الصفحة 225

وقتل قباث الكناني نيار بن عبدالله الأسلمي، واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها حتى ملؤوها ولا يشعر الذين بالباب، وأقبلت القبائل على أبنائهم، فذهبوا بهم إذ غُلبوا على أمرهم، وندبوا رجلا لقتله، فانتدب له رجل، فدخل عليه البيت، فقال: اخلعها وندعك، فقال: ويحك، والله ما كشفتُ امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تحنّيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولست خالعاً قميصاً كسانيه الله عزّوجل، وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاء.

فخرج، وقالوا: ما صنعت؟ فقال: علقنا والله، والله ما ينجينا من الناس الاّ قتله، وما يحل لنا قتله.

فأدخلوا عليه رجلا من بني ليث، فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي، فقال: لست بصاحبي، قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي (صلى الله عليه وآله) في نفر أن تُحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فلن تضيع.

فرجع وفارق القوم، فأدخلوا عليه رجلا من قريش، فقال: يا عثمان إني قاتلك! قال: كلا يا فلان لا تقتلني، قال: وكيف؟ قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دماً حراماً. فاستغفر ورجع وفارق أصحابه.

فأقبل عبدالله بن سلام حتى قام على الباب ينهاهم عن قتله وقال: يا قوم لا تسلّوا سيف الله عليكم، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه! ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدّرة، فإن قتلتموه لا يقوم الاّ بالسيف، ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بملائكة الله، والله لئن قتلتموه لتتركنّها، فقالوا: يابن اليهودية، وما أنت وهذا، فرجع عنهم.

قالوا: وكان آخر من دخل عليه ممن رجع الى القوم، محمد بن أبي بكر.


الصفحة 226
فقال له عثمان: ويلك! أعلى الله تغضب! هل لي اليك جرم الاّ حقه أخذته منك؟ فنكل ورجع، قالوا: فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قُتيرة وسودان بن حمران السكونيان والغافقي، فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله فاستدار المصحف، فاستقر بين يديه وسالت عليه الدماء، وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبت عليه نائلة ابنة الفرافصة واتقت السيف بيدها، فتعمدها ونفح أصابعها، فأطنَّ أصابع يدها وولّت، فغمز أوراكها وقال: إنها لكبيرة العجيزة! وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه -وقد كان عثمان اعتق من كفّ منهم- فلما رأوا سودان قد ضربه، أهوى له بعضهم فضرب عنقه فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت وأخرجوا من فيه ثم اغلقوه على ثلاثة قتلى.

فلما خرجوا الى الدار، وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل ملاءة نائلة -والرجل يدعى كلثوم بن تُجيب- فتنحّت نائلة، فقال: ويح اُمك من عجيزة ما أتمّك! وبصر به غلام لعثمان فقتله وقُتل، وتنادى القوم: أبصر رجل من صاحبه، وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تُسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم، وليس فيه الاّ غرارتان، فقالوا: النّجاء، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا، فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالنائي يسترجع ويبكي، والطارئ يفرح.

وندم القوم، وكان الزبير قد خرج من المدينة فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله، فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحم الله عثمان! وانتصر له، وقيل: إن القوم نادمون! فقال: دبّروا

الصفحة 227
دبَّروا، (وَحيلَ بَينهُم وَبينَ ما يَشتهونَ)(1).

واتى الخبر طلحة فقال: رحم الله عثمان! وانتصر له وللاسلام. وقيل له: إن القوم نادمون! فقال: تباً لهم، وقرأ (فلا يَستطيعونَ تَوصيةً وَلا الى أهلهمْ يَرجِعونَ).

واُتي عليٌّ فقيل: قُتل عثمان، فقال: رحم الله عثمان وخلف علينا بخير، فقيل: ندم القوم! فقرأ (كَمثلِ الشيطانِ إذْ قال للإنسانِ اكفُرْ)(2).

وطلب سعد، فإذا هو في حائطه وقد قال: لا أشهد قتله، فلما جاءه قتله قال: فررنا الى المدينة فدنيتا، وقرأ (الذينَ ضلَّ سَعيهُم في الحياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسبونَ أنَّهُم يُحسنونَ صُنعاً). اللهم اندمهم ثم خذهم!(3).

لعل أهم ما يلاحظ على رواية سيف هذه، هي الاُمور الخرافية التي يحشو بها التاريخ الإسلامي إمعاناً في السخرية بالمسلمين، كأضغاث الأحلام التي رآها قاتل المغيرة بن الأخنس، ولا أدري ما مقام المغيرة هذا وكرامته على الله حتى يرى قاتله فيما يرى النائم البشارة له بالنار على قتله المغيرة!

