وحتى الطبري نفسه، قد أخرج روايات بغير طريق سيف، ليس فيها ذكر للوليد بن عقبة ولا أثر، فقد أخرج عن أبي زيد(1):
أن أبا بكر وجّه بعد خروج يزيد بن أبي سفيان موجهاً الى الشام بأيام، شرحبيل بن حسنة... فسار في سبعة آلاف. ثم أبا عبيدة بن الجراح في سبعة آلاف، فنزل يزيد البلقان. ونزل شرحبيل الاردن -ويقال بصرى- ونزل أبو عبيدة الجابية، ثم أمدهم بعمرو بن العاص، فنزل بغمر العربات.
ثم رغب الناس في الجهاد، فكانوا يأتون المدينة فيوجههم أبو بكر الى الشام، فمنهم من يصير مع أبي عبيدة، ومنهم من يصير مع يزيد، يصير كل قوم مع من أحبوا(2).
كما وروى الطبري عن ابن حميد بسنده:
لما قفل أبو بكر من الحج سنة اثنتي عشرة، جهّز الجيوش الى الشام، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسطين، فأخذ طريق المعرقة على أيلة، وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة -وهو أحد الغوث- وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشام.
كما وروى عن عمر بن شبه أيضاً قال:
ثم وجه أبو بكر الجنود الى الشام أول سنة ثلاث عشرة، فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسير، وولّى يزيد بن أبي سفيان، فكان أول الاُمراء الذين خرجوا الى الشام، وخرجوا في سبعة آلاف(3).
____________
1- هو عمر بن شبَه.
2- تاريخ الطبري 3: 406.
3- الطبري 3: 387.
ولما أنفذ أبو بكر الاُمراء الى الشام، كان فيما أوصى به يزيد بن أبي سفيان وهو مشيّع له، فقال له: إذا قدمت على أهل عملك فعدهم الخير وما بعده...(1)
وقال اليعقوبي:
ثم نادى في الناس بالخروج، وأميرهم خالد بن سعيد... فحلّ لواءه، ودعا يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، فعقد لهم وقال: إذا اجمعتم فأمير الناس أبو عبيدة(2).
وقال البلاذري: لما فرغ أبو بكر من أمر أهل الردّة، رأى توجيه الجيوش الى الشام، فكتب الى أهل مكة، والطائف، والعين، وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم.
فسارع الناس إليه من بين محتسب وطامع، وأتوا المدينة من كل حدب، فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال: خالد بن سعيد بن العاصي بن اُمية، وشرحبيل ابن حسنة حليف بني جمح، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي(3).
فنلاحظ أن الروايات - حتى التي أوردها الطبري ولكن بغير طريق سيف -وكذلك في باقي المصادر التاريخية المهمة، لا تذكر الوليد بن عقبة هذا في جملة القادة الذين أرسلهم أبو بكر لفتح الشام أو غيرها، كما ولا نجد شيئاًمن تلك المآثر التي يوردها له الشيخ الخطيب في أية رواية اُخرى ولا في أي مصدر آخر، إلاّ اللهم استعماله على صدقات قضاعة، وهو عمل يمكن أن
____________
1- مروج الذهب 3: 44.
2- تاريخ اليعقوبي 2: 133.
3- فتوح البلدان: 115.
ولقد نبّه الطبري نفسه القارئ الى مخالفة روايات سيف لبقية الروايات في بعض المواضع -كما في حادثة فتح الأبلة ـ فبعد أن يذكر رواية سيف عنها، يقول: وهذه القصة في أمر الأبلة وفتحها خلاف ما يعرف أهل السير، وخلاف ما جاءت به الآثار الصحاح(1).
وهنا لابد وأن يقف الباحث مستغرباً هذا الدفاع المستميت عن الوليد من قبل بعض المؤلفين الذين يعرضون عن الروايات الاُخرى التي وردت عند الطبري وعند المؤرخين الآخرين، والتي تخالف رواية سيف، وما سرّ دفاع سيف عن الوليد بن عقبة، ومن هم أصحاب النوايا الفاسدة الذين يذكرون سيئات الوليد قبل حسناته الوهمية؟..
حقيقة الوليد بن عقبة
بعد أن أوردنا إجماع المؤرخين - عدا الطبري برواية سيف فقط- على نفي حسنات الوليد الاسطورية، حان الوقت لايراد جملة من الأخبار عن سيئاته التي يتصدى ابن العربي وغيره لنفيها، فلنبدأ بمقولة ابن العربي، حيث يقول:
وأما الوليد، فقد روى بعض المفسرين أن الله أسماه فاسقاً في قوله: (إنْ جاءكُمْ فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا أَنْ تُصيبوا قوماً بجهالة)(2).
