الصفحة 304

وعن أبي هريرة قال -يحدّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - "والذي نفس محمد بيده، لأذودن رجالا منكم عن حوضي كما تذاد الغريبة من الابل عن الحوض، ألا ليذادن رجال منكم عن حوضي كما يذاد البعير الضّال، اُناديهم: ألا هلم; فيقال لي: إنهم بدّلوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً"(1).

وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: "ليذادن من أصحابي عن الحوض كما تذاد الغريبة من الابل!"(2).

وعن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول على هذا المنبر: "ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تنفع قومه! بلى والله، إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط لكم على الحوض، فإذا جئتم، قال رجل: يا رسول الله، أنا فلان بن فلان، وقال أخوه: أنا فلان بن فلان، قال لهم: أما النسب فقد عرفته، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى"(3).

وعن أبي بكرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "ليردن علي رجال ممن صحبني ورآني، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم، اختلجوا دوني، فلأقولن: رب أصحابي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"(4).

وعن اُم سلمة قالت: قال النبي (صلى الله عليه وآله): "من أصحابي من لا أراه ولا يراني بعد أن أموت أبداً..."(5).

وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ليردن علي الحوض رجلان ممن صحبني، فإذا رأيتهما اختلجا دوني"(6).

____________

1- مسند أحمد 2: 298، 300.

2- المصدر السابق 2: 454.

3- المصدر السابق 3: 18.

4- المصدر السابق 5: 48.

5- مسند أحمد 6: 298.

6- المصدر السابق 4: 20.


الصفحة 305
وفي مسند أحمد روايات اُخرى كثيرة بهذا الشأن(1).

إن هذه الروايات المتكاثرة الطرق، ما كانت إلاّ ناقوس الخطر، أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يحذّر أصحابه من التلبّس في الفتن المقبلة عليهم، ويذكرهم بأن صحبتهم له لا تكفي لنجاتهم من النار إذا ما أحدثوا بعده أو انقلبوا على أعقابهم.

ادعاءات فارغة

حول موضوع ارتداد الصحابة وانقلابهم على الأعقاب، كتب محمود مهدي الاستانبولي: ومما يحتج به الرافضة على ارتداد الصحابة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديث ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله): "إن اُناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال" أي الى جهنم.

فأقول: اُصيحابي اُصيحابي، على صيغة القلة والتصغير، لقلة عددهم، فيقول-أي الله سبحانه- "إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح -أي عيسى (عليه السلام) معتذراً- وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم -الى قوله: العزيز الحكيم-" متفق عليه.

قال في أشعة اللمعات في الرد على الرافضة: قالوا إنه لم يرتد أحد منهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ قوم من جفاة العرب من أصحاب مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، أو بعض مؤلفة القلوب الذين لم تكن لهم بصيرة ولا قوة في الإيمان...

ولما كان كل من رأى النبي (صلى الله عليه وآله) لحظة يطلق عليه لفظ صاحب، كان هذا

____________

1- انظر مسند احمد 1: 384، 406، 425، 439، 453، 5: 332، 339.


الصفحة 306
الحديث بحق من لم يرسخ الإسلام في نفسه، وهو بحق هؤلاء الأصحاب...

ومن أغراض الرافضة التي يقصدونها من وراء ادعاء ارتداد الصحابة; العمل على فقدان الثقة في الأجيال الإسلامية بسلفّيهم، وحرمانهم الاقتداء بالجيل المثالي الأول الذي تربى في مدرسة محمد (صلى الله عليه وآله)، فيصبحون هملا لا تاريخ عظيم لهم، ولا قدوة صالحة، وتضليل الناشئة مئات السنين... مما رأينا في هذا الكتاب نماذج من أكاذيبهم وأضاليلهم، وكيف ردّ عليها القاضي ابن العربي، ومحب الدين الخطيب...!(1).