كما أننا لم نستطع أن نعرف هوية اللَّيثي ولا القريشي اللذان دخلا على عثمان فردعهما ما سمعا منه من ثناء النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: كذا وكذا في يوم كذا وكذا! ولا أدري هل أن كذا وكذا أسماء لأمكنة وأزمنة وحوادث حقيقية، أم هي من جملة مهازل سيف بن عمر.

والمتصفح لتراث الاسلام يستطيع أن يلاحظ أن هذه هي الحيلة التي يلجأ إليها الرواة عادة للتغطية على أكاذيبهم، والتهويل على السامعين بالايحاء بوقوع اُمور مهمة وخطيرة.

____________

1- سبأ: 54.

2- ياسين: 50.

3- الطبري 4: 389.


الصفحة 228
وما سرّ الاتفاق الغريب بين استشهادات كل من علي وطلحة والزبير عند سماعهم بقتل عثمان واعلان قتلته الندم على قتله، ولا كيف يفرّ هؤلاء الصحابة من المواجهة ويتركوا خليفة المسلمين يذبح بأيدي اولئك القتلة دون أن يحركوا ساكناً ويرغبون بأنفسهم عن مشاهدة منظر القتل فقط!!

كما ولا ندري سرّ ندم هؤلاء القتلة بعد أن ظلوا يحاصرون عثمان أربعين ليلة أو أكثر، وما كان قتلهم لعثمان إلاّ عن قناعة تامة وسبق إصرار بعد فشل كل الجهود التي بُذلت لتغيير سياسة عثمان وعزمه، ولماذا يندمون بعد قتله مباشرة! فإن كانوا أهل أغراض سوء ونوايا سوداء -كما تصفهم روايات سيف ومن سار في ركابه- فلا مبرر لندمهم فهم أشرار عازمون على قتل الخليفة ونواياهم أبعد شأواً من مجرد الرغبة في قتله، لأنها تستهدف القضاء على الاسلام عملا بوصايا ابن سبأ عدو الاسلام، أما إذا كانوا ندموا لأنهم اكتشفوا أنهم كانوا مبطلين، فروايات سيف تشير الى أنهم كانوا يعلمون ذلك مسبقاً، أما إذا لم يكونوا مبطلين، وكانوا يعتقدون بعدالة مطالبهم وصحة عملهم، فلا مبرر لندمهم ولمّا يظهر بعد في الاُفق ما يستدعي القلق إن كان الخوف من العقاب سبب ندمهم!!

ومن الاُمور التي تبعث على السخرية أيضاً، هي إظهار أبي هريرة بصورة البطل الذي يعَوّل عليه في الدفاع عن الخليفة المحاصر أمام هذه الجموع المتكاثرة، مع أننا وخلال تتبعنا لسيرة أبي هريرة، لم نجد له موقفاً بطولياً واحداً، فلا هو قاد سرّية من السرايا، ولا فتح حصناً، ولا بارز أحد الأبطال أو حتى غير الأبطال وقتله أو خدشه، بل على العكس من كل ذلك، فالوقائع تثبت أن أبا هريرة كان يُطلق ساقيه للريح عند احتدام المعارك، وقد اعترف أبو

الصفحة 229
هريرة نفسه - فيما أخرج الحاكم النيسابوري عنه ـ أنه قال:

لقد كان بيني وبين ابن عم لي كلام، فقال: إلاّ فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شي أقول له(1).

كما وأن روايات سيف تظهر اولئك الثوار - بغمز بعضهم زوجة عثمان وقوله فيها، أو انتهابهم بيت المال أو رفسهم المصحف الشريف- بصورة مجرمين لا يمتون الى الاسلام وقيمه بصلة، بينما أثبتت الروايات من المصادر الموثوقة عكس ذلك -كما تبين في تراجم الكثير منهم- لكن بعض المؤلفين كابن حزم وابن عربي وابن تيمية وابن كثير وجلة المعاصرين ينساقون وراء روايات سيف، ثم يصفون اولئك الثوار بتلك النعوت القبيحة.

