وقام مالك بن الحارث الأشتر يوماً فقال: إن عثمان قد غيّر وبدّل، وحضّ الناس الى منع سعيد من دخول الكوفة، فقال له قبيصة بن جابر بن وهب الأسدي، من ولد عميرة بن جدار: يا أشتر، دام شترك، وعفا أثرك، أطلت الغيبة، وجئت بالخيبة، أتأمرنا بالفرقة والفتنة ونكث البيعة وخلع الخليفة؟! فقال الأشتر: يا قبيصة بن جابر، ما أنت وهذا! فوالله ما أسلم قومك الاّ كرهاً، ولا هاجروا إلاّ فقراً.
ثم وثب الناس على قبيصة فضربوه وجرحوه فوق حاجبه، وجعل الأشتر يقول: لا حُرّ بوادي عوف، ومن لا يذد عن حوضه يُهدّم.
ثم صلّى بالناس الجمعة، وقال لزياد بن النضر: صلِّ بالناس سائر صلواتهم والزم القصر. وأمر كُميل بن زياد فأخرج ثابت بن قيس بن الخطيم الأنصاري من القصر، وكان سعيد بن العاص خلّفه على الكوفة حين شخص الى عثمان.
وعسكر الأشتر بين الكوفة والحيرة، وبعث عائذ بن حملة في خمسمائة الى أسفل كسكر، مسلحة بينه وبين البصرة، وبعث حجرة بن سنان الأسدي في خمسمائة الى عين التمر، ليكون مسلحة بينه وبين الشام، وبعث هانئ بن أبي حية بن علقمة الهمداني ثم الوادِعي الى حلوان في ألف فارس ليحفظ الطريق بالجبل، فلقي الأكراد بناصية الدينور وقد أفسدوا، فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وبعث الأشتر أيضاً يزيد بن حجية التيمي الى المدائن، وتقدم الى عماله أن لا يجبوا درهماً، وأن يسكّنوا الناس وأن يضبطوا
وأنهب الأشتر دار الوليد بن عقبة، وكان فيها مال سعيد ومتاعه حتى قلعت أبوابها، ودخل الأشتر الكوفة فقال لأبي موسى: تولَّ الصلاة بأهل الكوفة، وليتول حذيفة السواد والخراج.
وكتب عثمان الى الأشتر وأصحابه مع عبدالرحمان بن أبي بكر، والمسور بن مخرمة، يدعوهم الى الطاعة، ويعلمهم أنهم أوّل من سنَّ الفرقة، ويأمرهم بتقوى الله ومراجعة الحق، والكتاب اليه بالذي يحبون.
فكتب إليه الأشتر: من مالك بن الحارث الى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنّة نبيه، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره! أما بعد، فقد قرأنا كتابك، فانْهَ نفسك وعمالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين، نسمح لك بطاعتنا. وزعمت أنا قد ظلمنا أنفسنا، وذلك ظنّك الذي أرداك فأراكَ الجور عدلا والباطل حقاً، وأما محبتنا، فإن تنزع وتتوب وتستغفر الله من تجنّيك على خيارنا وتسييرك صلحاءنا وإخراجك إيانا من ديارنا وتوليتك الأحداث علينا، وأن تولي مصرنا عبدالله بن قيس أبا موسى الأشعري وحذيفة، فقد رضيناهما، واحبس عنا وليدك وسعيدك ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك إن شاء الله والسلام.
فلما قرأ عثمان الكتاب قال: اللهم إني تائب.
وكتب الى أبي موسى وحذيفة: أنتما لأهل الكوفة رضىً ولنا ثقة، فتوليا أمرهم وقوما به بالحق، غفر الله لنا ولكما.
فتولى أبو موسى وحذيفة الأمر، وسكّن إبو موسى الناس(1).