لا أجد حاجة للتعليق على قيمة معلومات القاضي ابن العربي ومحب الدين الخطيب بعد أن تبين للقارئ مصدر هذه المعلومات، ولكنني أود مناقشة ادعاءات الاستانبولي في هذه القضية، وكيف يلجأ الى تزييف الحقائق، وكيف أن أصحاب هذا الاتجاه يوقعون أنفسهم في تناقضات عجيبة لا يعرفون لها مخرجاً إلاّ بالاستمرار في تضليل المسلمين.

لقد فات الاستانبولي أن القاضي ابن العربي قد استشهد في بداية كتابه، وفي اُولى قواصمه، بقول أنس بن مالك الصحابي: ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى أنكرنا قلوبنا!(2).

والذي يشكل اعترافاً صريحاً ومقصوداً من الصحابي أنس بن مالك، وغير مقصود من القاضي ابن العربي، بأن قلوب كثير من الصحابة قد تغيّرت بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) -وكما أخبر الباري عزوجل فيما سيأتي- وأصابهم ما أصاب الاُمم الاُخرى، وأصحاب الأنبياء السابقين من حب الدنيا والتنازع عليها، بل إن قلوب بعض الصحابة قد تغيّرت، وارتد بعضهم في حياة

____________

1- العواصم من القواصم: 187 هامش: 331.

2- العواصم من القواصم: 54 والحديث في مسند أحمد 3: 221.


الصفحة 307
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي بدايات البعثة، فعن اُم حبيبة (زوج رسول الله) قالت:

رأيت في المنام كأن عبيدالله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه! ففزعت وقلت: تغيرت والله حاله!

فاذا هو يقول حين أصبح: يا اُم حبيبة، إني نظرت في الدين، فلم أر خيراً من النصرانية! وكنت قد دنتُ بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم رجعت الى النصرانية!

فقلت: والله ما خير لك. وأخبرته بالرؤيا التي رأيت، فلم يحفل بها، وأكب على الخمر حتى مات...(1).

فهذا الصحابي عبيدالله بن جحش، من المسلمين الأوائل، ومن الذين هاجروا الى الحبشة، إلاّ أنه ارتد هناك في دار هجرته، ومات مرتداً عن دينه!

وقصة عدد من الذين ارتدوا بعد اسلامهم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) معروفة، وقد قتل المسلمون - بأمر النبي- عدداً منهم يوم فتح مكة، بينما فرّ آخرون وبعضهم شفع له بعض الصحابة وانجاه من القتل، كابن أبي سرح، كما تقدم.

والرواية التي استشهد بها الاستانبولي وذكر فيها أن صيغة التصغير الواردة على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) قد جاءت للتدليل على قلة عدد اُولئك الأصحاب، فيردّه ما أوردناه من روايات متكاثرة تدل على أن زمراً عديدة منهم يؤخذ بهم ويختلجون دون النبي (صلى الله عليه وآله)، ولعل رواية أبي هريرة التي أخرجها البخاري، وفيها قول النبي (صلى الله عليه وآله): "فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم!"(2).

لتؤكد على أن الهالكين من الصحابة هم أكثر من الناجين، مع العلم أن

____________

1- مستدرك الحاكم 4: 20، مسند أحمد 4: 20.

2- قال ابن منظور: وفي حديث الحوض "فلا يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم" الهمل: ضوال الابل، واحدها هامل، أي أن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة. لسان العرب 11: 710.


الصفحة 308
صيغة التصغير لا تستعمل للتقليل في العدد فقط، بل قد تستعمل للتحبيب أو للتحقير أيضاً.

أما الادعاء بأن المقصود باُولئك الأصحاب، هم بعض أجلاف العرب والمؤلفة قلوبهم، فلا صحة له أيضاً، لأن الصيغ التي نطق بها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، لتؤكد عكس ذلك تماماً، فقوله مخاطباً أصحابه: "رجال منكم" و "أصحابي"، و "رهط من أصحابي" و "ناس من أصحابي" و"رجال ممن صاحبني"، و"ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني"، وقوله "أما النسب فقد عرفته" لتدل كلها دلالة واضحة على أن الكثير من اُولئك الصحابة، هم ممن يعرفون النبي (صلى الله عليه وآله) ويعرفهم معرفة وثيقة، فضلا عن أن تخصيصه لاثنين من أصحابه لا يراهما ولا يريانه بعد موته أبداً، يدل على أن هذين الصحابيين كانا على علاقة وثيقة في صحبتهما مع النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يمكن أن يكونا من أجلاف العرب وجفاتهم!