وقد وجدنا في روايات سيف أسماء عجيبة وغريبة، بدعوى أن اولئك هم قتلة عثمان، وكل ذلك للتمويه على القارئ بأن قتلة عثمان لم يكونوا إلاّ اُناساً نكرات، لذا نجد المؤلفين يتخبطون في هذا الأمر، فابن عربي يقول: بأنه ما قتل عثمان إلاّ أعلاج من مصر(2)، وتارة اُخرى يقول بأنه قتله رجل يدعى (الموت الأسود)، ولا أدري إن كان العرب يطلقون مثل هذه الأسماء على أبنائهم أم لا! وتجد بعض الروايات تدعي أن قاتل عثمان رجل يدعى (جبلة بن الأيهم) - حسب ما تدعيه بعض روايات سيف- والذي اعرفه أن جبلة بن الأيهم هو آخر ملوك العرب الغساسنة في الشام، وعلى عهده فتح المسلمون بلاد الشام فهرب الى قيصر الروم ومات هناك، فهل كان جبلة هذا من قتلة عثمان أم هو جبلة آخر، وما سرّ هذا الاتفاق في اسميهما مع العلم أن جبلة المزعوم في روايات سيف ليس له ذكر في أي مكان غير رواية سيف.

____________

1- المستدرك 3: 42.

2- العواصم من القواصم: 142.


الصفحة 230
إن هذه الجلبة التي يثيرها سيف ومن تابعه حول قتلة عثمان كان سببه أن قتلة عثمان الحقيقيين إنما كانوا من الصحابة، ومن خيارهم، وكما تثبت ذلك الروايات التي جاءت في تاريخ الطبري - بغير طريق سيف- وكذلك المصادر الاُخرى، فقد أخرج الطبري عن الواقدي بسنده: أن محمد بن أبي بكر، تسوّر على عثمان من دار عمرو بن حزم ومعه كنانة بن بشر بن عتّاب وسودان بن حمران، وعمرو بن الحمق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف في سورة البقرة، فتقدمهم محمد بن أبي بكر فأخذ بلحية عثمان فقال: قد أخزاك الله يا نعثل! فقال عثمان: لستُ بنعثل، ولكني عبدالله وأمير المؤمنين.

قال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان. فقال عثمان: ياابن أخي، دع عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه. فقال محمد: لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك، وما اُريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك! قال عثمان: استنصر الله عليك وأستعين به.

ثم طعن جبينه بمشقص في يده، ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل اُذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حلقه، ثم علاه بالسيف حتى قتله.

فقال عبدالرحمان: سمعت أبا عون يقول: ضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدّم رأسه بعمود حديد فخرّ لجبينه، فضربه سودان بن حمران المرادي بعدما خرّ لجبينه فقتله.

أما البلاذري فلفظه: تناول عثمان المصحف ووضعه في حجره وقال: عباد الله، لكم ما فيه والعتبى مما تكرهون، اللهم اشهد.


الصفحة 231
فقال محمد بن أبي بكر: الآن وقد عصيتَ قبل وكنت من المفسدين.

ثم رفع جماعة قداح كانت في يده فوجأ بها في خُششائه حتى وقعت في أوداجه فمرّت ولم تقطع، فقال: عبادالله، لا تقتلوني فتندموا وتختلفوا.

كما أخرج البلاذري باسناده عن الحسن قال:

فدخل محمد بن أبي بكر حتى جثا على ركبتيه، وكان عثمان حسن اللحية، فجعل يهزّها حتى سُمع نقيض أضراسه ثم قال: ما أغنى عنك معاوية، ما أغنى عنك ابن عامر، فقال: يابن أخي، مهلا فوالله ما كان أبوك ليجلس في هذا المجلس.

قال: فاشعره وتعاونوا عليه فقتلوه(1).

وروى ابن عساكر أن محمد بن أبي بكر قال لعثمان: على أي دين أنت يا نعثل!؟ قال: على دين الاسلام، ولستُ بنعثل ولكني أمير المؤمنين.

قال: غيّرت كتاب الله!

فقال: كتاب الله بيني وبينكم.

فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنّا لا يُقبل منّا يوم القيامة أن نقول: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.

وشحطه بيده من البيت الى باب الدار وهو يقول: يابن أخي، ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي(2).

كما روى الطبري عن الواقدي بسنده، قال:

الذي قتله كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول: خرجنا الى الحج وما علمنا لعثمان بقتل، حتى إذا كنا بالعرج،

____________

1- أنساب الاشراف: 6: 213.

2- تاريخ دمشق 4: 372.


الصفحة 232
سمعنا رجلا يتغنى تحت الليل:


ألا إن خير الناس بعد ثلاثةقتيلُ التجيبي الذي جاء من مصر

قال: وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات.

قال عمرو: فأمّا الثلاث منهن فإني طعنتهن إياه لله، وأما ستّ فإني طعنتهن إياه لما كان في صدري عليه(1).