نلاحظ ممّا سبق، أن عثمان بن عفان كان يتدارك الأخطاء بالأخطاء، فقد أعاد عماله الى ولاياتهم رغم حالة الغليان الشعبي الذي شهدته بعض الأمصار، ولولا اضطراره الى تغيير والي الكوفة سعيد بن العاص أمام موجة الهيجان الشعبي، لما فكّر في ذلك، ولو أنه اتخذ نفس الخطوات تجاه الولايات الاُخرى، فاستبدل ولاته وعماله ببعض الصحابة والولاة العادلين. فلربما تغيّر وجه التاريخ، ولم تسر الأحداث الى تلك النهايات المؤلمة، وكان خيراً لعثمان أن يجتمع بكبار الصحابة ويستشيرهم ويستمع لنصحائهم، بدلا من أن يستشير ولاته وعماله الذين كانوا السبب في موجة السخط التي عمت الولايات الاسلامية الكبرى، لأن عمّال عثمان لم يكونوا ينصحون له، بل على العكس من ذلك كانوا يحرضونه على التمادي في سياسته، كما ظهر لنا في الرواية التي نقلناها عن البلاذري، وكما أجمعت عليه باقي الروايات عند الطبري وغيره، ماعدا رواية سيف، فإن خبر هذا الإجتماع لم ينج هو الآخر من التزييف سواء من سيف أو من بعض المؤرخين الآخرين، ولا بأس من
____________
1- أنساب الأشراف 6: 156.
أورد الطبري خبر الاجتماع عن سيف بقوله:
وبعث الى عمال الأمصار فقدموا عليه: عبدالله بن عامر، ومعاوية، وعبدالله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيداً وعمراً، فقال: ويحكم ما هذه الشكاية! وما هذه الاذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقاً عليكم، وما يعصب الاّ بي.
فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم نرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيء؟ والله ما صدقوا ولا برّوا، ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، وما كنت لتأخذ به أحداً فيقيمك على شيء، وما هي الاّ إذاعة لا يحل الأخذ بها،ولا الانتهاء إليها.
قال: فأشيروا علي.
فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السر، فيلقى به غير ذي المعرفة فيخبر به، فيُتحدث به في مجالسهم.
قال: فما دواء ذلك؟
قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم.
وقال عبدالله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم، فإنه خير من أن تدعهم.
قال معاوية: قد وليتني فوليتُ قوماً لا يأتيك عنهم إلاّ الخير، والرجلان أعلم بناحيتهما.
قال: فما الرأي؟
قال: فما ترى يا عمرو؟
قال: أرى أنك قد لنت لهم وتراخيت عنهم وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبيك، فتشتد في موضع الشدة، وتلين في موضع اللين، إن الشدة تنبغي لمن لا يألوا الناس شراً، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعاً اللّين...(1).
فسيف يبرئ عثمان أولا من التسبب في تلك الأحداث، ومن ثم ولاته وعلى رأسهم معاوية الذي لا يأتي منه الاّ الخير -كما يزعم- ولكن المصادر الاُخرى سواء ما جاء من الروايات عند الطبري أو عند غيره -كما في رواية البلاذري- تقول غير ما تدعيه رواية سيف.
فقد روى الطبري عن جعفر بن عبدالله المحمدي روايتين متشابهتين، أنقل منها هذه الرواية باسناده عن عبدالملك بن عمير الزهري، قال:
جمع عثمان اُمراء الأجناد: معاوية بن أبي سفيان، وسعيد بن العاص، وعبدالله بن عامر، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعمرو بن العاص، فقال: أشيروا علي، فإن الناس قد تنمّروا لي.
فقال له معاوية: أشير عليك أن تأمر اُمراء أجنادك فيكفيك كل رجل منهم ما قبله، وأكفيك أنا أهل الشام.
فقال له عبدالله بن عامر: أرى لك أن تجمّرهم في هذه البعوث حتى يهمّ كل رجل منهم دبر دابته، وتشغلهم عن الإرجاف بك.
فقال عبدالله بن سعد: اُشير عليك أن تنظر ما أسخطهم فترضيهم، ثم
____________
1- الطبري 4: 342.