فإنّها -في قولهم- نزلت فيه. أرسله النبي (صلى الله عليه وآله) الى بني المصطلق، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم خالد بن الوليد فتثبت في
____________
1- الطبري 3: 35.
2- سورة الحجرات: 6.
وقد اُختلف فيه، فقيل: نزلت في ذلك، وقيل: في عليّ والوليد في قصة اُخرى.
وقيل: إن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان الى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فمسح رؤوسهم وتبرك عليهم، إلاّ هو، فقال: إنه كان على رأسي خلوق، فامتنع (صلى الله عليه وآله) من مسه.
فمن يكون في مثل هذه السن يُرسل مصدقاً!(1).
ثم يتصدى الشيخ محبّ الدين الخطيب معلقاً على قول ابن العربي:
كنت فيما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة، ويسميه الله فاسقاً، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ، وأوردنا الأمثلة عليها في هامش ص98 عند استعراضنا ماضيه في بضعة عشر عاماً قبل أن يوليه عثمان الكوفة.
إن هذا التناقض - بين ثقة أبي بكر وعمر بالوليد بن عقبة، وبين ما كان ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه فاسقاً- حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه، لا استبعاداً لوقوع أمر من الوليد يعد به فاسقاً، ولكن استبعاداً لأن يكون الموصوم بالفسق في صريح القرآن محل الثقة من رجلين لا نعرف في أولياء الله عزّوجل بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هو أقرب الى الله منهما...(2).
هذا التناقض الّذي صيّر الشيخ الخطيب، مرجعه إلى استناده إلى رواية سيف بن عمر حول استعمال أبي بكر وعمر للوليد بن عقبة، مع ان أي رواية
____________
1- العواصم من القواصم: 102.
2- العواصم من القواصم، هامش: 115.
ولكي نزيل شكوك الخطيب ومن قبله ابن العربي في قضية نزول الآية في الوليد بن عقبة، فإننا نلفت انتباه القارئ أولا الى أن ابن العربي قد خلط بين قصتين في تفسير آيتين، ولا أدري أذاك عن جهل منه -وهو الإمام المفسر- أم تعمد. فالآية التي نزلت في الوليد وفسقه هي الآية السادسة من سورة الحجرات، والتي ذكر القاضي قصتها كما أوردها المفسرون.
أما قوله تعالى (أفمَنْ كانَ مؤمناً كمنْ كانَ فاسقاً لا يَستَوونَ)، فهي الآية الثامنة عشرة من سورة السجدة، وقصتها عن ابن عباس قال:
قال الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط لعلي بن أبي طالب(رضي الله عنه): أنا أحدُّ منك سناناً، وأبسط منك لساناً، وأملأ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت فإنما أنت فاسق. فنزل (أفمن...) الآية. قال: يعني بالمؤمن علياً، وبالفاسق الوليد بن عقبة(1).
فالقرآن الكريم قد أخبر عن فسق الوليد، ثم أكد ذلك في آية اُخرى.
قال ابن عبد البر:
ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن - فيما علمت- أن قوله عزّوجل (إنْ جاءَكُمْ فاسقٌ بنبإ) نزلت في الوليد بن عقبة، -ومن حديث الحكم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة في قصة ذكرها (أَفمنْ كانَ مُؤمناً كمنْ كانَ فاسِقاً لا يَستوونَ).
ثم ولاّه عثمان الكوفة، وعزل عنها سعد بن أبي وقاص، فلمّا قدم الوليد
____________
1- أسباب نزول القرآن للواحدي: 362، وانظر ما قاله المفسرون في تفسير الآية.
فقال: لا تجزعن أبا إسحاق، فإنما هو الملك، يتغداه قوم ويتعشاه آخرون!
فقال سعد: أراكم والله ستجعلونها ملكاً.
وروى جعفر بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، قال: لما قدم الوليد بن عقبة أميراً على الكوفة، أتاه ابن مسعود فقال له:
ما جاء بك؟
قال: جئت أميراً.
فقال ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس؟
وله أخبار فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله وقبح أفعاله..
وكان الأصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبي وغيرهم يقولون:
كان الوليد بن عقبة فاسقاً شريب خمر... وخبر صلاته بهم وهو سكران، وقوله: أزيدكم - بعد أن صلى الصبح أربعاً- مشهور من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار..
وقد روي - فيما ذكر الطبري- أنه تعصب عليه قوم من أهل الكوفة بغياً وحسداً، وشهدوا عليه زوراً أنه تقيأ الخمر، وذكر القصة وفيها: إن عثمان قال له: يا أخي إصبر، فإنّ الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك.