فتبين من هذه الروايات أن ما ذكره الطبري عن سيف هو في أغلبه عار عن الصحة، كما وتبين أن الذين قتلوا عثمان وباشروا الأمر بأنفسهم كانوا أشخاصاً معروفين ولم يكونوا نكرات، وهم: محمد بن أبي بكر وهو صحابي، وعمرو بن الحمق وهو صحابي أيضاً، وكنانة بن بشر التجيبي وسودان بن حمران، وأعانهم قوم آخرون.

والملاحظ أيضاً أن كلام محمد بن أبي بكر مع عثمان، يكشف أن سبب قتله كان للاُمور التي سبق وأن ذكرناها، وفي مقدمتها تصرفات عمال عثمان، وبخاصة معاوية بن أبي سفيان.

دفن عثمان

وصلت تلك الأحداث الى نهايتها المأساوية بقتل الخليفة في عقر داره وعاصمة خلافته، وعلى مرأى ومسمع من اُلوف الصحابة الذين تخلوا عنه، بل أن بعضهم كان يمالئ عليه ويحرض على قتله -كما سوف نثبت ذلك فيما بعد- وإن الموقف من مسألة دفن عثمان بعد قتله تكشف عن موقف الصحابة

____________

1- الطبري 4: 394.


الصفحة 233
الحقيقي من عثمان، وهذه المسألة لم تنج هي الاُخرى من محاولة التزييف والمغالطة من قبل المؤلفين. فأما سيف بن عمر، فقال فيما أخرج الطبري عنه:

إن عثمان لما قُتل، أرسلت نائلة الى عبدالرحمان بن عديس فقالت: إنك أمسّ القوم بنا رحماً وأولاهم بأن تقوم بأمري. أَغرِب عني هؤلاء الأموات. قال: فشتمها وزجرها، حتى إذا كان في جوف الليل، خرج مروان حتى أتى دار عثمان، فأتاه زيد بن ثابت وطلحة بن عبيدالله وعليّ والحسن وكعب بن مالك وعامّة من ثم من أصحابه، فتوافى الى موضع الجنائز صبيان ونساء; فأخرجوا عثمان فصلى عليه مروان، ثم خرجوا به حتى انتهوا الى البقيع فدفنوه فيه مما يلي حش كوكب، حتى إذا أصبحوا أتوا أعبُد عثمان الذين قتلوا معه فأخرجوهم فرأوهم فمنعوهم من أن يُدفنوا، فأدخلوهم حش كوكب، فلما أمسوا خرجوا بعبدين منهم فدفنوهما الى جنب عثمان، ومع كل واحد منهما خمسة نفر وامرأة: فاطمة اُم ابراهيم بن عدي.

ثم رجعوا فاتوا كنانة بن بشر فقالوا: إنك أمسّ القوم بنا رحماً فأمُر بهاتين الجيفتين اللتين في الدار أن تخرجا. فكلمهم في ذلك فأبوا، فقال: أنا جارٌ لآل عثمان من أهل مصر ومن لفّ لفّهم، فاخرجوهما فارموا بهما، فجُرّا بأرجلهما فرُمي بهما على البلاط، فأكلتهما الكلاب. وكان العبدان اللذان قُتلا يوم الدار يقال لهما: نُجيح وصُبيح، فكان إسماهما الغالب على الرقيق لفضلهما وبلائهما، ولم يحفظ الناس إسم الثالث!

ولم يغسل عثمان، وكفّن في ثيابه ودمائه ولا غسل غلاماه(1).

أما الروايات الاُخرى - سواء منها روايات الطبري بغير طريق سيف أو

____________

1- الطبري 4: 414.


الصفحة 234
الروايات التي في المصادر الاُخرى غير الطبري - فهي تختلف عن رواية سيف، فقد أخرج الطبري عن جعفر بن عبدالله المحمدي بسنده، قال:

نُبذ عثمان(رضي الله عنه) ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام القرشي، ثم أحد بني أسد بن عبدالعزى، وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، كلّما علياً في دفنه وطلبا إليه ان يأذن لأهله في ذلك ففعل، وأذن لهم علي.

فلما سُمع بذلك، قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يقال له: حش كوكب، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم.

فلما خرج به على الناس، رجموا سريره وهمّوا بطرحه، فبلغ ذلك علياً فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفّن عنه ففعلوا، فانطلق حتى دفن(رضي الله عنه) في حش كوكب، فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس، أمر بهدم ذلك الحائط حتى أفضى به الى البقيع، فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين.