ثم قام عمرو بن العاص فقال: يا عثمان، إنك قد ركبت الناس بمثل بني اُمية، فقلت وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيتَ فاعتزم عزماً وامضِ قدماً، فقال له عثمان: مالك قمل فروك، أهذا الجدّ منك!
فأسكت عمرو حتى إذا تفرقوا قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أكرم عليَّ من ذلك، ولكني قد علمت أن بالباب قوماً قد علموا أنك جمعتنا لنُشير عليك، فأحببت أن يبلغهم قولي، فأقود لك خيراً، أو أدفع عنك شراً.
فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه...(1).
إنَّ من الملفت للنظر هو الموقف الانتهازي لعمرو بن العاص، ويبدو أن الخليفة قد استشاره على أمل أن يحصل على دعمه وتأييده -كما حدث من قبل في قضية الهرمزان- إلاّ أن الأغرب من كل ذلك، هو موقف ابن كثير الدمشقي، فهو بعد أن ينقل الرواية كما جاءت عن الطبري، يعود فيزيّف ذيلها بقوله: فعند ذلك قرّر عثمان عماله على ما كانوا عليه، وتألّف قلوب اولئك بالمال، وأمر بأن يُبعثوا الى الغزو الى الثغور، فجمع بين المصالح كلها!!(2).
المسير الى المدينة
من المفترض - طبقاً لادعاء ابن كثير - أن تكون المشكلة قد انتهت بعد ما جمع عثمان المصالح كلها، ولم يبق ثمة سبب يدعو الى التمرد والعصيان،
____________
1- الطبري 4: 334.
2- البداية والنهاية 7: 167.
لنبدأ أولا باستعراض رواية القاضي ابن العربي للأحداث، حيث قال:
وساروا إليه، على أهل مصر عبدالرحمان بن عديس البلوي، وعلى أهل البصرة حكيم بن جبلة، وعلى أهل الكوفة الأشتر مالك بن الحارث النخعي; فدخلوا المدينة هلال ذي القعدة سنة خمس وثلاثين، فاستقبلهم عثمان، فقالوا: إقرأ، فقرأ حتى انتهى الى قوله (ءَاللهُ أذِنَ لكُم أَمْ على اللهِ تَفتَرونَ). قالوا له: قف، أرأيت ما حميت من الحمى، أذن الله لك أم على الله افتريت؟ قال: امضه، إنما نزلت في كذا، وقد حمى عمر، وزادت الابل فزدتُ.
فجعلوا يتبعونه هكذا، وهو ظاهر عليهم، حتى قال لهم: ماذا تريدون؟
فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه ستاً أو خمساً: إن المنفيّ يقلب، والمحروم يعطى، ويوفّر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة.
فكتبوا ذلك في كتاب، وأخذ عليهم أن لا يشقّوا عصا، ولا يفرقوا جماعة. ثم رجعوا راضين، فبينما هم كذلك، إذا راكب يتعرض لهم ثم يفارقهم مراراً.
قالوا: مالك! قال: أنا رسول أمير المؤمنين الى عامله بمصر، ففتشوه، فاذا هم بالكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم ويقطع أيديهم وأرجلهم.
قال: والله لا أقوم معكم.
قالوا: فلم كتبت إلينا؟!
قال: والله ما كتبت إليكم.
فنظر بعضهم الى بعض، وخرج علي الى المدينة...(1).
هذه الرواية ينقلها ابن العربي عن الطبري عن يعقوب بن ابراهيم، إلاّ أن القاضي ابن العربي لم يدع لمسها بريشته حتى تغيّر فحوى الرواية مما أوقعه في نهاية الأمر في التناقض، فهو يقول: فجعلوا يتبعونه هكذا وهو ظاهر عليهم، بينما الرواية الأصلية تقول: ثم أخذوه بأشياء لم يكن عنده منها مخرج!