وهذا الخبر من نقل أهل الأخبار(1)، ولا يصح عند أهل الحديث، ولا له عند أهل العلم أصل(2).
وقال ابن الأثير:
____________
1- الذي نقل هذا الخبر، هو سيف بن عمر.
2- الاستيعاب في معرفة الاصحاب 4: 1552.
فقال عبدالله بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم...(1)
وقال ابن حجر:
وقصة عزله بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مشهورة أيضاً مخرجة في الصحيحين(2).
وقال أيضاً:
والرجل فقد ثبتت صحبته، وله ذنوب أمرها إلى الله تعالى(3).
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي:
كان الوليد زانياً يشرب الخمر، فشرب بالكوفة وقام يصلي بهم الصبح في المسجد الجامع، فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم؟ وتقيأ في المحراب بعد أن قرأ بهم رافعاً صوته في الصلاة:
علقَ القلبُ الربابا | بعد ما شابت وشابا(4) |
فهذه الطائفة من أقوال بعض الأئمة الأعلام، يثبتون فيها خبر نزول الآية في الوليد بن عقبة، ويؤكدون فساد حاله وشربه للخمر، فهل هؤلاء أيضاً من أصحاب النيات الفاسدة الذين يشير اليهم ابن العربي؟! وفيهم أمثال الشيخين البخاري ومسلم وابن حجر وابن الأثير وابن عبد البر وغيرهم.
____________
1- اُسد الغابة 4: 675.
2- الاصابة في تمييز الصحابة 6: 321.
3- تهذيب التهذيب 11: 125.
4- شرح نهج البلاغة 17: 230.
التشبث بقشة الغريق
لم يكتف الشيخ الخطيب بهذا الدفاع المستميت عن الوليد بن عقبة، فعلق على قضية سن الوليد بن عقبة بقوله:
هذا الحديث عن سن الوليد بن عقبة يوم فتح مكة رواه الامام أحمد في مسنده... وعلى روايته وأمثالها اعتمد القاضي ابن العربي في الحكم على سن الوليد بن عقبة بأنه كان صبياً عند فتح مكة، وأن الذي نزلت فيه آية (إن جاءكم فاسق بنبأ) هو شخص آخر.
ومن عجيب أمر الذين كان لهم هوىً في تشويه سمعة هذا الصحابي الشاب المجاهد الطيب النفس الحسن السيرة في الناس! أنهم حاولوا إدحاض حجة صغر سنه في ذلك الوقت بخبر آخر روي عن قدومه مع أخيه عمارة الى المدينة في السنة السابعة للهجرة، ليطلبا من النبي (صلى الله عليه وآله) ردّ أُختهما اُم كلثوم الى مكة.
وأصل هذا الخبر - إن صح - مقدم فيه اسم عمارة على إسم الوليد، وهذا مما يستأنس به في أن عمارة هو الأصل في هذه الرحلة. وأن الوليد جاء في صحبته، وأي مانع يمنع قدوم الوليد صبياً بصحبة أخيه الكبير.. فإذا تقرر عندك أن جميع الأخبار الواردة بشأن الوليد بن عقبة في سبب نزول آية (إن جاءكم فاسق بنبأ) لا يجوز علمياً أن يبنى عليها حكم شرعي أو تاريخي.
وإذا أضفت إلى ذلك حديث مسند الإمام أحمد عن سن الوليد في سنة الفتح، يتبين لك بعد ذلك حكمة استعمال أبي بكر وعمر للوليد، وثقتهما به
إن محب الدين الخطيب يظل متشبثاً بقشة الغريق، وكلما حاول إخراج نفسه من ورطة أوقعها في أدهى منها، فهل سأل نفسه إذا كان سن الوليد عند فتح مكة صغيراً -أي أنه كان طفلا- لا يصلح لأن يرسله النبي (صلى الله عليه وآله) مصدقاً، فكم هي المدة بين فتح مكة وبين تولي أبي بكر الخلافة؟!
أفبهذه السرعة صار الوليد رجلا في خلافة أبي بكر -أي بعد ثلاث سنوات فقط- وظهرت مواهبه وعبقريته الفذّة فجأة، حتى صار موضع ثقة أبي بكر ومن بعده عمر، فراحا يوليانه هذه المناصب المهمة!!
وأما كون الوليد صبياً عند فتح مكة، فقد قال الحافظ ابن عبد البر في ذلك:
وهذا الحديث رواه جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن أبي موسى الهمداني، ويقال الهمداني، كذلك ذكره البخاري على الشك عن الوليد ابن عقبة.