وأخرج الطبري أيضاً عن جعفر بسنده الى أبي كرب الذي كان عاملا على بيت مال عثمان، قال:

دفن عثمان(رضي الله عنه) بين المغرب والعتمة، ولم يشهد جنازته الاّ مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وإبنته الخامسة; فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه، وأخذ الناس الحجارة وقالوا: نعثل نعثل! وكادت تُرجم، فقالوا: الحائط الحائط، فدفن في حائط خارجاً.

وكما أخرج عن الواقدي بسنده قال:

لما قُتل عثمان(رضي الله عنه) قال رجل: يدفن بدير سلع مقبرة اليهود; فقال حكيم

الصفحة 235
ابن حزام: لا والله لا يكون هذا أبداً وأحدٌ من ولد قصي حي، حتى كاد الشر يلتحم، فقال ابن عديس البلوي: أيها الشيخ، وما يضرك أين يدفن! فقال حكيم ابن حزام: لا يدفن إلاّ ببقيع الغرقد حيث دُفن سلفه وفرطه، فخرج به حكيم بن حزام في اثني عشر رجلا وفيهم الزبير، فصلى عليه حكيم بن حزام.

قال الواقدي: الثبت عندنا أنه صلى عليه جبير بن مطعم.

وهذه الرواية الأخيرة تعاني من إشكالات تضعفها، لأن سلف عثمان وفرطه هو عمر بن الخطاب وهو لم يُدفن في بقيع الغرقد كما هو معلوم، بل هو مدفون الى جنب النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر، كما أن وجود الزبير بين المشيعين لعثمان يبدو غير صحيح أيضاً، خصوصاً إذا تعرفنا على مواقف الزبير من عثمان فيما سيأتي من فصول، ولعله عبدالله بن الزبير وقد أخطأ الراوي فيه، كما سوف يتبين من الرواية الأخيرة التي سوف نوردها بعد قليل.

كما وأخرج الطبري أيضاً عن الواقدي بسند آخر قال:

لبث عثمان بعدما قُتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثم حملهُ أربعة: حكيم ابن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم بن حذيفة.

فلما وضع ليصلى عليه، جاء نفر من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه، فيهم أسلم بن أوس بن جبرة الساعدي، وأبو حية المازني في عدّة، ومنعوهم أن يدفن بالبقيع، فقال ابو جهم: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته، فقالوا: لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً، فدفنوه في حش كوكب. فلما ملكت بنو اُمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع، فهو اليوم مقبرة بني اُمية.

كما روى الطبري عن الواقدي، أن عبدالله بن موسى المخزومي حدثه، قال: لما قُتل عثمان(رضي الله عنه) أرادوا حزّ رأسه، فوقعت عليه نائلة واُم البنين، فمنعنهم

الصفحة 236
وصحن وضربن الوجوه وخرقن ثيابهن، فقال ابن عديس: اتركوه، فأخرج عثمان ولم يغسل الى البقيع، وأرادوا أن يصلّوا عليه في موضع الجنائز، فأبت الأنصار. وأقبل عمير بن ضابئ وعثمان موضوع على باب، فنزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه وقال: سجنت ضابئاً حتى مات في السجن.

كما وأخرج الطبري عن الحارث باسناده الى مالك بن أبي عامر، قال: كنتُ أحد حملة عثمان(رضي الله عنه) حين قُتل. حملناه على باب، وإن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمراً عظيماً حتى واريناه في قبره في حش كوكب.

وفي رواية ابن عبدالبر عن مالك، قال: لما قُتل عثمان(رضي الله عنه) اُلقي على المزبلة ثلاثة أيام، فلما كان من الليل أتاه إثنا عشر رجلا، فيهم حويطب بن عبدالعزى، وحكيم بن حزام، وعبدالله بن الزبير، وجدّي فاحتملوه، فلما صاروا به الى المقبرة ليدفنوه، ناداهم قوم من بني مازن: والله لئن دفنتموه هنا لنخبرن الناس غداً، فاحتملوه، وكان على باب، وإن رأسه على الباب ليقول: طق طق، حتى صاروا به الى حش كوكب فاحتفروا له(1).

نجد أن معظم المصادر قد اتفقت على هذه النهاية المأساوية بترك جثة الخليفة عثمان بن عفان ملقاة على المزبلة أو على قارعة الطريق، وهذا إن دلّ على شي فإنه ليدل على أن معظم أهل المدينة -وفيهم كبار الصحابة- لم يكونوا يقيمون لعثمان بن عفان أي اعتبار، وأن أكثرهم كانوا من الناقمين عليه.