ومن السخف أيضاً الادعاء بأن اولئك الصحابة إنما هم أتباع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، لأن هؤلاء قد ارتدوا في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وليس بعد موته، وقد جرت بين مسيلمة وبين النبي (صلى الله عليه وآله) مراسلات عديدة مذكورة في كتب التاريخ والسيرة والحديث، فضلا عن أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد جهّز بعض الحملات العسكرية ووجهها لمحاربة اولئك المرتدين.

ولو أننا تنزلنا رغم كل ذلك، وصدّقنا بأن المقصود هم اولئك الأعراب، فإن ذلك لا ينقذ القائلين بهذا القول من أصحاب التيار المحافظ المعروف من الورطة، لأن اولئك قد ثبتت صحبتهم، والمفروض أن الصحابة جميعاً وعلى الاطلاق، عدول، وكلهم من أهل الجنة، فكيف يخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بأن اولئك الأصحاب من أصحاب النار! وأين الحصانة التي يدعيها هؤلاء للصحابة!


الصفحة 309
لقد أكّد القرآن الكريم على إمكانية ارتداد بعض الصحابة وانقلابهم على أعقابهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال عزّ من قائل: (وَما محمدٌ إلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلهِ الرُّسلُ أفئنْ ماتَ أو قُتلَ انقَلَبتُمْ على أعقابكمْ وَمَنْ يَنقلِب على عَقبيهِ فلنْ يَضُرَّ الله شيئاً وسَيجزي اللهُ الشاكِرينَ)(1).

قال الطبري، عن سلمة بن إسحاق:

وذكر أن هذه الآية اُنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيمن انهزم عنه باُحد من أصحابه... أي افئن مات أو قتل نبيكم، رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم وقد بيّن لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم، ومن ينقلب على عقبيه، أي يرجع عن دينه(2).

ومن الجدير بالذكر أن معظم الصحابة قد فرّوا عن النبي (صلى الله عليه وآله) يوم اُحد، ثم تكرر ذلك منهم يوم حنين أيضاً!

وقوله تعالى: (إنَّ الذينَ يُبايعونَك إنّما يُبايعونَ اللهَ يَدُ اللهَ فوقَ أَيديهِمْ فَمَنْ نكثَ فإنّما ينكثُ على نَفسهِ وَمَنْ أوفى بما عاهدَ عَليه اللهَ فَسيؤتيهِ أجراً عظيماً)(3).

قال ابن كثير: أي إنّما يعود وبال ذلك على الناكث، والله غني حميد(4).

فالوعد لمن أوفى بيعته، والوعيد لم نكثها، ومعلوم أن الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله) هم الصحابة وليس أحد غيرهم.

____________

1- آل عمران: 144.

2- تفسير الطبري 4: 74.

3- الفتح: 10.

4- تفسير القرآن العظيم 4: 199.