ويلوح التناقض على كلام ابن العربي حين يعترف في نهاية الأمر بخضوع عثمان لهم وأخذ ميثاقه على تنفيذ الاُمور الستة أو الخمسة التي أقرّ على نفسه بها، ومن البديهي أن اقرار عثمان بها ما هو إلاّ اعتراف بحقيقتها، وقول ابن العربي (ثم رجعوا راضين)، يدل على أنهم لم يكن لهم هدف غير تنفيذ هذه المطالب.
أما الرواية المعتمدة عند الجمهور، فهي رواية الطبري عن سيف عن شيوخه، قال: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين، خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة اُمراء، المقلل يقول ستمائة، والمكثر يقول الف، على الرفاق عبدالرحمان بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التميمي، وعروة بن شيبم
____________
1- العواصم من القواصم: 131.
وخرج أهل الكوفة في أربع رفاق، وعلى الرفاق زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزيد بن النضر الحارثي، وعبدالله بن الأصم، أحد بني عامر بن صعصعة، وعددهم كعدد أهل مصر، وعليهم جميعاً عمرو بن الأصم.
وخرج أهل البصرة في أربع رفاق، وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح الحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش ابن عبد بن عمرو الحنفي، وعددهم كعدد أهل مصر، وأميرهم جميعاً حرقوص بن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم من الناس، فأما أهل مصر، فإنهم كانوا يشتهون علياً، وأما أهل البصرة، فإنهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير. فخرجوا وهم على الخروج جميع، وفي الناس شتى، لا تشك كل فرقة الاّ أن الفلج معها، وأن أمرها سيتم دون الاُخريين; فخرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث، تقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامتهم بذي المروة. ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبدالله بن الأصم، وقالا: لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد، فإنه بلغنا أنهم قد عسكروا لنا، فوالله إن كان أهل المدينة قد خافونا واستحلوا قتالنا ولم يعلموا علمنا، فهم إذا علموا علمنا أشد، وإن أمرنا هذا لباطل، وإن لم يستحلوا قتالنا ووجدنا الذي بلغنا باطلا
فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت، عليه حلّة أفواف، معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلد السيف، ليس عليه قميص، وقد سرح الحسن الى عثمان فيمن اجتمع إليه، فالحسن جالس عند عثمان، وعلي عند أحجار الزيت، فسلم عليه المصريون وعرّضوا له، فصاح بهم وطردهم وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد (صلى الله عليه وآله) فارجعوا لا صحبكم الله. قالوا: نعم، فانصرفوا من عنده على ذلك.
وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة اُخرى الى جنب علي، وقد أرسل ابنيه على عثمان، فسلم البصريون عليه وعرضوا له، فصاح بهم واطردهم وقال: لقد علم المؤمنون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد (صلى الله عليه وآله).
وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة اُخرى، وقد سرّح ابنه عبدالله الى عثمان، فسلموا عليه وعرضوا له، فصاح بهم واطردهم وقال: لقد علم المسلمون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان
فلما بلغ القوم عساكرهم كرّوا بهم فبغتوهم، فلم يفجأ أهل المدينة إلاّ والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم وأحاطوا بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن.
وصلّى عثمان بالناس أياماً، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحداً من كلام، فأتاهم الناس فكلموهم وفيهم علي فقال: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قالوا: اخذنا مع بريد كتاباً بقتلنا.
وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك.
وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك، وقال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعاً. كأنما كانوا على ميعاد.
فقال لهم علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل، ثم طويتم نحونا! هذا والله أمر اُبرم بالمدينة. قالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا وهو في ذلك يصلي بهم وهم يصلون خلفه، ويغشى من شاء عثمان وهم في عينه أدق من التراب، وكانوا لا يمنعون أحداً من الكلام، وكانوا زمراً بالمدينة يمنعون الناس من الاجتماع(2).