____________

1- الاستيعاب 3: 1047، الاصابة 2: 463، اسد الغابة 3: 461، تاريخ الطبري 4: 412، طبقات ابن سعد 3: 55، تاريخ اليعقوبي 2: 153، الكامل لابن الاثير 3: 576، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 168،السيرة الحلبية 2: 85، تاريخ الخميس 2: 265، وغيرها من المصادر.


الصفحة 237
إلاّ أن من أغرب التبريرات التي قد تمرّ على المتصفح للتاريخ حول ترك جثمان عثمان ثلاثة أيام بلا دفن، هو قول ابن كثير:

وقد ذكر ابن جرير أن عثمان(رضي الله عنه) بقي بعد أن قتل ثلاثة أيام لا يدفن.

قلت: وكأنه اشتغل الصحابة عنه بمبايعة علي(رضي الله عنه) حتى تمّت!!(1).

فيا للعجب، أتستغرق بيعة علي من كل فرد من الصحابة ثلاثة أيام بأكملها، ويصل الأمر بكل فرد منهم أن ينشغل عن كل شي، وأن يدع الناس حتى موتاهم بلا دفن؟ ومن هو الشخص المقتول الذي لم يدفن؟ إنه خليفة المسلمين!

____________

1- البداية والنهاية 7: 184.


الصفحة 238

الصفحة 239


الفصل الخامس

أصحاب الجمل





الصفحة 240

الصفحة 241

أصحاب الجمل


هدأت العاصفة قليلا بعد مقتل عثمان وانتخاب علي بن أبي طالب خليفة من بعده ومبايعة المهاجرين والأنصار له أو ممن عُرفوا بأهل الحل والعقد، عدا نفر قليل حسبما تذكر بعض الروايات، وتختلف في تشخيص أعيان البعض منهم، وفي سبب امتناعهم عن البيعة إلاّ أن هذه الهدنة لم تدم طويلا، إذ هاجت رياح الفتنة مجدداً بخروج طلحة والزبير تتقدمهم اُم المؤمنين عائشة إلى البصرة، فعاد الجو إلى التوتر من جديد، ولاحت نذر الحرب من بعيد.

وقد طغى التزييف على حوادث هذه الفترة أيضاً وملابساتها وإرهاصاتها، كغيرها من حوادث الفترة التي تناولناها بالبحث والتحقيق فيما تقدم، وتضاربت فيها أقوال المؤلفين، وإن كان معظمها متفقاً مع ما جاء في تاريخ الطبري برواية سيف بن عمر طبعاً. إلاّ أن القاضي ابن العربي خرج من هذه القضية بآراء غاية في الغرابة، أثارت إنتباه الكثير من المؤلفين والمحققين الذين أنكروا عليه بعض الاُمور، حتى من المؤيدين لوجهة نظره بالنسبة لخط سير الأحداث العام، فبعد أن ينقل القاضي ابن العربي بعض الروايات الشائعة، تحت عنوان (قاصمة)، يعود فيبدي رأيه فيما جرى، بالتمهيد للأحداث، فتحت عنوان (عاصمة)، يقول ابن العربي:

أما خروجهم الى البصرة، فصحيح لا إشكال فيه. ولكن لأي شيء

الصفحة 242
خرجوا؟ لم يصح فيه نقل! ولا يوثق فيه بأحد! لأن الثقة لم ينقله!! وكلام المتعصب غير مقبول، وقد دخل مع المتعصب من يريد الطعن في الاسلام واستنقاص الصحابة. فيحتمل أنهم خرجوا خلعاً لعلي لأمر ظهر لهم، وهو أنهم بايعوا لتسكين الثائرة، وقاموا يطلبون الحق!

ويحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان!

ويمكن أنهم خرجوا لينظروا في جمع طوائف المسلمين، وضم تشردهم، وردّهم الى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا، وهذا هو الصحيح، لا شي سواه، بذلك وردت صحاح الأخبار!!

فأما الأقسام الاُول، فكلها باطلة وضيعفة!

أما بيعتهم كرهاً، فباطل، وأما خلعهم فباطل، لأن الخلع لا يكون إلاّ بنظر من الجميع، فيمكن أن يولي واحد أو إثنان، ولا يكون الخلع الاّ بعد الاثبات. وأما خروجهم في أمر قتلة عثمان فيضعف، لأن الأصل قبله تأليف الكلمة، ويمكن أن يجتمع الأمران(1).