الصفحة 310

الصفحة 311


الفصل السادس

الأهداف المشتركة للتزييف





الصفحة 312

الصفحة 313

الأهداف المشتركة للتزييف


بعد أن طوينا صفحة الفتنة التي وقعت في زمن عثمان بن عفان وانتهت بمقلته، واختيار علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين، وما استتبع ذلك من خروج أصحاب الجمل عليه، وانتهاء حركة التمرد هذه بعد هزيمة أصحاب الجمل ومقتل قادتهم، يكون الطبري أيضاً قد طوى صفحة سيف بن عمر ومن روى عنه، بعد أن أغرق تاريخه بطوفان من رواياته، والتي تناولت أحداث ربع قرن من الزمان من أخطر مراحل التاريخ الاسلامي، واستطعنا أن نلاحظ بكل وضوح أن سيف بن عمر قد شوّه معالم هذه الفترة من التاريخ الإسلامي باُسلوب ذكي وخبيث، متظاهراً بالمنافحة عن الصحابة وتبرأتهم مما ينسب إليهم من قبائح الأعمال، والتظاهر بالقاء تبعة كل ما جرى من أحداث على عاتق شخصيات غريبة عن المجتمع الإسلامي، ولكنه لم يستطع رغم ذلك أن يخفي أهدافه الحقيقية المتمثلة بالنيل من عدد من الصحابة من ذوي السابقة والفضل، ومن خيار التابعين أيضاً، بينما نجده يتصدى للدفاع بكل قوة عن مجموعة اُخرى من الصحابة المتأخرين ومن المؤلفة قلوبهم، وممن اشتهروا بالفسق والخروج عن جادة الصواب، فجعل المحق مبطلا والمبطل محقاً!

ولم يعد - بعدما ذكرناه- من العسير على القارئ أن يكتشف أن الصحابة

الصفحة 314
والتابعين الذين كان سيف بن عمر ينال منهم، كانوا كلهم من اتباع علي بن أبي طالب، بينما نجده يمجّد الصحابة والتابعين من بني اُمية وأشياعهم، وقد تبيّن لنا بعد كل هذا أن محاولة البعض نفي تهمة الزندقة عن سيف بن عمر لا تجدي نفعاً بعدما تبين طعنه في عدد من كبار الصحابة واظهارهم بمظهر الذيول لابن سبأ ومشاركتهم إياه في التآمر على الإسلام.

ويبقى السؤال المهم بهذا الخصوص، وهو: لماذا تبنى جمهور المؤلفين من القدماء والمعاصرين روايات سيف بن عمر دون سواها؟ فإذا كانت حجتهم الظاهرية أن سيف بن عمر ينافح عن الصحابة، فحجتهم هذه داحضة بعد أن تبين عكس ذلك، وكشف سيف بن عمر القناع عن زندقته، فلماذا يصر الجمهور على تبني رواياته ومحاولة تبرأته من تهمة الزندقة؟!

إن المنطق يفترض أن الزنادقة يريدون هدم الإسلام وتشويه صورته أمام الناس، عن طريق الدفاع عن السياسات المنحرفة لبعض زعماء المسلمين ومحاولة تبريرها، ومن ثم محاولة الطعن من ناحية اُخرى في رجالات الإسلام الأفذاذ والحط من أقدارهم وتشويه صورهم أمام الرأي العام، حتى يتخذ موقفاً معادياً من تاريخه الصحيح، وينساق وراء الزخرف الذي يزيّنه له هؤلاء الأعداء المستترون، فينسلخ عن الرؤية الصائبة لهذا التاريخ، ويكون انسلاخه تبعاً لذلك عن تراث الاُمة الحقيقي، فيقع ضحية لتخرصات الدجالين.

وقد قلنا إن سيف بن عمر قد استهدف أصحاب علي بن أبي طالب بالذم، وأصحاب عثمان وبني اُمية بالمدح، فلو أننا وضعنا آراء الزنادقة في الميزان، فهل نحكم بأنهم يمكن أن يكونوا حريصين على مصلحة الإسلام، أو بعبارة اُخرى: هل من مصلحة الزنادقة إبراز الوجه المشرق للاسلام أم العكس؟


الصفحة 315
إن المنطق يفترض أن الزنادقة لابد وأن يعمدوا الى إظهار الجوانب السلبية وتزيينها أمام جمهور المسلمين، وفي الوقت نفسه يقومون بتزييف الجوانب الايجابية وإظهارها على غير حقيقتها.

الخطوات الاُولى للتزييف

لقد تحدثنا في فصول سابقة عن وجود رأي عام إسلامي قد توارث اُموراً أصبحت عنده في حكم المسلّمات، لذا فإن الزنادقة قد استغلوا هذه الأرضية الخصبة الممهدة لهم أبشع استغلال، لأن الأذهان كانت مهيأة لقبول رواياتهم من قبل، فكيف ومتى تكوّن هذا الرأي العام الذي نجد الكثير من المؤرخين يحاولون مجاملته؟

إن الاُمور ستكون أكثر وضوحاً إذا تتبعنا القضية من بدايتها.