هذه هي رواية الطبري بطريق سيف عن قصة الحصار الأول الذي ضربه الثوار على عثمان، وهو يبين أن هؤلاء الثوار كانوا يعلمون بأنهم على باطل،
____________
1- هذا الحديث المزعوم لم أجده في أي مصدر معتمد، فهو من وضع سيف المشهور بالوضع.
2- الطبري 4: 348.
كما وتظهر الرواية أن الثوار لم يكن لهم مطلب سوى تغيير بعض عمّال عثمان على الولايات، ولا أدري هل يعقل خروج هؤلاء وتعريض أنفسهم لهذه المخاطر يمكن أن يتم دون سبب يستحق ذلك، ولماذا يصرون أنهم لا هدف لهم غير تبديل عمال عثمان، أوليس هذا مضافاً الى كل ما سبق يدل على سوء سيرة اولئك العمال؟ أو لم يقرّ ابن العربي - حسب الرواية التي أوردها- بالمظالم التي رفعها الثوار الى عثمان، وكان من بينها (استعمال ذوي القوة والأمانة عليهم).
أما ابن كثير فيورد رواية مطولة حول (مجيء الأحزاب الى عثمان المرة الثانية من مصر وغيرها) لفّق فيها بين عدة روايات - جلها عن الطبري برواية سيف- سوف اقتطع منها بعض أجزائها لطولها، حيث قال:
وذلك أن أهل الأمصار لما بلغهم خبر مروان، وغضب علي على عثمان بسببه، ووجدوا الأمر على ما كان عليه لم يتغير، تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة وتراسلوا، وزوّرت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة، وعلى لسان علي وطلحة والزبير يدعون الى قتال عثمان ونصر الدين، وأنه أكبر الجهاد اليوم.
وذكر سيف بن عمر التميمي عن طلحة ومحمد وأبي حارثة وأبي عثمان، وقاله غيرهم أيضاً...(1).
____________
1- البداية والنهاية 7: 170.
كُتب أهل المدينة الى الامصار
أخرج الطبري عن الواقدي بسنده قال:
لما كانت سنة أربع وثلاثين، كتب أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعضهم الى بعض: أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد، فعندنا الجهاد!
وكثّر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرون ويسمعون، ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب الاّ نُفير منهم: زيد بن ثابت، وأبو اُسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت.
فاجتمع الناس وكلّموا علي بن أبي طالب; فدخل على عثمان فقال له: الناس ورائي وقد كلّموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك الى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خُصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنك أقرب الى
فقال عثمان: قد والله علمتُ ليقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنّفتك ولا أسلحتك ولا عبت عليك، ولا جئتُ منكراً أن وصلت رحماً وسددت خلة وآويت ضائعاً، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولّي، أنشدك الله يا علي، هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم، قال: فتعلم أن عمر ولاّه؟ قال: نعم. قال: فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي: ساُخبرك. إن عمر بن الخطاب كان كل من ولّى فإنما يطأ على صماخه، إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية، وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت على أقربائك، قال عثمان: هم أقرباؤك أيضاً، فقال علي: لعمري أن رحمهم
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم | معارسكم تبنون في دمن الثرى |
فقال عثمان: اسكت لاسكت، دعني وأصحابي، ما منطقك هذا! ألم أتقدم اليك ألا تنطق؟
فسكت مروان، ونزل عثمان(1).
يلاحظ من رواية الواقدي أن عثمان - قبل مجيء الثوار- كان يتكلم من موقف القوة ويلجأ الى التهديد والوعيد، أو كما قال ابن كثير: فوعظ وحذّر وأنذر، وتهدد وتوعد، وأبرق وأرعد(2)، رغم أن علي بن أبي طالب قد أرشده الى التصرف السديد الذي يمكنه اتباعه، ونصحه ووعظه بطلب من الصحابة -كما طلبوا ذلك من اُسامة بن زيد فيما مر سابقاً - إلاّ أن عثمان كان يصم اُذنيه عن هذه النصائح، ويختلق تبريرات غير منطقية محتجاً بمواقف عمر بن الخطاب، رغم البون الشاسع بين مواقفه ومواقف عمر بن الخطاب الذي كان يشتد على ولاته ويلين مع العامة، إلا أن مواقف عثمان كانت على العكس، فهو يشتد على العامة ويلين مع الولاة، وقد برز دور مروان بن الحكم الذي كان يؤجج الموقف أكثر، حتى بلغت به الاُمور أن يتهدد الناس- وفيهم الصحابة- بوضع السيف فيهم.