إن آراء ابن العربي تبدو متناقضة تماماً، فهو يدعي أولا أن سبب خروج أصحاب الجمل لا يمكن معرفته لأنه لم يصح فيه نقل، ولا يوثق فيه بأحد، لأن الثقة لم ينقله، لكنه يعود فيدعي أن السبب في خروجهم هو محاولة لمّ الشعث ورد المسلمين جميعاً الى القانون حتى لا يقتتلوا، مدعياً بأن صحاح الأخبار قد وردت بذلك!! وسوف نستعرض صحاح الأخبار التي اعتمدها ابن العربي لنعرف أي مصدر موثوق هذا الذي اعتمده بهذه الصحاح كما يجزم، من أجل الكشف عن ملابسات هذه القضية الملتبسة التي أبدى ابن العربي

____________

1- العواصم من القواصم: 155.


الصفحة 243
حيرته أمامها في البداية. إلاّ أنني أجد من الضروري أن نناقش أولا الفقرة التي اعتبرها القاضي ابن العربي السبب الحقيقي لخروج أصحاب الجمل لصحة الأخبار عنها، وهي ادعاؤه بأنهم خرجوا بهدف الاصلاح بين المسلمين لكيلا تقع الحرب بينهم!

إن كلام ابن العربي يمكن أن يكون مقبولا لو كان هنالك أمر يستدعي الخروج للاصلاح، إذ لم يصل إلينا خبر أو أثر - حتى لو كان ضعيفاً- عن وجود أمر أو حادثة شغب وقعت في البصرة في الفترة بين مقتل عثمان ومجيء أصحاب الجمل، وهي لا تقل عن أربعة أشهر كما تذكر الروايات، فلقد تمت البيعة لعلي بن أبي طالب، وبدأ الخليفة الجديد يمارس مهامه، وقام بتفريق عمّاله على الولايات، فكانت البصرة من نصيب عثمان ابن حنيف الذي باشر اُمور ولايته بشكل طبيعي، ولم يترك لنا التأريخ وثيقة تقول بأن عثمان بن حنيف قد بعث كتاباً الى الخليفة يخبره بوجود اضطراب أو شغب يستدعي تدخل أحد لفضه! بل إن الاُمور قد سارت على عكس ما يدعيه القاضي ابن العربي، فإن مجيء أصحاب الجمل الى البصرة، كان مقدمة لفتنة جديدة استتبعها وقوع حرب طاحنة راح ضحيتها اُلوف المسلمين من بينهم عدد من كبار الصحابة وعلى رأسهم الصحابيان اللذان قادا معركة الجمل (طلحة والزبير)، وجُرحت اُم المؤمنين عائشة، وكادت تُقتل، فكانت تلك أول حرب تدور رحاها بين المسلمين أنفسهم. وفوق هذا وذاك، فإن ابن العربي ينقض الأخبار التي تصافقت على أن الهدف المعلن لخروج أصحاب الجمل كان المطالبة بدم عثمان، كما تثبت ذلك جميع المصادر، وكما سوف يتبين لنا من اعترافات أصحاب الجمل أنفسهم، وهي الحجة ذاتها التي تذرع بها معاوية بن أبي سفيان وأنصاره فيما بعد.


الصفحة 244

حوادث ما قبل الخروج

من أجل الإلمام بأطراف القضية، فان علينا أن لا نستبق الأحداث، فنعود قليلا الى الوراء مرة اُخرى، لنمسك بأطراف خيوط القضية، وتبيّن حقيقة النوايا التي أدت الى تلك الأحداث الدامية.

لا اُريد أولا الاسترسال في الكلام حول بيعة علي بن أبي طالب بعد مقتل عثمان - فهي تكاد تكون معروفة رغم اضطراب بعض الأخبار حولها- لكن المهم إنها تمت على كل حال، والذي جرى بعد ذلك بقليل كان له الأثر الكبير على مجريات الأحداث فيما بعد، وذلك حينما كشف الخليفة الجديد عن نواياه في الإدارة، مما شكل مفاجأة لبعض الصحابة الذين لم يرقهم اسلوب علي وكيفية تسييره للاُمور.

لقد كشف الخليفة الجديد النقاب عن نواياه، في أول خطبة خطبها بعد توليه الخلافة ومن على المنبر، ليبين برنامج الحكم الذي ينوي تطبيقه، فكان من جملة ما قال: ألا لا يقولن رجال منكم غداً، قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا منعتُهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتُهم الى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا، ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدّق ملّتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده،

الصفحة 245
فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسَّم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب.

لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً، وما عند الله خير للأبرار، وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إلاّ حضر إذا كان مسلماً حراً..

قال ابن أبي الحديد المعتزلي - بعد ايراده هذا- قال شيخنا أبو جعفر:

فكان هذا أول ما أنكروه من كلامه (عليه السلام)، وأورثهم الضغن عليه، وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية، فلما كان الغد، غدا وغدا الناس لقبض المال، فقال لعبيدالله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادهم، واعط كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير، ثم ثنّ بالانصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن يحضر من الناس كلهم، الأحمر والأسود، فاصنع به مثل ذلك...(1).