قالوا: وأبو موسى هذا مجهول، والحديث منكر مضطرب لا يصح، ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقاً في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) صبياً يوم الفتح، ويدل أيضاً على فساد ما رواه أبو موسى المجهول، أن الزبير وغيره من أهل العلم بالسير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة بن عقبة، خرجا ليروا اُختهما أُم مكتوم عن الهجرة، فكانت هجرتها في الهدنة بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين أهل مكة، ومن كان غلاماً مخلقاً يوم الفتح، ليس يجيء منه مثل هذا...(2).
وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بأن الوليد من أهل النار -وهي من دلائل النبوة- وذلك فيما جاءت به الأخبار من أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان قد توعّد عقبة بن أبي معيط بعد أن
____________
1- العواصم من القواصم: 103 هامش: 117.
2- الاستيعاب 4: 1552.
مروان بن الحكم
لقد كان لمروان بن الحكم دور رئيس في مسيرة الأحداث الدامية دون شك. وقبل التطرق الى دور هذا الرجل في الفتنة، يجدر بي أن أستعرض أقوال بعض المؤلفين فيه ومواقفهم منه، وإصرار هؤلاء على إظهار مروان على غير صورته الحقيقية وتبرأته هو الآخر مما وقع من أحداث.
يقول القاضي ابن العربي فيه:
مروان رجل عدل من كبار الاُمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين.
أما الصحابة فإنّ سهل بن سعد الساعدي روى عنه، وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن كان جاوزهم باسم الصحبة في أحد القولين، وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه، واعتبار خلافه، والتلفت الى فتواه والانقياد الى روايته، وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم(2).
لو كان الأمر متوقفاً على المؤرخين والاُدباء - حتى غير السفهاء- لهان الأمر، لكن صورة مروان بن الحكم التي ينقلها إلينا ثقاة العلماء والمحدثون، أكثر جهامة مما يقوله المؤرخون والاُدباء.
فقد أخرج كبار المحدثين روايات تكشف عن البدع التي أحدثها مروان
____________
1- تاريخ الطبري 2: 459 ذكر وقعة بدر الكبرى، الكامل في التاريخ 2: 74 ذكر المستهزئين ومن كان اشد الأذى للنبي(ص)، تاريخ الاسلام للذهبي: المغازي: ص 64 - 65.
2- العواصم من القواصم: 101.
ففي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن أبي سعيد الخدري قال:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخرج يوم الفطر والأضحى الى المصلى، فأول شيء يبدأ به: الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم. فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبرٌ بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة; فقلت له: غيّرتم والله! فقال: يا أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم; فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة!!(1).
وفي لفظ الإمام أحمد، قال: فقام رجل فقال: يا مروان خالفت السنّة! أخرجت المنبر يوم عيد ولم يك يُخرج به في يوم عيد، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ولم يكن يُبدأ بها! قال: فقال أبو سعيد الخدري: من هذا؟ قالوا: فلان ابن فلان.
قال: فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "من رأى منكم منكراً فإن استطاع أن يغيّره بيده فليفعل". وقال مرة: "فليغيّره بيده فإن لم يستطع بيده فبلسانه فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(2).
____________
1- صحيح البخاري 2: 22 باب الخروج الى المصلى بغير منبر، صحيح مسلم 2: 605 كتاب صلاة العيدين.
2- مسند أحمد 3: 10.
إن مروان بن الحكم قد تعمد تغيير السنّة النبوية الشريفة في صلاة العيدين ومخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) ومن جاء بعده بالصلاة قبل الخطبة، فجعل الخطبة قبل الصلاة، ولم يكن ذلك عن سهو أو خطأ منه -كما يدل لفظ الرواية- حيث إنه أصرّ على فعله بعد تنبيه أبي سعيد الخدري له، وقوله: قد ذهب ما تعلم، يدل على إصراره على تغيير السنّة النبوية، وكأن هذه السنّة قد صارت عفا عليه الزمن وينبغي تغييره.
كما وأن تبرير مروان عمله ذلك بأن الناس لم يكونوا يجلسون لسماع الخطبة بعد الصلاة، فإن هذا لهو أكبر دليل على أن أهل المدينة -وفيهم بقية الصحابة وخيار التابعين- لم يكونوا يعتقدون بصلاح مروان وعدالته ونصحه للاُمة حتى يستمعوا إليه.