هذا، ولم ينفرد الواقدي بذكر الكتاب الذي كتبه أهل المدينة الى الآفاق، فقد أخرج الطبري عن جعفر بن عبدالله المحمدي بسنده، قال:
لما رأى الناس ما صنع عثمان، كتب من بالمدينة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) الى من بالآفاق منهم - وكانوا قد تفرقوا في الثغور- إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّوجل، تطلبون دين محمد (صلى الله عليه وآله)، فإن دين محمد قد
____________
1- الطبري 4: 336.
2- البداية والنهاية 7: 169.
فالكتب التي بعثها الصحابة الى أهل الأمصار والآفاق حقيقة واقعة، وليست كتباً مزوّرة على لسان الصحابة كما يدعي ابن كثير وغيره، وسوف تتبين مواقف الصحابة من عثمان بشكل أكثر وضوحاً فيما بعد.
دور مروان
من الواضح أن كتب الصحابة الى الأمصار ودعوتهم للتغيير، كانت من الأسباب الرئيسة في خروج هؤلاء وقصدهم المدينة، إذ يبدو واضحاً لمن يحلل المواقف أنه لم يكن من المعقول أبداً أن يجازف بضع مئات من الناس بالخروج الى عاصمة الخلافة لو لم يكن لهؤلاء سند فيها، ولولا تحقق الخارجين من دعم معظم الصحابة لمواقفهم وتأييدهم، بل ودعوتهم للمجيء الى المدينة بغية تغيير الأوضاع الشاذة التي جدّت على الساحة. فكان ذلك حافزاً لهم للخروج وقصد المدينة، ومن الضروري تناول الأحداث الخطيرة التي نتجت عن ذلك، ومعرفة نوايا الخارجين الحقيقية في الخروج، ومن ثم الكشف عن الأسباب التي أدت الى النهاية المعروفة، ومعرفة دور ولاة عثمان ومواقفهم من المشكلة، وبالخصوص دور وزيره مروان بن الحكم في تلك النهاية المأساوية التي انتهى إليها عثمان.
ويبدو لمن تصفح تاريخ الطبري، أنه قد أعرض عن الكثير من الروايات المهمة التي صورت الأحداث على حقيقتها، أو ذكرت الأسباب التي أدت الى
____________
1- الطبري 4: 367.
وعلى أي حال، فإن المشكلة كانت على وشك أن تُحل بتدخل بعض الصحابة في الأمر، وبعد أن تعهد عثمان بالاقلاع عن الاُمور التي نقموها عليه، إلاّ أن تدخل مروان في الأمر قد أفشل جميع المساعي التي بُذلت لتحقيق الصلح، مما أدى في النهاية الى أن يفقد الثوار صبرهم، مضافاً الى تصرفات اُخرى من قبل عثمان وبعض أعوانه، مما عجّل في سير الأحداث الى النهاية المأساوية، فقد أخرج الطبري عن الواقدي بسنده قال:
لما نزلوا ذا خشب، كلّم عثمان علياً وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يردّهم عنه، فركب علي وركب معه نفر من المهاجرين، فيهم سعيد بن زيد، وأبو جهم العدوي، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، ومروان بن الحكم، وسعيد ابن العاص، وعبدالرحمان بن عتاب بن اُسيد.
