي فانّ الدكتور القفاري قد ألقى بنفسه في ذلك الخضم فقال:
"مثل هذه الدعوى ـ أي تأليف القرآن وجمعه من الإمام علي عليه السلام ـ وردت في بعض كتب أهل السنة ولكنّها لم تثبت بسند صحيح". ثم وضع يده بيد ابن حجر مستنداً إلى قوله الموهوم بأنّ المصحف من نسج الخيال(3).
|
وبناء على هذا فإنّ وجود مثل هذا المصحف في نظر ابن حجر والآخرين أمر غير مقبول للأدلة الآتية:
أ: إنّ سند الرّوايات الواردة حول مصحف الإمام علي عليه السلام ضعيف لانقطاعها.
ب: وعلى تقدير أن يكون الاسناد محفوظاً فقول الإمام علي عليه السلام، "حتى أجمع القرآن" يعني حفظه في صدره.
ج: الذي وقع في بعض طرقه بقوله عليه السلام "حتى جمعته بين اللّوحين" وَهم من راويه.
وإليك ما في هذه الإيرادات من الوهن والضعف:
فأمّا الاشكال الأوّل: فان انقطاع السند بـ "محمّد بن سيرين" ـ الذي هو من
____________
1 ـ كرواية أبي الضريس في فضائل علي [عليه السلام]. منه.
2 ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: ص 41.
3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 236.
وقد سأل عكرمة عن خصوصيات المصحف. وفي رواية أخرى حول بحثه عن ذلك المصحف يقول:
"تطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه"(5).
|
والاشكال الثاني لابن حجر سببه حذف بعض الرواية الواردة ثمّ إيراد الاشكال وهو ما لا يتفق والأمانة العلمية، فان رواية ابن أبي داود هكذا: "... أقسم عليّ [عليه السلام] أن لا يرتدي برداء إلاّ لجُمُعة حتّى يجمع القرآن في مصحف ففعل". فقال ابن حجر عن ابن أبي داود: "... أقسم عليّ... حتّى أجمع القرآن فجمعه". فحذف ابن حجر عبارة "يجمع القرآن في مصحف ففعل" ثمّ بنى عليه اشكاله وقال: "حتى أجمع القرآن فجمعه مراده حفظه في صدره".
وهذا من مثل ابن حجر غريب جداً.
وأمّا الاشكال الثالث: فإنّه غير وارد أيضاً وهو ما ذكره ابن حجر حيث قال:
____________
1 ـ ومحمّد بن سيرين يعدّ من رواة عكرمة، انظر: تهذيب الكمال: ج 20، ص 268.
2 ـ تحرير تقريب التهذيب: ج 3، ص 32، الرقم 4673.
3 ـ روح المعاني: ج 1، ص 41.
4 ـ تهذيب الكمال: ج 25، ص 344. وقال ابن تيمية في شأنه: "محمّد بن سيرين من اورع الناس في منطقه، ومراسيله من اصح المراسيل". منهاج السنة، تحقيق رشاد سالم: ج 6، ص 237.
5 ـ الاتقان: ج 1، ص 58.
"والذي وقع في بعض طرقه حتّى جمعته بين اللّوحين وَهْم من راويه".
|
أىّ حكم هذا من ابن حجر؟ والحال أنّ راويه الذي اتهمه ابن حجر بالوهم والخطأ مما يوجب تضعيفه هو "عبد الخير" وعبد الخير نفسه ورد في رواية اُخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المقام وأوردها ابن حجر قائلاً:
"... وأصحّ منه ـ أي من حديث جمع الإمام المصحف ـ وهو المعتمد ما أخرجه ابن أبي داود باسناد حسن عن عبد الخير; قال: "سمعت علّياً يقول أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله"(1).
|
فالراوي واحد وقد اتهمه ابن حجر هناك بالوهم والخطأ أمّا هنا فقد جعله محلّ اعتماده وثقته، فهل هذا من العدل؟!
والعجب من الآلوسي حيث صحّح رواية ابن الضريس، والتي ورد في متنها أنّ ابن سيرين سأل عكرمة عن خصوصيات ذلك المصحف بقوله:
"فقلت لعكرمة ألـَّفه كما اُنزل الأوّل فالأوّل...؟".
|
ومع هذا الوصف يقول الآلوسي:
"وما صحّ فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر".
|
فلا بدّ أن يكون مراد الآلوسي هو أنّ الإمام علياً عليه السلام الّف القرآن في صدره كما اُنزل الأوّل فالاول!! وما عشت أراك الدهر عجبا!
هذا ولا يخفى أنّ الآلوسي والآخرين لم يسلكوا الطريقة العلمية في هذه الأحاديث; لأنّ مضمون تلك الأحاديث واحد، وهو في اصطلاح علم الدراية
____________
1 ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ج 9، ص 12.
ولندع ذلك جانباً ونقول: إنّ القول بأنّ تعبير "جمع القرآن" ـ الذي ورد في بعض الرّوايات ـ لا يمكن حمله هنا على معنى الجمع في الصدر ـ أي الحفظ في الصدر ـ لأنّ الإمام بعد وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وتعيين الخليفة في السقيفة لم يشتغل بشيء فما الحاجة لجلوسه في البيت وتفرغه لحفظ القرآن في صدره؟
وإن كان هذا ممّا حدا بالبعض إلى توجيه كثرة المعارف والرّوايات والعلوم الصادرة عن الإمام علي عليه السلام بذلك فقال:
"معظم ما روي من التفسير عن الخلفاء الراشدين هو من علي كرم الله وجهه وذلك لبعده عن مهام الخلافة إلى نهاية عثمان..."(2) |
وهذا التوجيه هزيل لا أساس له من الصحّة كما ترى، وذلك:
أولاً: إنّ الإمام علىّ عليه السلام ذكر في عصر خلافته كثيراً من تفسير القرآن والرواية عن النبىّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ خصوصاً في خطبه ـ.