ذكر المؤرخون أن معاوية بن أبي سفيان "استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين، فلما أمّره عليها، دعاه وقال له: أما بعد، فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا، وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردتُ إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك، ولستُ تاركاً إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم عليّ وذمّه، والترحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والاقصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان والادناء لهم!

فقال له المغيرة: قد جَرّبت وجُرّبت، وعملتُ قبلك لغيرك فلم يذممني، وستبلو فتحمد أو تذم.

فقال: بل نحمد إن شاء الله.

فأقام المغيرة عاملا على الكوفة، وهو أحسن شيء سيرة، غير أنه لا يدع

الصفحة 316
شتم علي والوقوع فيه، والدعاء لعثمان والاستغفار له...(1).

هكذا كانت البداية، فمنذ أن استولى معاوية على مقاليد الاُمور، وجلس على كرسي الخلافة، بدأ بتشكيل الخميرة الاعلامية التي سوف تبدأ بالانتشار والتغلغل في أذهان الناس، ويتربى عليها الأجيال شيئاً فشيئاً حتى تصبح عندها من المسلمات.

ولما كانت الكوفة هي أخطر المعاقل بالنسبة للاُمويين، فإن معاوية جرّب هذا الاسلوب مبتدئاً بها، ثم جاءت الخطوات التالية في تعميم هذا الأمر على كافة الولايات والأمصار.

روى المدائني في كتاب (الأحداث) قال:

كتب معاوية نسخة واحدة الى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته.

فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه، ويقعون في أهل بيته، وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام)، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة، وضمّ إليه البصرة، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام) ; فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.

وكتب معاوية الى عمّاله في جميع الآفاق، ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه; فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم

____________

1- تاريخ الطبري 5: 253، الكامل في التاريخ 3: 472.


الصفحة 317
وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته! ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصّلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة، إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه فلبثوا بذلك حيناً...(1).

هكذا بدأت سياسة معاوية الاعلامية في تشكيل الرأي العام الإسلامي المناهض لعلي بن أبي طالب وشيعته، والمتعاطف مع عثمان بن عفان وشيعته، وامتد ذلك على مدى عشرين عاماً من خلافة معاوية، وهي مدة تكفي لنشوء جيل على هذه العقيدة الجديدة.

ولم يتوان معاوية طيلة مدة حكمه عن الاستمرار في هذه السياسة ودفعها الى الأمام بشكل مستمر، ولم يقبل نصيحة أو رأياً حتى من معاونيه الذين قال ابن أبي الحديد المعتزلي: اشتركوا معه في أداء هذه المهمة وانجاحها.

" روى الزبير بن بكار في (الموفقيات) -وهو غير متهم على معاوية، ولا منسوب الى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي (عليه السلام) والانحراف عنه-:

قال المطرّف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، وكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف اليّ فيذكر معاوية وعقله، ويعجب مما يرى منه; إذ جاء ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: مالي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال: يا بني، جئتُ من

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.


الصفحة 318
عند أكفر الناس وأخبثهم! قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت، ولو نظرت الى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه.

فقال: هيهات هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر. ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمّر عشر سنين; فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة ليُصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمّداً رسول الله فأي عمل يبقى وأيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك! لا والله إلاّ دفناً دفناً!"(1).

وقد أدرك المغيرة بعد هذا اللقاء، أن لا مندوحة له من الاستمرار في انتهاج السياسة التي رسمها له معاوية حتى النهاية، رغم أن المغيرة كان يعلم جيداً أن ما يذكره من فضل عثمان وذم عليّ لا حقيقة له، ولكنه ملزم به، وبخاصة في بلدة مثل الكوفة، وما جرى بينه وبين صعصعة بن صوحان -فيما أورده المؤرخون- يدل على ذلك، إذ أنه "بلغه أنه يعيب عثمان بن عفان ويكثر ذكر علي ويفضّله، وكان المغيرة دعاه وقال له: إيّاك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان، وإياك أن يبلغني أنك تظهر شيئاً من فضل علي، فأنا أعلم بذلك منك، ولكن هذا السلطان قد ظهر، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس، فنحن ندع شيئاً كثيراً مما أمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بدّاً، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا، فإن كنت ذاكراً فضله، فاذكره بينك وبين أصحابك في

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5: 129.