وخرج من الأنصار: أبو اُسيد الساعدي، وأبو حميد الساعدي، وزيد بن ثابت، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومعهم من العرب: نيار بن مكرم، وغيرهم ثلاثون رجلا، وكلّمهم علي ومحمد بن مسلمة -وهما اللذان قدما- فسمعوا مقالتهما ورجعوا.
قال محمود: فأخبرني محمد بن مسلمة، قال: ما برحنا من ذي خشب حتى رحلوا راجعين الى مصر، وجعلوا يسلمون علي، فما أنسى قول عبدالرحمان بن عُديس:
____________
1- الطبري 4: 356.
عند هذه النقطة، سارت الاُمور على خير ما يرام، فان الثوار استجابوا لمساعي الصحابة الذين تدخلوا لإنهاء الأزمة، ومن الواضح أن الصحابة الذين كتب بعضهم الى اولئك الثوار يستقدمونهم، إنما كانوا يريدون حمل عثمان على النزوع عما كرهوه، فلما ظنوا أنه قد فعل، وأن بوادر الخير قد بدأت تلوح باعلان عثمان التوبة عن تلك الاُمور، ظنوا أن المشكلة قد حُلّت، فتدخلوا لاقناع الثوار بالرجوع الى بلادهم بعد انتفاء الحاجة الى وجودهم في المدينة.
ويروي الطبري عن الواقدي تتمة القصة، والملابسات التي اكتنفتها، وكيف تغيّرت الاُمور من جديد، وسارت باتجاه الأزمة مرة اُخرى، فيقول:
ثم إن علياً جاء عثمان بعد انصراف المصريين، فقال له: تكلم كلاماً يسمعه الناس منك ويشهدون عليه، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فان البلاد قد تمخضت عليك، فلا آمن ركباً آخرين يقدمون من الكوفة، فتقول: يا علي، اركب إليهم، ولا أقدر أن أركب إليهم ولا أسمع عذراً. ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول: يا علي اركب إليهم، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك، واستخففت بحقّك.
فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعطى الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فوالله ما عاب من عاب منكم شيئاً أجهله، وما جئت شيئاً الاّ وأنا أعرفه،
____________
1- الطبري 4: 359.
فرقّ الناس له يومئذ، وبكى من بكى منهم، وقام اليه سعيد بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين، ليس بواصل لك من ليس معك، الله الله في نفسك، فأتمم على ما قلت. فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيداً ونفراً من بني اُمية، ولم يكونوا شهدوا الخطبة، فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين، أتكلم أم أصمت؟ فقالت نائلة بنت الفرافصة، امرأة عثمان الكلبية: لا، بل اصمت، فإنهم والله قاتلوه ومؤثموه، إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها.
فأقبل مروان عليها فقال: ما أنت وذاك، فوالله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ، فقالت له: مهلا يا مروان عن ذكر الآباء، تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه! وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه، أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمّه، أخبرتك عنه ما لم أكذب عليه.
فأعرض عنها مروان ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتكلم أم أصمت؟
قال: بل تكلم.
فقال مروان: بأبي أنت واُمي، والله لقد وددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت ما
فقال عثمان: فاخرج اليهم فكلمهم فإني أستحيي أن اُكلمهم.
فخرج مروان الى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً، فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب! شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ باُذن صاحبه الاّ من اُريد، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم منا أمر لايسركم ولا تحمدوا غبّ رأيكم، ارجعوا الى منازلكم فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا!
فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتى علياً فأخبره الخبر، فجاء علي (عليه السلام) مغضباً حتى دخل على عثمان فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرفك عن دينك وعن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حين يسار به! والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبتَ شرفك وغُلبت على أمرك!
فلما خرج علي، دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته فقالت: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلمي. فقالت: قد سمعت قول علي لك وأنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء.
قال: فما أصنع؟
قالت: تتقي الله وحده لا شريك له، وتتبع سنّة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكان مروان، فأرسل الى علي فاستصلحه، فإن له قرابة