____________
1 ـ حديث "المتابع" أو "الشاهد" هو الحديث المؤيد بمضمونه لحديث آخر بغض النظر عن سنده. فحديث "المتابع" ما وافق راويه راوياً آخر وفيما نحن فيه، المتابع كان تاماً لانه جاءت المتابعة فيه للراوي نفسه. واما حديث "الشاهد" فهو اعم من التابع، يشهد للمعنى تارة وللفظ والمعنى كليهما تارة أخرى، وفي المقام من الحديث "الشاهد المعنوي" أي الذي يعزّز معنى الحديث الآخر لا لفظه. ولا يرى بعض المحدثين بأساً في اطلاق المتابع على الشاهد وان كان بينهما فرق دقيق. انظر: علوم الحديث ومصطلحاته: ص 241 ـ 243.
2 ـ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ج 1، ص 13.
"في الخبر أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، قال لعلي كرم الله وجهه: "إني دعوت الله تعالى ان يجعلها اُذنك يا عليّ" قال علي كرّم الله تعالى وجهه: فما سمعت شيئاً فنسيته وما كان لي ان انسى"(1).
|
بهذه الخصوصية حفظ الإمام علي القرآن بل السنة والسيرة وكلّ العلوم التي أودعها النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في صدره الشّريف، ولا يحتاج إلى الجلوس في البيت وحفظ القرآن في صدره. نعم جمع علىّ عليه السلام القرآن في مصحف بعد وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما أشارت مجموعة من الرّوايات إلى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أمره بذلك، وقام الإمام علي عليه السلام بجمع القرآن تنفيذاً لأمره صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا أحد غير الإمام علي عليه السلام كان يمتلك صلاحية القيام بذلك العمل الخطير(2)، وعلى هذا فالرواية التي ذكرها ابن
____________
1 ـ روح المعاني: ج 16، ص 73، والآلوسي الذي بناؤه في التفسير على نقد وبحث الرّوايات التفسيرية لم ينتقد هنا بشيء فيما يرتبط بهذه الرواية، والجدير بالذكر ان طرق هذا الحديث بلغت (30) طريقاً وجاءت الرّوايات متواترة بهذا المعنى، واكثرها عن أهل السنة. راجع: سعد السعود: ص 108.
2 ـ هذه النكتة غير خافية على أحد وقد ذكرها الشهرستاني في مفاتيح الأسرار ومصابيح الابرار، وسنذكر توضيحاً اكثر لها فيما بعد ان شاء الله تعالى.
علاوة على هذا إنّ هذه الرواية لا تتلاءم والواقع التأريخي، حيث إنّ أبا بكر لا يمكن عدّه أول من جمع القرآن بل كان قبله مصحف ابن مسعود واُبي بن كعب وآخرين، رغم أنـّهم حاولوا توجيه المسألة قائلين: إن هذه المصاحف كانت شخصية(3) وأمّا صحائف أبي بكر فهي للاُمّة، ولكننا نستطيع ردّ ذلك بالاعتماد على نفس كتب أهل السنة، فاننا على فرض قبول ذلك في عصر خلافة أبي بكر، حيث أمر زيد بن ثابت بجمع تلك الصحائف كما تذكر بعض رواياتهم(4)، ولكنّ تلك الصحائف لم تستنسخ للاُمة، ولم تصل إلى يد أحد من أبناء الأمّة، بل إنّها بقيت في
____________
1 ـ رغم انّ ابن أبي داود ذكر هذه الرواية في كتابه المصاحف بخمسة وجوه إلاّ ان الطريق فيها كلّها هو سفيان عن السدي عن عبد خير عن الإمام علي عليه السلام، وفي هذه الصورة تكون من خبر الواحد.
2 ـ الحديث الشاذ هو الرواية الصحيحة التي تتعارض مع الأرجح منها.
وقال ارتور جفري:
"روي ان غير واحد من الصحابة جمع القرآن في مصحف ومنهم علي بن أبي طالب، وزعم بعض ان المراد بالجمع في هذا الحديث، الحفظ ولكننا لا نوافق على قولهم..." مقدمة كتاب المصاحف: ص 5.
|
3 ـ اعترف الدكتور القفاري أيضاً بهذا الأمر، وأورد نفس التوجيه المتقدم بان هذه المصاحف كانت شخصية. (اصول مذهب الشيعة: ص 1025).
4 ـ ان وقوع هذه الحادثة في عصر أبي بكر كانت مورد شكّ لدى المحققين، بل انهم استدلوا من القرآن والسنة والعقل على ان القرآن الموجود الآن هو نفسه الذي جُمع في زمان النبىّ الاكرم صلّى الله عليه وآله ومن جملة دلائل شكّ وترديد المحققين في قبول تلك الرّوايات هو اختلاف الأخبار واضطراب متونها. ومن هؤلاء المحققين: السيد المرتضى في "الذخيرة في علم الكلام": ص 364 وما بعدها والنهاوندي في مقدمة "نفحات الرحمن وتبيين الفرقان": ص 6 والعلامة الشيخ محمّد جواد البلاغي في "آلاء الرحمن": ص 19 والسيد الخوئي في "البيان في تفسير القرآن": ص 240 وغيرهم.