الصفحة 319
منازلكم سراً، وأما علانية في المسجد، فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا...(1)

وهكذا استمرت السياسة على هذا المنوال طيلة عهد بني اُمية، بعد أن وضع معاوية لِبنتها الاُولى، فمرّت السنوات الطوال، وفتحت الأجيال الجديدة أعينها على واقع جديد، فالاعلام الرسمي المعلن الذي تتبناه الدولة، تظهر عثمان بن عفان وشيعته من بني اُمية وغيرهم، هم أصحاب الفضائل والمحاسن العظيمة، بينما تختفي الحقائق عن فضل علي بن أبي طالب وشيعته وأهل بيته من على ساحة الاعلام الرسمي، ليتناقلها العارفون بها سراً، فيسير هذان الخطان جنباً لجنب، ويبدأ عصر التدوين، فتأتي الأخبار من مصادرها على نوعين، نوع تتبناه الدولة رسمياً، يحمل في جوفه كل الأخبار الزائفة، ونوع يتبناه طلاب الحقيقة، ممن لا يخالطون السلطان ولا يقتاتون على موائده، وتأتي الشواهد لتثبت ذلك كله.

الزهري والسيرة النبوية

بدأت حركة التدوين في العصر الاُموي بشكل نشط، وعلى الرغم من أن البعض يؤرخون لبدء التدوين للحديث النبوي والسيرة، ببداية عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز المتوفى سنة (101 هـ)، إلاّ أن ذلك لا يمنع أن كثيراً من التابعين كانوا يدوّنون ما يسمعونه من الصحابة، بل كان بعض الصحابة يدونون ما يسمعونه من النبي (صلى الله عليه وآله)، كعبد الله بن عمرو بن العاص وصحيفته التي سميت (الصادقة). وكان ابن شهاب الزهري، محمد بن مسلم من أوائل المصنفين في الحديث والسيرة، فقد روى عبدالرحمان بن أبي الزناد عن أبيه قال:

____________

1- الطبري 5: 189، الكامل لابن الأثير 3: 430.


الصفحة 320
كنت أطوف أنا وابن شهاب الزهري، ومع ابن شهاب الألواح والصحف.

قال: وكنّا نضحك به.

وفي رواية قال: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه، علمت أنه أعلم الناس.

وقال معمّر، عن صالح بن كيسان:

كنت أطلب العلم أنا والزهري. قال: فقال: نكتب السنن. قال: فكتبنا ما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة. قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيّعتُ(1).

وقال الدراوردي: أول من دوّن العلم وكتبه، ابن شهاب.

قدم الزهري على عبدالملك بن مروان سنة (82 هـ)، ولزمه حتى توفي، فلزم ابنه الوليد، ثم سليمان، ثم عمر بن العزيز، ثم يزيد الذي ولاّه القضاء، ثم لزم هشام بن عبدالملك وصار معلماً لأولاده، وكان في البداية يكره أن يكتب عنه أحد، فلما ألزمه هشام بن عبدالملك أن يملي على بنيه، أذن للناس أن يكتبوا وقال: كنا نكره الكتاب حتى أكرهنا عليه الاُمراء، فرأيت أن لا أمنعه مسلماً.

قال الذهبي: كان رحمه الله محتشماً جليلا بزيّ الأجناد، له صورة كبيرة في دولة بني اُمية.

وقال مكحول: أي رجل هو، لولا أنه أفسد نفسه بصحبة الملوك(2).

وقد تناولتُ ابن شهاب الزهري كمثال يبرز اتجاه حركة الاعلام الرسمي للدولة الاُموية نحو تحريف الحقائق وتزييف التاريخ الإسلامي.