كما وأن شهادة أبي سعيد الخدري للرجل الذي عارض مروان في إخراج المنبر بأنه قد أدى الذي عليه بالنهي عن المنكر، واستشهاده بقول النبي (صلى الله عليه وآله) لأكبر دليل على اعتقاد هذا الصحابي بأن مروان بن الحكم ممن يأتون المنكر الذي أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بتغييره.
ولم يكن أبو سعيد الخدري الصحابي الوحيد الذي يعتقد بعدم صلاح مروان بن الحكم، بل كان ذلك رأي جلّ الصحابة، ويدل على ذلك ما أخرجه الامام أحمد أيضاً، عن داود بن أبي صالح قال:
أقبل مروان يوماً فوجد رجلا واضعاً وجهه على القبر; فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب; فقال: نعم، جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم آتِ
فها هو الصحابي الكبير أبو أيوب الأنصاري يعرّض بمروان بن الحكم ويتّهمه بأنه ليس من أهل الدين.
وأما كتب التراجم، فهي طافحة بذكر نتف من أخباره بما لا يُسرّ ابن العربي وأضرابه، فقد قال ابن عبد البر في ترجمته:
ولد على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) سنة اثنتين من الهجرة... ولم يره لأنه خرج الى الطائف طفلا لا يعقل، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان قد نفى أباه الحكم إليها، فلم يزل بها حتى ولي عثمان، وتوفي أبوه فاستكتبه عثمان، وكتب له، فاستولى عليه، الى أن قُتل عثمان، ونظر إليه عليٌّ يوماً، فقال له: ويلك، وويل اُمة محمد منك ومن بنيك إذا ساءت درعك.
وكان مروان يقال له (خيط باطل)، وضُرب به يوم الدار على قفاه، فجرى لقبه، فلما بويع له بالامارة، قال فيه أخوه عبدالرحمان بن الحكم - وكان ماجناً شاعراً محسناً- وكان لا يرى رأي مروان:
لحا الله قوماً أمَّروا خيط باطل | على الناس يعطي ما يشاء ويمنع(2) |
وقال ابن عبدالبر في شرحه لمعنى قول عبدالرحمان بن حسان بن ثابت في عبدالرحمان بن الحكم يهجوه:
____________
1- مسند أحمد 5: 422، المستدرك 4: 512، مجمع الزوائد 4: 2، وفاء الوفا 4: 1359، شفاء الاسقام: 126، المنتقى لابن تيمية 2: 161.
2- الاستيعاب 3: 444.
إن الّلعين أبوك فارم عظامه | إن تَرمِ ترمِ مخلّجاً مجنونا |
يمسي خميص البطن من عمل التقى | ويظل من عمل الخبيث بطينا |
فأما قول عبد الرحمان بن حسان إن اللعين أبوك; فروي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره أنها قالت لمروان، إذ قال في أخيها عبدالرحمان ما قال: أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعن أباك وأنت في صلبه(1)..
وقال ابن الأثير:
وتزوج مروان أُم خالد بن يزيد ليضع من خالد.
وقال يوماً لخالد: يابن الرطبة الاست. فقال له خالد: أنت مؤتمن خائن. وشكى خالد ذلك يوماً إلى أُمه، فقالت: لا تُعلمه أنك ذكرته لي. فلما دخل إليها مروان، قامت إليه مع جواريها فغمّته حتى مات... وهو معدود فيمن قتله النساء.
كما روى عن جبير بن مطعم، قال: كنا مع النبي (صلى الله عليه وآله) فمرّ الحكم بن أبي
____________
1- الاستيعاب 1: 415، أُسد الغابة ترجمة مروان بن الحكم. وفي مستدرك الحاكم 4: 481 عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبدالرحمان بن أبي بكر، سنة هرقل وقيصر، فقال: أنزل الله فيك (والذي قال لوالديه أُف لكما)، قال: فبلغ عائشة(رض) فقالت: كذب والله، ما هو به، ولكن رسول الله(ص) لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان فضض من لعنة الله عزّوجل. وانظر السنن الكبرى للنسائي 6: 485 ح 18491 صحيح البخاري 6: 167 تفسير سورة الاحقاف، ارشاد الساري 11: 69، الكشاف للزمخشري 4: 304، الفائق في غريب الحديث 4: 102، التفسير الكبير للرازي 28: 523 الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 16: 131 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4: 159، الدر المنثور 6: 41، فتح القدير 5: 21 تفسير الآلوسي 26: 20، الاجابة للزركشي: 129، اسد الغابة 2: 38 رقم 1217 السيرة الحلبية 1: 337، سيرة دحلان 1: 117 هامش الحلبية، حياة الحيوان للدميري 2: 399.