بدء النقمة

لقد أوضح الخليفة الجديد منهجه في الحكم، وبخاصة فيما يتعلق بالعطاء والاُمور المالية، فأفهم الجميع أن العطاء في العهد الجديد يتضمن القسمة بالسوية دون تفاضل بينهم، كما وكبح جماح كبار الصحابة حين أفهمهم أن التفاضل في الصحبة يكون عند الله وليس عند الخليفة، وأن الصحابة وباقي الناس شرع سواء، ولا شك أن مثل هذه الاجراءات كان ولابد لها من أن تخلّف آثاراً غير محمودة في نفوس الكثيرين، فإن الاجراءات التي اتخذها عمر بن

____________

1- شرح نهج البلاغة 7:37.


الصفحة 246
الخطاب في الغاء مبدأ المساواة في العطاء، وتفضيل أهل السابقة على غيرهم، وتغيير الأمر عما كان عليه في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وخليفته أبي بكر، ومن ثم استمرار الوضع على ذلك طيلة خلافة عثمان كانت قد تركت أثراً في نفوس اولئك الصحابة من أهل السابقة وجعلتهم يعتقدون بأن لهم مكانة خاصة في المجتمع ينبغي مراعاتها، لذا فإنهم ثاروا على عثمان عندما أراد أن يفضل أقرباءه من غير ذوي السابقة عليهم وإيثاره إياهم بالأموال والمناصب، حتى قال طلحة بن عبيدالله، فيما أخرج عمر بن شبة عن حكيم بن جابر في إسناده قال:

كلَّم عليّ طلحة -وعثمان محصور في الدار- فقال: إنهم قد حيل بينهم وبين الماء.

فقال طلحة: أما حتى تعطي بنو اُمية الحق من أنفسها، فلا(1).

أما العهد الجديد، فإنه لم يبدُ عليه أنه يريد إعادة الاُمور الى ما كانت عليه في زمن عمر بن الخطاب، بل هو يريد إعادة الاُمور الى ما كانت عليه أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر، فبدأ التململ منذ اليوم تجاه هذه السياسة الجديدة بالظهور على اولئك الصحابة، يضاف إليهم اولئك المنتفعين من بطانة عثمان ابن عفان الذين كانوا قد حصلوا على تلك الأموال من غير استحقاق، فأصبح النظام الجديد يتهدد مصالحهم ويلوّح بتجريدهم مما في أيديهم، فانضم هؤلاء الى اولئك، وانقلبت الاُمور إلى حالة عجيبة من ظهور التحالف بين الساخطين على عثمان والموالين له من أجل الوقوف أمام السياسة الجديدة التي تهدد مصالحهم المشتركة من الآن فصاعداً.

____________

1- تاريخ المدينة: 1169.


الصفحة 247
لقد بدأ سياق الأحداث يجري مجرىً جديداً، ويمكن تبيّن ذلك في تكملة أحداث الرواية السابقة التي ينقلها ابن أبي الحديد عن الاسكافي، قال:

فبينا الناس في المسجد بعد الصبح، إذ طلع الزبير وطلحة فجلسا ناحية عن علي (عليه السلام)، ثم طلع مروان وسعيد وعبدالله بن الزبير فجلسوا إليها، ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم، فتحدثوا نجيّاً ساعة، ثم قام الوليدبن عقبة بن أبي معيط، فجاء الى علي (عليه السلام) فقال: يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب -وكان ثور قريش- وأما مروان، فسخّفت أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبدمناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال في أيام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام. فقال: أما ما ذكرتم من وتري إياكم، فالحق وتركم، وأما وضعي ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولكن لكم عليَّ إن خفتموني أن أؤمنكم، وإن خفتكم أن أسيّركم.

فقام الوليد الى أصحابه فحدّثهم، وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، فلما ظهر ذلك من أمرهم، قال عمار بن ياسر لأصحابه: قوموا بنا الى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف والطعن على إمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق -يعني طلحة- فقام أبو الهيثم وعمار وأبو أيوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم فدخلوا على علي (عليه السلام) فقالوا: يا أمير المؤمنين انظر في أمرك وعاتب قومك، هذا الحي من قريش، فإنهم قد نقضوا عهدك واخلفوا وعدك، وقد دعونا في السّر الى رفضك، هداك الله لرشدك، وذاك أنهم كرهوا الاُسوة وفقدوا الاثرة،