____________

1- تهذيب الكمال 17: 220.

2- سير أعلام النبلاء 5: 326.


الصفحة 321
لقد كان عمل الزهري لبني اُمية يفرض عليه أحياناً الانصياع لرغبات اُولئك الحكام، حتى لو تطلب ذلك منه إخفاء الحقائق على الأقل إن لم يكن تزييفها. وعلى الرغم من أن الزهري قد وقف بعض المواقف الشجاعة تجاه السلطة الاُموية، إلاّ أنه كان لا يجد بداً من الخضوع لهذه السلطة في معظم الأحيان، ويتضح ذلك من سياق بعض الحوادث التي تكشف عن إتجاه السياسة الاُموية الاعلامية، فقد دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبدالملك، فقال: يا سليمان، من الذي تولّى كبره منهم؟ قال: عبدالله بن اُبي ابن سلول، قال: كذبت! هو علي! فدخل ابن شهاب، فسأله هشام، فقال: هو عبدالله ابن اُبي. قال: كذبت! هو علي! فقال: أنا لا أكذب لا أبا لك، فوالله لو نادى مناد من السماء أن الله أحلّ الكذب ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد وعلقمة ابن وقاص عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبدالله بن اُبي.

قال: فلم يزل القوم يُغرون به، فقال هشام: ارحل، فوالله ما كان ينبغي لنا أن نحمل على مثلك...!(1).

فالخليفة الاُموي يضغط على سليمان بن يسار والزهري من أجل تحريف واقعة الإفك المعروفة والادعاء بأن علي بن أبي طالب هو الذي تولى كبره، وليس عبدالله بن اُبي بن سلول رأس المنافقين!

وعلى الرغم من هذا الموقف الجريء للزهري، إلاّ أنه قد خضع أحياناً لرغبات الحكام. فقد ذكر المدائني عن الزهري قوله: قال لي خالد بن عبدالله القسري: اكتب لي النَّسب; فبدأت بنسب مضر، فمكثت فيه أياماً ثم أتيته،

____________

1- سير أعلام النبلاء 5: 326.


الصفحة 322
فقال: ما صنعت؟ فقلت: بدأت بنسب مضر وما أتممته، فقال: اقطعه قطعه الله مع اُصولهم، واكتب لي السيرة. فقلت له: فإنه يمرّ بي الشيء من سير علي بن أبي طالب، فأذكره؟ فقال: لا، إلاّ أن تراه في قعر الجحيم!!(1).

وقد امتثل الزهري لهذا الأمر، فكتب السيرة بعد أن أخلاها من ذكر علي ابن أبي طالب إلاّ لماماً، ولم يثبت له أي منقبة أو فضيلة، ولو أن المسلمين اعتمدوا على السيرة التي كتبها الزهري دون غيره، لما عرفت أجيال المسلمين لعلي بن أبي طالب فضلا ولا سبقاً.

وقد نبّه لذلك المحدّث عبدالرزاق الصنعاني -الذي نقل السيرة النبوية- فأورد إلى جانب روايات الزهري، روايات اُخرى عن غيره.

ولم يكتف الزهري بذلك، بل إنه أنكر أمراً لا يكاد يختلف عليه اثنان من المسلمين، وهو سبق علي بن أبي طالب الى الإسلام، فقال: ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة!(2).

فالزهري كان مدفوعاً دون شك من السلطة الاُموية لتزييف الحقائق التاريخية وطمس فضائل علي بن أبي طالب، إلاّ أنه كان في قرارة نفسه يعترف بالحقيقة، ويصرّح بها أحياناً لخواصه، فقد قال معمر: سألت الزهري عن كاتب الكتاب يوم الحديبية، فضحك وقال: هو علي بن أبي طالب، ولو سألت هؤلاء، لقالوا عثمان -يعني بني اُمية(3)-.

____________

1- الأغاني 22: 21 أخبار خالد القسري.

2- مصنف عبد الرزاق 5: 325.

3- مصنف عبدالرزاق 5: 343 الفضائل لاحمد بن حنبل.